حسين سرمك حسن: الجواهري مركب النار ، النرجسية الضارية والقصيدة المفتاح (8)

* القصيدة – المفتاح :
نرجسية الجواهري وإشكالية التماهي مع المتنبي

يتوفر لدى أي شاعر مميز ، نصّ أو أكثر كاشف ، يمكن من خلال تحليله الشامل وفهم أسراره وفك فعاليته ، الولوج الى أعمق طبقات لاشعور الشاعر والامساك بالعوامل الحاكمة التي تشكّل ليس فقط نتاجه الإبداعي بل إستجاباته السلوكية وسماته الشخصية أيضاً . نصّ يكشف وحدة كيان المبدع في إمتزاج وجهي العملة ، أو ما سماه أحد النقاد : الوجه الثالث للعملة . وهذا النص أو القصيدة – المفتاح ، ليس شرطاً أن يكون نصاً أو قصيدة مشهورة بين أعمال الشاعر، قد تكون قصيدة منسيّة أو قطعة قصيرة لا تثير ، أحياناً ، اهتمام واعتزاز الشاعر نفسه . وبسبب النتاج الغزير للجواهري يمكننا أن نجد أكثر من نص – قصيدة من هذا النوع .على سبيل المثال هناك نص ((على قارعة الطريق)) وهو المقدمة التي كتبها لديوانه المنشور عام1949وهي التي يعدها((جبرا إبراهيم جبرا))أجمل ما كتبه الجواهري رمزياً . وهناك أيضا قصيدة ((قفص العظام)) التي كتبها بعد أن زار والدته التي اعتكفت في مرقد الإمام علي بعد استشهاد أخيه (جعفر) والتي يقول فيها :
تعالى المجدُ ، يا قفصَ العظامِ        وبورك في رحيلكِ والمقامِ
فإإذا طالعت البيتين السابع والثامن فيها ستجد أن رائحة النرجسيّة تتصاعد عارمة من حيث لا يدري الشاعر :
تعالى المجدُ يا أمَّ الرزايا           تمخضّ عن جبابرةٍ ضخامِ
تملّى القبرُ منها أيَّ عطرٍ           ووجهُ الأرضِ أيّ فتىً همامِ
لكن القصيدة التي تقدم لنا صورة شاملة عن شخصية الجواهري والعوامل التي حكمت إبداعه هي قصيدة : ((وحي الموقد)) ، التي نظمها في دمشق شتاء عام1957 إثر حادثة أشار إليها الشاعر في القصيدة نفسها كما سنرى ذلك . ويستهلّ الشاعر قصيدته هذه بوصف مبادرة زوجته لأيقاد خشب الموقد في ليلة باردة :
إنّ عِرسي وهي جامحةٌ            فجّةٌ .. لونٌ من الأدبِ
جاءت الكانون توقده وبه جزلٌ من الخشبِ
ومن هنا ، من هذا الوصف السردي بعين الكاميرا ، ينتقل الشاعر الى وصف(الوضع النفسي) لخشب الموقد إذا جاز التعبير .. فهو يشعر بالرعب الذي يجتاح أوصال قطع الخشب التي إنزوت متراكبة فرقاً تترقب الموت الآتي مع لسعة عود الثقاب :
فوق بعضٍ بعضُها ، طبقاً         لائذاتٍ .. صُنعَ مرتعبِ
خفن فاستسلمنَ عن فزعٍ           للمنايا .. شرُّ مرتقبِ
ومشى بردُ الرماد ِ بها           كتمشي الموتِ في الرّكبِ
وهو إذ (يُسقط) حاله والبرد يجتاح أوصاله وهو في كهولة هشّة سريعة التأثر، في الظاهر ، فإنّه يوسع إطار صورته الشعرية ليضفي عليها عالماً مربكاً ومحيراً من (التضاد النفسي) .. فالجسد الخشبي الفزع من الشر المقبل ، ممثلاً في النار الشيطانية هو الذي يحمل في أحشائه بذرة الخير التي ستتصاعد ألسنتها لتبعث الدفء في أوصاله .. إنّ شيئاً ما يموت ويحطّم كي تزدهر ديمومة شجرة الحياة الخضراء .. خضرة في الجحيم ، وهي معادلة غريبة وعجيبة تتحكم بكل معاني حيواتنا ولكن النار ، بفعلها المميت المحيي ، شرّها المخبوء في خيرها أو بالعكس ، هي أفضل ما يجسّد معادلة الموت والحياة .. الشاعر((يشخّصن)) قطع الخشب الجامدة ويمنحها روحاً تستجيب وتتألم وتعتب وتترقب..وهو يراقب رعبها المدمّر ، هي التي يجتاحها البرد المميت منتظرةً سياط النار التي ستحييها وتدمّرها وتحيلها رماداً . يد زوجته المرتعشة تمتد بتردّد وقلق فلا تُفلح في إذكاء جذوة النار . وهو يراقب ويتصاعد نفاد صبره بفعل تململ شحنات العدوان السادية في أعماقه بعد أن تماهى ((مازوخياً)) مع قطع الخشب المرتعشة فرقاً … ولكنه تماهٍ طارئ ومؤقت .. فالمنايا التي استسلمت لها قطع الخشب لم تأتي في الواقع من عود ثقاب الزوجة المرتعشة الخائفة بل من أعماق روح الشاعر النارية الملتهبة :
خلتُها والعودُ يلمِسُها          تثقلُ (الكبريتَ) بالعتبِ
فتأبّت ثمةَ إرتعدت           ثم أقعتْ ثمّ لم تثبِ
وأنبرتْ عن يأسِها سكني     هرّةً مفضوحة الغضب
يأست الزوجة ونفثت غضبها الصارخ في وجه خيبتها وفشلها في عملية إشعال الحريق الصغير فتدخّل الشاعر ” المجرب ” وهو ” اختصاصي الحرائق المجرّب ” ، بعد أن نفد صبره ، دافعاً ومشجعاً .. فقد اعتاد طوال حياته لا على إشعال الحرائق والتمتع بالخراب حيث تأتي الحياة بعد أنقاضه حسب ، بل على التشجيع عليها ودفع الآخرين الى ألسنة  جحيم المواجهات الماحقة :
قلت:أُذكي – وبكِ – جذوتَها       فأريحيها من التعبِ
أطعميها الزيتَ يمشي بها        مشية الكُفرانِ في السَغِبِ
وهنا تأخذ الرأفة طابعاً مميتاً وعاصفاً وتنتقل حدّة الوصف الى درجة قصوى تكشف درجة هائلة من العدوان المتراكم والموشك على الانفلات والجامح . وحدّة وشمول بل قسوة الأوصاف والتشبيهات التي نضفيها على موصوف ما ، تنطلق عادة من قاموس لغوي نفسي تأسس وترسخ عبر الارتباط بينبوع دوافعنا المكبوتة ورغباتنا المعطّلة ، التي تتململ وتضغط محاولة أن تجد لها منفذاً . إنّ قطع الخشب تتعذب.. تتعذب كمن ينتظر حكم إعدام يؤجل مراراً بفعل خيبة الزوجة ، ولكن الشاعر يتحمس ويدعو الى إراحة هذا المسكين المحكوم بحرقه أو بشنقه ألف مرّة جزاءً وفاقاً بسبب آلام التعطيل والتأجيل وإنّها والله لقسمة ضيزى ، ولكنه المكر النفسي الشيطاني المُحكَم . أي أنّ درجة الجزاء – كمّه – ونوعه غريبة جدا ًومفرطة . فقد نُقل الحال من واقع إحباط سبّبه تعطيل عود ثقاب أثار حنق ونقمة الزوجة وقطع خشب الموقد على حدٍّ سواء .. وحنق الزوجة مفهوم فهو معطى من الخارج ولكن حنق قطع الخشب (المسكينة) التي تنتظر ماردها الناري مسقط من ذات الشاعر، من الداخل، وهو المعروف بانفعاليته العالية الجائحة وغضبه المشتعل ونوبات نزقه الحارقه .. وكلها أوصاف مرتبطة بالنار فهو صاحب النرجسيّة النارية .. ومن الواضح أن تعطيل الإشعال وتأخّر الحريق لا يوتّر أعصاب قِطع الخشبِ لكنه يحرق أعصاب الشاعر الذي يريد حسم الأمر ليس بجذوة ثقاب بل بـ(حريق) هائل لا يبقي ولا يذر ،  يشبه حدّة الكفر الساري في عروق الجائع المحروم . ولأنّ التوازن معدوم بين واقع الانتظار المعطّل في جسد قطع خشب الموقد، وفي أعصاب الشاعر، وبين الرغبة في إشعال الحرائق بقوّة معبّر عنها بتحرّش دائب يجري في عروق الشاعر الذي ينقل سخطه من ساحة (موقد) صغير الى مجال كوني محرّمٍ فيه التجديف ، فإنّ رجوح كفّة ردّ الفعل الناقم ، هو معيار ومؤشر على شدّة شحنة الموت والدمار التي راحت تتصاعد ألسنتها.. إنّ أذرع الحريق المقبل وصخبه بات ينضج في أعماق الشاعر الذي يكفي حافز ضئيل لإشعال حريق نقمة هائلة في أعماقه كما هو الحال في مسيرته الحياتية التي يعترف بها هو نفسه .. وهذه هي عادة الجواهري : الشاعر والإنسان ، فعلى المستوى الشعري تجد أن مطالع قصائد الجواهري منذرة بحرائق هائلة وكلما هبطت موجات النيران قليلاً أطعمها من زيت روحه فالتهبت وتصاعد صهيلها الممزق . أمّا في الحياة العامة فإن انفعالية الجواهري الضارية هي محط اتفاق جميع النقّاد ومن عاشوا معه رغم أن البعض يقولون أن الجواهري لا صديق له وأنه ينقلب على من يساندونه ، وأعتقد أن هذا نتيجة للنرجسية العارمة  . يقول المفكر ((هادي العلوي)) :
 ((على أنّ وعي الشاعر يظل مرتبطاً بعفويته عن طريق ذلك الجسر الذي يصل الممارسة بالذات . وبهذا الصدد يجب التأكيد بأنّ الجواهري شاعراً هو نفسه الجواهري سياسياً . والفصل بين الشخصيتين متعذّر . وفيما عدا القليل من شعر المناسبات فإنّ الحرارة التي تشعها قصائده السياسية تدل من قريب على المصدر الذي خرجت منه وهو : فوهة الانفعال . والانفعال ظاهرة شخصية بحتة وحضوره يفترض تحوّل القضية العامة الى قضية خاصة … ومن الواضح أنّ الحماس والقلق وسرعة الانفعال ليست صفات رجل السياسة : محترفاً ومناضلاً وهي من أخصّ صفات الجواهري..))(51)..وفي كثير من الأحوال يأخذ انفعال الجواهري صيغة((اندفاعية- Impulsivity) يلي فيها التبصر والتفكير الفعل . إنّ هذه المفارقة بين أناة التفكير المتأخر وسرعة التصرف العجول تفضي الى ندم يتبعه انفعال واحتدام فاندفاع مفرط قد يفضي الى ندم في حلقة مفرغة لا تنتهي يكون نتاجها أحياناً إلحاق الضرر بالنفس . هاهي الزوجة المسكينة تمتنع وتستعيض مبتعدة عن اللعب بالنار وإشعال الحرائق حسب توجيه زوجها المنفعل (( ليس هذا الجدّ من لعبي ))؛ فهي تعرف ما معنى النار وما هي عضات ألسنة الحريق :
        انها أفعى.. وقد علقت       عضّة منها.. على ذنبي
        إي وأمّي.. أحرقت كتدي     فأطارته.. وشيب أبي
لكن الشاعر وقد طفح كيله يبادر االى إنجاز عملية إشعال خشب الموقد ولكن ليس بطريقة الزوجة المتردّدة (المجرّبة) بل وفق دوافعه الضاجّة الصاخبة التي عجلت وضاعفت من هذا الفعل الذي كان من الممكن أن يتم بصورة هادئة وبسيطة. لكن الحماسة السادية تجعله يغرق الموقد بالزيت فتتحول العملية البيتية البسيطة وهدفها الدفء والاسترخاء الى حريق مهدَد ينطوي على مخاطر جسيمة :
         قلت هاتيه.. وثار لها          ضَرَمٌ كالبرق في السحبِ
         شبَ في مبيض سالفتي        فكأني بعدُ لم أشبِ
         وأتى وجهي فلطخهُ            كخليط  البُسرِ والرطبِ
فتثور زوجه وتنهره بطريقتها البسيطة التي دافعها الحرص دون أنّ تدري بأنّها تضع إصبعها على معقد دوافعه الشخصية والإبداعية :
هتفَتْ: بئستْ مغامرةً         يابن خمسينٍ .. أأنت صبي ؟
أوما تنفك محتضناً           لعبةً .. من هذه اللُعب ؟
راح في حرفٍ يزخرفهُ      وهو عن شيء سواه غبي
ودون أن تدري هذه الزوجة المسكينة المحكومة ببراءة النوايا وطهر الدوافع أنها وضعت إصبعها على جرح الإبداع ومنابع الخلق في شخصية زوجها- الجواهري الكبير- لا زال الصبي اللعوب في أعماق الشاعر عابثاً ومتعرضاً وخطيراً، ذاك الصبي يشعل الحرائق بالزيت الفائض وعود الثقاب وهذا الشاعر يشعلها بالحرف .. يشعلها حرائق صاخبة في ذاته وفي مجتمعه  وفي حياته . وهذا الشاعر وغيره من المبدعين الكبار لا يكبرون أبداً .. فمثلما يتعلم الطفل من محاولات التجربة والخطأ نجد المبدع الكبير يحكمه نفس القانون ولكن مع تمويه وتغليف وتعقيد مبعثه إتقان الصنعة أو اللعبة الجديدة : لعبة زخرفة الحرف كما تقول الزوجة والرهاوة الجامحة في امتلاك أعنّة الكلمة الخالقة ((إنّ عبارة (كن فيكون) المعبرة عن فعل الخلق والولادة تشبه حريقاً داهماً )) .
عندما حاول أحد النقاد إعفاء الجواهري من مسؤولية محاسبته على مواقفه وفق مسطرة تقليدية تطبق على السياسيين المنضبطين(52) فإنّه وبقبول شيء من التواضع لا يختلف كثيرا عن زوجة الشاعر في نقمتها التفسيرية ، فهي تتحدث بصدق فج عن إنّ زوجها الشاعر لا ينفك يلعب ويلعب ، وإنّه قادر فقط على اللعب بزخرفة الحروف والكلمات ولكنه ناكص ، طفل في تعامله مع شؤون الحياة اليومية . وهي بفعل درجة وعيها لا تستطيع توصيف هذه الحالة كسر من أسرار إبداع زوجها في الشعر والحياة . أمّا الناقد وبفعل تماهيه الفائق مع الشاعر المعجز ، فإنّه يقر نفسه على إدراك ديدن الشاعر الشعري بصورة مغايرة حيث يفصله عن ديدنه الحياتي. أمّا الشاعر نفسه فإنّه يفحمها – الزوجة والناقد – حيث يقول رداً على توبيخ زوجته له :
قلتَ يا هذي لو اخترمت          مفرقي شقين لم أتبِ
أنا ذا من أربعينَ خلتْ            أطعمُ النيران باللّهبِ
فإذا خفّت وضعتُ لها           خيرَ لحمي موضع الحطبِ
ولأنّ الدافع لتدمير الذات والدافع لتدمير الآخر إستحصالاً للذة وجهان لعملة واحدة كما قلنا فإنّهما متلازمان في سلوك الشاعر وشعره المحكوم، في جانب منه، بهذه الدوافع . إنّ التركيب الناتج من أطروحة السادية وطباق المازوخية ، حسب التعبير الهيغلي ، يأتي مختلفاً تماماً ومنكّراً ولا يمكن في الكثير من الأحيان الإمساك بأصله ، وفي الغالب يكون التركيب الناتج فعلياً يشي بالانبتات والانقطاع عن كل من الوجهين – الدافعين اللذين كوّناه … لأنّ إمتزاج أي دافع نفسي بآخر يؤدي الى (مركّب) تتغرّب فيه و(تستحيل) سمات كل من الدافعين المكوّنين له فيستعصي على المراقب معرفة كنه الفعل الحقيقي ولوازمه المصمّمة .

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *