إشارة :
ببساطة .. لإحساس عميق وقناعة راسخة لدى أسرة موقع الناقد العراقي بأن الشاعر المبدع “جواد الحطاب” هو “ظاهرة” فذّة في الشعر العراقي المعاصر لا يمكن إلّا الوقوف عندها طويلا وتأملها ودراستها بعمق ، تفتتح أسرة موقع الناقد العراقي ملفها عن تجربته الإبداعية المهمة ؛ شعرا ونثرا ، متمنية على الأحبّة الكتّاب والقرّاء إثراء هذا الملف بالدراسات والمقالات والصور والوثائق.
في مجموعته الشعرية الأخيرة (بروفابل للريح … رسم جانبي للمطر – تنويعات على نصب الحرية) حاول الشاعر جواد الحطاب في تداخل مع نصب الحرية أحد الأعمال الخالدة للنحات جواد سليم، أن يجعل هذا النصب القائم في الباب الشرقي في بغداد، جدارية مقروءة و ناطقة بالمفردات الشعرية، على الرغم من أن بعض الذين تناولوا هذه المجموعة، عد الأمر محاولة تناص، قام بها الشاعر للاستفادة من إيحاءات النصب على مستوى الحدث التاريخي و البعد الفني لهذا النصب .
و إذا كان النصب المنحوت (نصب الحرية) يجسد حدثا”ماضويا”في النسق التاريخي الحديث و المعاصر نسبيا”و ذات أبعاد ملحمية تكميلية و تواصلية، فإن الشاعر الحطاب أراد في نصه النثري هذا و الذي نأى عن العناوين، ان يكون مكملا”بالشعر و ليس بالنحت، بل و ليكون ملما”بأحداث لم تُنحت و أخرى سادت أو جرت في التسلسل التاريخي المعاصر، و بالتالي كانت مهمة هذا (البروفايل) في اتجاهين: الأول تداخلي تكميلي و انتقادي، و الآخر امتدادي و تطويري و توثيقي:
((على موائد عمرنا..
جميع فواكه العبوات
ويرسب أولادنا في الدرس
لايعرفون إعراب المفخخات))
ترك جواد الحطاب نصه مفتوحا”ومن دون عناوين مثلما أسلفت، و قد أستعاض عن ذلك برموز من النصب لتكون وقفة هنا و أخرى هناك، بدلا”من عنوان هنا و آخر هناك، و هذا الإستدلال التعويضي، كان شكلا”للتداخل و الربط، بيد أنه أتخذ منحى آخر لفعل ماض قريب أو لحدث معاصر و قريب جدا”، سواء ما يخص ثورة العشرين أو مايخص الإعتصامات و التظاهرات التي قامت و إنطلقت تحت (نصب الحرية)، أي منطقة الباب الشرقي أو ساحة التحرير في بغداد، تزامنا”مع أحداث أو ثورات ما يُسمى (الربيع العربي):
محراث خفي/ يمتد من ظهره لقرميد (ساحة التحرير)/.. مهمولاً يجر السلالات/ المعابدَ/ و الآلهة/ (على عدد المعابد يستهلك العراقيون آلهة) .
فالشاعر في نصه (غير المعنون ) هذا، راح يطرح مقاربات تأريخية، ليعبر من خلالها عن (نقمته) و عن رفضه لما هو سائد في الوطن أو لما تعرض له من غزو و إحتلال، و هذا الطرح يذكرنا بديوانه (إكليل موسيقى على جثة بيانو) و الذي صدر عام 2..8، و عده النقاد اول ديوان شعري مقاوم للاحتلال و لشاعر عراقي من داخل الوطن، ((كانت لبغداد أربعة أبواب: باب الشام/ باب الكوفة/ باب البصرة/و…باب خراسان/ لبغداد أبواب أربعة/ باب كلواذا، باب الظفرية/ باب السلطان/ و.. باب الطلسم/ الآن لبغداد باب واحد/ باب الـ آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه)) .
و صحيح أن الحطاب في ديوانه أو مجموعته الأخيرة هذه، يعتقد من خلال المقدمة التي كتبها، و التي عدها (مغامرة) او عملا”تنويعيا”، عندما جعل لها عنوانا”شاملا”(تنويعات على نصب الحرية)، فهو يقول في مقدمة مجموعته: (قررت ُ أن أغامر مع جواد سليم و أكتب عن تكويناته الراسية في ساحة التحرير , قد تتطابق القصائد مع رؤية النحات، ومن المؤكد أنها ستختلف , فالإبداع بكل ثيماته ليس سوى مغامرة تحتمل التأويلات… فلأغامر إذن , وإذا فشلت ُ , سأدّعي ما ادّعاه الحيدري بلند)، و يُذكر في هذا السياق، كانت هنالك محاولة تفاعلية بين الشاعر بلند الحيدري و الفنان التشكيلي جواد سليم تحت عنوان (ان يرسم هو و انا اكتب قصيدة عما رسم)، و انتهت بقول الشاعر للرسام (رسومك غير موحية)! .
فإن هذا التداخل التنويعي و النوعي في آن إذا صحت التسمية، جره الى أن يعمل مقاربة تارة و مقارنة تارة أخرى، و أزعم أن هذا الإسلوب الجرىء، ربما يخرج نصه من أطار التداخل التكميلي و الإمتدادي مع النصب الى مهمة إنتقادية و موجهة الى النصب نفسه بقصد أو بغير قصد، خصوصا”و أن الشاعر نوّه في مقدمته المذكورة الى هذا الأمر من خلال تسميته ب (الإختلاف)، و أزعم مرة أخرى أن الكتاب و النقاد الذين تناولوا هذه المجموعة، لم ينتبهوا جيدا”لمثل هذا المشهد الشعري الذي يتداخل مع المدلول النحتي (( تبرعت الامهات بصراخهن الى الحصان// فلا سلاسل تقيد الصهيل)).
و الدليل في ما أقول، هو أن الشاعر تعمد وضع صورة الحصان كإشارة دلالية بدلا”عن عنوان القصيدة، على الرغم من أن الشاعر في مقدمة المجموعة أشار الى تماهي نصه أو نصوصه الشعرية مع تكوينات جواد سليم النحتية، و بعمل الشاعر هذا و الذي كان تطويرا”على صعيد القراءة من على النصب، عندما جعل صهيل الحصان سلاحا”و صراخا”للإنتفاض، و قد يكون النحات جواد سليم عجز أزميله في التعبير عن هذا المشهد، بيد أن الشاعر جواد الحطاب أفلح في تحويله الى آلية نافذة و مهمة و مقروءة من على هذا النصب، و يبدو أن الجوادين (سليم و الحطاب) ارتبطا بقدر واحد، فالأول أهتم بتجسيد الحدث من خلال الأزميل، و الآخر من خلال المفردة الشعرية المقروءة، لكن مفردة و مشهد الشاعر في العرض و المشهد على صعيد المأساة و الحدث الدامي، هما اللذان منحا أرجحية في الدلالة المتحركة و الإستشهاد السائد:
((لا تبيّضوا) دمنا بـ (التداول اليومي)/ نطالبكم بترشيد القتل/
جثث نوافل/ جثث غوافل/ جثث زرقاء/ جثث بنفسجية/ جثث.. بلا جثث/
كل يحمل نعشاً / و يناديه وطني)) .
أن تجربة الشاعر جواد الحطاب في التداخل مع نصب نحت ملحمي و تدويني، يُعد محاولة واثقة سواء على مستوى التماهي و التداخل أم على مستوى التضاد و الانتقاد و التمايز، و هي بقدر ما كانت تجربة ناجحة و مفيدة، بقدر ما كانت محاولة جريئة، لإستنطاق رموز الجماد أو حتى جعلها متحركة بهالة ناطقة و مستنطقة .
و بهذه التجربة و المحاولة في آن، يكون الحطاب حقق ما عجز عنه بلند الحيدري حتى لو كان الأخير من أعمدة شعراء الحداثة في العراق .
و أخيرا”من المفيد القول، سبق للشاعر و أن اصدر: سلاما ايها الفقراء – قصائد 1978 يوم لايواء الوقت – قصائد 1991 شتاء عاطل- قصائد /1997, ديوان الشعر العراقي – مجموعة مشتركة /1994 مختارات – سيرة حياة -كتاب باللغه الايطالية 1998, اكليل موسيقى على جثة بيانو /2..9 .
*عن جريدة المدى