كلما مر مًعْلَم اندفع يحكي عنه، فأقول:
ـ تمهل.. واحدة واحدة حتى أفهم.
تضحك زوجته” صوفيا “وابنته ” تينا “ذات السبعة عشر ربيعاً.
أظنني محقاً فى تسمية السنة الواحدة من عمر تينا.. ربيعاً، وهل يمكن أن تمر شهور عمرها على شتاء أو خريف أو حتى صيف. خاصة إنها ابنة روبرتو الوحيدة.
تناولنا الغداء على شاطئ خليج نابولي المزدحم بالزوارق والمطاعم والمقاهي والحركة والناس، والفضاءات الزرقاء تبسطها أمامنا سماء بلا نهاية وبحر راقص يستمتع بعنفوانه وامتداداته التى لا تعثر على حدودها المناظير. المشاهد تتقلب أمامي وهى تنشد أغانيها النزقة وأحلامها اللعوب، كل شئ فى المدينة يراودني وأنا مستتر بخجلي وغربتي.
أحس أني فى الإسكندرية، مدينتنا الجميلة، التى تباهي المواني بشبابها الغض، وكأنها عروس فى شهر عسل دائم.
استمتعت جدا بالجولة التى رتبها لنا روبرتو الطيب بصحبة أسرته الوديعة، وأظن الفضل يرجع إلى صوفيا التى تشبه كثيراً المرأة الشرقية الهادئة المطيعة التى لا تفتح فمها إلا لتبتسم وأحيانا قليلة لتأكل.
هاهي عادتي تطاردني، وتلاحقني أطياف بلادي كلما خلوت إلى نفسي بعد لقاء أسرة أوروبية.. لأسأل عن أحوال الأسرة المصرية المسكونة بالعادات وأغلبها سئ وممل وخال من الجمال والحميمية.. الأسرة الأوروبية فيما أظن تتجه دائما نحو الانسجام والتناغم، وتعمل جاهدة على مقاومة كل أسباب النفور وفوضي العلاقات.ن والأهم أنها غير مشغولة بغير سعادتها وكيفية الاستمتاع بالحياة دوم التفكير الزائد فى أحوال الآخرين.
أشرقت ملامح صوفيا لما رأتني أداعب تينا، وتهلل وجه روبرتو.. ما خطبكما أيها الوالدان الغريبان المبتهجان؟! مال روبرتو فقبل زوجته، وقال لي: قبَّل تينا.
خفت أن تكون بشرتي وملامحي قد كشفت خجلي، لكنني خشيت أن أفقد الفرصة لأذوق فاكهة الخد الناعم الشفاف.. ابتسمت تينا وقبلتني، وزادت فعانقتني.. أنت طفلة جميلة يا تينا لكنك بريئة الرائحة، لا يفيض جسدك بفوح الأنوثة وبوح الغرائز، فما خطبكما أيها الوالدان؟ هل تتعجلان أن ترياها فى بهجة العرس وعش الزواج ؟ هل تريدان لها أن تؤسس لكما أسرة ؟ بالله لا تتعجلاها. دعوها تلعب فى مروج عمرها الأخضر.
نهضت وكنا جلوساً فى حديقة، وقلت لها: هيا يا تينا اركضي، وحاولي أن تمسكيني.
فرحت وركضت ركضاً خفيفاً كالزرافة، فلما لم تمسكني قلت لها:
ـ اركضي واهربي مني، سأركض وراءك محاولاً الإمساك بك فلا تسمحي لي.
أسرعت تجري حتى وقعت وراء دغل وتطاير ثوبها الذى كان يتطاير دون هواء. عاونتها وقبلتها فى خديها، وضممتها إلى صدري فتورد وجهها.. كبحت إشفاقي على طفولتها ودنا فمي من شفتيها وهى مستسلمة، كأنها تنتظر أن أفعل منذ تعرفت إلى براءة شفتيها. كانت تسيل عسلا ولبناً لذيذا وطعوماً غريبة لكنها لطيفة، فكرت أن أسحب قواتي، خاصة عندما أدركت أن أعضائي تتحرك باتجاهها، لكن شفتيها تعلقتا بشفتي ويداها برقبتي.. لم أستطع استرجاع قواتى .. كانت حريصة على فض عذريتي من شفتي.. تجتهد لإثارتي، وتواصل النهل من شفتي، فضممتها أكثر، وانتشرت، وأخيرا أحست بثعباني، فضمتني أكثر، لكني فجأة مددت إصبعي وقرصتها فى ثديها فنفرت ، ووقفت تحدق فى . تفكر بلهفة فى العودة إلى أحضاني، قلت لها: الحقيني لو شاطرة.
أسرعت أجري، كأننا لم نتوقف عن الجري. درت حول الدغل ثلاث مرات فى دورات متسعة حتى هدأت أعضائي المتحفزة، فعدوت نحو روبرتو وصوفيا متباطئا حتى تمسكني تينا، ومن ثم تهلل بالفوز.
صفق لها والدها، وسرعان ما قالت:
ـ مسكته يا بابا مرتين.
فهمت ما تقصد.
يا لمشهد الخليج وهو يسبح فى الأضواء البرتقالية لشمس راحلة!!. هب فجأة روبرتو قائلا: ـ هيا إلى الزوارق.
كانت الزوارق الكبيرة والصغيرة مصطفة على شفاه الشاطئ الممتد، تلعق رماله بتلذذ، المياه تهز الزوارق لترقص وتتمايل لعلها تشبع شوق المياه الأبدي إلى اليابسة. عشق قديم من طرف واحد .. لا تتحمس الأرض لمحاولة فهم أشواق الماء وأحلامه الماجنة.
قفز روبرتو إلى زورق وأشار إلينا كي نحذو حذوه وأسرع بإدارة المحرك .. لوح لصديقه الذى قفز من المقهى عندما لمح زورقه يهتز تحت الأقدام الدخيلة، ثم تبين له أنه روبرتو فابتسم ولوح.
حصان بحري نركبه جميعاً .. يشق الموج ويعلوه، ذرات المياه التى صفعها الزورق تتناثر وتردها النسائم لتكتب على وجوهنا حروف البهجة والسعادة، يرسم روبرتو بالزورق دوائر وجبالا وأشجارا وحيتانا ، ولعله يرسم أشكالا ملتبسة وربما كان يكتب قصصاً خليعة.
روبرتو شخصية مارقة لا تعرف شيئا عن الأخلاق والدين، لكنه يحب الناس والمرح والجمال واللحظات السعيدة، حريص على أن يكرر فى كل جلسة وكل لقاء وبعد كل وقت جميل:
ـ فليذهب الموت إلى الجحيم.
قال :
ـ هل رأيت صاحب الزورق؟
قلت: نعم
قال: هذا الزورق أهداه رجل أعمال يصنع الزوارق لخطيبته ماريانا.
سألته: هو الذي لوح لك؟
قال: لا.. اختلف الخطيبان لأن ماريانا كانت تحب روسي الذى لوح لي.. أصر الخطيب على ألا تلتقي ماريانا بروسي وإلا فسخ الخطوبة فرفضت.. ولما أراد أن يتركها طلب أن يستعيد الزورق فرفضت وقدمته مهرا لروسي العاطل وتزوجاً.
فجأة انبثق من الماء، وجه كلوديا الفاتن والحاضر بقوة عبر ملامح ممشوقة وعيون عاشقة، وشعر تجره وراءها لمسافات بعيدة، هل هذا الشعر الكستنائي الكثيف الذى يضفره الموج ماضيها أم مستقبلها ؟
بدأ الوجه المتوهج والذى كانت تنعكس عليه أشعة شمس غاربة يهبط بنعومة لتختفي الملامح واحدا بعد الآخر، ثم انشق الماء عن فخذها العاري المصبوب صبة عبقرية، وخرج شقيقه المتورد وصارا يتراقصان حسب إيقاع معين، ويتبادلان الصعود والهبوط والعناق والانحناء، ويتمايلان كأنهما يغنيان.. لم أرهما من قبل لكنى على ثقة إنهما لها.. ليت الحظ يواتيني فأستنشق النسيم الذى يدور فى فلكهما.. ظلا يضربان الفضاء ويتوردان كأشرعة النار.. ينفتحان وينضمان ويتداخلان فى حركات عفية ومجنونة. ما أروع أن يضمنا سرير واحد !..
ما هذا الذى تفعله بي كلوديا وأنا أركض على الصفحة الزرقاء العريضة؟.. ظللت منتشيا ومشدودا إلى إنشادها السحري حتى أوقعتني تينا دون أن تقصد، فقد كانت تقف ورائي ملتصقة بي مباشرة، ثم اختل توازنها مع دورة مفاجئة للزورق فاعتمدت علىّ ووقعنا.. روبرتو الذى نسي نفسه ونسي الشاطئ يضحك عاليا تتبعه صوفيا، سعيدة لأن زوجها يصنع لكل لحظة جمالا، ويحفر أنفاقاً للعبور نحو البهجة.
لاح لي جبل فيزوف شاهقاً وأنا فى الزورق مغمورا فى اللحظات المدهشة،هل كلوديا هى جبل فيزوف وأنا المغمور فى بحر الحمم ؟!
قلت لروبرتو: كم أود أن أصعد هذا الجبل! قال بسرعة: حذار. ممنوع الاقتراب. إنه مجنون.
قلت : فوسترو بييزى اى بيللو ( بلادكم جميلة )
قال وهو يدور عائدا نحو الشاطىء : نوسترو بييزى اى بيللو كوانتو فوسترو (بلادنا جميلة كبلادكم ).
سمعت جرس التليفون وكنت فى الحمام مغلفاً بطبقة سميكة من رغاوي الصابون. كنت أستحق الاستحمام بعد أن ملحني الخليج على مدي النهار وحتى العاشرة، ودغدغ جسمي باليود والملح والعرق والعطر ورحيق القبلات وارتجاج الأبدان والقلوب.
لما انتهيت اتصلت بالاستقبال فلم أتلق ردا. من الذى يمكن أن يكون قد اتصل غيرها؟ اتصلت بحجرتها. تناهت إلىّ أصوات جلبة مع قولها: برونتو.. صبراً يا أمي.. قادمة.
سألتها: هل هناك ما يزعج؟
أنكرت وحيتني بسرعة.
قلت: أرجوك أن تشركيني معك، هل يمكن أن أقوم بأي مساعدة؟
قالت: لا.. شكراً.. أمي.
ثم توقفت..
أسرعت أسأل: ما بها ؟
قالت: تعاني من مغص حاد، وترفض أن تذهب إلى المستشفي.
سألت: ولماذا ترفض؟
قالت: اعتادت على هذا الألم، فهو يهاجمها بين الحين والحين وتأخذ له دواء فيزول.
قلت : أود أن أقوم بأي دور.
شكرتني وأغلقت السماعة.
تطلعت إلى الساعة. كانت الحادية عشرة والربع. فكرت فى الأرملتين.. وحيدان طوال الوقت. والأم مريضة، وأنا لا أحتمل البقاء هادئاً مستقراً، وهناك بالقرب منى من يتألم.
هل أنا صادق الشعور فى محاولتي القيام بدور، أم أني راغب فى التقرب من كلوديا؟.. أشعر من أعماقي إنها لن تسلم بسهولة، بل لن تسلم على الإطلاق. تخلصت من التفكير المشوب بلمسة نذالة.
ـ أليس فى الدنيا خير من أجل الخير؟!
اتصلت بغرفتها. بعد وقت ردت: برونتو.
بدت أكثر اضطرابا، طلبت منها أن تأذن لي برؤية أمها. قبلت بعد تردد. تعرف أني لست طبيباً. السيدة العجوز قابلتني مرتين. شملتني بنظراتها الرمادية الحنون. فى المرتين رأيتها تجلس على الكنبة أمام الاستقبال تقلب ألبوم صور وتدخن سيجارة وتعلق بين الحين والحين على إحدى الصور التى ربما تضم عددا من الراحلين.. كانت تمصمص شفتيها وتتأمل الصورة طويلاً، بينما “تشاو” القطة المشمشية تنام فى حجرها مطمئنة.
فتحت كلوديا ودعتني للدخول بعد أن توقفت لحظات أمام الباب.. أتخيل إنها نصف عارية.. البلوزة السوداء التى يبدو إنها ارتدتها على عجل غير مهندمة وشعرها “منكوش”. ودائما كان فى موضع الشفتين وردة.
دخلت على استحياء وبحذر مبالغ فيه. جلست على كرسي قريباً من الفراش. توقفت الأم عن التأوه. بدا إنها تعاني.. قررت أن أقدم على مغامرة لن تضر. وجهها يؤلمني وهو يتقلب بين الاصفرار والزرقة. سألت عن موضع الألم. إنه نفس الموضع الذى كانت تعاني منه أمي منذ سنوات، ووضع أبي يده عليه وقرأ القرآن.
لمحت “تشاو” تتسلل من الفراش إلى كرسي صغير مبطن تحت النافذة وتندفس فيه وعيناها علىّ.
قلت ببطء:
ـ تسمحوا لي بمحاولة بسيطة.. ربما تفيد.
تبادلا النظرات، وتحولا إلىّ ولم ينطقاً.
وضعت يدي على موضع الألم.. دنوت بفمي لأقرأ القرآن بعد أن تذكرت أني طاهر، دنوت أكثر كأني أصب الآيات فى بئر الألم، فلا تذهب بعيدا عنه. لم يغب عن ظني دون أن أراهما إنهما يتبادلان النظر، ثم يتحولان إلى هذا الساحر أو الدجال، وقد يمتصان الشفاه عجبا.. حاولت أن أنساهما وأستحضر الله فى قلبي ولساني. حضر أبي وأمى والشيخ مصطفى إسماعيل صديق الوالد وحضر روبرتو وتينا، بل وحضر فخذا كلوديا وشعرها الأسطوري الذى كان يضفره الموج.. طردت الجميع واتحدت بالآيات التى وصلت معها إلى حد الاستمتاع بقراءتها. الكرسي ويس والمعوذتين، والانشراح، والتين، ثم حمدت الله سبعاً وسبحته سبعاً وكبرت سبعاً ووحدته سبعاً وصليت على طه المصطفى رسول الله ومسحت على وجهي، ثم رفعت رأسي إلى الأم فوجدتها صافية الوجه وقد انقشع الألم الذى كان يعتصرها.
كانت تنظر إلىّ وإلى ابنتها، ثم سالت دموعها وسرعان ما سالت دموع الابنة، وترقرق الدمع فى عيني وحمدت الله، وشعرت برعشة برد قصيرة .
اندفعت كلوديا إلى الأم تلثمها وهى تبكي، ووقفت لحظات تحدق فىّ ثم هجمت على وقبلتني على خدي، وأشارت إلىّ السيدة كي أقترب منها فعانقتني وقبلت رأسي، وقالت:
ـ ماذا فعلت؟.. لقد اختفي الألم.
سألتها: هل اختفي فجأة بعد أن انتهيت؟
قالت وهى تحاول السيطرة على دهشتها: لا.. لقد بدأ يتسرب خارجاً بعد أن بدأت تقرأ بقليل .أحسست به كالحبل الذى تشده القراءة منى.. فماذا كنت تقرأ؟
لمحت “تشاو” تتسلل عائدة لتنام فى حضن جلوريا وتلعقها فى خدها ورقبتها.. ربتت عليها جلوريا.
قلت: كنت أقرأ بعضاً من آيات القرآن الكريم.. الكتاب المنزل على محمد نبي المسلمين.
تركتهما إلى غرفتي. لم أنم على الفور كما توقعت، كان عقلي شارداً مع الله الذى ألهمني أن أفعل ما فعلت، وعندما أدخلني فى التجربة أعانني، ولكني سألت نفسي عدة مرات:
ـ كيف استجاب لي وأنا من أنا من البعد عن الدين .فضلا عن سلوكيات كثيرة فاسدة وتفكير أفسد؟!
من حقي أن أزهو بثقته فى وثقتي فيه.
فتحت النافذة كأني سأطلع إلى الجماهير الواقفة لتحيتي.. أخذت أستنشق الهواء العليل وأملأ رئتي .. أذني معلقة بالباب فقد تخيلت أن كلوديا ستطرق الباب وتقول لي كلاماً طيباً وقد تشكرني بغير كلام.
فى الصباح أنبأتني إنهما اتفقتاً على أن أتناول معهما الغداء.. حاولت الرفض بحجة الخروج مع روبرتو فى نزهة. أصرت، لم أجد روبرتو فذهبت إلى على.
كان يستقبل مصرياً يحمل حقيبتين من المنتجات المحلية التى يقبل عليها الإيطاليون والسائحون القادمون من كل بلاد العالم لزيارة نابولي.. معظمها من منتجات خان الخليلي، هدايا فضية وتماثيل وجعارين مصرية قديمة وعقود وأساور وأوراق بردي، تحمل رسوماً نقلها الفنانون من جدران المعابد، وكذلك مسلات صغيرة وقطط سوداء بأحجام مختلفة، وتماثيل لحورس ورمسيس ونفرتيتي واخناتون.
كان الوافد الجديد متحرجاً من كشف حقائبه أمامي، أنفي تشم رائحة غير مقبولة.. لكن على قال له:
ـ أخرج ما معك وفرحنا، هذا أخي وأنا لا أخفي عنه شيئاً.
دهشت لأني لم أتوقع أن يقول عني هذا الكلام.
بعد الأسئلة الكثيرة المكسوة ببعض الغموض نادي على أقرب مصري يقف فى الميدان، ودعاه لتسكين الشاب الجديد، على أن يترك له فرشته ليبيع عليها فور طلوع النهار.
* * * * *
كان ضخماً وذا رأس كبيرة ووجه أحمر مستدير. عيون واسعة تفرض نفسها على الحاضرين
. شفاه غليظة وأنف كبير. عرفتني جلوريا على أخيها دون جيوفاني، وعرفته بي.
ـ سنيور فؤاد. سائح مصري. إجيتسيانو.
لم يبد أي ترحيب بي. انشغل بإشعال سيجار ضخم. صدمتني نظرته لي.
كانت الحديقة محاصرة بالشباب الذين يرتدون الملابس الفخمة، وبدا كأنهم جميعاً مصارعون أو ملاكمون. صدورهم عالية، وأذرعهم كالأفخاذ، ووجوههم صخرية. يلبسون النظارات السوداء حتى لا يري أحد إلى أي وجهة ينظرون. لمحت سماعات على آذان ثلاثة منهم، كما لاحظت أن الجواكت مرفوعة من عند الحوض، رأيت أنها تتستر على مسدسات ضخمةعندما فك أحدهم زر الجاكيت ليخرج ظرفاً أبيض كبيراً يسلمه لسكرتير الدون.. حاولت أن أتجاهل المشهد، فلم أستطع. سألت كلوديا، قالت: حراسة.
ـ كل هؤلاء؟..
قرصتني قرصة خفيفة فى فخذي وهي تقول: اسكت.
كانت المنضدة الطويلة تتجاوز الخمسة عشر مترا، حولها يجلس نحو أربعين رجلاً وأربع نساء، يحرسهم عشرون رجلاً.. الضيوف تبدو عليهم النعمة والسلطة والغرور، إلا نحن الثلاثة، المناسبة عيد ميلاد الدون جيوفاني. الأحاديث الجانبية لا تتوقف والضحكات بشتى ألوانها تتعالى .
على المنضدة شريط أحمر بطولها عرضه نصف متر، مرصوصة عليه جميع أنواع الخمور، أمامها وحولها الكؤوس، وأمامنا عن بعد منضدة مثل التى نجلس عليها، حمل إليها العمال سجادة ضخمة، فردوها عليها.. السجادة غطت المنضدة بالكامل، الدخان يتعالى من السجادة الصفراء المرقطة ببعض الوحدات البرتقالية والبنية والخضراء.
كان الجميع يعرفون إنها بيتزا إلا أنا، بدأ الطهاة فى تقطيعها.. حمل الخدم قطعة كبيرة إلى سرفيس كل ضيف، عشرة من الخدم يقفون فى صف أنيق ليتسلموا قطع البيتزا الفواحة بعبير يحرك المعدة وكل الحواس والخلايا.
قطعة البيتزا أمامي.. لوحة تشكيلية ذات عبير ووهج ودخان.. أرجئ الهجوم عليها بالسكين، وأشفق عليها من سنون الشوكة ومن أنيابي.. أسرعت بتقليد الحضور بعد أن رمقتني كلوديا بنظرة دهشة.
قطعت وأكلت بحذر، فهالني الطعم الذى لا أعرف جنسيته .. اجتهدت كثيراً فى محاولة تمييزه فكل طعوم الدنيا اللذيذة تجمعت فى تلك اللوحة الفواحة.. أليست استهانة من الدون أن يدعو ضيوفه إلى بيتزا ؟!
سألت كلوديا عن محتوياتها.. قالت:
ـ فيها جمبري واستاكوزا وكافيار، وفيها أيضاً قلوب نعام.
شربت فى هذا اليوم زجاجة بيرة كاملة تتفوق كثيراً على أي بيرة شربتها من قبل.
اشتعل بدني والتهبت معدتي، ووصلت الحرارة إلى مخي فتمنيت أن ألتهم أصابع كلوديا الرقيقة.. الشابة النضرة فى الثياب السوداء واضعة البروش على بداية الطريق إلى ثدييها.. تجلس إلى يساري بالقرب من الدون وتميل علىّ بعطرها النفاذ. على رأسها كاب يحاول أن يسيطر على خصلات شعرها الكثيف ذى الحضور اللافت.
انشغلت عنها رغما عني، فهذا الاحتفال الجذاب يشع غموضاً وأستشعر وراءه قصصاً وتربصاً وخيوطاً كثيرة متشابكة لمؤامرات.. لا يبدو كعيد ميلاد، بل مناسبة لتجميع عدد من الأعداء الذين تصل بينهم صفقات وأزمات وحسابات ومواقف صغيرة ربما تكبر، لابد أن هناك بالونات تشي بما تحت المناضد من نزاعات.
فجأة قام شاب أنيق يتدلى الذهب من حلته وصديريته ورقبته وأذنه اليسري، وكان يتربع على الرأس الآخر للمنضدة فى مواجهة دون جيوفانى، تقدم من المضيف مع بعض العرج ووقف معتزا بنفسه وتمهل لحظات ليستعد الحضور، ثم عبر بهدوء شديد لا يتناسب مع الشباب وإن كان يتناسب مع الثعابين عن تقديره لشخصية الدون وذكائه وتاريخه، ويحق له أن يكون أحد أهم رجال نابولي ويحق أن يعمل له ألف حساب، وشرف للجميع حتى له (المتحدث) أن يلبي دعوة الدون الكبير للاحتفال بعيد ميلاده الثالث والستين، وتهاوي فى اعتزاز نحو الدون، ولحق به مساعده الذى قدم للشاب المذهب علبة رفيعة مستطيلة أكثر من اللازم مكسية بالقطيفة الكحلى وقدمها للدون، الذى فتحها وأخرج منها سيفاً من الفضة ، على المقبض نقوش من ذهب، وبرق السيف ورد للشمس أشعتها بكبرياء وبهاء، فضج الحاضرون بالتهليل والتصفيق، وقال بعضهم بملء الأفواه:
ـ واو..
قام ثان فحيا الدون وهنأه وتمني العمر المديد لعميد العائلة وطرقع بإصبعيه فظهرت سيارة روزلوريس بيضاء مزينة كأحلى عروس ومرت أمامنا متمهلة تدرك جيداً مدي ما تتمتع به من جمال . وقفت لحظات أما جيوفانى الذى أحنى رأسه تحية لها ولمن أهداها إليه ، ثم تبخترت فى دلال حتى سكنت تحت خميلة تظللها أفرع الزهور وعناقيد الكروم.
هب ثالث فهنأ وحيا وأطال فى التعبير عن فضل الدون على الجميع وطرقع بالإبهام والوسطي، فظهرت ثلاثة من الجياد العربية الأصيلة يتبعها صغيرها الرشيق النزق، عائلة صغيرة من صنع الطبيعة المبدعة تنقر القلوب وهى تتهادي حتى تقف أمام الدون وتنحني له.. مالت علىّ كلوديا وسألتني:
ـ هل تدري من والد الحصان الصغير؟
قلت: لا أفهم.
قالت : الثلاثة الكبار ذكران وأنثي.
قمعت ضحكتي، وقبل أن أعلق ـ فقد أدهشنى أن بدا لى جانب جديد من شخصية كلوديا ، قطعة الحلوى المميزة ـ رأيت الخيول تصطف معاً وترقص رقصاً جماعياً متناغماً للحظات ويهلل الجميع ويصفقون، وتتوالى التهاني والهدايا.
قالت كلوديا: إل كافاللو أرابو أى إليكنتى (الحصان العربى رشيق )
أمسكت بالدون متلبسا بالنظر إلى . مالذى يدور فى رأسه بشأنى ؟. تذكرت فجأة موسيقى موتزارت . قلت له :
ـ هل تعرف يا سنيور جيوفانى أن موتزارت ألف سيمفونية باسمك
فتح إلى أقصاهما عينيه ورجع بظهره إلى الخلف . حدق فى ، واستعد للدهشة التى تعثرت فى الطريق . تحول إلى كلوديا ، وسألها عما قاله المصرى . سألتنى عن حقيقة ما قلته . أكدت لها أن موتزارت ألف واحدة من أجمل سيمفونياته باسم دون جيوفانى . نقلت إليه ما قلته . احمر وجهه المستدير وأخذ يقهقه ، ثم أعلن للجميع أن المصرى كشف لنا سرا مهما عن موتزارت . أخذ يكرر الخبر بفخر ويقهقه عاليا ، ويقول :
ـ لم أكن أحسب أن موتزارت على هذه الدرجة من العبقرية . فلنشرب فى صحة أهم موسيقى فى العالم . احضر يا ماركو هذه السيمفونية ووزع منها نسخا على الجميع . ضعها فى كل حجرة من حجرات القصر والسيارات أيضا
طلب من الحضور أن يشربوا من جديد كأسا على شرف الموسيقى العبقرى ، وتمنى أن يحذو جميع الموسيقيين فى العالم حذوه . وانطلق يضحك ، ثم توقف وهو ينظر إلى الدون ألبانو الذى تحولت إليه فلمحته فى آخر لحظة يشير إلى كلوديا وإلى الخاتم الكبير فى أصبعه.
يميل الدون إلى أخته ويتحدث إليها هامساً.. تفتح أم جلوريا فمها، لكنها قبل أن تنطق بحرف، تتحول إلى كلوديا، فتجدها تململت وتوترت ثم وقفت، مقطبة الوجه، مرتعدة اليدين.. ثم دعتني وأمها للنهوض ، وسبقتنا لمغادرة الحديقة فى اتجاه قوس الخضرة الذى يبدأ عنده الممر الطويل المفضي إلى ساحة فسيحة تلي البوابة.
سمعت من خلفنا طرقعة أصابع سرعان ما اندفع الشاب الذى أحضرنا يجري نحو السيارة الألفاروميو التى حملتنا إلى حفل الدون.
فور أن ركبنا انطلق مخزون كلوديا من الكلام الغاضب، وأمها صامتة. لم أتبين معظم الكلام، لكنه فى الأغلب كان تعبيرا عن رفضها التام للدون ألبانو الأعرج، طلبت إلى أمها أن تعلن ذلك بوضوح لجيوفاني، وعليه أن يكف عن إرضاء أصحابه ومصالحه على حساب سعادتها وهى تعلم إنها لن تتزوج بعد برونو، حتى لو كان هذا الثعبان الذهبي..
قبل سوق نابولي الكبير كسرت علينا سيارة فان سوداء ضخمة واحتجزتنا.. نزل منها ثلاثة من الشباب المسلحين الذين يرتدون أردية رمادية، فتح أحدهم باب السيارة الخلفي وطلب من كلوديا وأمها الخروج، ولما لم يخرجاً وشتمتهما الاثنتان، مد يده وجر الأم وجاء آخر مد يده من الباب المقابل ليجر كلوديا، هربت منه إلى الباب الأول، فتلقاها الثالث وهو يقول :
ـ لاكوزا نوسترا ( شىء يخصنا )
نزلت بسرعة.. كنت أشعر بالعجز الشديد بسبب اللغة.. حاولت أن أكون جملة لأقول لهم:
ـ لا يصح معاملة النساء هكذا. ولماذا يفعلون هذا بهما، سوف يغضب الدون ؟
تقدما بهما سريعا نحو السيارة السوداء، فأسرعت خلفهما مضطربا وعاجزا .. لم تتكون فى رأسي أي جملة.. حاولت الدخول معهما فدفعني أحد المسلحين بدبشك الرشاش فى كتفي، وصوبه وعينيه علىّ ثم حوله إلى عجلتي السيارة من ناحيته فأطلق عليهما النار.. استسلمتا بخوار، ولحق بالسيارة التى صرخت عجلاتها وهى تندفع قافزة إلى الأمام، لتختفي فى ثوان.
تحولت إلى السائق الذى كان يرصد كل شئ دون أن يتحرك.. لم أستطع التصرف على أي نحو، سألت السائق عن الخاطفين.. قال:
ـ رجال دون ألبانو.
قلت: أسرع إذن بإبلاغ دون جيوفاني.. تحدث إليه من أي تليفون.
علىّ الآن أن أغادر البنسيون بسرعة وأهرب من المنطقة الملغومة.. لقد تبددت كل أطماعي الصغيرة فى علاقة عابرة مع كلوديا الجميلة.. الفرار.. الفرار.. الحياة أغلى بكثير من أي مغامرة.
مررت بعلي لأحكي له ما جري، كشفت له عن خوفي ورغبتي فى مغادرة البنسيون، قال: ـ لا تكن خفيف القلب.. لا ضرر عليك.
قلت: هؤلاء الناس يقتلون كما يشربون الماء.. كانت عيونهم تتفجر شررا وكانوا ميالين لقتلي، لكن الله سلم. سوف ننطلق إلى فينسيا غدا.. سأختفي الليلة فى أي مكان.
ـ مادمت مصرا فسوف أدلك على فندق صغير.
ـ لا.. سوف أبيت عند روبرتو.
مررت على روبرتو كي أبلغه أني سأبيت عنده الليلة.. حكيت له ما جري. سألني:
ـ هل قلت لأحد أنك ستبيت عندي ؟
قلت: على فقط.
اصفر وجهه وتلعثم، وقال:
ـ ما رأيك أن نسافر الليلة؟
ـ موافق.
ثم قال: بل الآن.. ما رأيك؟
تمهلت قليلا وأنا أستشعر رعبه. قلت:
ـ موافق.. علىّ إذن الذهاب لإحضار الحقائب.
من حق كلوديا أن تعتبرني جباناً. تخليت عنها. سوف تستصغرني.. أنا على وشك المغادرة إلى غير رجعة، ولكني لا أود أن تحمل فى قلبها أي فكرة متدنية عني، أو عن المصريين . اللغة كبلتني وأعاقتني عن التعبير.. لم يكن من العقل محاولة منع المسلحين الثلاثة المحشوين بإرادة البطش.هذا العالم جديد على ومجهول ، ولدى فكرة محددة وإن كانت غامضة تتلخص فى ضخامته ووحشيته .
اختطفها ألبانو الأعرج الذى كال المديح لجيوفاني ، فماذا سيفعل الخال؟ ستشتعل الحرب الضروس بين الثيران، بل بين الديناصورات فائقة القوة، وسوف تسحق القطط الصغيرة من أمثالنا.
حدثتني كلوديا أمس عن زوجها الذى قتل فى إحدى معارك جيوفاني مع خصومه، وكان من مساعديه المخلصين. لذلك ترفض هذا العالم، ولم تكن تود حضور حفل ميلاده، لولا خوفها على أمها وحرصها على مرافقتها.
عندما وصلت البنسيون، كانت كلوديا ترش كعادتها اسبراي معطر برائحة الليمون.. وقبل أن أندهش، قالت:
ـ أحضرنا رجال دون ألبانو بعد تليفون من جيوفاني.
ـ قلقت عليكِ
كنت أفتش فى وجهها عما يزعج. كانت كعادتها متألقة.. قالت:
ـ آسفة لأني ورطتك.
ـ لا توريط ولا شئ. المهم سلامتك.
ـ جراتسي.
ـ سوف أغادر الآن.
بدت غير راضية أو مندهشة.
ـ ألم تقل أنك ستسافر غدا؟
ـ أفضل أن أسافر الليلة.
ـ لا تخش شيئا.. اطمئن.
لم أجد ما أقوله غير أني كنت على ثقة تامة أني لست فى المكان المناسب، وأن الخطر يكمن فى كل لحظة.. لاحظت شرودي فقالت:
ـ ألبانو يعمل ألف حساب لجيوفاني. الموضوع تقريباً انتهي.
ـ أشكرك على محاولتك تهدئتي، لكن ألبانو مصر على الزواج بك لدرجة الإقدام على خطفك، المسألة لم تنته كما تتصورين.
ابتسمت بدون رغبة:
ـ ماذا أساوي أنا فى عالم المصالح والحسابات؟ الشركات الكبرى يتبادلها هؤلاء الرجال فى جلسة عشاء.
قلت: نعم. المصالح قبل الدم والدين.
تأملتها لحظات فاضطربت. قلت:
ـ أتمني أن تكوني وماما بخير.
قالت برقة شديدة: لا تغادر إذن.. إبق معنا الليلة.
ـ سامحيني.. سأرحل الآن.. جهزي الفاتورة.
استدرت لأتجه إلى الغرفة، فرن الجرس.
ـ سنيور فؤاد.. إنها أمي.. ألا تسلم عليها؟
لم يكن جرس التليفون، ولكنه جرس خاص بالأم على مكتب الاستقبال.
طلعت كلوديا وأنا وراءها. أتأمل جسدها الريان الممشوق . النحيل من الخصر والممتلىء قليلا عند الردفين. الساقان الملفوفان العفيان يضربان الدرجات بقوة البنيان، لا بقوة المشاعر
قبل أن نبلغ باب الغرفة بلغتنا تأوهات أمها أسرعت بالنزول وطلبت روبرتو، قلت له:
ـ لن أستطيع القدوم، موعدنا غدا فى السادسة صباحاً.
طرقت الباب ودخلت. كان الموقف مشابها تماماً لما حدث من قبل وفعلت مثل ما فعلت وأكرمنا الله. ولاحظت أن “تشاو” أيضاً فعلت مثل ما فعلت فى المرة السابقة.
سألتني كلوديا:
ـ أليس فى نابولي مصري مثلك يستطيع أن يقرأ لها القرآن.
قلت:
ـ القنصلية المصرية قادرة أن تساعد فى هذه المسألة، لكن لابد من استشارة طبيب ماهر لتحديد المرض والدواء، أما ترك الأمر بهذا الشكل فغير مقبول.
قالت الأم:
ـ ليتك تبقي معنا شهرا. سنخفض لك ثمن الحجرة إلى النصف.
ـ شكراً، لقد تأخرت على أهلي كثيراً، وأرتبط بباخرة ستغادر بعد غد من فينسيا.
جاءني روبرتو بعد ساعة يدعوني للقاء على فذهبت على الفور، وأنا مشغول الخاطر لأني فهمت من حالة روبرتو أن لعلى علاقة بالرجال الذين حولوا زيارتي لنابولي إلى أيام من الرعب .
قال على عندما لقيته:
ـ أنا اعتبرتك أخي من أول يوم وأحسست بالثقة فيك ، لذلك أعتمد عليك فى توصيل هاتين الحقيبتين لأخي فى الإسكندرية. أخرج ورقة من جيبه الصغير، وسلمها لي وهو يقول: هذا هو الاسم والتليفون والعنوان.
قال روبرتو:
ـ أذهب إذن لإحضار السيارة.
قال على:
ـ لا تشغل بالك. سوف أرسلهما إليك على بيتك مع أحد الشباب.
أخرج على ورقة وقال:
ـ اكتب لي هنا تليفوناتك وعنوانك.
كتبت له عنواني وتليفوني بعد تغييرات بسيطة، لا توصله إلى، ثم تعانقنا وأسرعت إلى كلوديا التى أصرت أن أتناول عشائي معهما. فلبيت الدعوة وأنا أملأ عيني بنور وجهها وجمال عينيها، شاعرا بتعاسة حقيقية لأني لم أذق حلاوة الشفتين الدسمتين الحمراوين.. إنهما وحدهما كفيلان بإغداق المتعة الكاملة لرجل نهم.
طلبت الحساب، فقدمت لي الفاتورة مع خصم 20%.. شكرتها ومددت يدي لأسلم عليها.
قالت: سوف أراك فى الصباح.
فى تلك اللحظة حضر رجلان، عرفتهما كلوديا فسبتهما وحاولت طردهما، فلم يتحركا، قال أحدهما:
ـ إن الدون جيوفاني يطلب السنيور.
وأشار إلىّ
صرخت فيهما، قائلة: إنه لن يتحرك معكما خطوة.
سألتها :كى سونو كريستى ( من هؤلاء ؟ )
أخرج أحدهما صورة وقال:
ـ هناك مسألة تخص السنيور لابد من تصفيتها.
أسرعت كلوديا تحدق فى الصورة، ثم لاذت بالصمت. طلبت منهما أن يطلعاني عليها. فوجئت بدرجة الشبه الغريبة، بالتأكيد لست أنا، لكن التشابه كبير ويصعب إنكاره حتى النظارة لولا الشعر البني لصاحب الصورة. قالا لها: إن السنيور (وأشارا إلىّ) ليس مصرياً كما قالت وإنما يوناني.
قلت : إيو سونو إجيتسيانو . أنا مصرى
قال أحدهما وهى يقطب جبينه ويضغط على أسنانه : تى نون سى إجيتسيانو تى إكريكا
طال النقاش، هما يصران على أني اليوناني وأنا أقسم أني مصري، وهذا هو جوازي.. عادت تصرخ فيهما بلا نتيجة، أصرا على اصطحابي معهما.
صرخت ثانية وقالت : باستا ( كفاية )
أخبرت أمها وأسرعت تركب معنا.
عند جيوفاني دار حديث جديد وسألني مساعده عن دوري فى إفشال صفقة مخدرات فى أسبانيا، واتهامي بقتل مندوبهم فى بروج ببلجيكا، وسرقة طرد به أوراق مهمة من منزل سافيديانو بمدينة لوجانو على الحدود الإيطالية السويسرية. وتحدث إلىّ المساعد باليونانية، فلم أفهم.
قرر جيوفاني احتجازي حتى الصباح إلى أن يأتي سافيديانو الموجود حاليا فى نابولى .. حاولت كلوديا إفهامه أن باخرته ستتحرك غدا وإنه مصري وهى متأكدة من ذلك، بلا أي نتيجة، وأخيرا حضر شاب كان أحد مساعدي جيوفاني قد استدعاه فحدق فىّ من كل زاوية، وهز رأسه، ثم قال:
لا. ليس هذا نيقولا بازاريدس. نيقولا أطول وأكبر فى السن قليلاً، لكن التشابه كبير للغاية.
حاول البعض التشكيك فى كلام الشاب، لكنه قال:
ـ أنا مصور، وأعرف جيداً طبيعة الملامح.. يكفي أن تنظرا إلى الأذنين. نيقولا له أذنان كبيران، وذقن عريضة أما ذقن هذا الشاب فمدببة، وأذناه كأذني الفأر.
يا لهذا اليوم التعس الذى انتهت به علاقتي بنابولي!!.. هل الأيام ترد على الأيام؟.. كان اليوم السابق من أبهج أيام حياتي، ألا تتخلى الحياة عن قوانينها الثابتة .. يوم حلو ويوم مر ..لا تبتئس وتغضب من صفعاتها، ولم نفسك إذا لم تستفد من دروسها، أنت لابد تعلم أن القدر حداد، لا يكف عن وضعنا فى اللهب والطرق علينا بينما يداه الماهرتان تقلبنا على النيران، ومع كل طرقة تأخذ عقولنا وأرواحنا أشكالا أخرى.
* * * * *