نجاح الجبيلي : رسوم فوق الطريق (ملف/30)

إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.

(1)

حلّ المساء سريعاً ونزفت الشمس شفقها على صفحة مياه (نهر الخندق) والشارع الممتد بمحاذاة ضفته المسيجة. من الأزقة الضيقة لبيوت ذات واجهات مزينة بشناشيل حائلة أطلت فتاتان صغيرتان استلت إحداهما قطعة طباشير من جيبها وهمستْ في أذن الفتاة الأخرى:
– عندي طباشير، تعالي نرسم على الطريق
ابتسمتا معاً وانحدرتا راكضتين نحو الشارع الذي أمسى مقفراً وخالياً من المارة. جلست الفتاة التي تمسك بالطباشير وشرعت ترسم ببطء وجهاً لطفل فوق الإسفلت المعتم البارد، بينما الفتاة الأخرى متسمّرة فوقها تحدق بالشكل المرسوم جاهدة أن تجسدهُ في ذهنها. تساءلت مقطبة:
– منو هذا؟
– هذا ابني !
همستْ الفتاة التي ترسم وضحكتْ بحبور ٍ بينما أشرق وجهها بحياء وديع. أطرقت ثانية ً وراحتْ تكمل رسم العينين الواسعتين، ثم الفم محدباً وقالت:
– شوفي يبكي
رطّبت أصابعها الطريّة ومسحت الفمَ ثم رسمتهُ بشكل مقعّر وقالت:
– شوفي يضحك !
لمحَتْ الفتاة الواقفة سيّارة مرسيدس أنيقة أسدلت ستائر خضر على نوافذها ودلَفَت إلى الشارع بعد أن اجتازت الجسرَ الذي يصل بين ضفتيّ النهر. صاحت:
– سيّارة !
ركضتا باتجاهين متعاكسين نحو الرصيف وراقبتا السيارة وهي تمرّ مسرعة وداست بعجلاتها على الطفل المرسوم. هرعتا نحوه. قالت الفتاة الواقفة بنبرة حزينة:
– مات؟
– لا ما ماتْ .. شوفي بعده يضحك!
وانحنت بجسدها الضئيل تتم رسم بقيّة أوصال الطفل.
بعد أن رسمَتْ الجسد كاملاً ألبسَتهُ معطفا ذا أزرار. أصاخت الفتاة الواقفة لجلبة سيارة عسكرية قادمة باتجاههما وقد طُليت نوافذها بالطين. صاحتْ:
– سيّارة !
انطلقتا مبتعدتين. مرّت السيارة بطيئة صاخبة ومَحَتْ جزءً من ساق الطفل المرسوم. اقتربتا منه. قالت الفتاة الواقفة بأسى ً :
– ماتْ ؟
– ما ماتْ ! بس رجله انكسرتْ ..
أنكبّت عليه وجعلتْ تداوي الساق المعطوبة بخطوط الطباشير والفتاة الأخرى مستمرة تراقبها ثم ما تلبث تنقل بصرها متوجسة بين نوافذ البيوت الصغيرة حيث أنوار الشموع الواهنة الكابية تختلج خلل زجاجها المرتجف تحت وطأة دوي بعيد. قالت الفتاة الواقفة:
– صارْ ليل. يا الله نروح لا يبدي القصف
تلفتت الفتاة التي ترسم من حولها وأدركت العتمة المطبقة. قالت:
– دقيقة ! بس خل ابني ينامْ !
– رطّبت أناملها ومحَتْ عينيّ الطفل ورَسَمت مكانهما شارحتين صغيرتين فتراءى الطفل نائماً. نهَضَت متحسرة. ركضتا سوّية نحو ذلك الزقاق وغابتا بجسديهما النحيلين في قلب الظلمة.

(2)

بعد الفجر توارت نجمة الصبح خلف سماء رمادية، وثمة صوت دويّ يتناهى إلى السمع من الحدود النائية الملتهبة، بينما الفتاة التي كانت ترسم بالأمس غافية تنسج آخر خيوط الحلم لصورة الطفل الضاحك وعينيه الوسنانتين. يدنو الدوي هادراً .. يندفع مقتحماً المكان.. يعقب ذلك انفجار هائل. يرتجّ البيت. تموج الأرضُ تحت السرير. تستيقظ الفتاة هلعة وتخبط بيديها في الظلمة الكثيفة. تصمّ أذنيها بأصابعها ويصطك وجهها بالألم.. تطلق صرخات متقطعة تتحشرج وتذوب في الجلبة العاصفة وتكابد لتدعو أمها التي هرعت إليها حينئذ ٍ واحتضنتها وراحت تربت على كتفيها المرتعشين إلى أن استسلمت للنوم ثانية.
في الصباح نطّت من سريرها الخشبي وغادرت الغرفة خلسة ً إلى أن بلَغَتْ الشارعَ. وهناك انضمّت بتوجس إلى حشد من الناس بان على وجوههم أثر نوم متقطع وراحوا يشرأبون بأعناقهم الطويلة ويتمعنون في حفرة واسعة عميقة شقت الطريق الإسفلتي وامتدّت حتى ضفة النهر الذي تدفقت مياهه المطحلبة فيها.
أقبلت الفتاة الأخرى بخطوات وئيدة، ووقفت متشبثة بثوب الفتاة التي كانت ترسم بالأمس. حدّقتا سوية بالحفرة وترجرج وجهاهما الغضّان في صفحة المياه الساكنة. بحثتا بنظرات قلقة عن صورة الطفل المرسوم. لم تعثرا على أثر ٍ له. همست الفتاة الأخرى:
– ها، هسّة مات لو مات؟
– لا ما مات، يمكن لبَدْ بالحفرة ! تعالي نرسم من جديد
– ابتعدتا عن حافة الحفرة. تربعتا على الإسفلت وشرعت إحداهما ترسم بقطعة الطباشير المتبقية بينما ظلت الفتاة الأخرى تمعن النظر صامتة بالخطوط البيض التي بدأت تشكل هيئة الطفل. حينها كانت الغيوم الرمادية الحُبلى بالمطر تتراصّ في سمت السماء، وثمة سحب كثيفة من الدخان الأسود كانت تنبعث من آبار وخزانات نفطية محترقة ثم ما تلبث أن تحلق في الجو المكفهرّ.
بعد أن تجسدت هيئة الطفل فوق الطريق شرعتْ السماء تمطر مطراً أسود ترك بقعاً داكنة على ملابس الناس الذين تفرقوا راكضين بينما اكتست واجهات المباني والبيوت الخاوية بلون فحمي. نهضت الفتاتان وانطلقتا مسرعتين تحت نثار المطر الذي راح يضرب بقوة حتى بلغتا الزقاق تاركتين الطفل المرسوم يبتسم مستسلماً لسيل المطر الأسود وهو يقطّع أوصاله الطباشيرية ويجرفها إلى الحفرة السحيقة.

1995

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *