حسين سرمك حسن: الجواهري مركب النار، االنرجسية الضارية والقصيدة المفتاح

لقد طرح هذا الأمر الشائك الناقد «محمد الجزائري» على الجواهري في أحد اللقاءات قائلاً :
(( البعض يحاول أن يحاسب الجواهري على وفق مسطرة تقليديّة ، يعني أن الجواهري حين يتناول الحياة ضمن تقلّب الأهواء ، لا يؤاخذ كما يؤاخذ السياسي الفلاني (المنضبط) حزبّياً، ولكن البعض يعتبر (تقلب الأهواء) صفة سلبية في الجواهري، دون النظر إليه كإنسان، يتعرض للمغريات كأي من البشر..
فردّ عليه الجواهري بإجابة نقلنا قسماً منها سابقاً ، ولكنه أضاف :
((  أنا عندي خط معيّن وهدف معيّن ومثل عليا ، أماّ أن أخرج عليها فحتماً أزل عن هذه ، ولكني أعود .. وهناك (قارعة الطريق) اقرأها.. أنا كتبتها في أيام الصفاء ، ولم أدرِ ما سيحدث بعدها ، كتبتها عام 1949 ولكنها ما زالت حيّة، وكأنها كتبت الآن ، أقول بصراحة :
«وقد أزيغ
وقد أميل
وقد تزلّ بي القدمان
ولكني أعود، فالشمس قبلتي دوماً»(47)
ومن المؤكد أن الجزائري لم يضع في إطار تساؤله الموقف من الوطن فهو مثلنا يعدّه محسوماً بالنسبة لشاعر عظيم ومناضل كالجواهري . ومن المؤكد أيضاً أن الأخير لم يدر بخلده أن هناك أمراً يخص الولاء للوطن ضمن مفهوم الولاء السياسي الذي طرحه تساؤل الناقد ؟ ولكن إذا كان هذا الأمر لم يدر بخلد الشاعر فإنه لا يمنع حقيقة أنّه مارسه سلباً وإيجاباً أو بمشاعر «متضادة» بين وقت وآخر ووفق حالته الانفعالية وظرفه الاجتماعي وانشغالاته السياسيّة.
تشكل هذه القضية مسألة شائكة وخطيرة في الحياة الإبداعية العربيّة بشكل عام والعراقية بشكل خاص وعليه سنتناولها بهدوء وفي صورة دعوة للمناقشة، وهذا أسلم وأعمّ فائدة، وليس في صورة عرض واستنتاجات نهائية وتقرير حقائق قاطعة :
(( في عام 1923 كتب الجواهري :
صبوتُ إلى أرض العراق وبَرْدها
  إذا ما تصابى  ذو الهوى لربىنجد نجد نجدِ

سلامٌ على أرض الرصافة..
  …

أحبّاي بالزرواء…

  
                                 (سلام على أرض الرصافة)

وهي قصيدة شوق وصبابة وعتب (إخواني) بسيط . ولاحظ عمر الشاعر في عام 1924 :
يا نسمة الريح من بين الرياحين
  حيّي الرصافةَ عني ثم حييني

ولي إلى الكرخ من غربيِّها طَرَبٌ
  يكاد من هزة للكرخ يرميني

                                                               (في بغداد)
وفي صيف عام 1924 وهو في إيران :
أحبابنا بين محاني العراق
  كلفتمُ قلبي ما لا يطاق

العيشُ مرٌ طعمهُ بعدكم
  كيف لا والبعدُ مرُّ المذاق

الله يرعى (حمداً) إنه
  غادرني ذكراه رهن السياق

هل جاءه أنّ أخاه متى
  يذكره يشرقْ بدمع المآق

يكفيكم من لوعتي أنني
  في فارس أشتاق قُطرَ العراق

                                                     (على حدودبلاد فارس)
و(حمد) شقيق الشاعر الصغير، وهو  الاسم المحبب له ، أمّا الاسم الحقيقي فهو (محمد جعفر) وهو (شهيد يوم الوثبة) عام 1948 .
وفي عام 1924 أيضاً عند تركه العراق لأول مرة مصطافا :
أقول وقد شاقتني الريحُ سحرةً ومن يذكر الأوطان والأهل يشتق                ألا هل تعود الدار بعد تشتتٍ  ويجمع هذا الشمل بعد تفرق
وهل تنتشي ريح العراق وهل لنا سبيلٌ إلى ماء الفرات المصفق
(الذكرى المؤلمة)

وفي 1925 :
خذي نفس الصبا “بغداد” إني   بعثت لك الهوى عرضاً وطولا
أدجلة أن في العبرات نطقاً   يحير في بلاغته العقولا
(بغداد) 

وفي 1927:
أينكر اِلفتي حتى صحابي  وتنبوا الأرض بي حتى بلادي
(الخطوب)

وفي 1927 أيضاً:
الشعب شعبي وان لم يرضَ منتبذٌ  والدار رغم (دخيلٍ) عابني داري
لو في يدي لحبست الغيث عن وطنٍ  مستسلم وقطعت السلسل الجاري
العذر يا وطناً اغليت قيمته   عن أن يرى سلعةً للبائع الشاري
(ثورة الوجدان)  

وفي 1982:
فلا تنشدوا حرية الفكر إنها   (ببغداد) معنى نكبةٍ وصفاد
فما كان (بشّار) بأول ذاهب   ضحية جهلٍ شائن وعناد
إلى اليوم في (بغداد) خنق صراحةٍ  وتعذيب آلاف لأجل آحاد
(أيها المتمردون)

هكذا وشيئاً فشيئاً تتصاعد نبرة التذمر من (بغداد) .. إنها المدينة التي تحاصره وتسلبه حريته وتحيط وجوده بالقيود بينما يحمل روحاً متمردا كروح (بشار) أنموذجه ومثاله .. أنه شاعر وروحه منطلقة وثابة عصية على الأسر فكيف يحيا في مدينة مليئة بالنواهي والتحديدات والرياء .. إن مدحه وقدحه ، حبه وكرهه جزء من تمرده العام في مرحلة العشرينات حيث ألقى “السلوك المحافظ والعمامة في الكناسة” على حدَ قوله .
ومع بداية الثلاثينات تستمر هذه الروح المتمردة المغتربة .. فهو غريب الوجه لا يستطيع التوافق والتكيّف مع الآخرين من حوله .. وهو أنف طافح الثقة بنفسه وليس على استعداد للانحاء أمام (شكسبير) مهما كانت عظمته حسب قوله :
ذممت مقامي في العراق وعلَني – متى اعتزم مسراي أن أحمد المسرى
لعلي أرى شبراً من الغدر خالياً – كفاني اضطهاداً أنني طالب شبراً
(المحرقة- 1931)

أنه (المجال الشخصي) إذا جاز التعبير والذي تتسع مساحته مع اتساع مساحة النرجسية الشخصية والتي بدورها تنمو وتتضخم مع نمو القدرات الإبداعية . إنه تململ المارد الخالق في قمقمه .. إنها نقمة (شخصية) مادامت تحدوها روح رومانسية جرحها الإحباط ولفتها أستار الكآبة السوداء . وليس من شأن المبدع في هذه المرحلة الانهمام بمعادلات الأنانية والتضحية والإيثار. انه لا يرى ذاته إلا في مرآة ذاته ، ولا يزال الشاعر (نرسيسا) شربت وجوده صورته المنعكسة على وجه الماء وليس بقادر على رؤية صورة أي شيء في الكون حوله أو منعكساً مع صورته :
أنا إن كنت مرهقاً في شبابي  مثقلاً بالهموم والاوصاب
فمتى أعرف الطلاقة والأسى  ألمّا أكون تحت التراب
خبروني فأنني من لباناتي  وعيشي رهين أمر عجاب
اي حال هذي ، وما السر في  تكوين خلقٍ بهذه الأعصاب
أبداً ينظر الحوادث والعالم  والناس من وراء ضباب
(صورة الخواطر- 1932) 
أن النظرة المضببة هي النظرة المركزة على صفحة الماء حيث لا تظهر من اللوحة إلا الذات .. أما المجموع وحركته فهو في أفضل الأحوال انعكاسات خاطفة وطارئة وشبحية .. إنه – ووفق الانتفاضة النرجسية هذه – يعامل العراق نداً لند ، ذات فرد مقابل ذات فرد أكبر… وهو لا يتورع عن السخرية من (المردودات) التي رتبت له والتي يرى إنها لا “تتناسب” مع جهده ومواقفه وما تعرض له من غدر.. كما أنه غير قادر على الفصل بين الموقف الفردي والموقف الجمعي.. بين الوطن وبين عصبة شريرة تحارب المواهب :
حباني العراق السمح أحسن ما حبا  به شاعراً للحق والعدل داعيا
رجاءً كما استمطرت في الصيف مزنةً وعيشاً كما أسارت في الكأس باقيا
وعيشاً إذا استعرضته قلت عنده  “كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا”
وواعدني بعد الممات احتفاءةً  يجوّد فيها المنشدون المراثيا
(المآسي في حياة الشعراء- 1936)
(ملاحظة- أليس هذا هو ما حصل فعلاً مع الجواهري بعد ستين عاماً؟ .. وماذا قدمنا له أكثر من تجويد المراثي بعد مماته ؟ ) .
لكن الوطنية ليست نظرة فحسب ، إنها وعي أيضاً بهموم هذا الوطن ومحنة أبنائه ، رفقة الشاعر . وتوفر هذا الوعي الحاد ودخول الجواهري المعترك السياسي من جهة والعمل الصحفي المنظم من جهة أخرى جعل النمو النرجسي يتخذ مساره الصحي والصحيح حيث أصبحت ذاته تعكس وتنعكس ليس من خلال صفحة الماء ولكن من خلال الآخر. هنا إلتحم الذاتي بالعام وأصبحت مرآة الشاعر صفحة المجموع المسحوق ونظرات عيونهم وملامح وجوههم وإن لم يكن هذا التحول كاملاً…
فلا يوجد في النمو النفسي وتحولاته طفرات قاطعة أو انقطاع بل تداخل وتشابك وامتداد مثلما تمتد جينات (مورثات) الأجداد في خلايا الأحفاد.. وعليه فإن تطور وعي الشاعر السياسي سيوجه خطابه وجهة جديدة تنضج تدريجياً :
يقول عام 1945 :
أي طرطرا أن كان شعب جاع أو خلقٌ عري
أو دُفع العراق للذل أو التدهور
فأحتكمي تُحكمي  وتُحمدي وتُؤجري
(طرطرا)
وحين يصرخ بألم في (المقصورة – 1947) عن مصير شعبه الذي يدفع نحو هاوية سحيقة :
متى ترعوي أمة بالعراق  تساق إلى حتفها بالعصا
تُذرى على الضيم ذرو الهشيم  ويعرقها الذل عرق اللحا
وقرّ على الذل خيشومها  كما خطم الصعب جذب البُرى
فأنه، ويا للمفارقة ، يفخر أنه (نجا) من قافلة الذل وحيداً، نجا بنفسه مترفعاً وأبياً ويهنئ بنيه لانهم نجو من ذاك الزمان الرديء ويدعوهم إلى أن لا ينسوا أباهم الأبي.. لكنه يعيش ربكة واضحة في تحديد صلاته بسواد شعبه المسحوق وبوطنه.. صحيح أنه قد (نجا) وركب طريقاً خاصة به، لكنه لا يستطيع إلا أن يعلن ولاءه لوطنه برغم سخطه و(تخليه) محاولاً تصوير أمر النجاة وبصورة غريبة وكأنه خلاص وقتي حيث أنه سيلتقي بوطنه بعد حين :
سلام على هضبات العراق  وشطيه والجرف والمنحنى
سلام على بلدٍ صنته   وإياي من جفوة أو قلى
كلانا يكابد مرَ الفراق   على كبدينا، ولذع النوى
وكلٌ يغذ إلى طية   لنا عند غايتها ملتقى
وهكذا تحفل القصيدة الطويلة- المعلقة – بالكثير من هذه المواقف التي يسودها اندفاع ملجوم، حييّ، متردد.
ولكن علينا ان نلتفت إلى حقيقة مهمة وهي أن إتساع وحدّة وعي الجواهري السياسي وإلتحامه بقضايا شعبه في الوقت الذي وضع نرجسيته ، ظاهراً في مسارها الصحيح ، نبتة رائعة أخاذة تستظل بشجرة الوطن العظيمة الوارفة ، إلا إنها، بفعل داعم راجع ، ساهمت ، باطناً ، في تعزيز ونمو وتزايد هذه النرجسية بصورة تجعل الشاعر يحس بأن شجرة الوطن باتت تستظل بقامته الشعرية الشامخة. وقد كانت قصيدة “هاشم الوتري – 1949” مثالاً صارخاً يؤكد ما قلناه. أنظر إلى الرهاوة الفائضة التي يتحدث فيها عن مناسبة القصيدة :
أما “(الوتري) فكان يتلفت خائفاً أو كالخائف.. وأما أقطاب الحكم ووجوهه البارزة تقريباً فقد أخذوا أخذ الذين كفروا. وأما أنا فقد مضيت في الإلقاء حتى النهاية وبعد أن أكملت مزقت أوراقي وذريتها أمام الجمهور ثم غادرت المكان سيراً على الاقدام ” :
أنبيك عن شر الطغام نكاية   بالمؤثرين ضميرهم والواجبا
لقد ابتلوا بي صاعقاً متلهباً   وقد ابتليت بهم جهاماً كاذبا
حشدوا عليّ المغريات مسيلة   صغراً لعاب الارذلين رغائبا
وبأن اروح ضحىً (وزيراً) مثلما    اصبحت عن أمر بليلٍ “نائبا”
ظناً بأن يديّ تمد لتشتري   سقط المتاع، وأن أبيع مواهبا
ثم – وبثقة – يعلن أنه لن يسمح بضياع الوطن الذي نذر حياته له، ولكن بعلو وسعة مسؤولية تتضح في حديثه عن حبه للرعية :
وبأن يروح وراء ظهري موطنٌ  أسمنت نحراً عنده وترائبا
بالأرض تشهد أنها خضبت دماً  مني وكان أخو النعيم الخاضبا
ماذا يضر الجوع ؟ مجدٌ شامخ  أني أظل مع الرعية  ساغبا
أني أظل مع الرعية مرهقاً   أني أظل مع الرعية لاغبا
يتبجحون بأن موجاً طاغياً   سدوا عليه منافذاً ومساربا
كذبوا فملأ فم الزمان قصائدي  ابداً تجوب مشارقاً ومغارباً
أنا حتفهم……………

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *