• مخطوطة كتاب متسلسل سينشر بعد وفاة الكاتب بإذن الله
• (أنا حتفُهم ألج البيوت عليهمُ- أّغري الوليدَ بشتمهم والحاجبا)
((الجواهري))
((بعدين حتى(نوبل) لا تهمني… على اعتبار أن الإنسان انتهى وكل الدنيا لا تلحق بعد، هل تعلم بم أفكر؟ أفكر بالثلاثين ألف دولار…حبيبي..أتدري كم هي عظيمة؟ الآن..نضعها في الجيب (وأشار بيده ببراعة).. أعطني فلوس نوبل وخذ الجائزة..))
((الجواهري))
((أنا في حقيقتي أكره العنف وأشعر أن عنفي في غير محلّه فأشجب نفسي،ولكنني لم أستطع إلا أن أكون كذلك،أنا مثل بطل (بلزاك) في رواية (الزوج الضائع)..حسن التفكير سيء التصرف..وحين قرأت الرواية قلت: هذا أنا)).
((الجواهري))
((في الجزائر سألني أحدهم عن التقلب والتعرض للمغريات فقلت:إذا لم أكن هكذا، إذاً، أنا لست إنساناً، أنا لست أبن مجتمعي، أريد أن أقول له (يعني) (أنا نغل)/ نازل منحدر ما أدري منين )) ((الجواهري))
الإهداء
(الى علي حسين
….. انموذجا للانسان الرائع الذي لولاه لم يقدر لهذا الكتاب الاكتمال بصورته الحالية )
حسين
((المحتوى))
الموضوع رقم الصفحة
1-مقدمة
2-النرجسية الضارية بين المتنبي والجواهري
3-لماذا انتحر المتنبي؟
ولماذا لم ينتحر الجواهري؟ : النرجسية بين تدمير الذات وانتعاش إرادة الحياة
4-القصيدة-المفتاح : نرجسية الجواهري وإشكالية التماهي مع المتنبي
5-هل إنتهى الجواهري منذ الخمسينات؟ : المتنبي فيصلا ..
6-هوامش
(1)
مقدمة
في عام 2003 ، وقبل حرب الاحتلال باسابيع أقيمت احتفالية في نادي العلوية ببغداد بمناسبة صدور الجزء السابع من موسوعة الاستاذ ((مؤيد عبد القادر)) ((هؤلاء في مرايا هؤلاء)) فاقتطعت فقرات مما كتبه الدكتور (خلف رشيد نعمان) في الجزء السادس من هذه الموسوعة عن الدكتور إبراهيم السامرائي حيث قال قبل ختام مقالته:-
(( وبعد، أما آن لهذا العالم المكدود والمتعب والمغترب الذي يتنقل في بلاد الله من غربة الى اخرى وقد تجاوز الثمانين ان يستريح في بلده، ان يكرم فيه كما يكرم العلماء الافذاذ، ولا نريد ان يكتب التاريخ عنه: أنه ظل بعيداً عن وطنه))(1).. ويواصل الدكتور (خلف رشيد نعمان) حديثه قائلاً:- ( كان الدكتور صفاء -خلوصي- رحمه الله – يتردد على بلد اجنبي. وصادف في زيارة له ان حان عيد ميلاده وقد بلغ السبعين. وفي صبيحة ذلك اليوم طرق بابه رجل بملابس رسمية ، قدم نفسه بعد ان حياه: انه رسول من اعلى رمز في البلاد ، وانه يحمل تحيته بمناسبة عيد ميلاده. ومع التحية باقة الورود هذه ، يرجو قبولها. وبعد انصراف الرسول كان الدكتور خلوصي يتساءل: كيف عرفوا تاريخ ميلاده؟ وكان يجيب: لابد انهم عرفوه من جواز سفره ، او من سجله في الجامعة التي كان يدرس فيها. ولكن الاعجب- وهو ماكان يفكر به الدكتور رحمه الله – هذه اللفتة الانسانية واللمسة الحانية من هذا الرمز هو الغريب الذي لم يخطر بباله ان يلتقيه في يوم من الايام ، فكيف خطر هو ببال هذا الرمز؟. لقد كرم الدكتور ابراهيم السامرائي تقديراً لجهوده في اللغة والادب والنقد والبحث والتحقيق في غير بلد عربي واجنبي ، فكان عضواً بمجامعها العلمية واللغوية . فهو عضو في مجمع اللغة العربية في القاهرة ودمشق وعمان ، وعضو في المجمع العلمي الهندي، وعضو في الجمعية اللغوية الباريسية..))(2) ثم يختم الدكتور حديثه قائلاً:- (وقد آن له ان يأخذ حظه من التكريم في بلده وان بلده اولى بنشاطه العلمي والمعرفي وهو ايضاً اولى بتقديره والاحتفاء به))(3).. الى هنا ينتهي حديث الدكتور (خلف رشيد نعمان) ولكن محرر الموسوعة يضع هامشاً في الاسفل يشعل الاسى في الروح يقول فيه): فجعنا برحيل الأستاذ الدكتور (ابراهيم السامرائي) خلال اعدادنا لهذا الجزء من هذه الموسوعة ، انا لله وانا اليه راجعون)). واالى هنا ينتهي هامش المحرر لتواصل قافلة الآلام العراقية مسيرة العذاب التي لا تهدأ ، نعم، تواصل السير وتغذه فقد بدأت رحلة الخسارة والفجيعة منذ آلاف السنين ولن تقف ولن تهدأ مادامت الآلهه قد خلقت الانسان العراقي وهي تبكي، نعم قافلة الموت العراقي تسير وكلاب الحياة تنبح بانكسار وخذلان وبلا أمل . هوى نجم صفاء خلوصي ثم نجم ابراهيم السامرائي وتبعهما نجم البياتي.. وقبلهم وبعدهم هوت نجوم ونجوم ونجوم والعرض مستمر والعزاء قائم وعلاج ضيق الصدور زيارة القبور حسب الحكمة السومرية القديمة . وملك الموت مكره ومستفز من عمل سماء الابداع العراقية: فكل نجم يختطفه المثكل – وفق وصف جلجامش الموفق للموت – يبزغ محله نجم اخر مشرق.. تعب الطالب وتعالى المطلوب.. أرض الإبداع العراقية هي القطة التي تأكل أبناءها . وهاهي تلتهم أعظم أبنائها إبداعا وهو الجواهري.. فبموت الجواهري مبعدا وغريبا كسر ظهر عمود الشعر العربي وحصلت ثلمة هائلة في سماء الابداع وارض الحياة العراقيتين.. الجواهري ؛ (قمر الابداع العراقي) و(شاهد الكفاح الشعبي لمائة عام) ، (ابو الفرات) (وابن الفراتين) (وعاشق دجلة) و(وابن كوفتنا الحمراء) و(ملحمة العراق)(4) و(مارد نقطة الصفر) (5) و(حتف الطغاة) (وملك ملوك الشعراء الفقراء) بعد ان نصب (أحمد باشا شوقي) اميراً عليهم .. وشاعر العرب الأكبر حسب وصف الراحل الدكتور ( طه حسين ). الجواهري الذي :
تحدى الموت واختزل الزمانا فتى لوى من الزمن العنانا
فتى خبط الدنى والناس طراًً وآلى ان يكونهما فكانا
دماً صاغ الحروف مجنحات رهافاً مشرئبات حسانا
وطاربهن في شرق وغرب كأن لهن في قصب رهانا
فويق الشمس كن له مدارأ وتحت الشمس كن له مكانا
وآب كما اشتهى يشتط آنا فيعصف قاصفاً ويرق آنا
فتى دوى مع الفلك المدوي فقال كلاهما إنّا كلانا
(فتى الفتيان المتنبي- 1977)
وقد كتب الكثير عن الجواهري .. مقالات ودراسات وكتبا واطروحات جامعية.. لكن هناك جوانب لم تدرس حتى الان في ابداعه وشخصيته وسلوكه بقدر ارتباط الاخيرين بالأول ..ومنها نرجسية الجواهري الضارية كعامل حاكم وأساس في تشكيل ابداعه وسلوكه الشعري والحياتي .. وهذا ما سنحاول دراسته هنا بصورة منهجية مرتبطا بنرجسية أنموذج شعري عربي تعلق به الجواهري كثيرا ، ومنذ طفولته ، ألا وهو المتنبي ؛ مقارنين بين نرجسيتين : نرجسية مرضية أوصلت صاحبها الى الانتحار والموت وأخرى صحية دفعت بصاحبها الى التمسك العزوم بالحياة .. وسنشتغل على الإمساك بمفاتيحهما الشعرية والنفسية الأساسية بطريقة منهجية لم تطرق من قبل حسب ظننا .
إنني أعتقد أن واحدا من المفاتيح المركزية التي توفر الفهم التحليلي للعوامل الحاكمة التي شكّلت منجز الجواهري الإبداعي الهائل ( كتب الجواهري أكثر من مجموع ما كتبه الشعراء الجاهليون والأموييون ، أكثر من (200) ألف بيت ) مثلما تحكمت بسلوكه الشخصي والإبداعي هو تماهيه ؛ الإيجابي والسلبي ، مع شاعره المفضل والكبير ؛ أبي الطيب المتنبي ، فهو يقول للدكتور علي جواد الطاهر : أنا ( فرخ ) المتنبي . ولكن لهذا التعبير الجواهري – ككل تعبير يمس نرجسية الجواهري – معانيه الظاهرة مثلما له معانيه الباطنة الماكرة . إن تماهي الجواهري مع المتنبي ليس ” بريئا ” فالجواهري لا يتحمل نرجسية شعرية أخرى ” أعلى منه ” مهما كانت متميزة حتى لو كانت شعرية المتنبي أو البحتري ، والأخير تيم به الجواهري أيضا . يقول الجواهري في الجزء الأول من ” مذكراته ” وهو يتحدث عن آلامه الباهظة التي عاشها حين شكك البعض في انتمائه العراقي والعربي في الخمسينات من القرن الماضي :
(( لم أجد من ينافسني على مثل ( هذه النعمة !!! ) وحتى المتنبي العظيم . لقد كابد ما كابدت ، وتحمل ما تحملت . وتهجر ما تهجرت ، وشرد بمثل ما شردت ، ولكنه مع هذا كله فقد كان يقرّب يومه الأخير بنفسه وكأنه يريد أن يختزل كل مرارات الحياة التي ذقتها بعده بأكثر من أيامه بثلاثين عاما . ومع هذا لا أدري لماذا يذبح المتنبي رمز القومية العربية ، وقبل هذا رمز البلد الأول الذي أنجبه وملأ به الدنيا وشغل به الناس ؟ لماذا يذبح في وطنه وعلى مبعدة أميال من بيته ( من بيتي أيضا ) وأهله في العراق ؟ ثم لماذا يموت الرصافي في عاصمة وطنه على سرير حديدي عتيق مما يباع في سوق المزاد بأقل من دينار ؟ ولماذا لا تسدل عنده ستارة حتى وإن من قماش رخيص على النوافذ الزجاجية التي تضج بما يشبه وهج النار من قيظ العراق ؟ ولماذا لا يوجد كرسي في حجرته وإن من خشب عتيق ليستقبل عائدا من عواده ، ولو كان هناك من يعوده ؟ ولماذا يرحل الكاظمي بعيدا عن وطنه معدما ومحتاجا ليموت في القاهرة معززا ومكرما )) . وبعد أن يستعرض الجواهري الكيفية التي عاش ومات فيها في بلدانهم مستقرين محترمين شعراء كبار مثل : بدوي الجبل وأحمد شوقي وابراهيم طوقان وغيرهم ، يعود ليعلن عن شكواه وألمه مما يلاقيه في وطنه من أحقاد وعداوات ومواقف عنصرية وشوفينية بغيضة تذكرك بحال المتنبي وشكواه من دهره وصروفه وحساده ومبغضيه ، ويقارن حاله بحال المتنبي :
(( أنا واحد من هذه الضحايا النواشز ، في وطنهم العراق بالذات ، كتب علي أن أدفع هذه الأثمان الباهظة التي دفعتها من حياتي على يد من لا يتكافأ معي بشيء من شاتميّ وجاحديّ وحاسديّ . إنني لأحسد كل المغمورين في عالم الأدب أوالفن أو في أية ناحية من نواحي الحياة . وأعود ، لأستثني وأستدرك ، وأقول أنني لم أجد بلدا غير العراق في كل ما حييت وعشت واختلطت بالأفراد والجماعات في البلاد العربية ، وفي كل ما قرأت في التاريخ عنها ، في مثل هذا الإنجاب وفي مثل هذه المكافآت عنها ، حتى المتنبي نفسه لم يعش لحسن حظه في العراق طويلا ، ولا أدري كم سنة أو كم شهرا قضى بين أهل بيته في الكوفة ، فالتاريخ لا يذكر ذلك بالضبط . إن الأحقاد التي أثرتها ، في مجتمع يضم وجوها وجدت لتكون حاقدة بل معبأة بالحقد وبالعنصرية والشوفينية البغيضة وبالنعرات الطائفية المنكرة )) .
لقد خصصنا الفصل الأول لإقامة مقارنة بين عالمي الشاعرين ؛ المتنبي والجواهري ، من حيث انعكاسات نرجسية كل منهما على مضامين شعرهما وصوره ورموزه . أما الفصل الثاني فقد حاولنا فيه الإجابة عن السبب الذي دفع المتنبي إلى تدمير ذاته في عملية انتحار غير مباشر – indirect self destructive behaviour وعن العوامل التي جعلت الجواهري يتمسك بالحياة بعزم وثبات ويحيا مسيرة طويلة حافلة بالعطاء الشعري الباهر منطلقين من الفارق بين نرجسيتي الشاعرين وذلك من خلال تمظهرات نرجسية كل منهما التي تجلت في منجزه الشعري . وقد انطلقنا في الفصل الثالث من فرضية وجود نص أو أكثر لدى أي مبدع يمكن أن يكون مفتاحا تحليليا يعيننا على فهم العوامل الحاكمة في شعره وسلوكه على حد سواء . وقد اعتبرنا قصيدة الجواهري ” من وحي الموقد ” النص – المفتاح الذي يتضمن المرتكزات الأساسية ؛ النفسية والفكرية والفنية التي تأسس عليها إبداعه الشعري . أما الفصل الرابع والأخير فقد حاولنا فيه الإجابة على ما طرحه بعض النقاد العراقيين والعرب وقسم من شعراء الستينات في لعراق عن أن الجواهري قد انتهى شعريا منذ الخمسينات ، عاقدين مقارنة نقدية تحليلية بين قصيدتين للجواهري ولفاضل العزاوي – أحد أبرز القائلين بنهاية الجواهري الشعرية – تتناولان موضوعا واحدا هو : المتنبي .
والله من وراء القصد.
حسين سرمك حسن
(2)
النرجسية الضارية بين المتنبي والجواهري
(( قد نقول إن الجواهري أغنى شعراء العرب في القرون الثمانية الأخيرة لفظا وجزالة ، وأمهرهم لغة وتركيزاً. أو قد نقول إنه يطنب ، دونما ضرورة ، في الكثير من قصائده تأكيداً على نفسه الطويل ، وهذا المتنبي نفسه لا يتجاوز الخمسة والاربعين بيتاً في ايّ من قصائده إلا فيما ندر، ولكن المهم في آخر الأمر أن نتقرى الصور نفسها ))(6). وهذه ملاحظة صحيحة تماما حيث أن أطول قصيدة للمتنبي تقع في (59) بيتا وهي التي قالها يمدح (عضد الدولة) ذاكرا خروجه للصيد. اما الجواهري فهناك العشرات من قصائده التي تزيد على الخمسين بيتا ، فقصيدة ((يا نديمي)) التي نظمها في الستينيات تقع في (424) بيتا ، أما قصيدة (الثورة العراقية) التي نظمها عام 1921 ولم يتجاوز العشرين من عمره بعد فتقع في (85) بيتا، يوم الشهيد(180) بيتا ، يادجلة الخير (89) بيتا ، ياغريب الدار(86) بيتا ، يا أم عوف(73) بيتا ، معروف الرصافي(72) بيتا ، يا ابن الثمانين(71) بيتا .. وغيرها الكثير الكثير- أما إذا أردنا المقارنة بين المقصورتين : مقصورة المتنبي التي كتبها بعد هروبه من مصر خلاصاً من (كافور) والتي مطلعها:
ألا كلّ ماشية الخيزلى فدى كل ماشية الهيذبى
ومقصورة الجواهري التي نظمها اواسط عام 1947 والتي مطلعها:
برغم الإباء ورغم العلى ورغم أنوف كرام الملا
فسنجد الفرق هائلاً حيث تتكون مقصورة المتنبي من (23) بيتا في حين اشتملت مقصورة الجواهري في الأصل على ما يقارب أربعمائة بيت من الشعر. وفي هذه القصيدة تتجلى نرجسية الجواهري صادحة صارخة حيث يقول:-
أقول لنفسي- إذا ضمها واترابها – محفل يزدهى
تسامي فإنك خير النفوس إذا قيس كل على ما انطوى
تسامي فأن جناحيك لا يقرّان إلاّ على مرتقى
شهدت بأنك مذخورة لأبعد ما في المدى من مدى
وأنك سوف تدوي العصور بما تتركين بها من صدى
(المقصورة -1947)
وفي معرض المقارنة بين نرجسية المتنبي ونرجسية الجواهري يقول((جبرا ابراهيم جبرا)):
(( هذه الذات الضخمة، الأبية، المصارعة، تذكر قارىء الجواهري بالمتنبي أكثر من أي شاعر آخر، حتى ليستشعر ضرورة المقارنة بينهما.. فحيثما ترى أوجهاً للشبه، فاننا نرى أوجه خلاف تضيف بحد ذاتها تأكيدا على الصلة بينهما. ما من شك في أن الخلفية الجغرافية، والخلفية النفسية لنشأة الشاعرين، وكلتاهما متشابهة الى حد بعيد، لهما فعلهما الكبير، مايهمنا هنا من المقارنة بينهما هو ان نستوضح بعض أوجه البطولة التي نتلمسها في كلام الشاعرين.. فالمتنبي لا يمل الإصرار على شجاعته وفروسيته.. هذه ناحية لا يمكن أن نجدها في الجواهري لأن الضرب وموج الموت يلتطم – كما يقول المتنبي- لن يكن لديه إلا ضرب الكلمة لا ضرب السيف.. فأن الجواهري في منازلاته الحدية يبقى محركاً للفعل أكثر منه فاعلاً.. و يبقى سلاحه الكلمة وحدها. ثمة فرق آخر، فرق سياسي : المتنبي متعال أنوف، يستعظم نفسه إزاء البشرية كلها، أمرائها ودهمائها على السواء. أما الجواهري فانه إذ يستعلي، يرمز الى نفسه بالأسد أو النسر أو النجم اللامع، فانه يصف نفسه ايضاً بالصل ويقف مع الناس في معظم شعره وقفة الشريك يزهو بهم ويتفاخر بالفقر: ماذا يضر الجوع ، مجد شامخ – إني أظل مع الرعية ساغبا
إني أظل مع الرعية مرهقاً – إني أظل مع الرعية لاغباً
(الوتري-1949)(7)
ولكن إذا أردنا تقعيد هذا الرأي على أسس موضوعية أكثر دقة ينبغي علينا القول بان الخلفية النفسية لنشأة الشاعرين ليست متشابهة ، وكان لهذا الاختلاف آثاره البعيدة في بناء شخصية الشاعرين، في نرجسيتهما بشكل خاص، وفي مواقفهما من الشعر والحياة . فقد شكل (الأصل) محنة وعقدة لدى المتنبي ظلت تفعل فعلها في لاشعوره وتشكل نتاجه الشعري ومواقفه من المجتمع , ففي الوقت الذي عاش فيه المتنبي في مجتمع يلعب فيه النسب والولاء القبلي دوراً مركزياً في مسيرة الفرد وحياته وكذلك في تولية الخلفاء وتنصيب الولاة الذين كان الكتاب والشعراء يدبجون الصحف والقصائد في التغني بنسبهم وأصلهم، نجده يقلب الآية ، في ردة فعل دفاعية ، ليعلن خلاف السياق السائد:-
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي
وحين يرثى جدته لأمه يقول:-
ولو لم تكوني بنت أكرم والد لكان أباك الضخم كونك لي أما
(( أي لو لم يكن أبوك أكرم والد لقامت ولادتك إياي مقام أب عظيم تنسبين إليه، أي اذا قيل لك أم أبي الطيب استغنيت بذلك عن نسب الأب لولم يكن لك نسب))(8) . إنه يحاول(عقلنة) محنته وتخريجها (فكريا) ولكن هيهات أن يكون هذا المسلك حلا ناجعاً في مجتمع تقوم كل حركته على الحسب والنسب ويسأل عن عشيرتك وأبيك قبل أن يسأل عنك وعن مواهبك وقدراتك . إنه ينظر وراءك الى تلك السلسلة البعيدة التي انحدرت منها ويجعل شرفها شرطا لازماً كي تستقرعيناه عليك وأنت ماثل أمامه منذ زمن. لذلك حاول المتنبي مصارعة هذه المحنة بشتى الآليات النفسية التي كان من نتائجها تركيز الشاعر على (الآن) والحاضر الفردي ونبذ الماضي الشخصي والعائلي والقبلي ؛ تغييب الأم والأب بشكل شبه كامل تقريباً.. إنحسار الوجود الأنثوي في شعره وحياته ونقمته على المرأة في كثير من الأحيان وكرهه النسل ايضاً . أما الجواهري فهو عربي (الوجه واليد واللسان) ، عريق في نسبه وأصيل في محتده . ويكفينا ذكر جده الأعلى الشيخ (محمد حسن) مرجع الشيعة الامامية في عهده وكتابه المشهور (جواهر الكلام) الذي اقتبست الأسرة لقبها منه من الكتب المعتمدة في الفقه والعقائد عند الشيعة المتأخرين، وكان والده الذي توفي وعمر الشاعر خمسة عشر عاماًُ، من رجال الدين ايضاً. وقد منح ذلك أسرة الجواهري قدراً كبيرا من الوجاهة في مجتمع النجف والعراق))(9) .
كان الجواهري منزها عن الأصول العثمانية والفارسية. أي أن مشكلة الأصل والنسب كانت محسومة جلية بالنسبة للجواهري ولم تشكل هي وامتدادها عقدة على المستوى اللاشعوري. كان حضور المرأة والجانب الجمالي والجنسي المكشوف واضحاً في شعر الجواهري. هناك قصيدة مؤلمة اهداها الى والدته إسمها ( قفص العظام) كتبها قبل هجرته محاصراً الى مصر بعد أن زار أمه في النجف التي أثّر استشهاد شقيقه ( محمد جعفر) في نفسها فتملكها الحزن واعتزلت المجتمع ولجأت الى مرقد الإمام علي في النجف لتقضي ما تبقى من أيامها . وفاضت دموعه عندما غادرها. وهناك قصائد في رثاء زوجته الأولى منها قصيدة (ناجيت قبرك) :
في ذمة الله ما ألقى وما أجد- أهذه صخرة أم هذه كبد؟ قد يقتل الحزن من أحبابه بعدوا- عنه فكيف بمن أحبابه فقدوا ؟ كتبها بعد أن وصله خبر وفاة عقيلته المفاجىء وهو في بيروت عام 1939. وهناك ايضاً قصيدة (حبيبتي) وتقع في (68) بيتاً والتي وضع لها اهداء يقول : ( الى التي أفنت شبابها وكهولتها معي صامدة واثقة مؤمنة في حياة تشبه الأساطير.. الى زوجتي ( أمّونة )..وفي هذه القصيدة تظهر مشاعر الحب والود العفيفة الصادقة تجاه شريكة حياته :
حبيبتي منذ كان الحب في سحر حلو النسائم حتى عقه الشفق
نصون عهد ضميرينا وبينهما نجوى بها همسات الروح تسترق
يا حلوة المجتلى والنفس غائمة والأمر مختلط، والجو مختنق
ويا ضحوكة ثغر والدنى عَبَس ويا صفية طبع والمنى رنق
وياصبوراً على البلوى تلطفها حتى تعود كبنت الحان تصطفق
مني إليك سلام لايقوم له سن اليراع ولا يقوى به الورق
كأن نفسي إذ تغشين وحدتها إنسان عين بمرآة اختها غرق
اما الحاجات البشرية الحسية والجنسية فان الجواهري، وهو ابن الثقافة الدينية والمنحدر العائلي المرجعي المحافظ والمتزمت ، لا يتورع عن الاعلان عنها في صورة (أدب مكشوف) يمكن منحه فيه الريادة في الشعر العربي الحديث . ففي قصائد مثل : جربيني – 1927، النزغة – 1928، صورة للخواطر- 1932، بديعة – 1932، عريانة – 1932، ليلة معها -1934 … وغيرها الكثير ، يتغنى الجواهري (هابطا الى اسفل مُركزاً على اعلى قمة كان يراها سابقا وهي النهد ، وهابطا بسرعة الى ( الهدف ) المباشر الذي يتغزل به بطريقة سافرة :
لم أُطل سومها وكنت متى يعجبني الشيء لا أطيل مكاسه
ثم كانت دعابة .. فمجون .. فارتخاء.. فلذة.. فانغماسه
وعلى اسم الشيطان دست عضوضا ناتىء الجنبتين.. حلو المداسه
لبداً.. تنهل اللبانة منه- لا بحزن ضرس.. ولا ذي دهاسه وكان العبير في ضرم اللذة – يذكي بنفحة أنفاسه
كأن الثقل المؤرجح بين الصدر والصدر.. يستطيب مراسه وكأن (البديع) في روعة الأسلوب يملي(طباقه) و(جناسه) وهذا المقطع من قصيدة ( النزغة ) التي أعاد نشرها خمس مرات في ديوانه :
اسمحي لي بقبلة تملكيني ودعي لي الخيار في التعيين
قربيني من اللذاذة ألمسها أريني بداعة التكوين
انزليني الى(الحضيض) إذا ما شئت أوفوق ربوة فضعيني
(جربيني – 1927)
( واختفى عضوك الذي مازه الله على كل ما لديك وزانه
الذي نال حظوة حرم الإنسان منها وخُصت الإنسانه
وتمنى على الطبيعة شكلاً هو من خير ما يكون فكانه
ومحلا خصبا فحل بواد أنبت الله حوله ريحانه
لم يرد من يراه متعة نفس أن يُغطى ولم يرد كتمانه
ككتاب كشفت عن صفحتيه ثم غطيت عنوة عنوانه
هيكل من هياكل الله سُدّ الباب منه وكفنوا صلبانه
(عريانة – 1923)
نهداك والصدر(ثالوث) أقدسه لو كان يجمع تثليث وتوحيد
(وادي العرائش- 1934)
وهو يعلن تمرده على قيوده الدينية علنا وبلا مواربة فيقول في (النزغة) :
تارة صاحبي يصفق كأسي وأنا تارة أصفق كاسه
لا (الحسين الخليع) يبلغ شأونا ولا (مسلم) ولا ذو (النواسه)
قال لي صاحبي الظريف وفي الكف ارتعاش وفي اللسان انحباسه: أين غادرت (عِمّةً) واحتفاظاً – قلت : إني طرحتها في الكُناسه
الجواهري يخوض في بحور اللذة المحرمة ليشبع حاجاته ورغباته دون عقد واسقاطات وتبريرات بل أنه لا يستنكف أن ينكص طفلاً بين ذراعي المرأة المعشوقة :
إحمليني كالطفل بين ذراعيك احتضاناً ومثله دلليني
وإذا ما سُئلت عني فقولي ليس بدعاً إغاثة المسكين
لست اُمّا لكن بأمثال (هذا) شاءت الأمهات أن تبتليني
(الطميني) إذا مجنت فعمداً أتحرى المجون كي تلطميني
إن نرجسية الجواهري الصافية والتلقائية ليست نرجسية المنعزل ، المكتفي ، المتعالي الذي انعكست صورته على الماء فهام في ذاته .. إنها نرجسية صحية تبحث عن التكامل الطبيعي ولا يرى في كل نزواته إلا انفلاتات نفسٍ محتدمة بشرية تغني عوالمها بثراء العطاء الانثوي… لا بل انه يرى أن هذه الانفلاتات ضرورية للإبداع وديمومة الخلق الآسر:
ما أشد احتياجة الشاعر الحسّاس يوما لساعة من جنون أما نرجسية المتنبي ؛ ولأنها نرجسية معصوب انعزالي متعال ومعاد، بل وكاره بفعل الإحباط المتأصل ، فإنها لا تتكامل وتغتني بالمرأة بل تُثلم وقد يُقضى عليها.. فالمتنبي يصف النساء بالخداع : ( إن الملاح خوادع قتل ) واعتبر أن حبهن يورث الضعف والذل:
فبلحظها نكرت قناتي راحتي- ضعفاً وأنكر خاتماي البنصرا والمرأة قد تسبب العداوة وتفسد الأمانات :
أفسدت بيننا الأمانات عيناها- وخانت قلوبهن العقول وحبها مصحوب بمشاهد القتل والجرح في تصوير سادي ينفر القارىء بصورة غير مباشرة :
كل جريح ترجى سلامته – إلا فؤاداً رمته عيناها
فيهن من تقطر السيوف دماً- إذا لسان المحب سماها
والغواني ذوات باطن يغاير ما هو ظاهر، فهنّ ضياء مبطن بالظلام :
ومن خبر الغواني، فالغواني – ضياء في بواطنه ظلام وفوق ذلك فإن المتنبي لا يكتفي بالضجر من عشق المرأة ، بل يشمت بمصير جمالها الذي تفخر به حتى عندما يطالبها بالوصل فيذكرّها بالموت ، والبدائل عن الحب كثيرة بالنسبة له ، على رأسها العفة التي احتال المتنبي لا شعورياً كي يجعلها مانعاً عن علاقاته بالمرأة ، فكأن الحب عنده مناقض للعفة..))(11) .
وإذا وضعنا في حسابنا أن المتنبي كان يستعدي الممدوح مثيراً غيرته لأن جمالها مما لا يخضع لسطانه وأنه يجعل الممدوح بديلاً عنهن والبدء بحبه أفضل في الإفتتاح عن ذكرهن ، وربطنا كل ذلك بمواقف شعرية يتعفف فيها عن الإرتباط بالمرأة لأنها مدعاة للعار مثل :
عفيف تروق الشمس صورة وجهه – فلو نزلت شوقاً لحاد الى الظل
لو ربطنا كل ذلك وفق رؤية شمولية فسنجد أن نرجسية المتنبي مرضيّة ، معرقلة ، ومعطلة . إنها نرجسية المثبت على ذاته ، وفي الواقع أنها ليست الذات الواقعية والفعلية بسلبها وإيجابها ، وبحسناتها وسيئاتها كأي ذات بشرية ، لكنها ذات مطلقة ، مؤمثلة ومؤسطرة .
أنظر الى تلقائية الجواهري وهو يتحدث بعفوية صارخة عن حبه المال والمرأة :
(( لوكان لي جبل من ذهب لتمنيت الثاني، أنا أحب المال لا من أجل أن أكتنزه ، بل من أجل أن أصرفه ، ثق والجبل الثالث اصرفه . وسجل هذه بدقة : لم أطلب مالاً ، فإذا جاء نادراً ما أرفضه لأنني أعتبره رمزاً، تقديراً، ولم أعتبره عطفاً أو شفقة، والذي حدث معي كان من هذا القبيل… فيسأله الناقد : والغزل ؟..
فيجيب :
– أغازل حتى الموت.. وجزء لا يتجزأ من آخر قطرة من دمي عبادة الجمال.. الجمال أنا أعبده.. أنا أغازل .. يا أخي أغازل .. فالرسل والأنبياء غازلوا..))(12) .
ولأننا قارنا بين تأثيرات نرجسية الشاعرين في نظرتهما الى المرأة فأننا سنجد فارقا آخر في موقفهما من المال والتكسب . فالمال بالنسبة للنرجسي أداة مكملة ومعززة مثلما تكمل حلي الذهب نرجسية المرأة.. وقد طلب المتنبي المال.. فـ (( بالرغم من شدة طموحه . فأنه اضطر الى التكسب بالمدح وطرق أبواب الأمراء، شاعراً بقيود الواقع وعبوديته وبالمهانة في تزوير الكلام لقوم لا يؤمن بجدارتهم ))(13) .
يقول المتنبي في البيت السابع من قصيدته : (( شعب بوان )) التي مدح فيها عضد الدولة:-
وألقى الشرق منها في ثيابي – دنانيراً تفرّ من البنان
( أي أن السائر في هذا الطريق يحس بأضواء صغيرة مدوّرة متى طلعت الشمس- والشرق من معانيه الشمس – فكأنها دنانير. وعملية استدعاء ذهنه للدنانير هنا تجعله صادقاً مع نفسه لأنه محب للمال راغب فيه فلا داعي للومه – ولأمر ما نراه على غير العادة يصرف ما لا ينصرف في قوله (دنانير) وكأننا به لا يسيطر على نفسه وعلى لغته حين تذكر الدنانير وإن كان يجوز للشاعر صرف ما لا ينصرف .. ومع أنه يجوز للعبقري عدم التقيد بالقواعد إلا أن هذا لا يطعن في صحتها ، ولعل(عضد الدولة) قد تنبه الى ما دار في نفس المتنبي حين قال له بعد أن أنشد هذا البيت السابع من القصيدة : والله لألقين فيها دنانير لا تقر))(14) .
أما الجواهري فبسبب التحامه بالطبقات الشعبية المسحوقة ، بل معاناته منذ سني عمره المبكرة ، لم يشكل المال وحبه موضوعة مركزية في شعره بل تستطيع أن تمسك بـ (فلسفة) مبكرة عن الموقف من الحياة والعمل في حواريته الشهيرة : (على قارعةالطريق) وهي كما يقول الجواهري ((أجمل ماكتب رمزياً ومثلت مقدمته النثرية للجزء الأول من ديوانه المنشور عام 1949))(15) ، وفيها حوار بينه وبين رفيق طريق عابر يقول فيها :
قال : – وماذا تأكل ؟
قلت : – لحوم الحيوانات السائبة فإن لم تكن تقوت فقليل من لحمي
قال :- لحمك ؟
قلت : – أجل..لماذا لا ؟ .. وإني لآكل من لحم أولادي أيضاً .
قال : آه .. وعندك أولاد ؟
قلت : بلى .. وهم سبعة ومعي أيضاً في طريقي.
قال : وكيف يطيقون هذا العناء ؟
قلت : أحمل العاجز منهم على كتفي ، وأدع رعاية الصغير للكبير منهم ،
وأكل من لحمهم وأطعمهم من لحمي ، ومن مات منهم جوعاً أو تعباً ، تركته للكلاب ..
قال : أولا يرتجفون مثلك من البرد ؟
قلت : بلى، يرتجفون، الآن، وسوف يتعودون ذلك غداً، فلا يرتجفون أبداً
قال :أولم تقدر أن تكسوهم، وتطعمهم فيما تمر به على المدن، والقرى والناس؟
قلت : أبدا ً.
قال: ولماذا؟
قلت: لأنهم يريدون لذلك ثمناً .
قال: أوَ تريده انت بلا ثمن؟
قلت : وكيف أريده بدونه؟
قال : فلماذا؟
قلت : لأنني أريد لهم ولي .. أن أعمل ويعملوا.. لنشبع ونكتسي
قال : وهم؟
قلت : هم يريدونني أن أرقص..
قال : ترقص؟
قلت : أجل.. ومثل القرود تماماً..
قال : ولماذا لا ترقص ؟ ومثل القرود ؟..
قلت : لأنني لم أوهب سعة حيلة هذا الحيوان ، وصبره على المجاراة))(16)
ويتحدث الجواهري عن ظروف كتابة ( على قارعة الطريق ) في مذكراته فتلمس شحنة نرجسيته الملتهبة :
(( .. وفي القاهرة .. عرض علي الدكتور ( طه حسين ) طباعة ديواني وأشعاري ، مبديا الإستعداد ، بل الإفتخار ، كما قال ، بأن تكون المقدمة له ، وللأسف فعندما صدرت طبعة بغداد 1949 ، لم تحمل هذه المقدمة الموعودة . وبعد لقاء آخر ومن جديد في القاهرة ، كان اعتذاره عن ذلك انشغاله بوزارة المعارف ، التي أودعت إليه آنذاك !!! يعني الوزارة يا شيخ الأدباء ؟ . وعلى كل حال فقد أثار هذا التنكر شيطان نثري فكانت ” قارعة الطريق ” التي بزّت كل ما كان منتظرا من طه حسين أو غيره أن يكتبه )) .
ورغم الفارق الهائل في طبيعة عصري الجواهري والمتنبي وقيمهما الاجتماعية والعملية إلا أننا ينبغي أن نشير الى أن الجواهري كان رجلاً(عمليا) فكر في توفير قوت عائلته ونفسه بكده وجهده وليس من خلال التكسّب بشعره وبشكل خاص في قمة عنفوانه . صحيح (( أن الجواهري عمل في بلاط الملك فيصل الأول أميناً للتشريفات وهو في حوالي الخامسة والعشرين واستمر وجوده في البلاط بضع سنين وأهداه ديوانه الصغير الأول ((الشعور والعاطفة)) عام1928. لكنه ترك البلاط بعد ذلك ليعمل في الصحافة))(17). (( وهي المهنة الوحيدة التي ظل يمتهنها . وفي الصحافة وجد الشاعر نفسه بين أن يتخذ مصدرا للرزق لا يمتلك سواه وبين أن يستجيب للالتزامات التي يرفضها العمل الصحفي على شاعر وطني متوقد الأحاسيس وكان اختباراً صعباً فقد صبت عليه الصحافة من المصائب ماهو جدير به ، في حين لم تمنحه في أحسن الأحوال أكثر من مصروف أيام معدودات له ولأطفاله..))(18) حيث يقول في قصيدة ( أجب أيها القلب) التي نظمت عام1940 وكان الشاعر على حالة شديدة من التأثر النفسي والتي واساه بعدها (الرصافي) وتفجع له في قصيدة مشهورة :
تحلب أقوام ضروع المنافع – ورحت بوسق من أديب وبارع وعللت أطفالي بشر تعلة – خلود أبيهم في بطون المجامع
ومستنكراً شيباً قبيل أوانه- أقول له : هذا غبار الوقائع
لقد كان بإمكان الجواهري ، مثلاً ، أن يحيى في مصر سنوات طويلة في حسن عيش بعد أن غادر العراق إليها بسبب الإضطهاد والملاحقة والمحاصرة.. لكنه قرر تركها عام 1951 غاضباً وأراد أن لا يكون رحيله عن مصر دون هزة .. فبدأ ينظم قصيدة ، إلا أنه تركها عند بيتين فقط ، استجابة لرجاء الدكتور(طه حسين) : ما انفك يامصر والاذلال تعويد – يسومك الخسف(كافور) و(أخشيد)
مقالة كبرت الحب شافعها – حب المسودين لو شاؤا لما سيدوا
ولكن هل كانت نرجسية الجواهري منزّهة نقية عن كل المغريات ؟ وهل يبرىء الجواهري نفسه بنفسه عن كل يوم طارىء مغو ؟
والجواب : هوالعكس ما دمنا قد قررنا أن هذه النرجسية هي نرجسية بشرية متوقعة برغم انها مفرطة كثيراً . يقول الشاعر في قصيدته (المقصورة) مخاطباً ذاته المتسامية :
بآية أن يد المغريات تهابك إلا كلمس الندى
وأنك أن يلتمع مطمع يخاف على الروح منه العمى
وكادت تلفك في طيها ، حواشيه ، ردتك كف القضا
وها هو الجواهري نفسه يؤكد ذلك في أحد احاديثه :
(( أنا أخذتني المغريات إلا قليلا.. وردتني كف القضا ))(19). ويعلق الناقد (محمد الجزائري) – وهو الذي أجرى الحديث مع الشاعر – : ( هكذا قال الجواهري والصفاء السعيد يلتمع في عينيه وصوته .. إنه ذاته شاعراً أو شهيداً ))(20) . وهنا نحتاج الى شيء من (علم النفس الناقد) حيث يحصل تماه نفسي مقابل من قبل الناقد المحلق مع نموذجه برغم أن الجواهري نفسه قد قال له قبل ذلك بقليل : (( هناك قصيدة أعتبرها أكبر غلطة في حياتي، ليس من أجل شيء، أنا جرىء.. الشيء الذي أقتنع به أقوله ، ولكن هذه القصيدة أنا غير مقتنع بها ، وعملتها (سوّيتها) وهي التي لم تدخل الديوان وأقصد ((قصيدة التتويج)) – نعم .. الآن سأتكلم : أنا أخطأت.. ولهذه الغلطة قصة طويلة .. إنها تعذبني، لقد أوقعتني هذه القصيدة ، وخذلت بها، ضعت!!..
حاولت أن أغادر القاعة قبل بدء الإحتفال في حين كانوا قد أعلنوا عني وأن لي قصيدة ، حاولت ثانية ( شكد عظيمة لو طلعت ) . أوشكت على الخروج ، مهما حدث ، وأنت تعرف ماذا يترتب على ذلك ، بعدئذ ، كل ذلك الى جهنم ، وأنا لن أنسى تلك الساعة لن أنساها، وهذه الحالة مامرّ علي في حياتي مثلها .. مثل هذه القصيدة لا يوجد عندي.. فضيعة .. فضيعة ..” بعد ذلك حين أقرأ القصيدة كأن شخصاً آخر كتبها .. وكأني لست صاحبها ولكن بعد خراب البصرة..)(21) .
لقد مدح الجواهري في شعره الغزير الكثير من الملوك والرؤساء والوزراء والسياسيين والكتاب ، ولكنك حين تقرأ هذه القصائد التي اعترف الجواهري أنه قد جامل في بعضها الممدوحين :
كرهت مداجاة فرحت مشاغباً – ولم يجدني شغب فرحت أجامل
وأغرقت في إطراء من لا أهابه – وساجلت بالتقريع من لا يساجل
(ثورةالنفس-1934)
ومدحت من لا يستحق وراق لي تكفيرتي بهجائه عما مضى
ووجدتني مستصعباً إطراء من أطريته بالأمس طوعاً ريّضا
وحمدت أني عبد قلبي ما اشتهى أن ينثنى بوداده أو يمحضا
وحمدت من هذا اللسان شكوته حتى يحركه الفؤاد فينبضا
فوّضته وحملت ألف مصيبة من أجل أن راح الفؤاد مفوّضا
نافقت إن كان النفاق ضريبة متحرقاً من صنعتي مترمّضا
ولكم قلقت مسهداً لمواقف حكمت عليّ بأن أداري مبغضا
ولعنت ربّ الشعر فيما اختار لي وبما قضى ولعنت أحكام القضا
(معرض العواطف- 1935)
في كل مدحه ، تجد الجواهري مستقراً على أرض واقع الشعر إذا جاز التعبير، هو وممدوحه . وإذا ارتفع بممدوحه فهو لا يصل به مطلقاً سماوات الأمثلة والأسطرة القصية ، بحيث يصبح البون بينهما شاسعاً فيظهر صغر المادح وتصاغره من خلال تسامي الممدوح والتطويح به الى آفاق قصية لا تعقل أحياناً . وهوما يقوم به المتنبي مع ممدوحيه والذي تكفينا مراجعة قصائده في (كافور) بل وحتى في (سيف الدولة) ، رغم بطولته ، لنلمس ذلك . (( إن المتنبي في داليته التي مدح فيها سيف الدولة يصف مارداً من مردة الأساطير والمستحيل وليس إنساناً يعاني وطأة الحياة والقوة والضعف والأمل واليأس والهزيمة والنصر فهو يثير دهشتنا ويروعنا ، لكنه لا يدعنا نشاركه في مصيره ولا يدعنا نشاهد مصيرنا فيه ))(22) . أما مع (كافور) (( فقد امتدحه مزوراً ومكاذباً ومتعفراً مما خلف في نفسه نقمه ، إذ سجد لذلك العبد الخصي ، الجاهل ، الغادر وهو الشاعر الفحل المعتز بشعره ورجولته ))(23) .
إن الصورة النرجسية التي رسمها المتنبي لنفسه ومن نفسه كانت مصدر توريط له ولممدوحيه . أما الصورة النرجسية التي رسمها الجواهري لنفسه ومن نفسه فقد كانت مصدر تنعم وانتشاء له وامتنان من قبل الممدوح . صورة المتنبي موجودة فوق ، خارجه ، أما صورة الجواهري فموجودة داخله . يقول الجواهري عن القصيدة التي مدح بها الدكتور (هاشم الوتري) :
(( خذ(هاشم الوتري).. إذ لما خلعت عليه صفات آخذها من نفسي ، فالمثال الصارح والمركز في نفسي هو للناس، أو لما يجب أن يكونوا عليه ، سواء أكنت هكذا أم لا..حتى قصيدة يوم الشهيد أنا ضالع عليها من نفسي ، ليس بأنانية، بل كتعبير عن الذات بشموخ وسمو..))(24) .