عبد الستار ناصر : الصيف والخريف (2)*

* فصل من رواية

الحياة انقلبت مع الفضائيات، الجثث في كل مكان ورائحتها تشبه رائحة البطن المبقورة، رائحة البشر وهم يغادرون الارض والشهيق، رائحة ماء آسن مملوء بالثيران النافقة، ماذا يحدث في دياري؟ اي اسم اخر للوعة يمكن ان يقال عما يجري هناك من دم مسفوح ولحوم افسدتها الشمس حتي في غروبها؟
الطيور الجارحة كان هذا كرنفالها العظيم، يمكنها ان تعيش مائة عام علي تلك المؤونة التي جاءتها مجانا ودون عراك او مخالب مع اقرانها، وانا دون حقيبة ارحل من بلد الي اخر، ابحث عن وهم يطوف في مخيلتي ويرفض ان يغادرني.
في ذاك الصيف الحراق، قبل عشرين سنة، خرجت من العشار نحو بغداد ومنها الي اسكي شهر حتي وصلت انقرة، وبعدخمسة ايام كنت امشي علي رصيف محطة بوخارست في طريقي الي بودابست عساني اعثر علي حليمة، وعلي مشارف فندق تاترا تمنيت ان اراها في الغرفة التي عشنا فيها ثلاثة ايام من الجنون والتأوهات، جاءني مهرج تاترا واعطاني ورقة مطعوجة ومبلًلة تقول فيها (مادمت اتيت ايها الخائن الحقير فانا عدت الي البصرة، ربما نلتقي هناك).
ثمة خنفساء علي حائط تاترا، كان اجمل فنادق الدنيا، من اين جاءت تلك الخنفساء السوداء القبيحة؟ وفي اول الصباح رجعت الي صوفيا، رجعت الي جانيت سخية النهدين والفخذين، اي صيف رهيب كان ذاك الصيف قبل عشرين سنة؟ اجلس في مقهي برلين اشرب الكوباتشينو واري الشارع المرصوف بالحجارة، اتذكر امرأة اسمها حليمة ظهرت مثل طيف واختفت مثل طيف، وانا شتاء ومعطف ودموع وذاكرة معطوبة، اركض وراء وهم يقول لي (اراك اينما ذهبت ولن تراني بعد اليوم مهما فعلت)!
ها انا في صوفيا بعد ان تغير جواز سفري، لاجانيت ولانوم في الحدائق ولا (يمنع من الدخول الي بلغاريا) ولم اعد اسيرا لدي تلك الحورية كاليبسو، وربما ساذهب ثانية الي دمشق احتمي بها من الموت المستعجل الذي جرجر آلاف البشر الي الذبح بالسكين، لم تزل لوحة (حليمة سطوع الضوء) في ذاك الصندوق الخشبي، رآها ماهود احمد وقال قولته الشهيرة :
ـ ساعطيك ماتريد من اعمالي وانت من يختارها، اذا اعطيتني هذه اللوحة. وقلت له كما قلت لمحمود بقشيش منذ عشرين سنة : حليمة ليست للبيع، وهل يمكننا ان نبيع الضوء يا ماهود؟

صوفيا لم تعد كما كانت، مخنوقة، قصيرة القامة، خالية من النساء الجميلات اللائي يشبهن جانيت سخية النهدين والفخذين، لم اعد اسمع في مقاهيها وباراتها معزوفة فيفالدي (الفصول الاربعة) فهذه المدينة باتت منفوخة بالكآبة مع انها مازالت ترقص الديسكو وتقرأ ماركس ولينين، ربما لم تتغير كما اظن ذلك، انا الذي تغيرت حياتي وصارت قاب قوسين من النهاية.
لوحة جورجيس غروز مازالت علي الحدود بين صوفيا واستانبول، ليس من شك في انهم رمموها حتي تبقي علي حالها كما رأيتها منذ عشرين عاما. والعراق صار مجمرة تحرق القريب والبعيد، لا احد يمكنه ترميم هذا البلد الناعس البرئ، الموت يجز الرقاب، وعزرائيل ترك المهنة بعد ان ازدحمت الشوراع بالجثث المثقوبة والجثث المذبوحة والجثث التي لاقبور لها، حلت اللعنة من جميع الاتجاهات، ولم يعد ثمة من صديق، والفضائيات الحمقاء تسابق نحو مشهد الوباء دون رحمة باعصاب الناس حتي خلت الاسواق من المارة خوفا ورعبا ان تتشظي باحزمة ناسفة او رصاص طائش. وبرغم ذلك مازلت ابحث عنها واعرف طول المسافة، الشتاء يدخل في عروق الخريف، والصيف يأكل من حصة الربيع، وانا دون حقيبة ودون اسئلة ودون خارطة وبلا دليل، ابحث عن حليمة، ربما تقفز امامي مثل غزال جامح علي حين غفلة، ربما تكتب لي رسالة اخري، حتي انني ومنذ عشرين سنة مازلت علي يقيني بانها تمشي خلفي وتضحك من هذا المخبول الذي لايعرف اليأس طريقا اليه.
كنت مرعوبا من فكرة ان العمر سيمضي هكذا دون حليمة، جسدي يحترق شوقا وأنا اقطع المفازات ابحث عن شبح يترك الرسائل في كل مكان امضي اليه، بماذا تنفعني كلمات موجزة تزيدني شوقا واحتراقا حتي اكاد افكر في قتل نفسي لئلا ابكي علي ذكرياتي التي اينعت وصار لها اغصان وشراشب وجذور تحفر عميقا في سنواتي وعظامي.
اختصرت الحياة كلها في امرأة لم اعد اعرف اين مكانها ، اذهب من اجل عينيها الي بودابست كمن يبحث عن ابرة في محيط قش، ماذا تفعل؟ كيف تعيش؟ كيف تسافر؟ وكيف حالها وهي تلاحقني في ارجاء العالم؟ في بوخارست، في دمشق، في بودابست، في البصرة، حتي في محطة قطارات استانبول قرأت اسمي علي جدران المحطة مكتوباً ثمة بالطباشير (اهلا بك ياعزيزي).
اعرف كيف ترسم المفردات والحروف، اعرف كل شئ عنها، من الازل حتي نهاية الدنيا، اري كيف تفكر واعرف لماذا تبتسم واعرف متي ستبكي، اعرف كيف تختار ثيابها واعرف مقاساتها، حتي انني اعرف متي ستقول : احبك ايها الخائن الجميل.

ابحث عن اكذوبتي في الوجوه التي تمشي في الشوارع، كل واحدة من النساء يمكنها ان تكون حليمة، رائحة مسك عابقة ونعناع وقافلة من الجوري والقداح والخزامي، هل تراها تبحث عني؟ من المؤكد انها تعرف اين اكون مادامت كلماتها تتراكم في معطفي وذاكرتي، معلول بها، وهل من احد يصدق إذا ماحكيت قصتي التي لاتشبه القصص؟ محض رجل ما يبحث منذ عشرين عاما عن امراة ما!
مليارات الازقة والحانات والحدائق والشوارع الخلفية، مليارات من النساء والصبايا والحوريات والحسناوات والساحرات والسبايا والنهلستيات في هذا العالم، كيف يمكن اكتشاف قطرة ماء بعينيها بين تلك البحار والمحيطات والانهار والشطوط؟ ليس غير غبي من يفكر هكذا، وانا مازلت ذاك الغبي العابث الذي يؤمن انه سيراها ذات يوم في مكان ما، ربما في دمشق، في حاشية من الشام، ربما في بوخارست، في زاوية من كاتانكا، ربما في بيروت، بين رهط من القناصين والرايات الحمر،ربما في البصرة، في مقهي علي شط العرب او في سوق الهنود، ربما في بغداد، قرب تمثال السعدون او الرصافي، وربما في بودابست، في نونوة شتوية او تحت جسرها الطاعن في السن، سأراها حتما في كنيسة نطرق اجراسها معا، في سوق الارانب او سوق الطيور، ليس من شئ عصي علي رجل يبحث عن امرأة !
ادخل دور السينما اينما ولٌيت وجهي، اغوص في الصقيع واهرب من قطاع الطرق واخاف الخيول الجامحة، اشعر بها مع كل ممثلة اراها، هي تشبه الجميلات كلهن، فيها شئ من ملامح فاتن حمامة، فيها شئ من عطر مارلين مونرو، خضوع وانوثة طاغية، فيها شئ من طعم سعاد حسني، واشياء من زمرات جريس كيلي، هادئة وصاخبة، يانعة وقاسية، اتوق اليها في صحوي وحطامي، مخمور بذكرياتها، هي الانثي الخالدة التي حكت عنها سيمون دي بفوار، هي الخالة زوجة الاب (دونيا لوكريثيا) التي قص حكايتها ماريو بارغاس يوسا، هي جمهورية نساء في جسد واحد، ربما كانت هي نفسها الليل في عز النهار، والضوء الباذخ في منتصف الليل، وربما لم تكن هكذا ابداً، لكن مخيلتي تمضي بعيدا جدا في كل مرة اشتاق اليها، ربما ظننتها اجمل حواء في الارض، واكثرهن شهوة وجنونا، مع انها لم تقل (احبك) سوي ثلاث مرات وكاد الحياء يقتلها في كل مرة نطقت بها!
منكود وكئيب، اتجرع الخمرة واري النجوم تضحك لي، اسمعها تهمس في وجداني (تمتع من شميمي مادمت لم تزل حبيبي) وانا صعلوك معزول عن الدنيا ومافيها، خرقة مبللة علي طريق آسن، لا اعرف نوع مصيري، منبوذ، مدهون بالخزي والافلاس، خيولي كٌفت عن البحث عنها وانا محض معلول واحشاء مسمومة وكوابيس تصرخ : اين انت ياحليمة؟

الحرب تبتلع الهدوء والطمأنينة، من يدري كيف تكون نهايتها؟ رجال ملثمون، بالوعات يتسرب منها الدم، مليشيات ورطانة ورجال من وراء الحدود يقتلون البشر دون احساس، جثث متفسخة، جحور مزحومة باسلحة مهربة، كتائب ذبح، دواب مفخخة وكلاب مسعورة، والذباب والغربان والنسور تاخذ حصتها من المأدبة، اهانة للجنس البشري، مصرع آلاف الجنود الشبان علي طريق الموت، انقراض الفحولة في بلاد الرافدين، شفرة سرية لا احد يدري من اين جاءت، ربما كان الموساد هوالذي اوصي بها، ينكش لحم الناس ببراعة، مبضع كالسيف الاول والتالي، الضرب بقوة تحت الحزام، ومن تري يسأل عن بوهيميا الرعب والخراب؟ حافات مكورة كما الخناجر، نحن معشرالظاهرة الصوتية والشطط، لانملك غير الشعارات الرنانة ونحنحات القادة الذين يشبهون القردة، لعنة الله علينا يوم ولدنا ويوم تلوثنا ويوم نبعث ثانية.
رائحة الصندل ماتزال تعبق في اسواقنا، ونحن كما المشائين نجري بسرعة عسانا نتمكن من انفسنا ونطرق الباب حتي نقامر بآخر ماتبقي في جيوبنا، وانا وحدي الذي اقامر بالمصادفات والحماقات، لعل وربما وعسي اري حليمة ذات سهو من زمان الاوهام!
الخريف يوشك ان يرحل، مبتورة اصابع هذا الفصل البارع، اوراقه تتناثر في كل شبر من خارطة الدنيا، الخريف ردهات ملونة وحدائق جرداء فائقة الحلاوة، لاشئ كما الخريف يحركني ويراقصني، وحده بين الفصول من يبعث حمي الخيانة في جسدي، هو الغريم الذي اضاع حليمة في بداية مشواري معها، ذهبت حينها الي الشمال، الي شقلاوة، كانت معي واحدة من اشرف المومسات، هيفاء القامة سخية في الفراش لاتقول كفي حتي اذا تكررت اللعبة عشر مرات في ليلة واحدة، وانا مدمن بشراهةعلي لعبة الغزو واحتلال المسامات، اعرف نوع المرأة من حشرجة التأوهات ومن هسيس الاصابع ومن تشنجات الفخذين.
تلك جريمة الخريف، تكررت في كل مرة ياتي فيها لزيارتي، ضعيف انا موازاة تساقط اوراق التوت وامام عري النساء تحت سماء بيخال وفوق جبال اربيل وعند سفوح المياه في (كلي علي بيك) وانا ارتعش شبقاً انتظر الليل حتي اجرجرها الي تلك الغرفة الغافية علي جبل عند اقصي اللذة، الخريف كان (ضٌرة) قاسية جدا لحليمة، ولماذا الخريف وحده ياعزيزي ؟ الخيانة معجونة بك في الصيف والشتاء والربيع ، انت خائن علي طول زمانك، خائن مع سبق الاصرار، ولم يكن الخريف سوي ذريعة حتي تقول : ان خياناتي مفروضة علي جسدي في ايام لاتتكرر ولست ذاك الخائن المكرور في بقية الفصول.
ماتزال معزوفة فيفالدي تحوم في الروح، اسمعها في كهوف الغجر، هادئة مرة وهمجية تسبح في البراري والغابات مرة، فصول مرصوصة ببعضها، الصيف يلتف بقميص الربيع والخريف يدغدغ الشتاء، وانا لم ازل كما المهابيل ابحث عن وهم في دهليز ايامي عساني اعثر علي امرأة قالت كلا (لم تزل الحرية ممكنة من دونك ايها العزيز التائه).
الليالي منسوجة من سياط وغيلان من عسل مسفوح بين الخرائب والضباع، ليس من قطار ياخذني الي عرق السوس وطعم المانجا، الليالي محض لعبة كاذبة وسعلوات وطناطل وصرير يخربشني ويحرمني من النوم.
قلت لها ذات عام وانا اركع بين فخذيها اللاٌمعين : بعدك لانساء ولا غزل ولا خيانات، لكنني هكذا في الشتاء كما في الخريف، اري نفسي خارج السيطرة مثل جرٌة ماء مكسورة لانفع منها.
رائحة عباد الشمس مازالت تمشي في عروقي، تطاردني اينما حللت، مع انها اليوم ابعد ماتكون عني، قطيع خرفان وحشرات رنانة وروث بهائم وذئاب وكلاب جرباء وحروب لانهاية لها.
ذلك ما اراه الان، ولا شئ ينقذني من تلك العفونة غير عبٌاد الشمس الذي اشمه في كل مرة افكر في حليمة، اعني في كل ساعة يلسعني فيها الندم وفي كل ليلة مخملية ارجع فيها الي بودابست تحت ضياء الفوانيس في هوتيل تاترا قبل ان تسكنه العناكب والغبار والخنفساء السوداء القبيحة.
اتذكر مصاطب المحطات، وعازف القيثار المفلس، مذاق بوخارست، مدلوق جسدي في تعرجاتها، مطعون من فرط الانوثة التي تحتك بي، اتمني طاقية اخفاء حتي افعل ما اشاء في تلك المملكة المشتهاة من البنطلونات وهي تغوص في لحومهن التي ترقص دلعا وليونة وشقوق اكاد اراها من وراء الجينز الفاجر، انا المسافر دون حقيبة، اشرب الليمون ممزوجا مع البيرة واصرخ دون كلام : لماذا نعيش حروبا بلا نهايات ؟ من اجل من؟ من اجل ماذا ؟ اجساد مذبوحة واكفان بلا قبور، والحياة صارت محض مبولة وخراء، والقائد ليس غير جرذي بثياب قيصر، لايهمه غير دخول التاريخ حتي اذا جاء من باب المرحاض.
اختفي بريق بغداد، ريش الديك يتناثر علي القطط، والوحش المفترس ليس غير عربيد اخرق، الرعاع يصفقون بقوة، لمن تصفقون والموت ياخذكم تباعا ؟ من يكنس عن غبائكم ماتراكم من رعونة ورماد وخضوع وبلاهة؟
غسلت الصحون في مطعم براتسلافا، وبعد عشرين سنة ادخل المطعم مثل طاووس لا احد يدري ماعانيت ايام غسلت آلاف الفناجين في مقهي باربا بين طقس غائم ونساء فارعات الطول، الحياة وهبتني الفتافيت والاغنياء يعربدون في المطاعم والبارات، حتي جانيت قارورة التفاح والعسل رمتني خارج بلغاريا دون رحمة وبلا شفقة، تري أين هي اليوم وماذا ستفعل اذا عرفت انني دخلت بلادها ثانية؟ ماتزال لوحة جورجيس غروز بين الحدود لا احد يعرف لماذا ومن جاء بها بين البلدين؟ اري قوس قزح في تلك الغابة ايام كان النوم ممنوعا في الغابات والحدائق والحانات، انقلب العالم وتكسرت الدروع والخناجر، انفك الطلسم وخرج العفريت من القمقم بعد مئات السنين، انظمة الفولاذ والسياط والمعتقلات صارت كما القش بين الرياح بعد هبوب (البيروسترويكا) ولم تعد من عبارات تخفي العيوب والاسرار.
الحورية الفاتنة كاليبسو فكٌت سراح اسيرها اوديسيوس الخالد وانتهي عصر الرماد والحجرات المقفلة، ربما يأتي بعد سنين زمان الكوثر والحرير والخمور، يوم تنتهي الحروب المستأجرة وتنفق الذئاب المسعورة ونشعر برعشة الامان ونعزف الموسيقي في كل مكان !
لم اعد ابحث عن حليمة، ضراوة الموت العشوائي اخذتني بعيدا عنها، اسمع صوتها يهمس في ضلوعي (تمتع من شميمي) وانا تحت حوافر الخيول اتكسر مرعوبا من فحيح الافاعي ونقنقة الضفادع في اخر الليل، اسمع طرقعة في عظامي وانا اصغي الي حمي الفضائيات وهي تنهمر وتتجشأ البذاءات وتحكي عن عمليات خطف وجنود يفترسون البراءة في الجنوب، اترنح هلعا امام طريق الموت حيث الكلاب تنهش في الاحياء علي درب ملغوم بالهذيان والعطش.
لم اعد ابحث عن حليمة، تلك البصراوية المخضٌبة بالحناء، المتشحة بطعم الشيكولاته والموشومة برائحة الجنة، انا البدوي المرعوب الذي رسمها سهوا في ساعة سحر لن تتكرر، حليمة سطوع الضوء التي مات محمود بقشيش وهو يحلم ان تكون في بيته، لم يلتفت الي المؤخرات السخية ولا الكنائس ولا الحارات الشعبية التي رسمتها طوال عشرة اعوام، بل اشار اليها وحدها وهو يقول : اريد هذه الجيوكندة العربية.
اشم رائحة الكنافة وانا اتحسس احراشها ونعومة لحمها وامرٌ علي سرٌتها، اضحك من حماقاتي (كيف اخونها وليست من غجرية في الارض اجمل منها)؟
ارعن، الرعونة صومعتي ومرفأ هذا الرجل ذي الانف القيصري والقامة الباسقة والعينان الصغيرتان، نفسه من يحمل إسمي وصفاتي، نفسه الاخرق الرعوي الشاحب الذي لم تحمله سفينة نوح ولم تأنس إليه الشريفات ولم تعبأ به بودابست ولا بحيرة بيلاتون ولا محطة بوخارست ولا دمشق، حتي رسومات آرثر روسلر وايغون شيلي اشاحت بالوانها عكس مكاني لئلا اراها جيدا في صالة فندق تاترا منذ عشرين سنة.
يابسة ايامي، حافية سنوات عمري، ملفوف باليأس، ضامرة حتي ذكرياتي، الرعاة في الحقول، البهارات في الطعام، وانا مربوط من دمي صوب مخدع يئن من الحنين، اوردتي تئن من اشتياقي الي البصرة، الي شط العرب، الي نفحات النخيل، التي اعطتني كل ماتملكه يوم هربت من الحرب الي دمشق.
الارانب لايمكنها ان تمسك بالنمور، هذا الخائف صار يختفي بين البيوت والمجاري، الطائرات مثل النساء يتمتعن بشئ من الغنج وهن يطاردن هذا الارنب المسلوخ، الطرق متعرجة في ازقة بغداد كما المسبحة ولا تشبه شوارع القصر الرئاسي، كيف يعيش الناس في تلك الفروع الشحيحة المخنوقة بروائح البصل والثوم والباذنجان؟ حشر نفسه مرغما لئلا تطارده القنابل الذكية ذات الندبة السوداء علي الذيل، وفي العراء ترك الجنود عرايا لحراسته، ياكلون الهريسة ويشربون الماء الخابط، المهم ان ينجو من خفايا الليالي اذا حشر نفسه في جوف المرحاض، في خصلات النفايات، في اي هيكل او اية حفرة، وبعد ان ينجو يأتي دور الشعراء المخصيٌين لترميم صورته، الشعراء الرعاع، حاخامات المحنة وكيفية تجميل الاجرب وتنظيف الوشاح الابيض الذي علقت فيه المزابل والفضلات. ثم يخرج من العار، الرجل المؤمن الذي تعلم الدروس، يخرج بعوراته مفضوحا، وشاحه عاد ابيض لامعاً، وجرائمه باتت في غاية السرية والنضوج، تكاد تري عمامة سوداء فوق رأسه وهو يذكر الله قياما وقعودا، وهل من احد يجرؤ علي ذكر البيوت المسحوقة التي تنفث رائحة الباذنجان والثوم والبصل؟ لقد عاد من العار وهو في اغلي بدلات السهرة، عادت القصائد المخصية كاصحابها، وقسرا راحت التماثيل تجوب الميادين والشوارع، حتي ادخلوها (قسرأ) بين الناس وصارت تتمتع بشهادة جنسية واحوال مدنية ولها كل حقوق المواطن وليس عليها اي شئ من الواجبات! جسدي معلول من كل ماجري، معلول، معلول، معلول.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *