إبداعات ضائعة ومبدع مغيّب.. فنان يختار الفاو وطناً للحياة والموت
زاهد الحمزاوي
من جنوب العراق حيث العطاء والتضحية والفن ، حيث بوابة الفاو ، التي مثلت في مجسماتها معاناة الشعب العراقي ، وآلم أهل البصرة وفنانوها ، حيث التراث المضيع ، من قبل الجهال الذين حكموا واداروا تلك المدينة ، التقينا مع الفنان التشكيلي ( عبد الصاحب كاظم التميمي ) المشهور ( بالفنان عبد الصاحب البغدادي) ذلك الفنان الذي عانى ماعانى وهو يدافع عن بلاده في ايام التخلف والرجعية ، في وقت البعث الصدامي ، حيث قادته الاقدار الى خارج البلاد حاله حال الكثير من الذين رفضوا الظلم والاستعباد ، ليجسد معاناة البصرة الفيحاء بنصب عانى فيه ماعانى، وقد جسد في تلك اللوحة الفنية كل مامرت به مدينته حتى عد هذا النصب الذي طرز فنية رائعة رسمت بريشة فنان على بوابة الفاو يضاهي نصب الحرية في بغداد ، ولم يستمر ذلك النصب اكثر من سنة واحدة ، لتمتد اليه ايادي الجهل والمنتفعون .
{ من أين يتكون النصب في جزئياته ؟ وماذا يمثل لك تاريخ الفاو ؟
– كان النصب يتكون من 16 قطعة ، عمل مجسم تماثيل نصفية مشابهة لعمل نصب الحرية في ساحة التحرير ، وقد كان عملا مجانيا ، مجرد لتجسيد تاريخ مدينة الفاو هذه المدينة البصرية التي عانت الفقر والتهميش وبعدها عن اقرب محافظة وهي البصرة والتي تعتبر مدينة بعيدة بالنسبة لها حيث تبعد أكثر من 115 كيلو متراً، كانت الحكومات ترسل السجناء السياسيين الى مدينة الفاو اذ كانت هنالك بيوت تابعة لهم لم تكتمل ولم يوجد فيها سقف وكانت درجة الحرارة عالية تصل الى 50 الى 60 درجة فكانوا يموتون في تلك السجون او تلك الدور المكشوفة بلا غطاء ، هذا ما وجدته خلال متابعتي الى تاريخ المدينة ، اضافة الى ذلك ان الفاو هي المدينة الاولى التي مورست فيها لعبة كرة القدم الذي جاء بها البريطانيون وكانت تمارس على سواحل الفاو ، وكان الجندي البريطاني يحمل كرة القدم ليتسلى بها فكانت بداية كرة القدم في المنطقة ، بعد ذلك بعد بدات الحكومة في الثلاثينات ببناء دور للعمال والموظفين وكانت الحكومة تواجه السياسيين حيث كانت تضعهم في نقرة السلمان المعروفة ثم صارت تبعث فيهم الى مدينة الفاو حيث الحر الشديد والشمس الحارقة والدور المكشوفة ليموتوا فيها ، فهذا ما جعلني اقوم بهكذا عمل ، وفي فترة السبعينات تم محاربة الطلبة ، وكان هنالك من الشخصيات البارزين الذين جاءوا بهم الى الفاو وسجنوا فيها ، أمثال الشاعر مظفر النواب وكثير من الاسلاميين بعضهم استشهد في تلك الدور المكشوفة للشمس الحارقة ، الفاو المدينة الوحيدة بالعراق التي بناها اهلها من الطين بحيث كان الفلاحون يجلبون الطين من الصحراء ويقطعون مسافت بعيدة ، فبنيت الفاو من خلال اهلها ، لم تكن ارض طبيعية وجاء الناس وسكنوا فيها ، انما هم خلقوها وبنوها ، عند مجيء حزب البعث للسلطة حارب كل الطاقات في الفاو ، الفاو ابدعت ، فنانون وابطال ورياضيون ، هنالك الادباء والفنانون منهم الاستاذ المرحوم يحيى محمد علي ، وكذلك الخطاط المرحوم موسى التميمي الذي حاز في السبعينات المرتبة الثالثة للخط العربي ، هنالك النحاتون زكي محمد علي وله عملان في محافظة البصرة ، اما انا فجئت بعد جيل السبعينات ، حيث بدأت بمشروعي الفني وممارسة فن الرسم والنحت والخط ، بعد وصولي الى ارض الوطن من الغربة جئت الى مدينتي الفاو وقد تغيرت كل ملامحها ، حيث ان صدام حسين محاها من الوجود وغير ملامحها تماما ، لاتوجد تلك الانهار ولاملايين النخيل ولا الاعناب ولا اي شجر على الارض ، مجرد دور لحماية المنطقة الجنوبية امنيا خوفا من دول الجوار
{ هل تشعر انك أستطعت أن تجسد كل هذا التاريخ في اعمالك؟
– جسدت هذا التاريخ في تماثيل مجسمة نصفية ونحيت منحى الفنان الراحل جواد سليم ، واستخدمت البوابة التي بناها صدام حسين للفاو باعتبارها بوابة النصر العظيم وازحنا الشعارات البعثية التي كانت ووضعت بدلها تلك التماثيل ، وكانت حسب اراء الاجانب ، وبعض الجيش البريطاني الذين كانوا موجودين في البصرة وكثير من الفنانين والصحفيين في البصرة كان هذا عملا رائعا ويعد بالدرجة الثانية بعد نصب الحرية في بغداد حتى انني استطعت ان اجسد شكل او حالة الانفجار الذي تسببه الصواريخ التي كانت تسقط على تلك المدينة ، وكما اني نقلت الانتصار الذي حدث او التغيير الذي المرتجى للشعب العراقي بعد ازاحة صدام حسين ، فجسدت في عملي السجون والاعدامات والتعب والبناء وكل شيء ، وحتى اطفال المدارس استبشروا فرحا بانهم سوف يعيشون حياة جديدة ،
{ هل جسدت من ضمن التماثيل صرخة للمستقبل تمثل الحاجة الى انقاذ هذه المدينة ام كان تمثيل للماضي فقط ؟
– عملت التماثيل وكانت بدايتي من الانفجارات في الحرب العراقية الايرانية باعتباري جسدت الفاو بعد التحرير ، حيث كانت الفاو مهدمة ، من جراء الحرب العراقية الشعواء ، فكانت اسفل البوابة تجسيد للانفجار ، ثم الى الجانب الايمن كان هنالك جسد لرجل مقيد بالسلاسل التي كانت يستخدمها البعثيون للمعارضة ، حيث كانوا يربطون الناس في سلاسل ثقيلة ويرمونهم في شط العرب كي لايستطيعون الخروج فيموتون غرقا ، الجهة المقابلة كانت لرجل داخل اعمدة السجن ، حيث جسدت سجون الفاو و التي شابهت سجون نقرة السلمان ، وجسدت حالة الخنوع والخوف من تلك السجون ، في نفس الزاوية في الاعلى كانت هنالك شمس تشير الى الحرية او التحرر من العبودية التي كنا فيها ، ثم يستمر باتجاه اليمين للمشاهد هنالك اجساد للاسماك البحرية التي كانت السفن الاهلية العراقية التي كان يعتاش منها اهالي الفاو باعتبارها مدينة بحرية ، وكان هنالك مرسى كبير للسفن التي تذهب الى الهند ودبي وتعوم البحر بحثا عن الرزق والاسماك ، ثم جسدت الجندي العراقي الذي كان يحمي تلك الحدود والذي كان يحمي الحدود الجنوبية بالنسبة للعراق ،والتي هي مدينة الفاو ، بعد ذلك جئت بقطعة تمثل عملية البناء بعد ان هدمت الفاو كاملة جراء الحرب العراقية الايرانية وعودة الاهالي الى هذه المدينة ، هذا بالنسبة الى الجهة اليمنى اما الجهة اليسرى ، كانت صورة الطفل الذي يحمل الكتاب فرحا بعام دراسي جديد وحكومة جديدة ، من جهة اخرى جسدت مايمثل الفلاح الذين يحملون الراية والبناء ، ثم جسدت عامل البناء الذي يدفع العربة ، ويحمل فيها الاحجار او السمنت ، ثم القسم الاخر هنالك نخلة تمثل النخل العراقي الذي كانت الفاو تشتهر به ، بعد ذلك هنالك الام وهي بناء المجتمع الجديد الذي مثلته في الطفل والامومة بعد سنين من القهر والحرمان وهذا الطفل يمثل ولادة جديدة لمجتمع كامل ، والام تحمل طفلاً بفرح ، ثم ياتي جزء فيه النخلة ، وهي نخلة الفاو او نخلة البصرة المعروفة ، وهذا محتوى النصب ، وهذا النصب يمثل تاريخ الفاو قديما لان فيها ميناء العراق الاول ، وشركات النفط ، شركة النفط الوطنية وشريكة بي بي سي ، ومرفأ الموانئ ، فكنا نامل بناء جديد للفاو ولكن للاسف تحول الى صحراء ، فلا يمكن للاحد ان يزرع ولا نبتة الا في داخل البيوت ويستخدم الماء العذب لسقيها وهو مما يشرب ، اما مياه الانهر والبحر فمالحة جدا لاتتحمل النباتات ان يسقى بها.
وهذا النصب تكلفته اقل من 13 مليون دينار عراقي فقط ، وقد عمل في اكثر من شهرين واجور رافعات وعمال وسهر ليال ، وكان عملنا مستمر ليل نهار ، وكثيرا من الايام يؤذن اذآن الفجر ونحن نعمل ، لكن للاسف اصحاب النفوس الضعيفة رأوا انه لامنفعة ذاتية لهم ولجيوبهم فبعثوا الى تجارة جديدة مربحة ، وهو التغليف البلاستيكي كما هو معمول في محلات الايس كريم ومحلات ملابس النساء فقاموا بتحطيم جميع التماثيل الموجودة على النصب او على الجدارية وجاءوا بهذه المادة البلاستيكية وغلفوا هذه البوابة الكبيرة التي يتجاوز طولها العشرين مترا وارتفاعها اكثر من 12 متراً وهذه المصائب موجودة في كل العراق ، هذا جزء من الفاو وقد مات فيه الفن والرياضة وكل شيء وصار المواطن لايبحث الا عن قوته وحتى فكره نساه ونسي ان له عقل يفكر به او يكتسب فكرة جديدة ،
{ متى انتهيت من العمل ؟
– هذا العمل منذ اكثر من اربع سنين مضت الا انه لم يقاوم سوى اشهر فقط ، فعمر النصب لم يتجاوز السنة الواحدة حيث تم تحطيمه من قبل البلدية
{ من الذي امر بذلك ؟ وما دور مثقفي البصرة ؟
– التحطيم نفذ من قبل بلدية الفاو ، ومدير البلدية الذي ينتمي للحزب الحاكم في ذلك الوقت ، وانا سالته ما الداعي ، اجابني بكل صراحة ، بان اكثر البوابات في البصرة مغلفة بهذا البلاستك وهذا امر من بلدية البصرة ، اي من بلدية البصرة المركز ، وحاولت الاستفسار اين سيضع هذه التماثيل فقال ساحتفظ بها ، ولكني أصبت بالجلطة وسافرت الى اهلي في هولندا وعندما رجعت وجدت كل شيء محطماً والبوابة قد غلفت بالبلاستك ، فلم نستطع ان نفعل شيئاً ولا ان نقدم اي شكوى لانهم تابعون للحزب الحاكم ، واعرف جيدا لاجدوى من ذلك،
{ وهل احتفظ بها فعلا ؟
– كلا لم يحتفظوا باي شيء بل رموها من فوق البناية حتى تحطمت لاني عملتها من الاسمنت ، وهذه الالوان انا ابدعت فيها وحاولت ان اتوصل الى لون البرونز ، وانما كانت كتل كونكريتية والكتل الكونكريتية عندما ترمى من الاعلى تتحول الى رماد . والحال معروف في البصرة حيث والمافيات والاحزاب واصحاب الوجوه المقنعة ، فتركت الموضوع حفاظا على سلامتي وسلامة عيالي ، والحكومة المحلية استلمت المبلغ المقرر لتغليف البوابة وقد تجاوز 250 مليون ، لذلك هم عجلوا في تحطيم تلك التماثيل وغلفوا البوابة بمبلغ الربح الخاص لهم ، واعرف احدهم قد بنى فيه قصرا شمال مدينة الفاو.
{ ماراي الشارع البصري ، هل حصل رفض لفعلهم ؟
– الطبقة المثقفة كانت من جانبي ولكن لاحيلة لهم ، فكما ترى في ساحة التحرير في بغداد منذ فترة وهم يتظاهرون ولكن لافائدة ، اما في مدينة الفاو فالناس تخاف ولاتستطيع ان تبدي رايها .
{ مادور وزارة الثقافة باعتبار هي الحاضنة للفنانين والاعمال الفنية ؟
– وزارة الثقافة هاملة لكل فنانين العراق خاصة في البصرة ، وهذا واقع ، مجرد مهرجان المربد يقام سنويا كنشاط اسقاط واجب لاغير .
{ يقال أنك تملك الجنسية الهولندية ؟ فهل لازلت تملكها ؟
– انا خرجت من العراق لست متنزها اومسافرا او باحثا عن سياحة ، خرجت وبندقيتي بيدي واطفالي ، وكنت احارب البعث وكل الرجعية التي تحكم العراق ، فذهبت الى ايران ثم الى سوريا ، وبعد ذلك وجدت ضالتي في هولندا ، فحصلت على الجنسية ، لكني كنت اعيش في هولندا جسد فقط اما الروح فهي في العراق ، وكل الذين ذهبوا كانوا يحاولون ان يرتبوا حالهم هناك ، اما انا فبقيت ارسم واخطط واعيش العراق وانا في هولندا ، فبعد سقوط النظام بيومين حملت امتعتي وجئت الى العراق وحدي ، بقيت شهرا ، كانت الفوضى ، لكن بالنسبة لي كانت جنتي ، حيث طفولتي والبصرة والشرجي والحر وشمس العراق هي ما احلم به طول حياتي ، رجعت الى هولندا ، فاقنعت عائلتي بالرجوع ، فحملتهم الى العراق لكنهم لم يستطيعوا الصمود فرجعوا ، وانا ارجعتهم بيدي لاني لن اكون ظالما لهم وحتى مستقبلهم في العراق لقد ضاع ، كان بعض ابنائي في اخر مرحلة له في دراسته الاعدادية ، يعني مقبلون على الجامعة لكن للاسف ارجعوهم الى الصف الاول متوسط واعمارهم كبيرة جدا ، فاضاعوا منهم السنوات ، لذلك قرروا الرجوع لانهم ليسوا صغارا ، فارجعتهم الى هولندا ، وانا رجعت وذهبت الى الحكومة الهولندية وقلت لهم شكرا جزيلا ’ لقد اويتموني اكثر من 15 عاما ، وانتم الان تاوون عائلتي ولكنني اريد العيش في العراق واموت في العراق . فارجوكم خذوا الجنسية الهولندية وسأرجع الجنسية العراقية عن طريق السفارة العراقية في هولندا واعود الى بلدي لاموت فيها . اذهب اليهم بين الحين والحين وارجع الى الفاو حيث جنتي ، صحيح انها منطقة قذرة من رائحة السمك ، وشوارعها متسخة لكنها بالنسبة لي فهي أمي ، امي كانت متعبة او متعرقة فهي امي .