(الزمان) تنفرد بنشر أول كتاب غير مطبوع للمفكر عزيز السيد جاسم
منذ تغييبه سنة 1991 يعود بنتاج جديد: لماذا الفلسفة ؟ (6) (ملف/13)

إشارة :
رحل المفكّر الكبير والروائي والناقد “عزيز السيد جاسم” بصورة مأساوية تاركا إرثا فكريا وروائيا ونقديا ضخما يستحق الإحتفاء والتحليل العميق مؤسسا على شخصية إنسانية رائعة وسجل نضالي أبيض وتاريخ صحفي حافل. لقد كان مؤسسة قائمة بذاتها. ولكن، وباستثناء الجائزة السنوية المسماة باسمه والتي أطلقتها صحيفة الزمان الغراء إدراكا منها لقيمته الفكرية والوطنية الفذّة لا نجد احتفاء رسميا يليق بقامته الشامخة وعطائه الفريد وكأنه ليس من تراب هذه البلاد المقدّس. بمقالة الأستاذ قحطان السعيدي الجميلة هذه يفتتح موقع الناقد العراقي ملفه عن الراحل الكبير ويدعو الأحبّة الكتّاب والقرّاء إلى إغنائه بالدراسات والمقالات والصور والوثائق.

(الزمان) تنفرد بنشر أول كتاب غير مطبوع للمفكر عزيز السيد جاسم
منذ تغييبه سنة 1991 يعود بنتاج جديد: لماذا الفلسفة ؟ (6) (ملف/13)

حادثة اخرى :
هذا الشخص متجبر تشيع الكبرياء والغطرسة من كل جوانبه وانه يسخر من الاخرين ويستهزئبهم وحتى يأنف من السلام عليهم او مكالمتهم ولقد وجدت الجمع يشتكون منه ويبغضونه بغضا لا يوصف انهم يقولون انه مجرم لا روح لديه ولا ضمير فهو لم يساعد احدا ولم يعطف على احد ولم يتعاون مع احد ولم يعرف اسم المعروف ولا الخير ولا كل مظاهر الطيبة الانسانية ومن كثرة كلام الناس حوله وضده كونت رأيا بان هذا الشخص لومشى في السوق لقطعته ايدي الناس ومزقته شر تمزيق بلا شفقه لان الكره بلغ اخر الدرجات وهو لم يكتف بكبريائه المملؤة باحتقار الاخرين وكان شريرا مفسدا يسخر بعاداتهم وبتقاليدهم وبامورهم المعاشية وبعالمهم ولا يقيم لهم وزنا ولا اعتبارا وقلت في سري ساعد الله الناس في احتمال هذا الرجل وهم يكنون له هذا الحقد الدفين.

لكن العجب العجاب هو ما رايته اليوم لقد مر هذا الشخص امام المقهى ولم يسلم على الجالسين لكنما الجميع نهضوا له محيين متملقين وكانت دهشة لا توازيها دهشة ولكنما لا باس ربما هذا التباس لا غير ومرة اخرى مر على مكان اخر والجميع يتبارون في السلام عليه احقا هكذا يئدُ المجتمع المفاهيم ؟ وهل اذن يصح لقب رعاع على اولئك الناس؟ وهل ان القوة والعنف والاحتقار والشدة هي التي تنفع في توجيه الناس وسياستهم؟ لقد خالطني شك كبير في نجاح الافكار الانسانية والمفاهيم والمثل في مجتمع كهذا ولقد اعطيت مبررات لأولئك الطغاة الذين اذلوا الانسانية انني احتقرهم لكنما وجدت لهم معاذير في العقول المتاخرة التي تحترم البطش وتقدر القوة اكثر مما تقدر الفضيلة، وتخاف الشرس وتعذب المتسامح، كل تلك العقول اعطت وتعطي صورة سوداء مشوهة عن المجتمع وفي نفس الوقت رأيت اديبا شاعرا قصاصا يمر في السوق دون ان ينتبه له احد ودون ان يعيره شخص اي التفات، وكانت حيرة بالغة وتساؤلا مرا عن الفلسفة التي تسير المجتمع وتحكمه وتحل مشاكله وتفسر اسس بنائه فمتى تكون المجتمعات متمسكة بمثلها؟ متى متى؟ والى متى تظل الانسانية التي تقدمت في كل العلوم والفنون والاداب الى متى تظل تزدري النابغين البسطاء وتحترم المتجبرين الاغبياء؟ انه سؤال سيظل منتظرا الجواب.

يوم اخر:
اليوم قرأت كثيرا حتى انتفخت عيناي واصابها احتقان واحمرار بالغ، قرأت قصة ممتعة ومقالا فلسفيا واشياء من هنا ومن هناك ، ان سروري وراحتي كل راحتي في القراءة، ان تلك الرغبات الحارة هي حقا صدى في حياتنا، انني احتقر اولئك الذين لا يتعلمون، لا يشغلون انفسهم بدرس ومذاكرة او بتفكير والاغبياء هم اكثر الناس بعدا عني وانا اكثرهم بعدا عنهم، ان الذكي افضل من الغبي في كل شيء ويفوقه في كل شيء هذا مالم اناقشه اطلاقا فهو بديهية لا تحتاج الى اثبات او برهنة، وفجأة ظهر لي ان البديهيات تحتاج الى برهنة جديدة فما كان بديهيا لدى الغير قد لا يكون بديهيا لدي، وشغلت البديهيات كل حواسي لابد اذن ان اضعها في ميزان جديد ولابد من معايير جديدة ونسب جديدة واحكام جديدة.

الاذكياء افضل من الاغبياء! اصدق هذا؟ ام انه ترديد كلام… والقيت نظرة على الكتب التي استلقت قربي، ولم كل هذا؟ لم هذه القراءة وهذا التعب وذلك الارهاق الفكري؟ الا يأتي اليوم الذي يأكل فيه الدود جثتي ويعبث في محاجري، الا يأتي اليوم الذي اتحول فيه الى لا شيء ويالها من كلمة باردة مميتة لاشيء هكذا اذن وبكل بساطة ؟؟؟ والتعب والجهد والعزائم والارادة.. ومع ذلك فالموت هو غاية الغايات! ياللاسف اذن لست افضل من الاغبياء ولا من البلهاء ولا من الحمقى، فهم مثلي توحدنا الخاتمة، هم مسرورون من غبائهم وبلاهتهم وانا مسرور من دراستي ولكنني احسدهم فأنا قد افتقدت الكثير وفقدت الكثير، ان الانسانية لا تمنح جيمس واط ولا ستيفنسون ولا اديسون ولا فولتير ولا غاندي عمرا اخر، انهم قدموا لها حياتهم وعقولهم ووجودهم لكنها لم تقدم لهم سوى الاكاذيب، وهل من اكذوبة كأكذوبة الخلود؟ فالازمات اذن انهت قضية الخلود والتخليد والاف التماثيل والمطبوعات حوله لا تهز عظما واحدا من رفاته، ان الخلود اكذوبة ابتكرها الاحياء لا تقديرا للموتى وانما اشباعا لغريزة الكذب المتأصل في اعماقنا وتدافعت افكاري سوداء مشحونة بالتشاؤم المزعج، ولم استطع القراءة فقد كلت عيناي وضجرت ولم اجد اي قابلية لدي ولا رغبة فقد انعدم كل شيء اللهم الا هذا الضجر الفظيع والقلق السوداوي الهائج.

اليوم سمعت قصصا مختلفة عن الاشباح كنا جالسين في المقهى حيث تجمع عدد من الرجال من مختلف القرى ومن اهل المدينة، كانوا يتداولون احاديث متبادلة عن الجن والسحر والشعوذة والاشباح، وحقا كانت القصص مشوقة لان المشوق لدي هو الذي يحوي اكثر ما يمكن من عناصر الاخافة والاثارة، وما انفكوا الواحد تلو الاخر كل يروي قصصه وما حدث له او ما حدث لغيره بحماس وثقة وايديهم جميعا تشير وتتحرك تأييدا لاقوالهم وتشبيها لما رأوه او سمعوه. لقد قرأت كثيرا عن الاشباح ومرة قرأت عن شخص كان يمشي في الطريق فرأى ابن صديقه واقفا في رأس الشارع فتعجب جدا لانه كان يعلم بان ابن صديقه مريض جدا وفي اخر حالة قبل الموت فكيف تمكن هذا من المشي، وكيف تركوه لوحده؟ وكانت دهشة كبيرة جدا فاقترب من مكان الولد ليكلمه ولكنه ما ان وصل حتى اختفى الولد، فازدادت دهشته وحيرته ولم يجد مفرا من الذهاب الى بيت صديقه للاستفسار ولما وصل فوجئ بالعويل يملأ الدار، واخبروه ان ابنهم قد مات تماما في الوقت الذي تصور فيه انه رأه هناك.

وقرأت قصصا اخرى كثيرة عن الاشباح والعفاريت والبيوت المظلمة والاشجار الرهيبة الباسقة والعجائز المخيفة لكني لم اصدق حكاية واحدة لان عقلي كان يابى الايمان باشياء كهذه.

فهل حقا ان للاشباح وجودا؟ واين مقرها؟ وكيف تنبعث؟ وما هي؟ ان الاجابة عن ذلك كله قد يبدل سلوك العلم والفلسفة ومصيرهما.

اليوم الجمعة:
لدي زملاء، ولو اني شخصيا اميل الى الانطواء والعزلة، وانا اعرف تماما قدراتهم وطباعهم وامكاناتهم بعضهم المخلص الذي يحترق لرسم الطريق لطلابه وبعضهم المهمل الذي لا يشعر بمسؤولية ولا يفهم للاخلاص معنى ولا للثقافة قيمة. والذي رأيته دون مبالغة ان الاغبياء والذين لا يفكرون بالخير العام، قد نالوا التقدير وانتفخت اوداجهم وازدادت رواتبهم اما اؤلئك المخلصون فقد افلس البعض منهم من كل ترفيع او شكر. ان ذلك مؤلم حقا واشعر ازاءه بالتشاؤم ووخز الالم، ان المخلص هو الذي ينبغي مكافأته لتشخيصه وفسح المجال امامه لينشط اكثر ويسهم اكثر ويبدع ابداعا فنيا فيه الخير لنا ولاولادنا فلماذا اذن يساء التقدير؟ وهل ان المجتمعات منذ القدم حتى الان تبقى تعانيها.

اليوم فقط تأكد لي ان الخير والشر والحق والفضيلة والرذيلة هي مفاهيم نسبية لا تكتسب صفة الاطلاق، فبعد ان كنت اتصور ان الخير خير في كل وقت وكل مكان وبان الذين لا يتفقون على هذا الرأي فهم دجالون يظهرون غير ما يبطنون وهم في الحقيقة يعرفون الخير ويدركون اساسه ولكنهم يتخذون من المغالطة سلاحا لهم. ثبت لي اليوم ان الخير وملحقاته والشر وملحقاته ان هي الا مسميات تكتسب قيمتها ومعنويتها من طبيعة ظروف العصر والانسان. لقد كنت ارى (الاحسان) ضروري جدا وهو عمل خيري لا يجوز لفرد ان يقلل من اهميته لكنني اليوم فوجئت بحقيقة (اتق شر من احسنت اليه) فهذا الذي كنت لا ابخل عليه بالحسنات والمساعدة اخذ يبالغ في اساءته لكرامته فتأصلت فيه روح التسول وغريزة الاستجداء، لقد ظهر امامي ذليلا مقيتا يريق ماء وجهه في سبيل درهم او درهمين، ان الاحسان هو الذي قتله وشوه معالم نفسيته، انه الخير الذي اصبح شرا، لقد فكرت اليس من الاجدى والانفع لهذا ان يبقى ليواجه العوز والجوع والالم حتى يبحث عن قوته ويتمكن من الحياة وتحدي المصاعب والصعاب؟ ان هذا الحرمان والفقر المدقع يخلقان في نفس روحي التحدي وعدم الاستخذاء والاستسلام ولكن ما العمل؟ وها انه اصبح معتمدا على ما يمنحه الناس له من مساعدات نقدية، فماتت فيه روح الاباء والاعتداء بالكرامة وتحولت نفسيته الى صورة ممسوخة ومشوهة، عيناه تبحثان عن النقد ويداه وكذلك رجلاه وكل جسده انه صورة لزجة من الدناءة والانهيار والخسة.. وليس ذلك الذي اخافه، بل انني اخاف ما يكون عليه ولده من اكتسابه لطباع ابيه، انه معه في كل لحظات فقدان الكرامة والاجواء وذلك حتما سيكون اسوأ تلقيح بأسوأ خصال، ان ما بذلته من معروف وعمل خيري هو شر، لكم هو مؤلم ذلك الامر، وكثير من العادات والاعمال والاحكام التي كانت في يوم ما جيدة اصبحت رديئة، ولِمَ اذهب بعيدا؟ ولقد سمعت الكثير وقرأت عن كثيرين كانوا ملوكا وقادة فاصبحوا في نظر اخرين ولفترة معينة مجرمين وقطاع طرق، وهكذا العكس انه الانسان الذي يتلاعب بالاحكام والمقاييس، وما دام هو متغيرا ويتبدل من طور لطور فلا شك ان كل ما وضعه ويضعه ايضا كان ويكون عرضة للتبدل والتغير.

تلك قذيفة بوجه القدر،ويخطئ من يظنها نفسها هي القدر، شعلة غريبة تخرج من السماء بل انها انبعثت بلهيبها المتعطش من هذه الارض،ومن بقعة لسنا نفهم مكانها، ماردة هائجة مندفعة مسعورة مخترقة الفضاء في صولات وجولات، تريد ان تحرق وجه السماء، تريد ان تحرق كل شيء وتدفع الغضب الى اعماق كل المجاهيل،انها الحرب العوان يشنها انسان لا كالناس، من عالم ولكن ليس عالمنا، وبلغة لكنها ليست لغتنا،هذه الصيحة المدوية وذلك الصفير البشري الحاد والساخط والمنتقم، اراد ان يبحث عن عدو ينكل به وينتقم لافكاره منه لكنه خاب فأله، لم يجد هذا الذي يريد ان يمزقه ، فمزق نفسه وكانت مزقا واشلاء، ليست طريقها التعفن والتلاشي، بل انها سراج في كل زقاق مظلم، ونور ساطع في كل زاوية ودرب، انه ابن الفجر الذي لا نريده ، فرض وجوده علينا ورمى رميته، وكانت طائشة ولكنها موفقة فتقدست وقدس راميها.

انه، نيتشه، الذي لو تجسمت الغرابة لما كانت الا بشكل ذي جبهة عالية متمرد وعينين عميقتين وشوارب كثيفة لمحارب اشوس، ان شكله العملاق، ذلك الوجه الذي تكفي لمحة واحدة منه لان تجعله وجها لا يبرح الذاكرة، البساطة والانعزال والوحدة كل تلك لا يقدر على تضييع معالم هذا الشموخ العجيب وذلك التحدي الرهيب للكون بصورة هذا الوجه المربد الغاضب المتعمق المنقب عن المستور المحلق ابدا مع النسور، من هذا العملاق الساحر الذي يجدف بكل القيم والمثل والمفاهيم ؟ من هذا الصوت الذي يرن صداه للابد الطويل؟ من هو هذا المحموم الذي تتقاذفه تلك الحميات الرهيبة التي تطلق سهاما اقلقت البشرية واثارت تساؤلا عميقا؟ انه نيتشه، فردريك فيلهلم، فرع ذوي من اسرة كبيرة ذات نسب عريق توارثت المجد والكبرياء، لذا سمت ابنها بهذا الاسم تيمنا بملك (بروسيا) ولد في مدينة (روكن) الالمانية وملامح الالم، بادية على وجهه، انه الم العباقرة الذين قدر لهم ان يغيروا التاريخ، وهل هناك من وحي للفلاسفة كالالم؟ انه الينبوع الذي تتدفق من عينيه افكار عبقرية تقرر مصائر الكثيرين، انه الالم الذي لا يكتوي بناره الا اولئك المرهفو الاحساس ذوو المشاعر الحية النابضة التي تمتص كل ما في الكون من شاردة وواردة وما اروعك ايها الالم، فعلى ساحتك ترقص كل الانطلاقات ومن جوفك تنبعث كل القابليات، وعلى شرفك تتقدس كل الانتصارات، انت الذي خلقت لنا الفلاسفة والعلماء والمفكرين، الذين جاءوا الى كون اراد ان يوقعوا له صكوك الولاء والطاعة العمياء، لكنهم ضجروا وتألموا فهذه اللحظة الاولى، لحظة الولادة ونطقوا وما اروع الالم ان نطق فكل الكلمات هي الروح الثائرة التي تنفخ الحياة في كل ميت، انها البصقة على كل الخسة والغدر والدناءات. وما اكثر شبه هذا الوليد بابيه! العينان اللتان تعيشان في شبه عمى والرأس الذي ينهشه الصداع القاتل ونوبات الصرع التي تزرع التشنجات في هذا الجسد كله.

انه يوم ميلاد، وما اكثر ايام الميلاد، وكلها تمر تافهة ومنسية ما دامت لم تشر للتاريخ بان يقف لها ويسجد اما يوم 15 اكتوبر سنة 1844 يوم ميلاد نيتشه فهو يوم لا كالايام حقا انه في يومه ولد الكثيرون ولكنهم لم يقدر لنجمهم ان يسطع هكذا كنجم نيتشه ، يوم عادي لكن التاريخ يذكره بخشوع. والصراخ وعويل الاطفال عندما يخرجون من ارحام امهاتهم ويفاجئهم نور باهر يضيع في ارجاء هذا اللامتناهي المبسوط، اما صراخ هذا الطفل البولندي المنحدر من سلالة (ينتسكي) العريقة السامية ذات الماضي الجميل فأنه سيظل خالدا يرهبه التاريخ ولأنه يمزج الالم واللعنة والانتقام والاهابة العجيبة، وكان ذلك الصراخ في يوم الميلاد لم يقدر له الا ان يستمر ويضل يمنح صاحبه الما بعد الم ووحدة بعد وحدة وانهيار وتحدي للانهيار، فحلت السابعة من عمره ومات ابوه اذ رأى الصبي بام عينيه اباه ويتألم ويكابد افظع الالام، ويموت وما اقسى تلك اللحظة على النفس الحساسة والمرهفة انها القسوة التي تشرب كل مشاعر السعادة لتقذف محلها مشاعر الالم الغزير والقلق والتخبط العشوائي الرهيب ومن هذه اللحظات ينبثق شيء ، ما هذا الشيء؟ فليكن ما يكن لكنه الانبثاق الحتمي الذي لابد منه انه تلك الحالات التي يكابد فيها المرء اعسر ما يعاني، وعندما يحس بنفسه وهو الذي اعتاد على الكبرياء والرفعة وتوارث المجد، عندما يحس بنفسه يفقد اسمى ما لديه، فعلينا ان ننتظر لان ما يتمخض سيكون بزوغا صاعدا ترتعش امام سطوته الحياة..

ان هذا القدر العاتي الجبار الذي اقام معركة ضد والده، والذي كلف اباه المتاعب والمصاعب والالام الرهيبة، تعسا له من قدر، واطلق نيتشه زئيره ضد القدر انه لا سطوة له بل ان الاقوياء وحدهم هم الذين يملكون بايديهم المقادير وهم الذين يرسمون حدود القدر هذا ما امن به نيتشه بعد لاي وجهاد وعبوس وتجهم وغضب مرير، فلا عجب اذن ان تكون فلسفة نيتشه توترا ذاتيا وتشنجا يعوي عواء يقطع نياط القلوب ان صرخاته القاسية المهددة التي تنذر المسيحية واتباعها تخفي في الحقيقة قلبا يتمزق، وروحا مشتتة وكبدا يتفتت ذلك نيتشه البائس الذي ينكر بؤسه والوحيد الذي يعشق عزلته والمريض الذي يسخر من مرضه فما عسى الارادة ان تفعل وهذا الجسد الملتهب العملاق يضمحل يضعف، القيء والاوجاع والصداع هي كل حصته في العالم الجاحد؟

كيف الخلاص اذن من هذه المشاعر الآخذة بخناقه، الناس يضجر منهم جميعا، ان لديهم ما ليس لديه ، هم يلعبون ويركضون ويمارسون التمارين الرياضية المنوعة اما هو فعاجز مريض متألم وبصره هذا الذي حرمه من تذوق اشياء كثيرة فالجمال تلك القوة السحرية التي ترطب وتهذب النفس وتصقل الطباع وتلون الامال للانسان، كل ذلك مفقود لا تحسسه فلا عجب ان تأتي فلسفته جافة خشنة متعالية ذات جرس حاد عال ساخط، فالقيم الجمالية لديه خدعة واكذوبة ولو انه تردد في اعتبارها صفة يتذوقها الضعفاء الذين ينبغي في رأيه ان يركلوا بلا هوادة.

وهذا الصداع المخيف الذي يعتصر كل قواه ويضغط على رأسه بلا رحمة، انه سيل متدفق من اوجاع لا نهاية لها. الحياة جحيم، وزملاؤه في المدرسة يسخرون منه، ومن شكله الغريب وشكل رأسه العتد بافكاره التي ستتبلور في الاخير، اذن ليس لديه سوى اخته (اليزابيث) يلعب معها ويشاركها كل شيء وهي الوحيدة التي ترعاه وتعطف عليه وتقابله بالحنان والمودة الصادقة.

وان غابت اخته فلا يجد سلواه الا في اكوام الكتب المكدسة حيث يغطس بينها ليطالع ويدرس (اليونانية) و(اللاتينية) حيث تعلم ذلك في المدرسة التي بعثته اليها والدته وهي مدرسة (بفورتا) التجهيزية. كان يدرس باستمرار والحاح ولا يتوقف الا بعد ان يحس باوجاع تغزو رأسه وكل كيانه، ولا خلاص، بل يعاني آلامه لوحده بعيدا عن كل عطف وشفقة او رحمة، ولكنه لم يكن ينتظر هذه الكلمات، سحقا للشفقة فليس لها وجود الا في قاموس الجبناء، ان هؤلاء الضعفاء هم الذين يصورون العالم الاخر ملكا لهم، الخير ما الخير؟ الخير في ان يسود الاقوياء وفي تدمير الضعفاء والعاجزين والحق؟ ما الحق؟ لا وجود له ولا وجود للفضيلة والطيبة في رأي نيتشه الا في عقول المشوهين والمعتوهين والمعلولين والنهار كم هو بشع ومزعج، فعيناه لا تريان شيئا ولا تتحملان ضوء الشمس الباهر، ان الليل هو صديقه الحميم حيث يخلو الى نفسه ويظل محدقا في عوالمه اللامرئية الخاصة مستلهما افكاره وماسكا بخيوطها ليحارب بها النهار، ولكن هل ينهي الليل الام النهار؟ وهذا الالم العميق يطارده من حين لحين فاين المفر؟ ربما يجد الخلاص في اطلاق رغباته الحسية المكبوتة انه شاب يريد ان يحلم ويتأمل ويمرح ويتمتع، كسواه انه ليس من الشواذ فلماذا يظل قابعا منزويا يدمر نفسه ويأكلها بنفسه بنهم وجشع، لابد ان يتمتع اذن هذا ما قرره عندما دخل جامعة (بون) واخذ يرتاد الحانات ويشرب الخمر ويصخب ويذهب الى المواخير وانهى فترة من العبث واللهو والمجون والاستهتار. ولكن هل نفعه ذلك؟ وجاءه الجواب لا وما اضخمها وارهبها من كلمة عليها رجحت كفة وانخفضت اخرى، لقد قدر لنيتشه ان يسبح في بحر من عذاب، انه لم يخلق للهو والصخب والضجيج، في نفع المبارزة التي تعلم فنونها؟ وما نفع كل تلك التصرفات الماجنة البوهيمية؟ وطلقها كلها وعاد يدرس ويدرس وانتقل الى جامعة (ليبزج) ودرس اللغات، والصداع يلاحقه ويطارده ويقسو عليه. انه عنيف طاغية مدمر وتذكر قصيدة (الله المجهول) التي نظمها وفيها يقول (مرة ثانية وقبل ان استمر في طريقي

واطلق نظرتي الى الامام

ارفع يدي العاريتين

اليك فأنت ملجأي وملاذي

وانت الذي كرست له في اعمق اعماق قلبي

مذابح يقدس عليها اسمك

لكي يدعوني صوتك

دائما اليك

وعلى هذه المذابح تتلألأ هذه الكلمة

الى الله المجهول

اني اريد ان اعرفك ايها المجهول

انت باق نفذت الى صميم روحي

ويامن تمر على حياتي مرور العاصفة

انت يامن لا يدركك شيء ومع هذا فانت قريب مني وذو نسب الي

اريد ان اعرفك وبنفسي ان اعبدك

وضحك من نفسه، وانكر ان يعبد هذا الذي نفذ الى صميم روحه، لقد نفذ ومعه الالم والتعاسة والشقاء وليس من سلوى ولا سعادة، واذا بنيتشه يقف ضد الدين ويقف موقفاً عدائيا مبعثه التمزق الذاتي والقلق الفردي، أَوَ لم يقل (ان الدين لا يبشر بالحياة وانما يدعو بدلا من ذلك الى انكارها؟) ومن يخضع هذا الجسد العليل الى معارك حامية الوطيس في الاعماق دون ان يجد ذلك المسكين منها فكاكا، معارك بين الايمان والالحاد، ذلك التناقض ينهش جسد نيتشه ويأكله، (اجل اني لأعلم من انا ومن اين نشأت)

(انا كاللهيب النهم

احترق واكل نفسي

نور، اكل ما امسكه

ورماد كل ما اتركه

اجل اني لهيب حقا!)

ولكن اللهيب الذي لم يخلف رمادا بل خلف لهيبا اسطع، فعندما كان نيتشه حيا كان مجهولا لا يعرفه الا قليلون ، ولكن اسمه اليوم يرتبط بأفكار ونظم ومبادئ كثيرة، أنه المبشر بالبعث الازلي والقائل (فلتحل اللعنة على الذين لا يستطيعون احتمال فلسفتي اما الذين يقدرونها حق قدرها فقد كتب عليهم ان يصبحوا سادة العلم) انه تنبأ بالحروب، وجاءت الحرب العالمية الثانية مصداقا لافكاره (وحينئذ سوف تبعث الوحوش الضارية وينهض عصر عقد الظافرين والسادة من بين رماد البشر المحترق) انها نبوءة، وكانت حقيقة وصارت فعلا، ولكن الظافرين الذين نقصدهم هم الذين اضحوا رمادا واولئك اللذين لعنهم فهم الذين اصبحوا سادة، ترى هل تمتلك عين نيتشه الضعيفتان والكليلتان الدمع الكافي لتذرفانه فيما لو انه ظل حياَ وشهد خاتمة النازية؟.. ذلك ظن وعسى ان لا يكون اثماً بأي حال!

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *