قراءة في نص حداثي
نص/ الشاعر علي ابو بكر
قراءة / محمد جوده العميدي
******
النص :
من إحدى شرفات صدري
تطل الذكريات
ذكريات معقوفة كالمنجل
جاءتني ليلة البارحة
بعدما أقمت قداسا لجنوني
رأيتها تراقص كأسي المترعة بالشجون
وهي تحش سنابل الروح
وانا احصي خطايا الفاشية ،
واكوام التقارير الموبوءة بالدم والسجون
التي عبقت ببلادي. .. .
بلادي التي بكيتها بعد منتصف الليل
وحدي ولا أحد ينادمني احتراقاتي الموقدة بسبايا الحروب …. وركام التقارير التي
لاحقتني وهي تشبه رائحة الثوم الاسنة….
وها أنذا خرجت منتصرا من فوهةالإعدام
ولي جناحان احلق بهما فوق أشجار الزيتون وبلاد تعبق بعطر الياسمين .
*******
يقف الشاعر علي ابو بكر مع طلائع شعراء العراق الذين عاشوا قضايا وطنهم و عبروا عن آلامها وتطلعاتها و آمالها ، على أن ما يفرق بين شاعر و شاعر هو صدق الأحساس ووهج الشعور وعمق التجربة فضلا عن عبقرية التناول و خصوصية المعالجة .
ويطالع المتلقي شيء من هذا في قصيدة الشاعر علي ابو بكر ذات النزعة الواقعية حيث تعتمد تجربة الشاعر الحياتية وما عانى من مرارة الحياة والخوف في ظل نظام ديكتاتوري مقيت . وقد أشار الشاعر إلى هذا في الكثير من شعره الذي يلامس معاناة اهله وهو يفعل ذلك بوعي و ادراك لا ينفك عنهما احساس صادق وشعور جياش ، اذ تسير المضامين الفكرية في شعره في خط مواز لقيمه الجمالية من خلال صياغة شعرية ينفذ من خلالها الى لب الموضوع دون خطابية رنانة او مباشرة فجة ، فنجد الشاعر ابو بكر آخذا بيد قارئه رويدا رويدا من بداية القصيدة الى نهايتها باسلوبه السلس المعهود ، وهو ما يصادفك من اول عتبات نصه فيشاركك رحلة بحثه ، اذ القضية واحدة و الهم مشترك ، فيبدأ قصيدته بذلك ( المشترك المضمر ) ، فالقصيدة وان بدأت بضمير المتكلم المفرد ، الا ان المراد هو صيغة الجمع ، وهذا مضمر حيث يعرف الجميع ما عاناه العراقيون من اضطهاد وتعذيب على يد النظام البائد .
رسم الشاعر علي ابو بكر في قصيدته لوحة جميلة معتمدا على تقنية الاسترجاع flash back . وهي تقنية غربية في الكتابة الشعرية تستعرض شريطا من الذكريات المخزونة في اللاوعي . رصد في مشهدها الأول الواقع المرير الذي عاشه الناس في ظل نظام جائر . أستغرق هذا المشهد ثلثي القصيدة .
وفي المشهد الأخير من القصيدة وهو الثلث الأخير يعلن الشاعر انتصاره بقوله :
وها أنذا خرجت منتصرا من فوهة الإعدام
ولي جناحان احلق بهما فوق أشجار الزيتون وبلاد تعبق بعطر الياسمين
يكشف الشاعر عن حالة التردي التي وصل اليها هذا الوطن . ولا يفتأ الشاعر يصور تلك الحالة من خلال المضايقات التي تعرض لها ومن التقارير التي كتبت عنه ، لا لشيئ سوى أنه آمن بفكر ما . وطن تعددت عوامل ضعفه من سيطرة الوهم الخادع الى السلوى و العزاء وخداع الذات الكاشف عن حالة التردد وفقدان الثقة والاتزان .
ومما رصده الشاعر في الثلث الاخير من قصيدته و بالخطاب المباشر الصعوبات التي واجهها في النجاة من عقوبة الإعدام .
كماأشتغل الشاعر علي ابو بكر بتقنية السردية الشعرية ، والنص يبدو وكأنه قصة قصيرة حدثت في زمان ما ومكان ما ، فيتحدث عن – المسكوت عنه – متمثلا في سيطرة الضغائن و الأحقاد على قلوب الناس مما دفعهم بالوشاية عند أصحاب السلطة . والشاعر في رصده لتلك الحالة لاتجده مسرفا في تصويرها ، فالشاعر لا يريد ان ينكأ الجراح بقدر ما يريد اندمالها .
استفاد الشاعر من خلفيته الثقافية ومن التاريخ بعبره في تلك الفترة فكان للتوظيف التأريخي مضامين عصرية مما يجعله توظيفا عميقا له قيمته .
وعندما تصل العجائبية ذروتها في القصيدة يختم الشاعر مشهدها الاخير بما يشبه خاتمة رسالة يلخص في نهايتها ما سرده في تضاعيفها مبينا انتصاره في النجاة من عقوبة الإعدام .
لقد استطاع الشاعر علي ابو بكر ان يوصل رسالته عبر أكثر من ( ثيمة ) دأب على توظيفها هنا .
الأماكن التي انتظمها عالم الشاعر علي ابو بكر شاخصة في دائرة الرؤيا والذاكرة .
والقصيدة شعر حقيقي استنبتته ذاكرة شعرية حية نابضة بحرارة الشعر لتؤسس لفعل شعري خلاق . والقصيدة مليئة بالذوق الفني والحس الجمالي وهي سهلة الوصول إلى المتلقي بما تمتلكه من مفردات عذبة و شفافة .
وظف الشاعر علي ابو بكر ( المفارقة التصويرية ) بنجاح في هذه القصيدة اذ استدعتها ضرورة الحال وظرف المقال ، اضافة الى تطعيم معجمه الشعري بمفردات عربية أصيلة نهلت منه هذه القصيدة فكانت مفرداتها شفافة عذبة تطرب لها الأذن ولايمجها السمع