الإمام الحسين في الشعر المصري
محمد الصفار
ارتبط أهل هذه الأرض بمحبة أهل البيت (عليهم السلام) ومودتهم منذ أن دخل إليهم الإسلام وارتفعت راية التوحيد على أرضهم وصدحت حناجر التكبير في أرجائها، وشهدت الوقائع التاريخية منذ صدر الإسلام على مدى تغلغل العقيدة الإسلامية ومودة أهل البيت في نفوس المصريين.
ويدلنا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه الذي بعثه إليهم حين ولّى عليهم (مالك الأشتر) على مدى إيمانهم العميق بالله حين خاطبهم قائلاً: (من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا لله حين عُصي في أرضه وذُهب بحقه…) نهج البلاغة (ج3خطبة38).
ووصفها (عليه السلام) أيضاً بأنها: (أعظم أجنادهِ في نفسه) كما في كتابه إلى (محمد بن أبي بكر) حين قلّده إيّاها فجاء فيه قوله: (عليه السلام): (واعلم يا محمد بن أبي بكر إني قد وليتك أعظم أجنادي في نفسي أهل مصر…). (الخطبة27في نفس الجزء من نهج البلاغة).
وبلغت ذروة العلاقة بين أهل مصر وأهل البيت (عليه السلام) في عهد الفاطميين الذين بَنوا (الجامع الأزهر) والذي أصبح في عهدهم أعظم جامعة إسلامية، وعاشت في عهدهم مصر أرقى فتراتها العلمية الزاخرة وحققت الكثير من الإنجازات في الميادين العلمية والفكرية والأدبية.
وقد عُني الفاطميون بالمناسبات الدينية ومنها التي تخصّ أهل البيت وخاصة يوم عاشوراء، وكان لقضية الحسين حضور واسع وأثر كبير عند المصريين، فلم تقتصر هذه القضية على شعرهم، بل أصبحت جزءاً لا يتجزّء من حياتهم.
يقول أبو الفداء (إسماعيل بن كثير) في تاريخه يصف يوم عاشوراء في أيام الفاطميين: (وفي يوم عاشوراء من سنة ست وتسعين وثلاثمائة جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق وخروج المُنشدين إلى جامع القاهرة ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد).
ويقول المقريزي في خططه: (إن شعار الحزن يوم العاشر من المحرم كان أيام الأخشيديين، واتّسع نطاقه في أيام الفاطميين، فكانت مصر في عهدهم بوقت البيع والشراء تُعطل الأسواق ويجتمع أهل النوح والنشيد يكونون بالأزقة والأسواق، ويأتون إلى مشهد أم كلثوم ونفيسة وهم نائحون باكون)، ويقول أيضاً في نفس الكتاب: (كانوا – أي الفاطميين – ينحرون في يوم عاشوراء عند القبر الإبل والغنم والبقر ويكثرون النوح والبكاء ولم يزالوا على ذلك حتى آخر دولتهم).
وبلغ اعتناء الفاطميين بذكرى عاشوراء مبلغاً عظيماً لما تمثله من قيم سماوية جسّدها الإمام الحسين يوم الطف، يقول السيد مير علي في (مختصر تاريخ العرب): (وكان من أفخم عمارة القاهرة في عهد الفاطميين: الحسينية وهي بناء فسيح الأرجاء تُقام فيه ذكرى مقتل الحسين في موقعة كربلاء، وأمعن الفاطميون في إحياء هذه الشعائر وما إليها من شعائر الشيعة حتى أصبحت جزءاً من حياة الناس).
وقد انعكست كل هذه الأجواء في شعرهم حتى يصوّر الشاعر أبو الحسين أحمد بن علي بن الزبير الغساني المعروف بـ (القاضي الرشيد) مصر بكربلاء في رثائه للظافر بالله لما توحيه هذه الكلمة ـ كربلاء ـ من دلالة عميقة على الحزن فيقول:
(أفكربلاءٌ بالعراق *** وكربلاءُ بمصرَ أخرى)
فتذرف عيون الحاضرين ويتحوّل المجلس إلى عزاء.
فكربلاء كانت حاضرة دائماً في وجدان الشعراء المصريين حتى صارت رمزاً لكل حادث أليم لما توحيه من إحساس بالحزن وشعور بالأسى، وما تتركه في نفس الإنسان المسلم من وألم وحسرة عميقين.
ورغم إن السياسات التي تلت دولة الفاطميين قد حاولت أن تقطع هذه العلاقة الصميمية والحب المتجذّر لأهل البيت (عليهم السلام) من نفوس الشعب المصري، إلّا أن هذا الحب والولاء الخالص كان أكبر من كل الأساليب التي مُورست لمحوه، ونجد آثار هذا الحب نابضاً في الشعر المصري على طول تاريخه الذي عبّر عن انصهار الشعراء المصريين في قضية الإمام الحسين ووقفته الخالدة، فعبّروا عن تفجّعهم لما جرى على آل الرسول في كربلاء.
وعند تتبع الخط التاريخي الطويل للشعر المصري نجد أن هذا الشعر زاخر بقضية الحسين وكربلاء وعاشوراء، وقد احتلت هذه القضية مكانة كبيرة وحيزاً واسعاً في الشعر المصري. وهذا ما وقفنا عليه من هذا الشعر والشعراء:
العوني المصري (ت350هـ)
أقدم ما يمكن الإشارة إليه من الرثاء الحسيني في الشعر المصري هو للشاعر أبي محمد بن طلحة بن عبيد الله بن محمد بن أبي العون الغساني المعروف بـ (العوني المصري) والذي قيل عنه أن: (له في الأئمة المعصومين أكثر من عشرة آلاف بيت)، وقد جمع العلاّمة الباحث الشيخ (محمد السماوي) من شعره ما يربو على ثلاثمائة وخمسين بيتاً ورتّبها في ديوان، ومن مراثيه في الإمام الحسين يقول من قصيدة طويلة:
فشدَّ فيهم أبو علي *** وصافحتْ نفسُه الصِّفاحا
يا غيرة الله لا تغيثي *** منهم صياحا ولا ضباحا
ثم انثنى ظامئاً وحيداً *** كما غدا فيهم وراحا
ولم يزلْ يرتقي إلى أن *** دعاه داعي اللقا فصاحا
دونكمُ مهجتي فإني *** دُعيتُ أن أرتقي الضراحا
فكلكلوا فوقه، فهذا *** يقطعُ رأساً وذا جناحا
يا بأبي أنفساً ظماءً *** ماتتْ ولم تشربْ المُباحا
يا بأبي أجسماً تعرّتْ *** ثم اكتستْ بالدما وِشاحا
وله من قصيدة حسينية:
فيا بضعة من فؤادِ النبيِّ *** بالطفِّ أضحتْ كثيباً مهيلا
ويا كبداً من فؤادِ البتول *** بالطفِّ شلّت فأضحتْ أكيلا
قُتلتَ فأبكيتَ عينَ الرسول *** وأبكيتَ من رحمةٍ جبرئيلا
تميم بن الخليفة المعز الفاطمي: (337ــــ374هـ/948ــــ984م)
وعبقت النفحات الولائية من بيت الخلافة الفاطمية، فهذا شاعر من البيت الفاطمي يصدح برثاء الحسين (عليه السلام) وهو الأمير أبو علي تميم بن الخليفة المعز لدين الله معد بن إسماعيل الفاطمي الذي كتب في الحسين الكثير من القصائد، منها من قصيدة تبلغ (50) بيتا:
ثوت لي أسلافٌ كرامٌ بكربلا *** همُ لثغورِ المسلمينَ سَدادُ
أصابتهمُ من عبدِ شمسٍ عداوةٌ *** وعاجلهمْ بالناكثينَ حصادُ
فكيفَ يلذُّ العيشُ عفواً وقد سطا *** وجارَ على آلِ النبيِّ زيادُ
وقتلِهمُ بغياً عُبَيد وكادهم *** يزيدٌ بأنواعِ الشقاقِ فبادوا
بثاراتِ بدرٍ قاتلوهم ومكةٍ *** وكادوهم والحقُ ليسَ يُكادُ
فحُكّمتِ الأسيافُ فيهم وسلّطتْ *** عليهم رماحٌ للنفاقِ حِدادُ
فكم كربةٍ في كربلاء شديدة *** دهاهم بها للناكثينَ كِيادُ
ويقول في نفس القصيدة:
وكم بأعالي كربلا من حفائرٍ *** بها جثثُ الأبرارِ ليس تُعادُ
بها من بني الزهراء كلَّ سميدعٍ *** جوادٍ إذا أعيا الأنامَ جوادُ
معفّرةٌ في ذلك التربِ منهم *** وجوهٌ بها كان الصباحُ يُفادُ
ابن جبير المصري: (٤٢٠/٤٨٧هـ)
وهذا شاعر وصفه السيد الأمين في أعيان الشيعة (ج١٥ص٢٦٢) بـ (شاعر آل محمد)، وهو شاعرٌ مجيد له الكثير من القصائد في أهل البيت أشهرها الكافية والتي تبلغ أكثر من مائة بيت يقول منها:
يا آلَ أحمدَ كم يُكابدُ فيكمُ *** كبدي خطوباً للقلوبِ نواكي
كبدي بكمْ مقروحةٌ ومدامعي *** مسفوحةٌ وجوى فؤادي ذاكي
وإذا ذكرتُ مصابكم قال الأسى *** لجفونيَ: اجتنبي لذيذَ كراكِ
وعندما يصل إلى رثاء الحسين (عليه السلام) فيها يقول:
وأبكي قتيلاً بالطفوفِ لأجلهِ *** بكتِ السماءُ دماً فحقَّ بُكاكِ
إن تبكهم في اليوم تلقهمُ غداً *** عيني بوجهٍ مسفرٍ ضحّاكِ
يا ربِّ فاجعلْ حبُّهم لي جُنَّة *** من موبقاتِ الظلمِ والإشراكِ
طلائع بن رزيك (الملك الصالح): (495ــــ556هـ/1102ـــ1160م)
كما غمر الولاء الحسيني الوزارة الفاطمية، فهذا الشاعر الوزير الملقّب بـ (الملك الصالح، وفارس المسلمين) طلايع بن رزّيك يسخّر شعره وشاعريته في سبيل قضية أهل البيت ونهضة الحسين المباركة يقول في إحدى مراثيه الحسينية وتبلغ (32) بيتاً:
شاعَ النفاقُ بكربلا *** فيهم وقالوا: نحنُ شيعه
هيهات ساءَ صنيعهم *** فيها وما عرفوا الصنيعه
يا فعلة جاؤوا بها *** في الغدرِ فاضحة شنيعه
خابَ الذي أضحى الحسين *** لطولِ شقوتهِ صريعه
أفذاكَ يرجو أن يكون *** محمدٌ أبداً شفيعه
عجباً لمغرورين ضيّعَ *** قومُهم بهم الوديعه
ويقول من قصيدة حسينية أخرى تبلغ (59) بيتاً:
كفى الذي دخلَ الإسلام إذ فتكتْ *** أيمانكم ببني الزهراءِ من خللِ
منعتمُ من لذيذِ الماءِ شاربَهم *** ظلماً وكم فيكمُ من شاربٍ ثملِ
أبكيهم بدموعٍ لو بها شربوا *** في كربلاء كفتهم سورة الغللِ
ويقول أيضاً من حسينية أخرى تبلغ (42) بيتاً:
وبي لوعةٌ لا يستقرُّ نزاعُها *** لها كلما جنّ الظلامُ جنونُ
إذا عنَّ لي تذكارُ سكانِ كربلا *** فما لفؤادي في الضلوعِ سكونُ
فإن أنا لم أحزنْ على إثرِ ذاهبٍ *** فإنِّي على آلِ الرسولِ حزينُ
ومن نفس القصيدة:
ألا كل رزءٍ بعد يومٍ بكربلا *** وبعد مصابِ ابن النبيِّ يهونُ
ثوى حوله من آلهِ خيرُ عصبةٍ *** يُطالبُ فيهم للطغاةِ ديونُ
يُذادونَ عن ماءِ الفراتِ وغيرهم *** يبيتُ بصرفِ الخمرِ وهو بطينُ
ومن قصيدة رثائية أخرى تبلغ (60) بيتاً:
في كربلاء ثوى ابن بنـــــــتِ رسولِ ربِّ العالمينا
قفْ بالضريحِ ونادهِ *** يا غاية المتوسِّلينا
يا عروة الدينِ المتينِ *** وبحر علمِ العارفينا
القاضي الجليس ت (561هـ)
وهذا شاعر وصفه المؤرخون بأنه: (من مقدمي شعراء مصر وكتّابهم وأوحد عصره في مصره نظماً ونثراً وترسّلاً وشعراً)، وهو القاضي الجليس أبو المعالي عبد العزيز بن الحسين بن الحباب الأغلبي السعدي التميمي، وقد زخر شعره بحب أهل البيت ومدحهم ورثائهم المبكي لا سيما في واقعة كربلاء فيقول في إحدى مراثيه:
لهفي لقتلى الطفِّ إذ *** خذلَ المصاحبُ والعشيرُ
وافاهمُ في كربلا *** يومٌ عبوسٌ قمطريرُ
دلفتْ لهم عصبُ الــــــضلالِ كأنَّما دُعيَ النفيرُ
عجباً لهم لم يلقهم *** من دونهم قدرٌ مُبيرُ
إيمورُ فوقَ الأرض فيضُ دمِ الحسينِ ولا تمورُ؟
أترى الجبال درتْ ولم تقذفهمُ منها صخورُ؟
أم كيفَ إذ منعوه وِردَ الماءِ لم تغُرِ البحورُ؟
ويقول من طفِّية أخرى:
غصبتمْ وليَّ الحقِّ مهجةَ نفسهِ *** وكان لكمْ غصبُ الإمامة مُقنعا
*عن وكالة أنباء العتبات المقدسة