
طلال حسن : جنجل وجناجل (حكايات شعبية)
إشارة:
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ بنشر كتاب جديد للمبدع الكبير “طلال حسن” عنوانه “جنجل جناجل” وهو مجموعة من الحكايات الشعبية العراقية ضمن مشروعه المهم عن أدب الأطفال. وقد نشرت أسرة الموقع العديد من الكتب للمبدع سابقاً في غزارة صحّية باهرة لهذه القامة المبدعة الكبيرة التي تُعد ثروة من ثروات وطننا. نهنىء الأستاذ طلال حسن على هذا المنجز الجديد ونتمنى له الصحة الدائمة والإبداع المتجدّد.
حكت لي أمي ..
ـ إنني رأيتُ الدامية ، رأيتها بعينيّ هاتين ، اللتين ” سيأكلهما الدود غداً ” .
هذا ما قالته لي أمي ، وطبعاً صدقتها ، صدقتُ أنها رأت الدامية ، ومن منا لا يصدق أمه ، وخاصة إذا كان في حدود الخامسة من العمر ؟
لا أذكر بالضبط ، ربما كانت الليلة شتائية ، وبيني وبين أمي منقل مليء بجمر الفحم الدافىء ، عندما روت لي ما رأته ، ولابد أنني فتحتُ عينيّ على سعتهما ، وقلبي يخفق رعباً ، وكيف لا وأمي تتحدث عن الدامية ، التي رأتها بعينيها ، اللتين ” سيأكلهما الدود غداً ” ؟
كان بيت أهلي ، يقع في حي الميدان بالموصل ، القريب من نهر دجلة ، هكذا بدأت أمي حكايتها ، وكان لي صديقة مسيحية في عمري ، ألعب معها أحياناً في بيتهم ، الذي يطل على النهر مباشرة .
وذات يوم ، كنتُ ألعب وصديقتي ، في غرفة بالطابق الثاني من البيت ، تطل إحدى نافذتيها على النهر ، وتطل الأخرى على سلم حجري ، ينحدر إلى شاطىء النهر مباشرة .
ولسبب ما نهضتُ ، ونظرت عبر النافذة ، وسرعان ما تراجعتُ ، وأنا أشهق خائفة ، فأسرعت صديقتي إليّ ، قائلة : لا تخافي ، ما الأمر ؟
وأشرت إلى النافذة ، بأصابع مرتعشة ، وقلتُ بصوت يشي بخوفي : أنظري .
ونظرت صديقتي ، حيثُ أشرتً ، ثم ابتسمت ، وقالت : لا تخافي ، هذه الدامية .
وبدل أن ” لا أخاف ” ازداد خوفي ، وشهقت قائلة : الدامية !
وقالت صديقتي : نحن نراها هنا ، بين حين وآخر ، ويكفي أن ننقر على النافذة ، لتهبّ من مكانها ، وتلوذ بالفرار ، تعالي انظري .
وتقدمت من النافذة ، وقلبي مازال يخفق خوفاً ، ودققتُ النظر فيها جيداً هذه المرة ، يا للهول ، كانت امرأة ضخمة الجسم ، عارية ، شعرها الأسود الكث يغطي صدرها ، و ..
ونقرت صديقتي بأحد أصابعها على زجاج النافذة ، فهبت الدامية من مكانها مذعورة ، وألقت نفسها في الماء ، وسرعان ما اختفت في أعماق النهر .
هذه هي الدامية ، التي تقول أمي أنها رأتها بعينيها ، عندما كانت صغيرة ، وقد صدقتُ أمي ، وشعرت بالخوف من الدامية ، وتمنيتُ بيني وبين نفسي ، أن لا أراها كما رأتها أمي في صغرها .
وتحققت أمنيتي ، إذ لم أرَ الدامية ، وبالتأكيد لن أراها ، فهي لم ولن تكون موجودة إلا في حكايات الأطفال ، التي ترويها الجدات ، في ليالي الشتاء الباردة ، ولا أعتقد أن أحد الأطفال ، يمكن أن يصدق بوجودها الآن ، كما كان بعضنا يصدق ذلك في طفولته .
أبو داهي والدامية
أبو داهي رجل في حوالي الأربعين ، شهم ، شجاع ، طيب القلب ، لا يتردد في غوث الآخرين ونجدتهم ، ولاسيما الأطفال والنساء ، مهما كانت الظروف ، وهذا للأسف ما أوقعه في حبائل الدامية .
يعمل أبو داهي ، وخاصة في أشهر الصيف ، في نقل الرقي والخيار والبطيخ ، من القرى الشمالية القريبة ، إلى مدينة الموصل ، بواسطة طوف ” كلك ” ينحدر به مع التيار ، في نهر دجلة .
وذات يوم ، قبيل غروب الشمس ، كان ينحدر بطوفه مع النهر ، في محاذاة الغابة ، فتناهى إليه من بين الأشجار ، صوت امرأة تستغيث به قائلة : دخيلك ، يا أبا داهي ، يا أبا الشهامة والغيرة ، إنني امرأة وحيدة ، أغثني .. أغثني .
ولأن أبا داهي ” شهم ، وشجاع ، وأبو غيرة ” ركن طوفه عند الشاطىء ، القريب من الغابة ، وأسرع إلى مصدر الصوت ، وإذا هو وجهاً لوجه مع امرأة ضخمة ، منفوشة الشعر ، شبه عارية ، ترى من تكون ، هذه ليست امرأة عادية ، يا للويل إنها ..الدامية .
واتسعت عيناه رعباً ، وخفق قلبه كعصفور تحاصره أفعى ، فابتسمت الدامية ، ومدت يديها نحوه ، وهي تقول : أهلاً بقسمتي ونصيبي ، أهلاً بزوجي .
وتراجع أبو داهي قليلاً ، وقال : لكن لي زوجة ، وهي تنتظرني في البيت مع الأولاد .
وتقدمت الدامية منه ، ويداها مازالتا ممدودتين نحوه ، وقالت : زوجتك الأولى في البيت ، وأنا زوجتك الثانية ، هنا في الغابة .
وهمّ أبو داهي أن يستدير ، ويلوذ بالفرار ، لكنه فجأة وجد نفسه أسير ذراعين قويين كأنهما الفولاذ ، وسرعان ما طرحته الدامية على الأرض ، ولحست أسفل قدميه بلسانها الخشن ، حتى صار لا يستطيع الوقوف ، أو الهرب من الغابة .
ورغماً عنه ، استسلم أبو داهي ” للقسمة والنصيب ” ، وصارت الدامية زوجته الثانية ، تسهر عليه ، وترعاه ليل نهار ، وتوفر له كلّ ما يحتاجه من طعام وشراب ، لكنه ظلّ يحن إلى بيته وأولاده وزوجته وأهله وأصحابه وجيرانه ، وراح يتحين الفرص للافلات من الدامية ، والهرب إلى الموصل .
وذات ليلة مقمرة ، تمددت الدامية كالعادة إلى جانب ” ابو داهي ” ، وسرعان ما استغرقت في نوم عميق ، وراحت تشخر بصوت مرتفع ، واغتنم أبو داهي هذه الفرصة ، فزحف ببطء إلى الطوف ، وحلّ الحبل الذي يربطه بالشاطىء ، ثم انطلق به بسرعة ، منحدراً مع التيار إلى الموصل .
وأفاقت الدامية ، وكأن قلبها أعلمها بهربه ، فجن جنونها ، وبحثت عنه فيما حولها ، دون جدوى ، وعلى ضوء القمر ، رأت الطوف من بعيد ، ينحدر وسط النهر مع التيار ، وفي مقدمته يقف أبو داهي .
وعلى الفور ، راحت تركض على امتداد النهر ، وهي تصيح بصوت مذبوح : أبو داهي ، زوجي ، تمهل ، لا لاتتركني هنا وحيدة ، تعال ، إنني لا أحتمل الحياة بعيداً عنكَ .
لم يتمهل أبو داهي ، وواصل انحداره مع التيار بعيداً عنها ، فتوقفت غاضبة ، وراحت تهدد قائلة : لن تفلت مني ، أنت قسمتي ونصيبي ، وسأعيدك لتعيش معي في الغابة ، مهما كلفني الأمر .
لم ينسَ أبو داهي هذه التجربة ، التي عاشها في الغابة مع الدامية ، وظلّ طول حياته بعيداً عن الطوف والنهر ، خشية أن تفاجئه الدامية ، في مكان ما ، وتخطفه ليعيش معها في الغابة .