د. ضياء خضير : بنية المفارقة في شعر سلمان داود محمد (ملف/47)

إشارة :
سلمان داود محمّد – وببساطة شديدة جدا ولكن معقّدة – هو “عاهة إبليس” في المشهد الشعري الراهن ؛ العراقي – وحتى العربي لو هيّأ له الأخوة النقّاد “الأعدقاء” فرص الانتشار. وكمحاولة في إشاعة فهم بصمة روحه الشعرية المُميزة الفذّة التي طبعها على خارطة الشعر ، ارتأت أسرة موقع الناقد العراقي الاحتفاء به عبر هذا الملف الذي تدعو الأحبة الكتاب والقرّاء إلى إغنائه بالدراسات والمقالات والصور والوثائق.. تحية لسلمان داود محمد.

بنية المفارقة في شعر سلمان داود محمد
د . ضياء خضير

سلمان دَاوُد محمد واحد من الشعراء العراقيين المعاصرين الأكثر جلباً للإنتباه في المشهد الشعري الراهن داخل العراق. ومشروعه الشعري قائم أساساً على المفارقة وتضاد المعنى في الألفاظ المفردة والسياقات العامة للمقطوعة القصيرة أو القصيدة الطويلة، حتى إذا كانت قسوة المنطق العقلي المستند الى المقارنة والموازنة والسخرية السوداء عدة الشّاعر الأولى، ولا أقول الوحيد في هذا الشعر.
وقصائده مخاتلة تدخل من الباب الخلفي للسياسة وتقيم وجودها دفعة واحدة على المعارضات الإجتماعية والسياسية والوجودية المؤلمة في حياة الموجود ووجوده ضمن الشروط الخاصة والعامة لهذا الوجود والموجود.
وهي اذ تعي هذه الشروط وتشعر بوخزها اليومي لا تملك غير الكلمات تبعثرها هنا وهناك للتعبير عن تراب نقي ومعدن نبيل تم عجنه وسحنه في عمق الروح وتوافقات دقات القلب المرتبكة نفسها.
وفي دخيلة كل هذه القصائد التي تتفجر فيها العواطف المعقلنة والنغمات المكتومة إصرار على التعبير عن واقع شخصي فيه من الخصوصية قدر ما فيه من نقاط تماس مع أشياء وظواهر وذوات اجتماعية أخرى.
ولكن إذا كان هذا هو شأن الشعر دائماً فانه يمكن القول إن الشاعر هنا يمتلك بصيرة نافذة ووعياً واستقامة أخلاقية تجعله، شأن الفلاسفة والمفكرين وليس الشعراء وحدهم، يُدرك بعض الحقائق اليومية والكونية بطريقة أكثر حدة ووضوحاً.
ومن شأن ذلك أن يجهّز النص بطاقة فكرية وبطانة دلالية إضافية، ولكنه قد يُفقد هذا النصَ شيئاً من الألق والخفة المطلوبن في الشعر، على الرغم من كل الفذلكات اللغوية والإنزياحات الدلالية المرصودة.
وهو شعر له قاعدة واقعية ثقيلة ينطلق منها ويعود إليها رغم جنونه، وابتكاراته ذات الطبيعة الكلامية المرصودة، واندفاعاته الخيالية المحسوبة، وتركيباته اللغوية الغريبة. وهي تركيبات ذات طبيعة مفاجئة وجارحة غالباً، وتسلك طريقاً لولبية قومها الألم والمتعة أو الإستمتاع بهذا الألم من ناحية، وعبثية الصورة التي قد تكون متوحشة وهي تحاول تأكيد وجهة النظر وتعميق المفارقة التي تتكون عادة مما يبدو أنه صور لغوية تخطر على البال للوهلة الأولى، وتنبت هكذا داخل النص مثل أزهار غريبة، من ناحية أخرى.
صور قصيدة النثر النافرة أو الناتئة هذه تترافق مع ما أسميناه (متعة) خفية تتولد عادة من القدرة على تمثيل مشاهد المأساة بعد تمثُّلها ورؤيتها على نطاق واسع بنفس الطريقة التي تحدث فيها الفيلسوف الألماني نيتشة عن المتعة التي وجدها حاضرة في التراجديا الإغريقية في كتابه المعروف (مولد التراجيديا). والشاعر يقول إنني ” أتماثل للغبطة حين تزدهر الإشكالات”!(الأعمال الشعرية، دار ميزابتوميا، بغداد – 1 ص 12) وهو في قصيدته (سأم مبتهج) يتحدث عن (فوز ضرير وشجاعة مضحكة مثل الرذائل) ص 17.
ومجموعته الشعرية الصادرة ببغداد عام 2007 تحت عنوان (ازدهارات المفعول به) توحي، بحد ذاتها، بهذا النمط من الحياة القائمة على محور التناقضات. (فالمفعول به) وليس (الفاعل) هو الذي يواجه هذه (الازدهارات) ويعاني من فداحاتها.
وحين يكون الشاعر نفسه هكذا موضوعاً لشعره تبدأ الأشياء و تنتهي عند عتبة بابه، تختفي العلاقة عنده بين الذاتي والموضوعي، ولا يعود ثمة سؤال عن ضرورة وجود واقع آخر غير ذلك الذي يخرج من رأسه ويدخل قفص القصيدة بهذه الطريقة المخصوصة..تلك التي يكون الوجود معلقاً بكامله فيها على قرن كلمة خرجت من زحام معجم الحياة اليومية ووساختها وهي تحمل آثار تعب الشاعر وعرقه وهو يحاول أن يخلصها مما ألحقه الآخرون بها من أذى ومشقة.
هذه الكلمة التي خرجت من قلب الحارات الشعبية والشوارع الخلفية وهي تحمل روحها ورائحتها هي ما يحاول هذا الشاعر أن يقدمه في قصيدته. وهي تبدو بهذا الوضع، وعلى نحو ما، قصيدة (شعبية) نابعة من أعماق هذه الحارات ومعبرة عنها، تتنكر لمواضعات اللغة الفصيحة أو المتفاصحة وما تنطوي عليه من فوارق طبقية واجتماعية، من دون أن تكون هي نفسها قصيدة شعبية بالمعنى المبتذل للكلمة.
لقد اعتاد الشاعر أن يتلقى هذه الكلمة.. يدجنها ويديم الألفة معها قبل أن يشحنها بخزين فكري وعاطفي آخر.
إنه شعر يصور الواقع بصورة منافية للواقع، ويبعث على التفكير بأن محاكاة الأدب للواقع تبدو كما لو كانت في هذا الشعر تهديداً أو سخرية مؤذية من الطريقة المتبعة في هذه المحاكاة. وهو، على صعيد علاقاته اللفظية، يشبه ما يسميه ريفاتير بـ (اللانحوية) التي يتم فيها “النقل عندما تغير العلامة معناها إلى معنى آخر، أي عندما تنوب كلمة عن كلمة أخرى كما يحدث في الإستعارة والكناية، أو في حالة الإلتباس أو التناقض أو اللامعنى. أما إبداع المعنى فيتم عندما يتكون في النص مبدأ تنظيمي يشكل مجموعة من علامات مؤلفة من وحدات لغوية قد لا تحمل معنى من سياق آخر كالطباق والإيقاع والمزاوجة”. (مايكل ريفاتير، سميوطيقا الشعر، دلالة القصيدة، ترجمة فريال غزول، ضمن كتاب أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، دار التنوير للطباعة والنشر 2014 ، مصر)
وتنطوي المفارقة الخاصة بالسياق على نحو خاص على توتر وانشداد يتطلب انتباهاً مقابلاً، ذكاءً وفطنة لتبيّن التضادات والدلالات المتقابلة والمعاني المكشوفة والأخرى المضمرة. ولذلك فالشعر الذي ينطوي عليها يتجنب الميوعة العاطفية وتحليقات الخيال أو عدم انضباطه. إذ يفترض بمقدماتها أن تقوم على حجج وتعليلات منطقية حتى إذا كان ما ينتج عنها يقود إلى تناقض واستنتاج عبارة أو عبارات غير منطقية.
منطق الشاعر وعقلانيته الظاهرة يصطدمان بلامنطقية الواقع ولاعقلانيته، ولذلك فإن قصيدته تبدو كما لو كانت مكاناً حراً لوحدة المتناقضات. وهي متصلة بالعالم قدر انفصالها عنه. ومحاولته الدائمة فضح التآلف الكاذب للعبارة وعيش خبرة العالم بوعي زائف من شأنها أن تجعله يرى البشر والأشياء ويتحدث عن تجاربه معها من خلال صورها المجردة من اللحم والدم وما تبدو عليه في ضوء رؤيته الفكرية وخيالاته الخاصة التي تعمل على تظهير الصورة أو إبقائها على وضعها السالب.
والتفاصيل اليومية الخاصة بالحرب، مثلاً، وما يتصل بها من شؤون وشجون شخصية واجتماعية ونفسية وسياسية ضاغطة تؤلف جانباً مهماً من مجموعات الشاعر الأولى (غيوم أرضية) 1995 و(علامتي الفارقة) ١٩٩٦ (وازدهارا المفعول به)2007 ، وثيماتها المجللة بألوان رمادية، والمبللة بالدموع والأحزان الواقعة تحت ظلال رايات النصر وأناشيد الخلود والشهادة التي يتغنى بها الجميع، هي التي تتيح للمفارقة أن تتسيد الموقف وتلعب دور العلامة الأسلوبية الأكثر بروزاً في هذه المجموعات، باعتبارها المعبرة عن عمق الإنشطار والتشقق الذي تعاني منه الذات العراقية بصورتها المفردة والجماعية بسبب هذه الحرب وغيرها.
*
1-(سأم مبتهج)

” لأن الآلام هي الموت السري لنفسي
لأن الفضيلة لعنة نادرة
وموسيقيٌ يجادل الممات بالنشاز ..
لأن الحروب كوارث باهتة
وفوز ضرير..
لأن الأرض أمارة بالمعاصي
والوقت نبيٌ كذاب
لأن الخوف حيوان مسن
والشجاعة مضحكة مثل الرذائل
لأني أهتف باستياء سعيد
لا مجد للروح بلا حماقة
مجيدة ..
لأن الحقيقة سيئة كالأزدهار
يطهو القلب ودادي
ويطعم البهيمة..” ( الأعمال الشعرية ١، غيوم أرضية، ص17)

2- (إمضاء)

” أسوة بشؤون الغير
هدمت قناديلي وخبأت يقيني في قمر ميت
أمتثل :
لخراب مأهول بالندرة
لأوهام ابتكرتْ فقداني
للصوص عشرة اقتسموا الموروث بعدل أسود
لحنان لاصق
لتمثال علامته الفارقة (فأسي)
لضمير نيّء
أسوة بمقترباتي
رافقت غبائي كي أنسى
الصفر المضروب بـ (١)
يساوي
غداً…” ( غيوم أرضية ، 1/ ٢٥ )

هذه وغيرها من النماذج النصية المعروضة هنا دون عناية كبيرة بالإختيار هي ما نتحدث عنه ونرى فيه، على سبيل المثال لا الحصر، الجملة التي يخالف فيها الخبرُ مبتدأه، والصفةُ موصوفَها من الناحية الدلالية، وليس من الناحية النحوية منذ (السأم المبتهج) في عنوان المقطوعة الأولى، حتى (الصفر) الذي يساوي (غداً) لدى ضربه بـ 1 في المقطوعة الثانية، مروراً بالفضيلة التي هي (لعنة نادرة) والموسيقيُّ الذي (يجادل الممات بالنشاز) والـ (الفوز الضرير) والوقت الذي هو (نبيٌّ كذاب) والخوف الذي هو (حيوان كاسر) إلخ.. في المقطوعة الأولى، إلى (القمر الميت) و (الحنان اللاصق) و(الضمير النيّئ)، وغيرها من العبارات الوصفية الأخرى، في المقطوعة الثانية.
وهي عبارات وجمل وصفية يمكن القول إنها تشكل بصورها الناتئة هذه (مهيمنة) في مجمل هذا الشعر ، وليس في هذين النموذجين وحدهما. نقول ذلك على الرغم من كون الصفة من (التوابع) في اللغة العربية. فمطابقة هذه الصفة لموصوفها من الناحية النحوية لا يمنع من وجود هذا التخالف من الناحية الدلالية. غير أن ما يبدو انزياحاً جزئياً في مثل هذه العبارات المفردة يتخذ شكلاً أكثر تعقيداً في السياقات العامة التي تشمل المقطوعة كلها.
وفي قصيد (إمضاء) التي اقتطعنا منها النموذج السابق يرد هذا المقطع تحت الرقم 4:
“تزوّج حبٌ رابع
من امرأة في حب سادس
فاحتشدت في أول طفل
عشر ضحايا…”
فالمنطق المبني هنا على حسابات رياضية ملتبسة بسبب طبيعة الصفة له هدف وحيد هو ،كما قلنا، إظهار لامنطقية الواقع الذي تتحدث عنه المقطوعة ضمن سياقات اجتماعية معينة. فالنتائج تبدو عبثية لا معنى لها بصرف النظر عن الأرقام المقحمة في تكوين نسيجها.
وفي مقطوعة أخرى مثل هذه :

“الضبع قلم
واللبوة مبراة
ما زال الأسد ملك الغابة”

تتكرر غرابة هذه المعادلة المنطقية نفسها. أعني تلك التي نجد فيها ما يسميه المناطقة بالثالث المرفوع. أي القفز من المقدمة إلى النتيجة المقررة دون استيفاء الشروط اللازمة للجملة المنطقية. إذ يكفي أن يكون الضبع واللبوة موجودين في الغابة بهاتين الصفتين اللتين لا تمتان إلى موصوفهما بصلة ليكتسب الأسد في الجملة الموالية صفته المعروفة ملكاً للغابة.
ويمكن أن نجد مثل هذا القياس الفاسد على مستوى المنطق الصوري والفاعل على مستوى المنطق الشعري، في مقطوعات أخرى عديدة مثل هذه :
” في غفلة من بحر
تزوجت الوردة
من شراهة الأخطبوط
فتمخضت اللعبة عن:
نورس في مزاد”

وفعّالية هذا القياس أو صحته على مستوى الشعر تأتي من قدرته على استدعاء النظير في الواقع الإجتماعي الذي يمكن أن يشهد مفارقات مثل هذه، يكون فيها هذا (النورس) الموضوع في (مزاد) مقابلاً للطفل الذي يكون نتاجاً لزيجات غير متكافئة يقترن فيها رجل (أخطبوط) بامرأة تشبه (الوردة) في ما تمتلكه من جمال وشباب.
ونحن مضطرون لقول ذلك أو اقراحه كتفسير ممكن لمجمل هذه الصورة، على الرغم من أنه يمكن يذهب بشيء من جمال المقطوعة التي يؤلف الغموض جزءاً من تكوينها وتأثيرها غير القابل للتفسير بهذه الطريقة الحرفية في مخيلة القارئ.
ووجود مثل هذه المعادلات أو الأقيسة المنطقية الخاصة يظل في كل الأحوال أقلّ وضوحاً من مثل هذا النموذج:

” الوطن يجوع أيضاً
لذلك اخترعوا الشهداء” 1/ 34

فالشهداء يموتون من أجل الوطن كما هو شائع، أو يُأكلون من قبله لأنه يجوع أيضاً، راسماً بذلك علامة استفهام على مجمل صورة الشهادة والوطن والوطنية التي تستدعي موت هؤلاء البشر بدلاً من الحفاظ على حياتهم. وهكذا تحيل الأجزاء الخاصة بتركيب الجملة في هذا النوع من الشعر إلى سلسلة من القضايا والمفاهيم المنطقية الصورية التي يكون فيها الصدق مقابل الكذب والمقدمة الصحيحة مقابل نتيجة غير صحيحة أو مختلفة بطبيعتها. وكأن الشاعر يكرر هنا، وعلى نحو ما، ما كان يقوله البحتري:
كلفتُمُونا حدودَ منطقِكم والشعرُ يُغني عن صدقِه كذبُهْ
على أن يفهم من الكذب هنا ما يعادل الصدق أو يفوقه في القدرة على تشخيص الواقع وكشف المستور فيه. ولذلك فهو (كذب) دون الصدق في مطابقته للحقيقة، وفوقه في محاولته التعبير عنها.
دائماً يحدث في هذا الشعر (وكل شعر)، خطأ أو انزياح في ترتيب الألفاظ وعلاقتها ببعضها. وهو خطأ أو انزياح مقصود تقوم على أساسه شعرية النص وخروجه عن مألوف القول اللغوي. وهناك في الواقع أنواع من هذه الخروجات في قصيدة سلمان داود محمد، فـ (أهمس في جدول الضبط) في قوله:

“أهمس في جدول الضبط
– كن ناصعاً
ليندلق الضحى في قصعة الجنود..” 1/ 101
يختلف عن قوله :
” الحرب أختي
تطهو الرخام لأبنائها
وتنسى على شجر العائلة
صحوناً تتضور” ص100

فـ (جدول الضبط”) هذا يبدو مجرد غلط جرى فيه وضع لفظ (الضبط) المستخدم في لغة العسكر مكان لفظ (الضرب) المستخدم في لغة الحساب، في حين تبدو عبارة (الحرب أختي) نوعاً من التوكيد على تغيير العلاقات التي تتحول فيها الحرب المستمرة من سنوات من عدو مؤذ إلى صديق أو أخت لا غنى عنها. والتعديل الذي يجري هكذا على مفردات اللغة ليس بريئاً. فالمؤشر أو العلامة اللغوية يتأثر بهذا التعديل ويتخذ وضعاً دلالياً جديداً يدعو إلى التفكير والتأمل.
الشاعر يقول شيئاً ويريد شيئاً آخر ولذلك فإن بنية المعنى في هذه المفارقة تتطلب فهما يتجاوز الصور التقليدية من مجاز واستعارة وكناية وغير ذلك من مصطلحات بلاغية، على الرغم من أن الهدف يبقى واحداً من نقل العلامة اللغوية لمعناها أو تحريف هذا المعنى حتى إذا كان هذا المعنى خارج السياق.
وبعض هذه المقاطع الصغيرة تشبه في نظمها ونظامها الأسلوبي قصيدة (الهايكو) اليابانية:

“سماء خائنة
وطيور تنصاع.
في الأعشاش غفا
بيض
فاسد” 1/38

ثلاث جمل تبدو كما لو كانت كل واحدة منها تعاني من عزلة لسانية، جملتان في السطرين الأول والثاني، وجملة موزعة على ثلاثة أسطر وتمثل، ببيضها الفاسد في أعشاشه، النتيجة التي تترتب على وجود هذه الطيور المنصاعة تحت هذه السماء الخائنة في الجملتين الأولى والثانية.
وكأن هذه الجملة الأخيرة تمثل الخبر للجملة الإسمية الأولى والثانية المعطوفة عليها، خبر من الناحية الدلالية وليس النحوية، يضطر القارئ معه إلى التأويل الذي يشبه ما كان يقول به المعتزلة من تقسيم للكلام إلى عيان وخبر ، وما يتصل بذلك من عقل مضمّن بالدليل، ودليل مضمّن بالعقل. وكلاهما أصل في عملية الإستدلال التي لا يمكن الإنتهاء بها في عالم الشعر إلى قول فصل. فهل فساد بيض تلك الطيور ناتج عن هذه السماء الخائنة وانصياع الطيور تحت فضائها، أو أنه ناتج من شيء آخر لا علاقة له بهذه الطيور التي تركت أعشاشها وانصاعت تحت تلك السماء الخائنة؟
ثم من أين جاءت هذه الخيانة الملتبسة، وما أسبابها؟
وهل ثمة شيء آخر غير ما توحي به هذه السماء من وجود ظرف عام يشيع في الفضاء بكامله وتسيطر عليه رائحة الخيانة التي يشير انصياع الطيور وفساد البيض في أعشاشه تحتها إلى ما هو أكبر وأخطر من ذلك؟
تلك، كما قلنا، مجرد نماذج نرى فيها مدى الحاجة إلى قراءة تأويلية خاصة لبعض نصوص هذا الشاعر العراقي الذي ظهرت أعماله ببغداد في جزئين عام 2012 ، مع أن مشروعه الشعري ما زال نامياً ومتواصلاً وبعيداً عن الإكتمال. وهو ، بمنطقه الرمزي ونظام علاقاته اللغوية الخاصة، يقطع في بعض جوانبه مع التقليد الشعري السائد والقصيدة الحديثة نفسها.
شعر يحمل سمات المحنة ورائحة المكان المحلي ومفارقات الزمن الصعب، ويحاول بالفكرة غير المكتملة والخيال المرتبك أن يقول ما لا تقوله أشعار أخرى كثيرة. وهو إذ ينتقل بمفارقاته المستفزّة من موقع إلى آخر ، ومن صورة إلى صورة، يحاول أن يعثر على اللحظة الأولى والكلمة الغائبة والطريقة المناسبة للتعبير عما يبهضه ويثقل على وجدانه، واضعاً في كل هذا بصمته الشخصية الخاصة التي لا يكاد يشاركه أحد فيها.
شاعر يملك، كما ذكرنا، جناحين قويين للتحليق بعيداً، ولكن مداومة الطيران في تلك الأصقاع الداكنة وبتلك الطريقة ذاتها يمكن أن تثقل هذين الجناحين قليلاً وتجعلهما غير قادرين أحياناً على معانقة تلك السموات الشعرية البعيدة نفسها. فمدوامة التعبير بهذه الطريقة التي تبدو فيها القصيدة مدرعة بتكرار عدتها الأساسية القائمة على المناقضة والمناكفة والسخرية المستمرة، من شأنها أن توحي للقارئ بصعوبة تواصل المتابعة أو ضعف الرغبة فيها. غير أن قصائده أو مقطوعاته الصغيرة، سواء المنفردة أم المنتظمة في سياق قصيدة أطول تبدو، على العكس من ذلك، مختلفة، تحمل الجوهر الفرد للإبداع الذي ينطوي عليه مشروعه الشعري. فهي مكثفة، حادة، مليئة بأسلوبها البلاغي الخاص على مستوى العبارة أو اللفظة المفردة. وتلاؤم المفردة أو عدم تلاؤمها مع ما يجاورها أو يستدعي دلالتها في اللغة الفصحى أو الدارجة من مأثورات اجتماعية وأقوال جاهزة يهدف إلى إظهار غرابة تلك المأثورات وعدم قدرة الشاعر على قبولها بالرغم من خضوعه لمقتضياتها.
والكتابة التي تحرف اللغة والواقع من ورائها هكذا بشكل منهجي، من شأنها أن تثير تداعيات مقترنة غالباً بصور سلبية تدعو للتشاؤم ولا تدع مجالاً لإنفتاح النص الشعري بغير تلك الطريقة المغلّفة بالسخرية والمنطق الذي له هنا وظيفة واحدة، هي إظهار لامنطقية الواقع وغرابته.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *