ليث الصندوق : ألنظر من نافذة الغربة إلى الوطن في ( مسافة جرح ) ( * )

ألنظر من نافذة الغربة إلى الوطن
في ( مسافة جرح ) ( * )
ليث الصندوق
مسافة جرح هي المجموعة الشعرية الرابعة للشاعرة لهيب عبد الخالق ، والشاعرة فيها هي ذاتها في الثلاث السابقات صوتاً ولغة مع تباين في المواضيع والمعالجات هما بمثابة سلخ الجلد القديم الذي كان دافعاً للزهو والمفاخرة بجلد آخر مبقع بالجروح والكدمات . والفارق ما بين الجلدين هو فارق ما بين حال المقيم ، وحال المهاجر ، فالحالة الأولى استغرقت المجاميع الثلاث الأولى ، أما الإصدار الأخير الرابع هذا ، فهو إصدار مرحلة ما بعد الرحيل ، وضمن هذا الإطار تتداعى أحداث الماضي القريب والبعيد ، فمن الأولى تستحضر تجربة الألم ، ومن الثانية تستحضر تجربة الحنين ، والتجربتان تتنازعان الشاعرة الحائرة والمحبطة على مشارف الزمنين ، تنازع وحشين جائعين ، ولكنهما بالرغم من قساوتهما عبثاً تشوهان تجربة الشاعرة الأنثوية الراسخة ، وعبثاً تستبدلان قاموسها النسوي بقاموس ملتبس الهوية . والشاعرة تحقق بهذا مقولة الشعر النسوي ، ليس بالمعنى الأيدلوجي الخطابي المباشر الداعي إلى الحقوق المدنية والسياسية ، والتكافؤ في الفرص ، ورفض السلطة الأبوية ، ولكن بمعنى المرأة المعادل ، والضامن لتوازن طبيعي ضمن معادلة السِلب والإيجاب الجنسية عبر المجاهرة بمعاناتها ، وبأسرارها العاطفية كإنسانة ، وليس كقائدة إجتماعية ، فهي تُدرك أنها شاعرة قبل كل شيء ، تتمتع بإرادة ذاتية حرّة مستقلة ، وأن موقعها داخل العملية الإبداعية ، وليس خارجها ، ولعلّ لغتها أصدق معبر عن إيقاعية حياة المرأة ، وتجربتها الإبداعية أوضح دليل عليها ، وكلاهما غير معدّين لأدوار الميوعة أوالإغراء الأنثوي حسب النموذج البرجوازي ، بل أنهما هويتها الإنسانية القارة وغير القابلة للادعاء بحسب مقتضيات الحال . فحتى في أعصى لحظات الألم تتجلى الشاعرة بهويتها الجندرية ، وتصرّ على المواجهة بها وليس بخطاب مقحم من خارجها ، وكأنها متيقنة من أنها الأدوات الإنسانية الوحيدة التي تحقق بها ذاتها ، وتكفل بها تحقيق التكافؤ .
تنتمي المجموعة إلى خط الشاعرة التقليدي الذي نشأت عليه ، ولم تشأ في مجاميعها السابقات الحياد عنه ، أي شعر التفعيلة ، مع ميل لاستعارة لغة الشعر التقليدي ومفرداته وإيقاعاته وأوزانه وتفخيماته الصوتية ومبالغاته التصويرية كما في قصيدة ( سفر الخروج ) :
( شُدّي جراحك
واخرجي
تلك الأساورُ لن تعودَ مباهجا ) ( ص / 27 )
ولكنها ليست مبالغة في ادّعاء البطولة على طريقة الفتوحات الصوتية ، وما أكثرها في أشعار القوم ، وإنما هي مبالغة في الإتجاه المعاكس حيث الدعوة لمواجهة الكارثة بالهروب منها إلى ما هو أسوأ منها ، أي إلى التيه .
وعدا هذا النزوع إلى الإيقاعية فالمجموعة لا تخلو من محاولات حذرة ومتوجسة ، ربما هي الأولى للشاعرة باتجاه قصيدة النثر ، وقد جاء الإستهلال بأولى تلك المحاولات تحت لافتة الإهداء ، أما المحاولات الأخرى فقد أرجئت إلى القسم الأخير من المجموعة ، وربما تكون دلالة الإرجاء اعتزاز الشاعرة بالمتقدمات التي تمثل اتجاه البداية القار ، أكثر من اعتزازها بالمتأخرات التي تمثل الجديد الذي لم يستقرّ بعد . وبالعموم فأنه من اليسير ملاحظة الفارق الصوتي والبلاغي ما بين قصائد النثر ، وقصائد التفعيلة ، فقد جاءت الأولى حافلة بالصور الذهنية ، والمعالجات العقلية ، واللغة الخطابية المباشرة والخالية من التعقيدات الصياغية ، والمفردات المندرسة ، مع اشتراك كلا النمطين في ذات المواضيع .
هذا ، وقد اتسعت المجموعة لتسع وعشرين قصيدة بضمنها قصيدة الإهداء ، والتي استنبتت فيها الشاعرة العلامات المحورية الأولى لكوارث الحروب على الإنسان والطبيعة ، والتي ستنمو فيما بعد وتتحول إلى نُويّات لكل قصائد المجموعة الأخرى ، وهذا ما سنأتي عليه لاحقاً .
تتفرع عن المجموعة ثلاثة أبواب معنونة :
ألباب الأول ( أسفار ) :
وقد ضمّ إثنتي عشرة قصيدة ، والأسفار جمع سَفر ( بالفتح ) وليس سِفر ( بالكسر ) والعنوان يدلّ على مضامين القصائد فهي في الغالب توقيع على ذكريات الغربة والرحيل ، وتفرّق شمل الأهل والأحباب ، ولا تجد الشاعرة من غضاضة للتعبير عن تلك المعاني باستعادة قاموس التغرّب والرحيل القديمين ، حيث القوافل الضاربة أبداً في الصحارى ، والبكاء على الأطلال ، ولكن بعد تطويع الماضي للحاضر ، واستبدال الضرورات القديمة بضرورات الرحيل الجديدة :
( مرّ السراط على رمادي
وانطوت في إثره كلّ القوافل
قامرت : ظلاً بظلّ
ليس غير الطلّ يمكن أن يكون
بديل كلّ جحيمنا . ) ( ص / 20 )
ألباب الثاني ( نبوع الروح ) :
وقد ضمّ ست عشرة قصيدة ، واختيار المصدر غير الشائع الإستعمال للفعل ( نبع ) عنواناً لهذا الباب هو إحدى سمات الشاعرة في مقاربة الغريب والمندثر ، وتلك المقاربة رافقت الشاعرة منذ بداياتها ، وما زالت تلازمها لحد الآن . وإن كان عنوان الباب يوحي بأن قصائده تندرج ضمن مقولة عودة الروح ، وهذا فعلاً ما درجت عليه بعض القصائد خصوصاً ذات النفس الرومانسي منها ، فالشاعرة تريد تحويل تجربة الحب حتى في نموذجها المخفق إلى قوة هي فيها – وليس الآخر – المحرّك والدافع ، ما دامت هي التي تتحكم بسرّ توهجها من داخلها ، ولا تستجديه هبة من الخارج . هذا من الناحية الدلالية ، أما من الناحية اللغوية ، فقد عبّرت الشاعرة عن تفرّد قوتها الروحية من خلال تفرّد صوتها المهيمن والوحيد بفضاء القصيدة :
( ما زال في جسدي
مجامر
لم تمت . ) ( ص / 76 )
إلا أن العنونة قد تخدع أحياناً فتقودنا إلى عكس ما تُلمح أو تشير إليه ، فتنعكس عتمة الخارج على صفحة الروح ، فتضطرها بعد نهوضها إلى الإنكفاء ، والعودة لكبوتها الأولى من جديد ، تقلب صفحات ذكريات الرحيل التي ظننا بأن ( نبوع الروح ) قد طواها إلى الأبد ، والملاحظ أن العودة إلى الإنكفاء لذكريات الرحيل هو ليس ردّة فعل لفعل خارجي قاهر يماثله في القسوة والإيلام ، بل هو ردة فعل لفعل داخلي يتمثل بالإخفاق في تجربة الحب . وحين تُستدعى ذكريات الرحيل كردة فعل في الحالين ، أو في الإحتمالين اللذين ليس هناك من احتمال ثالث آخر سواهما كما يتبدى ذلك في الكثير من قصائد هذا الباب ، وكذلك في قصائد الباب السابق عليه ( أسفار ) بحسب ما بينا آنفاً ، فهذا يعني أن الرحيل خرج من حدود الذكريات / الماضي ليعيد تركيب بنية الحاضر ، ويردّ إلى مسبباته إخفاقات كلا الزمنين :
( كنتُ أعشق نزوة النسرين
حين تطلّ من شغف الليالي
غير أني لم أجد
في شبوة الليل الأخيرة
غير أوتار يمزقها الرحيل . ) ( ص / 96 )
ألباب الثالث :
وهو بعنوان ( درّ منثور ) واحتوى على عشر قصائد ، وربما يُذكّر عنوان الباب بالمرحلة الرومانتيكية من الشعرية اللبنانية ، ولكنه مجرد إيحاء شكلي لا يُبنى عليه ، فليس هناك من رابط بين نثير النوعين من الدر ، فدرّ الشاعرة المنثور بالرغم من احتوائه الكثير من البوح الرومانسي ، إلا أنه بوح مجروح ومعذب ليس بصدود المحب وتمنعه فحسب ، بل بفعل الكوارث التي أبعدت الأحبة وشردتهم في أصقاع الأرض ، فهو خلاف درّ الدعة والرخاء اللبنانيين الدائمين ، استعادة لذكريات الدعة والرخاء العراقيين الزائلين . وهذا الباب ضمّ على خلاف البابين السابقين ، ولآول مرة ، تجارب الشاعرة الجديدة في قصائد النثر .
وعوداً إلى الغلاف الأول ، فالمجموعة مطوقة بدءاً من العنونة بسياجين ، الأول خارجي تمثله مفردة ( مسافة ) والثاني داخلي ( جرح ) ، وكلا السياجين يحتملان الكثير من التأويلات ، فبالرغم من ورودهما في سياق غزلي ، إلا أنه غزل موعود بكارثة آتية تلوح نذرها عن بعيد ( على التل ) تدليلاً على الفاصل المكاني المعبر عنه بالارتفاع ما بين موقع اندلاع الحرب / الأعلى ، وبين الشاعرة / المتكلم التي ترقب الشرارة الأولى للحرب من مسافة فاصلة ، ولكنها في كل الأحوال ليست مسافة آمنة في ضوء توقع الشاعرة وصول الشرارة إليها خلال ( بعض دقائق لم تندمل ) :
( … حرب تلوح على التلّ
أنت الذي كنت تورق فيها
سجائرك المشتهاة . ( ص / 61 )
وبالرغم من أن مفردة ( المشتهاة ) جاءت صفة للسكائر ، وليست للمدخن ، إلا أنها القت الكثير من معناها عليه ، إضافة إلى أنها سمحت بتأويل طبيعة العلاقة بين الطرفين ألمتكلم والمخاطب وذلك بتوسيع أفق المعنى ليصبح حلماً ، إلا أن ذلك الحلم يظل متأرجحاً ومعرضاً للتقويض في ضوء نذر الحرب القادمة التي حصرت الحلم ما بين تهديدين من جنسين مختلفين ، الأول حسي / الرصاص ، والثاني وجداني / الهواجس ، ولكنهما معاً يحلان بصيغة ضوئية واحدة هي الإيماض بالرغم من الإختلاف الطفيف في اشتقاق تلك الصيغة لغوياً ما بين الوميض للرصاص ، وبين الومض للهواجس :
( ذلك الحلم المتأرجح
بين وميض الرصاص
وومض الهواجس ) ( ص / 62 )
وعلى مقربة من هذا الجانب الإنساني تتبدّى علاقة الإمومة أوثق اتصالاً بجرح العنونة وهي تخوض تجربة الرحيل والافتراق ، فالأم هي في الشعر ، بل في الأدب عموماً رمز لطيف واسع من المرموزات ، ولا تشذ الشاعرة عن ذلك حين تتخذ من الأم ، أو من الأمهات ( بصيغة الجمع ) رمزاً للوطن ، وتعني المرموز الأخص ( بغداد ) :
( أتعلمين بأنّ أرضك
مثل كلّ الأمهات . ( ص / 46 )
بيد أن هذا من النادر لدى الشاعرة ، فهي في الغالب تتناول الأم كما هي في الظاهر ، بعلاقاتها الحميمة وبمركزيتها الإجتماعية والأسرية الجامعة لشتات الأبناء من دون ربط دلالاتها بأية مدلولات من خارجها ، حسبها أنها الأم ، وهذا يكفي ، ويُغني . وعلاقة الشاعرة بأمها تستبطن علاقة الجنين بالرحم ، فهما ( الشاعرة وأمها ) قلما يفترقان ، حتى وهما معاً يخوضان تجربة الرحيل والغربة . وإن كان صوت الأم محتجباً دوماً في قصائدها إلا أن الشاعرة تستنطق صوت الأم المكتوم وألمها المكبوت من خلال ما يفيض على ضفتي صمتها من دموع . ولعل جعل الدموع طرفاً في مثلث ضلعاه الآخران الليل والصلاة هي محاولة لجمع الأقران المتفرقين في هيكل واحد متراص من أجل تحرير الدموع من أسرها التاريخي في سجن الحزن النسوي من جهة ، واستثمار هدوء الليل لإفراغ كل ما في خزانات الروح من الألم من جهة ثانية ، وإضفاء صفة القداسة على الدموع من جهة ثالثة ، وهي صفة تليق بها ما دامت هي دموع الأمهات :
( في طرف الليل
الملم ما علق من دموع أمي
في طقوس الصلاة . ( ص / 123 )
ولربما تتاح للأم فرصة نادرة لإسماع صوتها من خلال إدغامه بصوت الشاعرة ، فالصوت الجماعي في قصيدة ( غيبة ) معبراً عنه بضمير المتكلم بصيغة الجمع هو صوت اُلإثنين ، والخوف من الظلام الآتي هو خوفهما المشترك ، وحيرة البحث عن ملاذ آمن بعد ضياع الوطن هي حيرتهما معاً ، لا شيء في القصيدة للشاعرة وحدها سوى الإستهلال ( المقبوس السابق ) ، وعداه ملك مشترك لكليهما . بل حتى الإستهلال الذي جاء بضمير المتكلم المفرد هو رصد المتكلم لحركة الآخر الغائب / الأم استعداداً لأدائها الدور المشترك الأخير ، وهو عدا الدورين السابقين ( دور الخائف ، ودور المحتار ) دور الخاسر الذي ضاع من بين يديه الوطن :
( نهرول مثقلين
إلى آخر قطرة ضوء
كي لا يبتلعنا الظلام
نحمل أسرارنا على ظهورنا
كحدبة مقيتة تنزلق منا
كما انزلق الوطن من بين أيدينا
وغاب . ( ص / 123 )
وبتخطي سياجي العنونة نكون في مواجهة الإهداء ، والإهداء ليس مجرد نص مصاحب يؤطر الفئة التي تتوجه إليها المجموعة ، أو تتقصّدها ، أو تُهدى إليها ، بل هو بوابة الدخول الرئيسة إلى كلّ قصائد المجموعة ، وعبرها تُختزل معالم الرؤية الشاملة ، ويُلمّح إلى مقولاتها بإشارات لا تدلّ ، ولكنها تُعين على الإستدلال . ولأن الإهداء بهذا المعنى يشكّل أحد ركائز الدلالة ، لذلك عمدت الشاعرة إلى صياغته كقصيدة نثر ، وبلغة أقرب إلى لغة المنشور أو البيان منه إلى لغة الإهداءات النمطية التي تبدأ عادة بحرف الجر ( إلى ) ثمّ تعقبه أسماء أو صفات المهدى إليهم . ولكنه ليس منشور الذين يقودون المعارك ويستبقون نتائجها ، فيعلنون أنتصارهم ، وهم قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة ، ولكنه منشور فاضح للجانب المخفي من المعارك ، حيث يوارى الضحايا بصمت توخياً لتلافي الضجيج .
والقصيدة / الإهداء على قصرها هي بمثابة الصورة الإشعاعية الكاشفة لباطن القصائد الأخرى ، وأسرارها العميقة ، وقد جاء تزمين القصيدة موحياً ، وصالحاً لاستقبال اللقطات التفصيلية لمشهد الخراب ، فالغروب يمثل الساعات الأخيرة من عمر شمس النهار المذبوحة على مشارف الليل . وتحت ستارة الشفق المصبوغة بدماء الشمس المذبوحة مجازاً ترصد الشاعرة تفاصيل الصورة الأرضية التي هي تجلٍ واقعيّ لانعكاس مشهد الشمس المذبوحة في الأعلى . وكلّ لقطة فرعية من الصورة الأعم منسوبة إلى فاعل نحوي بيّن هو من الناحية الدلالية في موقع الخضوع لتأثيرات فاعل دلالي مستتر آخر هو الخراب ، باستثناء المعاول التي هي أبرز رموز الخراب :
– فدجلة : ينوء بجثث الراحلين
– والفقراء : يبحثون عن مأمن / من عاصفة الموت الآتي
– والنخيل : يقضّ مضاجعها الجدب
– والنساء : بانتظار الرطب المجبول بدماء الصغار
– والمعاول – الرمز :
( تعزف المعاول أنغام الرحيل الأخير
وتُهيّء حفرة كبيرة
لفجر ولد ميتاً )
وفي اللقطة الأخيرة مفارقة زمنية ، فالولادة التي جاء فعلها بصيغة الماضي ، هي لفجر لا يصحّ له هذا الفعل لأنه ( لم يولد بعد ) ، بدليل أن فعل التهيئة ، أو تهيئة حفرة الدفن جاء بصيغة الفعل المضارع . وبما أن الفجر الآتي سيولد ميتاً ، فهذا يعني ان الغروب الذي يسبقه ، وهو الغروب ذاته الذي وفر للشاعرة فرصة التقاط تفاصيل مشهد الخراب سيكون بالتأكيد الغروب الأخير .
أية كارثة إذن تراها الشاعرة في فجر البلاد ، أو في فجر ختامها ما دام سيولد ميتاً ، ولذلك جاء ختام القصيدة متزامناً مع ولادة فجر الختام الميت . بيد أن غروبها السابق على فجر الختام منح الشاعرة فسحة زمنية مكنتها من تكرار جملة ( أو شبه جملة ) الإستهلال ( في ساعة الغروب ) ثلاث مرات ، مع إضافة مكانية لزمن الغروب في التكرار الأخير / الثالث ( في ساعة الغروب في بلادي ) لتأكيد موقعية المشهد المنقول ، وبهذه التكرارات تمّ تقطيع القصيدة افتراضياً إلى ثلاث مقاطع غير منفصلة عن بعضها ، كل مقطع منها تتقدمه الجملة المكررة إيذاناً بفتح أحد مشاهد الغروب الدموية .
هذا ، وقد وزعت الشاعرة مشهد الخراب بتفاصيله الفرعية المشار إليها آنفاً ، وإلى فاعليها النحويين على المقاطع الثلاثة بشكل تعاقبي بحيث تعقب كلّ جملة في المقطعين الأول والثاني حزمة ثنائية من تفاصيل المشهد ، يتصدرها فاعل نحوي / مفعول به دلالي ، بينما أعقبت جملة التكرار الأخيرة حزمة مفردة من المشهد تصدرها فاعل نحوي واحد هو في الوقت ذاته الفاعل الدلالي / المعاول باعتباره الفاعل المسؤول عن الخراب ، أو أحد ابرز رموزه :
ألمقطع الأول :
دجلة – ألفقراء
ألمقطع الثاني :
ألنخيل – ألنساء
ألمقطع الثالث :
ألمعاول
ومن الملاحظ أن واحداً من الفاعلين النحويين في كل من المقطع الأول والثاني ينتسب إلى الطبيعة بشقها المادي ( دجلة والنخيل ) ، بينما ينتسب الفاعلان النحويان الآخران إلى الطبيعة بشقها البشري ( ألفقراء والنساء ) . أما المقطع الثالث فقد خصص لفاعل نحوي واحد يتطابق دوره مع الفاعل الدلالي ، وبالتالي فالطبيعة بشموليتها هي هدف لفاعل تتلاقى فيه صفتي النحوية والدلالية معاً معبراً عنه بالمعاول / الرمز . مع ملاحظة أن كل مقطع مفترض ينتهي بخطاب يُنبيء بما هو أسوأ من الخراب ، أي بالموت ، سواء بصيغته الجلية التي لا تحتمل التأويل ، كما في ختام المقطع الأول :
( ويبحثون عن مأمن
من عاصفة الموت الآتي )
أو في ختام المقطع الثالث :
( وتُهيّء حفرة كبيرة
لفجر ولِد ميتاً ) ( ص / 5 )
أو بمجاز يحتمل التأويل ، ويتقصّده ، كما في ختام المقطع الثاني :
( تحتشد النساء
تحت الجريد المنخور بالرصاص
بانتظار الرطب المجبول بدماء الصغار ) ( ص / 5 )
وإذا ما شئنا اتخاذ قصيدة / الإهداء أساساً لتفكيك قصائد المجموعة ، سنجد بأن بذار خرابها منثور في كل القصائد الأخرى تقريباً ، باستثناء نتف قليلة من بعض القصائد الرومانسية ، ووفق ذلك يمكن تفسير نبوءات الإهداء بأنها خلاصة تحليل بنية الخراب في القصائد الأخرى .
إلا أن الخراب لم يطل الطبيعة بشقها الإنساني متمثلاً ب ( الحبيب والأم ) فحسب وكما أسلفنا ، بل قبل ذلك وبعده نال الخراب بمرموزاته المختلفة من الطبيعة المادية بكل عناصرها والتي اختصرتها الشاعرة ( بحسب قصيدة الإهداء ) برمزي الوطن الخالدين النهر والنخيل ، أي الماء والخضراء . أما بالنسبة للنهر فقد يأتي كإسم علم دجلة أو الفرات ، وقد يأتي مرّة كإسم جنس معرفة / النهر ، ومرة أخرى كإسم جنس نكرة / نهر ، وقد يأتي بعدة صيغ من صيغ التصغير مثل الغدير ( توهمت أني على سطح ذاك الغدير / أسير ( ص / 59 ) أو الجدول ( سوف أدور كالناعور / في ثوب الجداول . ( ص / 77 ) أو النبع ( أصفر نبع الصحارى . ص / 80 ) أو الساقية ( ينساب في شغف السواقي . ص / 94 ) أو النهيرات ( والنهيرات الأسيرة . ص / 96 ) . وأحياناً يأتي مضمراً وراء إحدى لوازمه مثل الجرف ( وحدي على جرف ينوء بما عليه . ص / 69 ) . وأحياناً يأتي بصيغته المادية مجرّد ماء ، وهي الصيغة الأكثر عمومية ( أنتِ الوقت / داركما النواعير الثكالى في رفوف الماء ) . لكنه عادة ما يأتي مقروناً بالصفة النقيض لصفة الخصب اللصيقة به وذلك من أجل تهويل صورة الخراب :
( لا أملك شيئاً في الدنيا
وطن مذبوح
نهر أجدب ) ( ص / 85 )
والنهر ليس هو دوماً الضحية ، بل هو أيضاً الطريق الذي تسلكه الضحايا ( الذين فقدوا أقدامهم ) وفي هذه الصورة يتشارك الضحايا مع الطريق آلامهم ، وهي تحيل إلى آلام السيد المسيح الذي مشى على أمواج نهر الأردن ، مع فارق أنه مشى بأقدامه من دون أن يفقدها ، على عكس ضحايا النهر ( وقد أبقته الشاعرة معرفاً من دون تسمية ) . كما أن السيد المسيح أعلن بمسيره ذاك للعالم معجزته ، بينما أعلن الضحايا بمسيرهم إدانتهم للقتلة ، وأن السيد المسيح لم يستعن بمن يرسم له الطريق ، بينما استعان الضحايا بالنوارس ، وهي لدى الشاعرة إحدى رموز السلام ، كما سيتبين فيما بعد . وبمسير الضحايا على النهر / الطريق مع عكس الصورة الماثلة في الحاضر ، على الصورة المستحضرة من الماضي ، يكون النهر قد تحول إلى طريق الجلجلة ( ألجولجوليث ) :
( كانت النوارس ترسم فوق مويجات النهر
درباً للذين فقدوا أقدامهم ) ( ص / 105 )
ولكنها ليست الجلجلة التي تُقبض عليها أرواح المحوم عليهم بالموت فحسب ، بل هي أيضاً تبعثها في كل لحظة للحياة من جديد ، فعندما تتحول الأرض إلى نموذج مقارب للجسد ، يتحول النهران إلى نموذجين مقاربين لشريانين ، وبالتبادل ، فالنهران لا ينبعان من الأرض فحسب ، بل من داخل أجساد أهلها أيضاً ، بحيث تتحول ارضهم بهذا النبوع ( على حدّ قول الشاعرة ) إلى أجساد ، ويتحول النهران ( وفي التثنية المجردة من التسمية الصريحة – كما في المقبوس التالي – إحالة مبطنة لدجلة والفرات ) إلى شريانين ينبعان من الجسد / الأرض ، ومن ثمّ يعودان ثانية ويصبان فيها ، أو بالأحرى يعودان ليسقيا حقولها في دورة لا تنتهي :
( ثمّ نرسم في شقوق الليل شمساً
أو نصبّ دماءنا ليمرّ نهراها إلى كلّ الحقول ) ( ص / 46 )
ولكنّ أغرب صورة لهذه الضحية المائية / النهر هي عندما تُجزّأ إلى جزئين ، تلتقط الشاعرة من الجزء الأول ، أو تلتقط من طينها شمعة ، ويمكن عدّ هذا الجزء بالجزء العزيز ما دامت الشاعرة ستهدي أعز ما يمكن أن يُهدى إلى المخاطب / المجهول :
( سوف أهديك النوارس
والورود
وشمعة من طين دجلة . ( ص / 93 )
أما الجزء الثاني فهو صورة تزمع الشاعرة أن ترسمها من شغاف الليل للنهر ، مع ملاحظة الانزياح من الحرف ( على ) إلى الحرف ( من ) ، والذي قاد إلى تحريف دلالة ( شغاف الليل ) من لوحة معدّة للرسم ، وهذه الدلالة تتواءم مع الصورة المفترضة للشغاف ، إلى مادة يُرسم بها . ولكن الغرابة أن النهر بكل تفوقه الرمزي ومواصفاته المهيبة تحول في الصورة من دور الضحية إلى دور ( النهر الداعر ) :
( سوف أرسم من شغاف الليل
نهراً داعراً ) ( ص / 93 )
وتلك الصفة سبق أن استخدمتها الشاعرة على الطريق الشائعة شتيمة مع من يستحقها ، مع الحروب مثلاً :
( راحلون
وخلف التلال تركنا منازلنا
مشرعات لعهر الحروب ) ( ص / 24 )
ولكنها عدا ذلك ترفقها وصفاً لأكثر من موصوف ، وتطوعها لأكثر من دلالة ، ولعل دلالة النهر الداعر تعرضت للانزياح عن المعنى المعياري فلم تعد بنفس معنى الشتيمة السابقة . علماً أن النهر لم يكن وحده قد نال الصفة ذاتها بصفتها المنزاحة ، إذ تلاه موصوف آخر لا يقل عنه براءة ، ولا يستحق مثله الشتم هو النهار :
( … ويصلي إلى قطرة دم
سقطت من عرق نهار داعر . ( ص / 121 )
ولكن ذلك النهر الداعر عندما يخرج من دور الضحية الذي كبلته به قصيدة / الإهداء ، وألزمت كل قصائد المجموعة الأخرى التعامل معه على أساسه ، فهو لا يرضى أن يكون سوى ملاذٍ للنوارس . والنوارس بلونها الأبيض الناصع ، وطيرانها الحرّ الطليق هي قرينة الحمائم رمزاً للسلام . والشاعرة نفسها لا ترضى للنهر خارج دور الضحية أو خارج قصيدة / الإهداء ( حيث ينوء دجلة بجثث الراحلين ) بغير دور الملاذ ، ملاذ للقادمين ، وليس للراحلين ، بالرغم من أنه في رحلة لا تنتهي عبر الزمن :
( فكلّ نوارسي مأمورة
إلا تفيء لغير دجلة . ( ص / 44 )
وبجوار الماء تمكث الخضراء ممثلة بالنخيل ، ألوجه الآخر المستعار لضحايا الخراب ، وهذه الصورة تتعرض – حتى في قصائد الحب – لانتكاسة ، فهي دوماً في مواجهة قاتل ما يستعين على الجريد والجذوع بوسائل قتل مخصصة لضحية من غير عالم النبات ، ولعل تلك الوسائل هي التي تكشف الطبيعة ما وراء الرمز للضحية ، أو تكشف الوجه المخفي وراء الإستعارة البلاغية للنخيل :
( في لحظة ينفضّ عقد الياسمين
كما يفضّ الوجد حباً
كما صوت القنابل
والرصاص المستكين إلى النخيل ) ( ص / 78 )
وإن جاء النخيل في صورة إستعارية للضحية ، إلا أن خسارة تلك الضحية يمكن تقدير فداحتها من اعتبار النخلة عنصر هداية هي بمنزلة النور / الصباح :
( كان الصباح نورساً
ونخلة) ( ص / 100 )
وكذلك يمكن تقدير فداحة الخسارة في وجود النخيل عنصراً ضمن الحصر الذي أعدّته الشاعرة لثروتها من هذه الدنيا ، وهي ثروة تتراوح ما بين الروحي ( ذاكرة شابتها أوجاع ) ، وقد تدخل الجروح ضمن الثروة الروحية باعتبارها الصيغة التشبيهية المادية للألم ( لا أملك غير جروحي ) ، وبين المادي المرتبط ب :
– الأسرة ( أمي / أهلي ) من جهة .
– وبالأصدقاء ( أصحابي ) من جهة أخرى .
– وبحطام الدنيا – كما يُقال – من جهة ثالثة ( حقيبة أسفاري )
– وبالوطن من جهة رابعة .
ومن البداهة أن ضمّ الوطن إلى ثروة الشاعرة تمّ برموزه ، والنخل أحد تلك الرموز ، وبالتالي فأن المفارقة في القصيدة هي في العنونة ( لا أملك شيئاً ) التي تتفارق مع عناصر أو مواد الحصر وهي بمجملها تعني أن الشاعرة تملك كل شيء .
وحال النخل هو كحال رفيقه ضحية الماء أو النهر لا يأتي دوماً بكلّه ، بل بجزئه أيضاً ، وحين يستأثر الكلّ بدور الضحية يأتي الجزء بأدوار أخرى ، منها دور الحاني والحامي معاً :
( كان أبي يعود
ككل العائدين مساء
إلى دفء البيوت المدججة بالجريد . )( ص / 105 )
وقد تجتمع الضحيتان النهر والنخل في مشهد بانورامي تراجيدي واحد ، لكن النهر / الفرات يجيء هذه المرة مفعولاً به ، وكذلك النخل، لفاعل مستتر يبكيهما ، أي أنهما لا يُعبران بنفسيهما عن كارثتيهما ، بل أن التعبير عنها جاء بشكل غير مباشر من الآخر / المجهول :
( أنت مثلي تصلي لمزن
يُعلّق فوق الجدار ثوانيه
يبكي الفرات
ونبض النخيل ) ( ص / 16 )

( * ) مسافة جرح – شعر / لهيب عبد الخالق – ألأهلية للنشر – عمان – 2019

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *