(الزمان) تنفرد بنشر أول كتاب غير مطبوع للمفكر عزيز السيد جاسم منذ تغييبه سنة 1991 يعود بنتاج جديد … لماذا الفلسفة ؟(3) (ملف/10)

إشارة :
رحل المفكّر الكبير والروائي والناقد “عزيز السيد جاسم” بصورة مأساوية تاركا إرثا فكريا وروائيا ونقديا ضخما يستحق الإحتفاء والتحليل العميق مؤسسا على شخصية إنسانية رائعة وسجل نضالي أبيض وتاريخ صحفي حافل. لقد كان مؤسسة قائمة بذاتها. ولكن، وباستثناء الجائزة السنوية المسماة باسمه والتي أطلقتها صحيفة الزمان الغراء إدراكا منها لقيمته الفكرية والوطنية الفذّة لا نجد احتفاء رسميا يليق بقامته الشامخة وعطائه الفريد وكأنه ليس من تراب هذه البلاد المقدّس. بمقالة الأستاذ قحطان السعيدي الجميلة هذه يفتتح موقع الناقد العراقي ملفه عن الراحل الكبير ويدعو الأحبّة الكتّاب والقرّاء إلى إغنائه بالدراسات والمقالات والصور والوثائق.

(الزمان) تنفرد بنشر أول كتاب غير مطبوع للمفكر عزيز السيد جاسم (3)

منذ تغييبه سنة 1991 يعود بنتاج جديد … لماذا الفلسفة ؟

المفكرون الذين يلجأون إلى المدن الفاضلة يقرون فشلهم في التطبيق

ان الفلسفة أعطت وتعطي الحلول لقضايا الخبز والجنس، لانها قضايا اجتماعية في مقدور الإنسان تكييفها وتبديلها وجعلها في خدمة الانسان من اجل الغاء كل ما تسببه من جفاء ونفرة وبغضاء ومشاحنات بين انسان واخر. في الحقيقة ان عدم حل تلك المشكلة قد سبب يأسا حادا لدى بعض المفكرين على اعتبار ان هذين الموضوعين اللذين يشغلان البشرية منذ نشوئها حتى الان، فاحتدمت الحروب واتسع القتال وسقط الانسان صريعا في ارضه ودمرت الحضارات وتمزقت الدول وتهدمت العمارات واختلط الحابل بالنابل، ومع ذلك فالعقل الإنساني لايزال عاجزا لا حول لديه ولا قوة، دون ان يعطي الحل الصحيح لتلك التناقضات والتناحرات والمنازعات التي قامت ولاتزال قائمة، فدفع هذااولئك المفكرين الى التسليم بان الانسان رديء ومن نطفة خبيثة وانه شرير آثم لا يقدر العقل ولا سواه على إصلاحه وتهذيبه وإزالة كل ما هو رديء ووحشي عن شخصه وواقعه.

ان هذا الرأي في حد ذاته اجحاف بحق العقل، والا فما ذنب العقل والمعرفة والمجتمع نفسه مبني ومشيد على أسس مغلوطة؟ هذا البناء الحضاري جيد وقدير ولكنه متناثر وغير منظم بل وظالم والعقل يريد ان يغيره ويعيد تنظيمه ولكنه الى الابد يبحث عن ذلك (الزر) الذي بتحريكه يستطيع ان ينهض كل راقد ويعيد تنظيم الأمور بالشكل الذي يعجبه ويروقه ويراه.

ان الانسان قادر على حل مشاكل الخبز والجنس وقد حل منها الكثير والفلسفة هنا تجوس في الميدان لتسهم بكل اخلاص وايمان وشرف، ولكن هناك المشكلة العظمى التي تقف امامها الفلسفة حائرة قلقة مترقبة وجله كوقوفها امام مستغلق غامض رهيب لا يعرف ولا يقدر ولا يرحم ولا ينطق انه المصير ذلك الشيء الذي ابتلع الافراد والجماعات والجموع وباشارة واحدة وبسيطة انهى كل حياة وينهي كل حياة ويختم هذه المثابرة ، الانسان والعمل الإنساني بأسوأ خاتمة.

هذا الانسان يولد وينمو ويحب الحياة، يحبها بنهم ورغبة وحماس وفوران ونراه يعمل ويكد ويكدح ويفكر ويجهد نفسه ويبتسم ويضحك من كل اعماقه واذا بفكرة رهيبة دامغة سوداء تداهمه. انك تموت انك تتلاشى كأي قنفذ وكأي جرذ وكأي حيوان اخر وهنا الصدمة واللوعة والاسى! لمن شيد وبنى واسس وعالج مادام يموت هكذا وما اختلافه اذن عن الانسان القديم ما دام الاثنان يموتان، بل وربما كان الانسان القديم أطول عمرا! هل من الممكن ان تكون الحضارات والرقي والإنجازات الباهرة ليست الا زيفا وبريقا خادعا!

اذن لو صح ذلك فلم الحياة الان ما دامت هي الطريق المعبد نحو النهاية؟ وهنا دخلت الفلسفة وما دخولها الا دخول العاجز المتألم فارادت إيجاد التبريرات والتعليلات و – لتهون – على الانسان المشكلة، فقالت ان الروح في الأصل طليقة حرة ثم بعد ذلك دخلت الجسد الإنساني فصارت حبيسة سجينة فيه وهي لابد ان تخرج كما كانت!

وأعلنت الأديان عن الروح وبأنها خالدة لا تموت وأصاب الناس اطمئنان وخدر لذيذ، واشغلوا انفسهم بالتمييز بين الجسد والروح، فما قيمة الجسد مادامت كل خصائص الحياة مرهونة بالروح ومع ذلك فهذا كله لم ينفع الانسان ولم ينقذه من قلقه وحيرته وتشاؤمه وجزعه.

الفراعنة أرادوا تخليد الجسد بالتحنيط والأديان أعلنت خلود الروح لكن الانسان ضال فاقــــــــــد الرشد لانه يرغــــــــب بخلود تام مطلق، وهو لا يملك شجاعة او جرأة تؤهله لقول ذلك ولكنها الحقيقة التي من اجـــــــــلها طرد (الله ادم وحواء اللذين ارادا ان يأكلا من شجرة الحياة) فالانسان لابد من نهاية تنهي وجوده، والموت امر طبيـــــــعي وحتمي وهنا ليس اكثر انذهالا والما وارتباكا من الانسان..

هذا الوجود العظيم وتلك الحياة الزاخرة بكل شيء هل كلها من اجل الموت؟ اذا كان الامر كما يقول أبو العتاهية

(لدوا للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير الى تباب)

فأذن علامَ المأكولات وعلام الجهاد وعلام الزواج وعلام المدن وعلام الجامعات وعلام كل شيء؟ وماذا تعمل الفلسفة يا ترى إزاء تلك المشاعر الفظيعة التي تغلي الوجود وتجعله في حمى دائمة الجيشان؟ تلك المشاعر التي تجعل من كل الحقائق التي ندركها ونتلمسها ونختبرها، محض أوهام؟ فلان مفكر يدرس ويؤلف وينشر ويعمل كذا وكذا والمصير كالسيف المصلط على رقبته يقول له (انك تموت وتتمنى ان تكون بقرة حية ولا فيلسوفا ميتا) وقد يغالي الفيلسوف ويقول حاشى ان انطق انا بمثل هذه العبارة، ولكنها على الأقل لغة الأموات التي نجهلها.

فماذا تعمل الفلسفة وما دورها إزاء تلك المهمة الضخمة العسيرة الاحتمال؟ تحطيم الفردية هو الحل الوحيد الذي تنشده الفلسفة وتجد عند شواطئه الراحة والاطمئنان الذي يمكنها من استعادة نفسها وتنشيطه.. فكيف يتم ذلك يا ترى؟ لقد كانت الفردية والجماعية هما الغالبان اللذان صبت فيهما كل الحقائق والمدركات والمحصلات، فماذا تقصد بالفردية وهل من سمات تربطها بالجماعية سواء اكانت هذه الروابط (مع) او (ضد)؟ الفردية هي التيار الذي يغلب الفرد على المجتمع ويعتبر الفرد هو الذي يملك القياس الوحيد الذي على ضوئه تصنف الحقائق وفي الحقيقة ان الفردية ليس تيارا حديث العهد بل هو قديم قدم الانسان نفسه ويتمثل بالنزعات الذاتية والرغبات الانانية والتقديرات والتصرفات الفردية فرغبة الانسان في ان يتكلم وفي ان يشتغل او ينام او يعمل ما يرتئيه لوجوده كل ذلك ولد هذا الاتجاه وتلك النزعات الفردية السارية، فأصبح الانسان الفرد لمدة طويلة هو الحكم في كل شيء. واما المجتمع فأصبح وكأنه مجموعة من التسلكات والنزعات الفردية المجموعة، اما الجماعية التي تعتبر المجتمع هو المقياس المقدر لقيمة كل تصرف وعمل والتي لا تعتبر قيمة للتصرف الفردي الا في حدود نفعه العام. فهي أيضا قديمة، وما تشبيه (شوبنهاور) المجتمع مجموعة قنافذ تجتمع ملتصقة شتاء لتتقي البرد، وما هذا التشبيه مع سلبيته وعاطفيته الا تأكيد على ان النزعة الجماعية متوارثة منذ الازمان السحيقة الغابرة حينما كان الانسان الأول يميل الى الالتقاء بالجماعة حفظا لنفسه من الحيوانات وغضب الطبيعة فأصبحت الجماعية نزعة غريزية متأصلة في الوجود الإنساني.

ان التعارض بين النزعتين الفردية والجماعية هو تنازع تقررت على ضوئه تبدلات تاريخية خطيرة، وفي الحقيقة ان النزعات الفردية مهما بلغت من النضوج والثراء الفكري والابداع فانها تظل فقيرة مالم تتوخ الخير العام والمصلحة الاجتماعية، وقد يعيب الفرديون على الجماعيين والمجتمعيين بقولهم ان المجتمع كثيرا ما وقف ضد البطولات الفردية والنبوغ الفردي فهاجم دعواتهم الفكرية المحدثة وعمل على التنكيل بهم بكل الوسائل متهما إياهم بالزندقة والمروق، وهذا شيء لا يتطرق اليه الشك ولكنه مردود أصلا لحقيقتين الأولى ان المجتمع بقدر ما وقف ضد بعض المفكرين فأنه رعى بعضهم وهيأ له مجالات التقدم المطرد، والحقيقة الثانية هي ان المشاعر الجماعية والمجتمعية ليس المقصود بها مشاعر أناس في مجتمع ما، حيث ان هؤلاء الناس متأخرون ثقافيا ونتيجة لانشغالهم بالشيء الأساسي وهو العيش ولكي يجمعوا قوتهم اليومي فان جهودهم الجسدية والجثمانية تفوق بكثير جهودهم الفكرية، فلذا أصبحت أفكارهم بدائية وعادية وساذجة فلا يصح اذن ان نعتبر مواقفهم تجاه مفكر معين هي المواقف التي على ضوئها تقاس الجماعية والنزعات الاجتماعية، وانما تلك النزعات تقاس بمدى ما يحققه تصرف معين من خدمات اجتماعية للمجتمع تاريخيا، ولذا رأينا وسمعنا ان المجتمع في مرحلة جهل معينة قد ينقم على مفكر ما ولكنه بعد ان يحس بان ذلك المفكر قد سبق زمنه ببصيرته الثاقبة وتوخى المصلحة الاجتماعية فانه بعد هذا الإحساس يبدأ يستعيد ما كتبه هذا المفكر فيمجده ويخلده حتى يضعه في مرتبة القديسين الاطهار.

ولما كانت حياة الفرد محدودة ومحددة زمنيا لانه كمخلوق يولد وينمو ويهرم ويموت، فان الفلسفة مهما بلغت من السمو والشمول والحيوية لا تستطيع ان تقنع فردا يزول بالايمان بشيء ديمومي، لذا فأن الفلسفة التي تريد المحافظة على عمر أطول على اعتبار ان الفلسفة كأي شيء حي تخضع للمقاييس العلمية والقوانين العضوية فهي أيضا لها ميلاد وشباب وشيخوخة وموت ومتحف، فلو ارادت الفلسفة العمر الأطول فهي تربط نفسها بالاجيال المتجددة التي بقدر ما يتطرق اليها الموت فانها تبعث وتتجدد.

ان الفلسفة الناضجة والتي تضارع التاريخ في سرده للاحداث وللافكار هي الفلسفة المرتبطة مصيريا بالجماعات في تطلعاتها نحو الغد الأفضل والاكرم، ولكنها وجدت امامها حجر عثرة وعائقا عنيدا هي تلك الفردية التي تشغل حيز الشخصانية، فسعت لتحطيم تلك الفردية ولاذابة الوجود الفردي ضمن الوجود العام، وكانت النتيجة البلبلة والتشوش وانعدام المعالم وضياع الملامح الإنسانية للفرد، ولابد اذن للفلسفة ان تستعيد النظر في مواقفها فاعادت درس سيرتها ورأت هذا الانقلاب الواضح من التطرف الفردي الى التطرف الجماعي المضاد وللفرد على طول الخط على اعتبار ان (الاذابة) عملية تدمير للشخصية وتدمير الشخصية هو اغراق المجتمع بالاشخاص الهزيلين المعدومي الذات وهذا تمزيق لوصال المجتمع المعتمد على الافراد الخلاقين المبدعين.

اذن لابد من موقف جديد والمواقف هنا استجابات هادفة، فهي استجابات لانها انعكاسات لاحداث ومشاكل وامور في طور الكينونة والتصير، ومن ثم فهي هادفة لانها لا تقف سلبية لا مبالية بل تتخذ حلا مناسبا وجوابا يعطي للشيء وللحدث مكانته زمانيا ومكانيا، ووجدت الفلسفة هذا الموقف الجديد في التوفيق بين الفردية والجماعية فالعزل أي عزل سواء كان للذات عن المجتمع او للمجتمع عن الذات هو بحد ذاته نحر للفلسفة، اما الموقف الصائب فهو اشعار الانسان بان انسانيته وذاته المبدعة لا تتحقق الا عن طريق واحد ليس هو باي حال طريق الانعزالية ولا العنفوانية المدمرة ولا الانحلال الموحش، في طريق الجماعية العام. ان (الذات) ذات الإنسانية لا تتســـــــمد ولا تــــــــعيش الاخصاب المثمر الا بأقرارها بانها تتكامل بأفنائها نفــــــسها من اجل الذات الكبيرة ذات المجتمع ككل.

ان الكائن الوحيد الذي لا يعرف العذاب ولا يعرف اليأس والقلق والصراع والتشاؤم والارهاق هو ذلك الذي الغى انانيته عبر تجارب ومعاناة وجرد مستمر لكل ما هو نفعي وبغيض احمق في طباعه. ويالعذاب الانسان الذي يعيش الصراع ويكون الحلبة، ما اشقاه انه يعاني اعسر الآلام وأكثرها وخزا وايلاما، لان فرديته تريد وتختط طريقها ضمن تصرفاته، اما عقله فهو انضوائي يعتنق المجموع كهدف وغاية، وان استمر هذا الصراع فأن نتائجه وخيمة تؤثر تأثيرا كليا وبالغا على كل اعمال وغرائز وسلوك الفرد، اما اذا انتصر طرف ما، فسيكون هذا الطرف عنيدا في اتجاهه قوي الإصرار مندفعا لا تفتر حدته ولا يضعف عزمه ولا يتلكأ او يتوانى او يكل، لانه يحمل معاني الايمان وليد الصراع القاسي، الايمان لدي كلفة ثمنا جسيما.

وهنا تبدو لنا افضل الحلول التي اوصلتنا اليها الفلسفة، انها خلفت في الانسان مشاعر تتضمن اعتبار كل ما عند الاخرين ملكا له ثقافة الاجيال واعمالها وحضارتها كلها يحسبها ارثا له، فهو ابن شرعي للأجيال الماضية وهو اب للأجيال اللاحقة القادمة وعمله الذي يعمله ليس هباء بل بذارا للجميع، فهو لا يقوم بتصرف ارعن ولا يعرف اللامعنى في عمله او اللاجدوى في تصرفاته لانه لم يناقش الأمور على ضوء ما يربحه ويكـــــــــدسه في يديه ان أفكار اللامعنى واللاجدوى والعبث والضياع حتما لا يشعر بوطأتها ذلك المجد العامل المبدع الذي يــــقضي كل وقـــــــته بين الناس وتحت حرارة الشــــــمس ولفح البرد ومع الجميع بل انها تأخذ بخناق المنطوي والمنعزل الذي يراجع ذاته كل حين نتيجة لصدمات ثقيلة او كبوات حادة او عثرات منهكة.

ان انسانا فاشلا وفشله اقض مضجعه وسبب له كمدا وغما مقيما، لو ان هذا الانسان استمر في سلوكه الاجتماعي واختلاطه بكل حرارة وشوق لنسي فشله وداوى جرحه وانتهى كل شيء ونال العظة من الحدث دون ان يخضع لثقله وطاحونته.

لكنه عندما يهرب من الجميع بعد فشله ويبتعد قمعيا في اركان مهجورة منسية فانذاك ولابدع تنتابه الهموم والهواجس وابشع الأفكار والاوهام والتصورات ويرى كل شيء بلا معنى وبلا هدف وبلا طائل وهذا حقا هو (الموت المعنوي).

ان كان لزاما علينا والشهامة والاباء والكرامة والإنسانية تقتضي التطبيق، ان نخاطب الموت بأننا عندما نموت ونأتي اليك فلا تنتظر ان تجد كسالى خاملين جبناء متضعضعين، بل تجد عمالقة يصنعون التاريخ ويعمرون الكون!

ان الذي اراه ان على الفلسفة مهام لا حصر لها.. فهل تتحمل الفلسفة شرف المسؤولية؟ ذلك ما لا اشك فيه.

الموت والتاريخ والفلسفة

سبق وان اسلفنا بان قضية (المصير) هي من القضايا التي ظهر عجز الانسان وضعفه واضحا حيالها ، وفي الحقيقة قل ان نجد فلسفة بحثت موضوع الموت بحيث كان البحث غنيا وافيا يكسب القارئ نوعا من الارتياح، وموضوع الموت ليس معقدا فحسب بل انه مستعص على الاذهان، ان التجارب الكثيرة التي دلت على ان للوراثة قانونا ساري المفعول في الاسر والافراد تثير تلك الغرابة وذلك الابهام، فها ان اجدادنا واباءنا وكل المخلوقات البشرية قد اعتادت على الموت، ولكننا نحن لازلنا نتهيب من ذكر الموت ونرتعد منه مع ان توارثنا له بانه حق لا مرد منه.

ان الموت هو اللحظة الوجودية العكره التي تخلق الفاصل بين الحياة واللاحياة والمحير هنا هو هل ان الحياة من مظاهر الموت ونحن اموات أصلا وحقيقة ام ان الموت هو من مظاهر الحياة وشكلها الوقتي؟

ولذا فالموت جعل لكل شيء نكهة خاصة وطعما خاصا، وربما لو كان العالم بلا موت لكانت المفاهيم والمشاعر والعواطف التي تعارفنا واعتدنا عليها ليست لها تلك القيمة والثبات بل ربما كنا قد اعتدنا على صور معكوسة لما نحن عليه الان.

والتاريخ على اعتبار انه تسجيل امين لمجموع التصرفات الإنسانية منذ ان بدأ الوعي الإنساني يكون معدما ولا حاجة له البتة لو الغي الموت. فالاسكندر المقدوني او يوليوس قيصر او نابليون بونابرت او سواهم من القادة والعظماء والحكماء لا يحتاجون الى تاريخ يضبط أعمالهم وافعالهم واقوالهم ويقدمها لنا لو ظلوا احياء لانهم هم بأنفسهم يذكرون كل ما قاموا ويقومون به.

ان من الصعب جدا التكهن بقوانين ونظم عالم لا موت فيه. ولكن شخصا لا يشك بان هذا العالم يفقد (التاريخ) والفلسفة والعلوم والقضايا الفكرية الأخرى. ان الانسان ظهر الى الوجود وهو يحمل في جوفه بذرة الموت، فهو محكوم عليه سلفا بانه يموت، وهذا الحكم المسبق بالاعدام كما يسميه (كامو) وتلك الحقـــــــــيقة الثابتة التي لا يتطرق الى صحتها ظن هي التي رسمت على مـــــــظاهر الــــسلوك الإنساني صورا وخصائص معينة.

فالانســـــــــان اذن ولكونه حيا فهو لابد ان يموت، وتتضخم قضية الموت الى درجة الاعتياد عليها بحيث تشكلت وهي مفروشة في دم الحي ولحمه وهنا لابد من صراع بين متناقضين قويين، الواحد منهما يريد ان يزيح الاخر عن طريقه، الحياة بقوانينها الخاصة تحس بان الموت يترصد بها الدروب ويترقب كل سانحة او فرصة فلابد اذن للحياة ان تفرز افرازات تدافع عن وجودها إزاء هذا العدو، وهذه الافرازات هي العلم والفلسفة والحكمة والصناعة والإنتاج وكل شيء، ان الفلسفة تنبعث من عاملين الأول صراع الحياة ضد الموت والثاني الفضول ولكن للأول الدور الفعلي الذي قد لا نحس به ولكننا بتعمق واستقصاء نستطيع ان نتوصل اليه..

وبهذا تكون الفلسفة افراز حياتي يجابه الموت ونحن لا ننتظر طبعا اندحار الموت، فبقاء الموت يكسب الفلسفة اشكالا وصورا وحللا عدة وها ان الفلسفة تحاول استكناه الكثير من الحقائق والأمور الخفية وتظل هكذا، ان هملت شكسبير (عندما تتبع رماد الاسكندر النبيل ووجده قد امسى سدادا لبرميل من براميل الجعة!)

معناه ان ذلك الذي توصل اليه هملت دفع المفكر الى ان يتفلسف ويتساءل وينقب، ودفع الشاعر الى ان يتأمل ويحلم ودفع العالم الى ان يستنتج ويقرر ان البعض عندما قالوا ان لا ضرورة البتة للفلسفة والعلم والاختراع لان الحياة لا غاية لها ولا معنى لم يملكوا القليل من الشجاعة ليصفوا حدا لتلك الحياة التي ينكرون معناها، ان الاجدر بهم ان لا يقدموا تفاصيل وشروحا كثيرة عن عبث الحياة بل عليهم ان يتدخلوا شخصيا لتحديد مصيرهم بايديهم أي ان ينتحروا ولكنهم لا يستطيعون ولماذا؟

لان هناك من هو اقوى من تفكيرهم.. هناك قانون الحياة الذي تتضاءل امامه اكثر مظاهر السخط والعداء تجاه الحياة. ان أولئك الذين يفكرون بالموت كثيرا وبكل عمق هم اكثر الناس حبا للحياة وتقديسا لها، فلا عجب ان يكونوا نابغين وموهوبين وعصاميين، ولو ان بعضهم يكونوا مع نبوغهم فوضويين عابثين ذوي سلوك هائج مدمر.

اما قضية الانتصار على الموت فتلك ليس بمقدور العقل الإنساني ان يتوصل اليها وعدم القدرة ذلك هو الذي يخلق تأففا مضجرا في كثير من الحالات وهنا لو اردنا ان نتصور مملكة لا تعرف الموت لاحسسنا بحرج كبير، ففي هذا التصور احراج للمعرفة وتشكيك بالعلم ويبدو كل شيء ضئيلا تافها زائلا وسرابا ، ففي مملكة كهذه يصبح الزواج لا معنى له وبالتالي تضمر الأعضاء التناسلية والجنسية وتتلاشى وتنقرض. ولا يكون للعائلة وجود وتتغير كل المثل والمفاهيم والمبادئ الخلقية.

المدينة الفاضلة

للفلسفة تطلعاتها ذات الاستشراف العميق الواسع، وهي نتيجة لخيبتها الغالبة في الميدان الواقعي ونظرا لان الأمور تجري على غير هواها وارادتها فقد جنح بعض الفلاسفة والمفكرين الى الكتابة حول (المدن الفاضلة) ولقد كانت اراء افلاطون حول مدينته المثالية بداية للاحلام التي داعبت عقول الفلاسفة ودغدغت حواسهم و(المدينة الفاضلة) بحد ذاتها رد فعل للمدينة التي يسكنها الفيلسوف فعلا، تلك المدينة التي يعشش فيها الدجل والقذارات ويعلو الادنياء واخوان اللؤم، حيث تشيع السفاسف والتفاهات والوضاعة في كل اجوائها ان تحليقات الفلاسفة وسفراتهم في أجواء خيالية حالمة باجنحة اثيرية الى عالم سام رفيع يجدون فيه المتنفس لافكارهم ونياتهم وتصميماتهم، وغالبا ما جاءت (المدن الفاضلة) هندسة منظمة وترتيبا دقيقا محكما لجماعة بشرية معينة على ضوء أفكار الفيلسوف ووجهات نظره الفلسفية في سياسة المجتمع وتنظيمه الاقتصادي والجنسي والثقافي. وهناك أشياء ينبغي علينا ادراكها في مسألة حكمنا على تلك المدن الفاضلة وأول هذه الأشياء هو ان المدن الفاضلة هي في الحقيقة تفجير لعقدة نفسية تنتاب الفيلسوف لصدمته بالواقع الظالم والزائف الذي يعيشه، انه يرى الناس متأخرين تسيرهم شهواتهم وتحكمهم المطامع الهوجاء والرغبات المنحطة الفظيعة، ويرى الفضيلة مشنوقة بايدي دعاتها، والخير والعدالة والجمال كلها مزدراة مقبورة في الدرك الأسفل، ان الإصلاح والدعوة والتوجيه والتهذيب والإرشاد، كل تلك أشياء مهما لجأ اليها الفيلسوف فانه يظل قاصرا لا يستطيع تبديل شيء وهذا العجز وتلك القدرة المفقودة الأثر كل ذلك يسبب ردة مؤلمة وثورة نفسية عارمة مكبوتة في نفس ذلك الفيلسوف فيلجأ الى خيالاته المجنحة لينفث غيظه وهنا يتحكم بخياله فيجعل كل شيء مخططا حسب ايحائه الخاص.

هذا أولا وثانيا فان المدن الفاضلة تخطيط وتصميم يتسم بفقدانه لروح العلم، ان أولئك الفلاسفة الذين يلجأون الى مدنهم الفاضلة يقررون فشلهم الذريع في الميادين التطبيقية ونتيجة لعدم معرفتهم إيجاد الجواب الذي يضمن تسوية عادلة لكل ما هو مربك ومتناقض، انهم حقا اذكياء ولكن ذكاءهم منصرف بعيدا عن ادراك موقع داينمو تحـــــــريك الاحداث ولذا نرى مدنهم الفاضلة المشبعة بالاماني والآمـــــال التي يحس ازاءها المواطن العادي ببلاهة وجهل مطبق وسخرية، ان الاف المدن الفاضلة لتعــــجز عن سد رمق صبي جائع، ان تلـــــك الحقيقة على أي حال تعطي للمدينة الفاضلة تقييما حقيقيا وتقديرا في موقعه.

وثالثا ان المدن الفاضلة لا يتعدى تأثيرها فترة قصيرة جدا وان هذا التأثير مع سطحيته وقشريته فانه لا يستمر طويلا، وتبقى المدن الفاضلة مجرد قصص واحلام رائعة واماني تدل على طيبة وبساطة وسذاجة ، لقد خلقت المدن الفاضلة لارضاء عقول أصحابها بعد ان احسوا بافلاسهم واقعيا وكذلك خلقت لان تبقى مسطرة ومذكورة في الكتب.

ورابعا ان المدن لفاضلة ليست وهي في حدودها الخيالية مدنا كاملة تبحث الأشياء بأكملها بل هي مدن تكون حقلا لاختصاص فيلسوف في موضوع ما فهنا لا مدن فاضلة تتعلق بالعلم وأخرى تتعلق بقضايا الاخلاق وأخرى تتعلق بالقضايا الاقتصادية فهناك مثلا مدينة العلم الفاضلة التي صورها لنا (بيكون) فــي كتابه الذي أشاد بذكره الكاتب المعروف (ولز) والمسمى (اطلانطس الجديد) The New Atlantis حيث صور رحلة بواسطة السفن من (بيرو) وبعد تأخر لمدة معينة في البحر تهب عاصفة عاتية فتقذف بالسفينة الى جزيرة غريبة مجهولة اسماها جزيرة (اطلانطس) وقد بين (بيكون) ما يشاع وكان يتصور من اراء حول اهل هذه الجزيرة وما هو موجود فعلا، فلم يجدوا همجا متوحشين او برابرة اجلافا، بل وجدوا أناسا متميزين لهم مستوى ثقافي رفيع، فهم ومع انهم يمنعون أحدا ان يدخل جزيرتهم لكنهم إزاء هذه الحالة الاضطرارية حيث ان الطبيعة الغاضبة هي التي قذفت بالسفينة الى تلك الابعاد، وسمح اهل الجزيرة لاهل السفينة بالدخول واخذوا يعالجون مرضاهم معتنين بهم عناية فائقة وعندما نزل ركاب السفينة فانهم اخذوا يجوسون في ارجاء هذه المعمورة الجديدة باحثين منقبين فرأوا العجب العجاب، حيث العلم والثقافة والازدهار والنمو والنهوض العظيم، رأوا أناسا راقين يحكمهم (بيت سليمان) وهو هيئة حاكمة تصطفي خيرة الناس وافضلهم من العلماء والفلكيين والصناعيين والمخترعين والعباقرة والفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع وسميت هذه الهيئة ببيت سليمان نسبة الى الملك سليمان الذي كان مليكهم المحبوب ذا الذكرى العزيزة الغالية والذي أسس تلك الهيئة، ورأى أصحاب السفينة في تلك الجزيرة تقدما علميا راقيا في الطيران وفي الاختراع والاكتشاف وفي إيجاد كل وسائط النقل الحديثة، وبأن كل فرد في هذه الجزيرة يسعى من اجل الجزيرة باجمعها وبيت سليمان هو الذي يصنف كل ما هو نافع فيأخذه وكل ما هو ضار فيطرده ويقول (بيكون) على لسان احد سكان تلك الجزيرة (ان الغاية من حكومتنا انما هي معرفة الأسباب والحركات الكامنة في الأشياء وتوسيع نطاق مملكة الانسان) وفي هذه العبارة ضمن (بيكون) كل معاني فلسفته في أهمية العام ودوره من اجل بسط نفوذ الانسان وسيطرته على الطبيعة.

يتبع

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *