إشارة :
برغم أن الروائي المبدع برهان الخطيب يُحسب على جيل الستينات إلا أنّ ما يميز منجزه الابداعي هو هذا التجدّد والتجديد في الأسلوبية وتناول الموضوعات مع ثبات بصمته السردية الجوهرية على خارطة الأدب الروائي العراقي والعربي. وقد أغنى عمله الصحفي وحياته الحافلة بالمتغيرات مخزونه التجاربي فأثرى المكتبة السردية العربية بأكثر من اثنتى عشرة رواية كل واحدة لها عالمها المستقل المتفرّد. يسر أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ ملفها عنه متمنية على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراءه بالمقالات والصور والوثائق. تحية للمبدع الكبير برهان الخطيب.
(الجنائن المغلقة) رواية
فتحت بواباتها نحو سماء بلا حدود*
بقلم: يوسف الصفار
أدرك بركليز إن أي حكم يبدو في أعين الناس صالحا إذا عادعليهم بالرخاء، والحسن يبدو سيئا خلافه، ولما انهمك بالشؤون العامة، وتقدمت السن بالكساغوراس، نسى رجل الحكم رجل الفلسفة، لكن حين سمع بمعاناة الكساغوراس الجوع والحرمان بادر إلى معونته، وقبل منه في تواضع لومه: “طالب الفانوس يوما يمده بزيت” عن قصة الحضارة ـ يول ديورانت
حين قرأت (الجنائن المغلقة) رواية برهان الخطيب المعروفة كان في بالي بعض ما كتبه نقاد عنها ساهموا في تحليلها وعرضها، فكرت لم يبقوا لي مجالا أتكلم فيه عنها، اعتمادا على معرفتي الجيدة بالخطيب، بمشروعه الروائي منذ سني دراستنا الجامعية الأولى. مع توالي الصفحات، وخلفها تأريخ العراق الذي يعرفه متقاعد اليوم، رأيت لن أتمكن من السكوت، فهذه رواية تحرّض جيشا من النقاد لنزول إلى ساحة، ربما كما في مشهدها الأخير، ملصقي الأفواه بشريط لاصق، فالكلام قد يصبح بلا جدوى، إنما ليس الفعل الثقافي، بدليل ذلك المشهد نفسه، وصمته البليغ الذي يحفز على عدم السكوت.
يستهل برهان الخطيب روايته (الجنائن المغلقة) بـ (ليست مقدمة) أشبه بمدخل بناء كبير، ينبئك موظف استقبال فيه حدثت جريمة هنا، لكن مسرحها كما يتبدى مع الوقت يترامى من بغداد إلى دمشق، إلى موسكو، إلى ستوكهولم، بتفاصيل وتداعيات ثرة، من حياة العراقيين في الداخل والخارج، نصف القرن الأخير، متراكبة في سياق متصاعد، حكايةَ دمويةَ فسيحة، سطورها تشويق شفاف يخلب الأنفاس، في حبكةَ مُحكمةَ، جريمة غامضة لها تعقيدات وغموض يصعب سبره، قد تذكرنا بروايات (أجاثا كريستي) لكن الفرق يظهر جليا منذ اللحظة الأولى، وخلال كل خطوة في تلك الجنائن، في أن الخطيب يسرد هنا حكاية شعب عريق وسط عالم متصارع، وكريستي تسرد حكاية قاتل عادة، وسط مجموعة أشخاص في دائرة اتهام.
في (الجنائن المغلقة) عراقي مزدوج الاسم، مزدوج الشخصية، مزدوج الهدف، أوصاله مقطعة بفاعل مجهول، مرمية بأكياس في غابات ومنتجعات ستوكهولم، يبقى القارئ في حيرة من تلك الشناعة، يستدرجنا برهان من سطر إلى سطر هنا في تهكم وسخرية، إلى درب غامض متشعب، طرقه ذلك الإنسان المقطع، الذي كان ممثلا لنظام قاس محاط ببيئة أقسى، النتيجة تٌرتكب أخطاء، بنهار، والضحية من فرد إلى شعب نحو تخبط وتصفية، وللمشكلة ذيول.
وسواء نظرنا حولنا، أو أطللنا من نافذة الرواية على العالم، نرى نحن أمام واقع مؤلم، معقد، يحتاج فكّه وتفصيله، بسرد دقيق طويل، له خيط، بل خيوط عديدة متداخلة، محاكة بقوة، مع الإمساك بها يقودنا المؤلف بدراية وخفة عبر جنائن مغلقة، إلى العالم كله، عالم رعب خاص، رعب الأفكار التي أدت بالعراق إلى الكارثة، منذرا بوقوعها بهمس فصيح، وذلك قبل سنين من وقوعها فعلا، على تخوم الألفين، حتى يستدرك بهامش في النهاية (كل ما ورد فيها خيال) لكني اجزم عارفا بكثير من تفاصيل الرواية إن جميع شخوص الرواية وإحداثها حقيقية، أما دافع استدراكه ذاك فهو للذود عن الواقع العراقي، الذي كشفه وأدانه بروايته، ولأن جميع شخوص هذه الرواية المدمجين عائلة واحدة هنا هم في الحقيقة الشعب العراقي كله، الذي نعرفه، المبتلى بخيراته وفتنته، كحسناء فائقة الجمال بين أشرار أنيقين، تعج بهم هذه الرواية، كما تعج بهم الحياة السياسية العراقية اليوم.
الرواية مقسمة في أربع جنينات، فصول، تتبدى في الحقيقة بفحص كاشف أربع روايات، متداخلة في بعضها، نمط فني جديد، لم يسبق لي أن رأيت له مثيلا في الأدب العربي.
درب الصاد ما رد
ما الذي يحرك عائلة عريقة من الأشراف، ممتدة جذورها بعيدا، لأن تنضو عنها ثوب الاعتياد، تصنع لها دورا في عالم الحضارة والتقدم، غير الذات القلقة الباحثة عن الأفضل والأرفع لها، وللبشرية عموما حاويتها الطبيعية؟ نعم، وراء تلك الذات وحافزها البيولوجي المحرك لها إرث حضاري راسخ ترتكز عليه، يدفعها إلى أمام، ابتداء من الجدة بلقيس، تلك العجوز الاستثنائية التي خلقت لها كيانا أسطوريا، بطابوقات أثرية من العهود السومرية والبابلية، حولتها إلى سجل تاريخي كثيف، ورصفتها بعناية في زوايا ساحة بيتها، شاهدة لأحوال إفراد عائلتها، من الآباء والأبناء والبنات إلى الأحفاد والحفيدات، انتهاء بحامد، الحفيد الأصغر الذي أرادت ائتمانه أسرارها، بعد أن صارت كنيته في سجلها (14 تموز) لختانه يوم الثورة ذاك، كما حددت له زوجة المستقبل، رضيعة أحد أبنائها، أسمتها رباب، لتعزف في الكبر ما لا يخطر على بال، من أنغام الزمن العراقي الجديد العجيب. كيف لا والحكاية بدأت من لب حركة قطاعات الجيش العراقي آنذاك إلى بغداد، لإسقاط النظام الملكي، ما سوغ للكاتب إصدار حكم مؤبد، بابتلاء المنطقة بفيروس التأريخ: “انتهى، من هذه اللحظة أصبح التأريخ الشخصي لهؤلاء، بل جميع من ولدتهم أمهاتهم في هذه المنطقة وأبعد، تأريخ بلد، أمة” مسيرة طويلة، متعثرة، شاذة للكل، خاصة لحامد ورباب، اللذين جاءا صورة لجيل كامل جديد، من أجيال أخرى، في هذا المتحف الفريد، وفي الواقع الذي صدرت منه هذه الرواية، لهم حكاياتهم الخاصة، مفعمة بتفاصيل ورموز وإيحاء، مفعمة بعنف وشجن، لوّنا مسار الأحداث التي اتسعت تدريجيا لتشمل العالم، بالألوان التي نعرفها ولا نعرفها إلى يومنا هذا.. أو.. قف رجاء! كل ذلك لم يحدث من صدف خرساء، لم يلمه الكاتب بمهارة ويصنع منه تحفة أدبية، بل هو مصنوع أصلا كأنما بيد شيطان، لكثرة مكر فيها ومعان، لعبة وضعت محبطين ومتمردين على درب بدون رجعة، اسمه في فولكلورنا الشعبي (درب الصد ما رد) ثم جاء وأخذها جاهزة منه إلى روايته كاتب فنان؟! هكذا قد يفكر غيري حيران، لكن معرفتي حسنا بالخطيب برهان تؤكد لي الغلبة لإنسان، اعتمد على ذخيرة خيّرة في نفسه، وفي بلده الفتان.
(العقل يا بني مكنون في الرأس إذا انكشف فقد قوته، مثل الدم تحت الجلد، إذا انفتح تأذت الروح) تبسبس الجدة بلقيس في أذن حفيدها حامد، لكن عمره الصغير آنذاك لا يساعده على مشاركة وتسلق ألعاب بهلوانية حوله، لساسة وقتلة ومتوحشين ظهروا في فترة سوداء من عمق سنين التخلف من تاريخ العراق المعاصر، ومن خارجه حيث تحاك مكائد للجميع، ناعمة كأنها وسائد. من هنا يصحبنا الكاتب، منذ بداية الرواية، في عمق العلاقات الاجتماعية المتشابكة، طيبة بخبيثة، لمجتمع فطري متماسك، موحيا بمخاطر ستلوح في الأفق. يظهر (عدنان و إياد) وأسلحتهم، كأحد رموز حكم الحزب الواحد، باحثين عن عمه (صلاح) ذي الأفكار الثورية، تتشكل داخل الصبي أول علامات الترهيب والإرهاب، تجر وراءها فيما بعد الخنوع والإذلال والتمرد، كنتيجة لتعرض البلد برمته لضغوط قهارة. وينقلنا الكاتب بعد ذلك وحامد لا زال في حقبة الستينات، فترة ما بعد الانقلاب الثاني، إلى حيث ظهرت حياة اجتماعية جديدة في بغداد، مزدانة برؤى وجودية، وسط دهشة من مناقشات أخيه الأكبر (خالد) وأصدقائه المعقدين، متاهة لا منفذ لها سوى بعودة إلى الجذور، إلى (المسيب) مدينة جدته بلقيس، حيث يلتقي مجددا بابنة عمه رباب، يفرغ معها شحنات الانفعالات المتراكمة في الصدر والعقل، وهي تستجيب، ملامسات جسدية بريئة في البداية، حتى تتدخل الجدة بحكمتها الحادة. وفي بغداد، عاصمة اللهو واللغو آنذاك، يتبدى للصبي (حامد) بعد الانتقال إليها سجل آخر، لأحاديث وأخبار أهل مدينة عالمية، من انتحار مارلين مونرو وارنست همنغواي إلى قتل كندي وأغاني أم كلثوم الصداحة في شارع أبي نؤاس المحاذي لدجلة، حيث تتصاعد رائحة السمك المسقوف والخمر المحلي مغرية للخروج عن المألوف والمضي إلى الخارق، إلى عالم السياسة والطائرات والانقلابات المتتالية، مع الآخرين الداخلين أول عهد حكم الحزب الواحد، بصعود البعثي الجسور عدنان وصديقه إياد ومَن معه إلى السلطة، واحتلالهم مناصب إدارية رفيعة، رغم إن بعضهم لا يفرق كما في أي تحول مفتعل حديث بين ارنست همنغواي وديغول الشيوعي بنظرهم.
وعلى طريقة إخراج أفلاما فرنسية نجد الكاتب ينقلنا من مشهد إلى آخر، حتى تتداخل مع بعضها في صورة كلية واسعة للأحداث، تبرز منها بفرز فني دقيق تحولات أساسية، أثرت في التكوين النفسي للعراقيين عامة، كسقوط الجمهورية الأولى (هذا المصطلح وغيره، شمال بغداد، جنوب بغداد، إلخ.. وكلمات مثل: تخوم، أهل، تنوير، مكيدة.. برزت أول مرة بأدبيات الخطيب، ومنها انتقلت للصحافة عريضا) كذلك إزاحة الجمهورية الثانية، وما تبع من سنوات الحكم العارفي، المعروف بتسامحه النسبي، إلى جمهورية اليوم، حيث موجة جديدة من صراع الساسة وهجرة العراقيين، كل ذلك يتكامل في هذا التقويم الروائي أمامنا، صفحات ناطقة في ثلاثة أبعاد، بل أربعة لو أضفنا بُعد الخيال والفكر، حيث الحوار والأحاسيس تتدفق مصاحبة لتغيير اجتماعي في عادات الناس وتقاليدهم، فالوالدة شريفة تتحول في بيتها إلى العبادة، والأخوات في تراجع لارتداء العباءة، بينما يصر (خالد) الابن الأكبر على البقاء في وضع متزن عقلاني وسط حياة عامة مضطربة، كما نجد (حامد) يعضعض الأحداث، لا يعرف أين وكيف يغرس أسنانه فيها، إلى أن تتلاحق خاصة وعامة وتقع النكسة. يهتز الطود الشامخ الذي اسمه (عبد الناصر) وتهتز معه مفاهيم ذلك الزمان المتأني، تظهر ينابيع متدفقة جديدة تمنح أملا جديدا في رمزها الأسطوري (جيفارا) وعلى الجهة الأخرى يتراكض عسكريون حاملين لواء الوحدة والعروبة، حرصا على سقوط العراق في أحضان يسار جديد بلا ضفاف، ملوحين بتغيير الواقع العربي المضطرب إذ ذاك، وفي خضم ذلك يتحول (حامد) إلى بطل انتهازي، يشي بعمه (زنبور) بدلا من صلاح، ليخلو له الجو مع الابنة (رباب).
الجدة حضّرت كفَنها
(الذي عقله عنيد يبحث عن دواء لقلق، لفوضى..) فما الذي يراه العراقيون في طبيعة ذلك الدواء؟ إنهم يمهدون بحماسهم المنفلت، كما يفعلون اليوم، لظهور قائد، دكتاتور، بعد انكسار الرمز العربي في حزيران، كما اليوم بعد غياب الصنو منذ 2003، لكن (خالد) ابن تلك العائلة العريقة في ثقافتها أيضا، كمعظم أبناء الطبقة المتوسطة في العراق الآيلة إلى انقراض، مع ظهور أخرى طفيلية جديدة، تغذت بلصوصية وحواسم، لا يفكر في التخلي عن أخيه، يريد ترويض الوحش المرابط داخل (حامد) بالعقل، لا بالسوط، في محنة سرمدية للعراقيين مختصرها إن أفكارهم، خاصة مَن لا فكر له إطلاقا، تتغير بتغير الظروف، لا بنمو وتفتح مفهوم المواطنة، أساس وجذر أفكار كل إنسان سوي في العصر الحديث، ولعل ذلك قد يُفَسر بأن مَن يحترق بنيران تجربة جديدة تحرق معه أفكاره السابقة أيضا، ذلك ما فكر فيه حامد في الأقل، حين واجه اثنين من القتلة أيام قهر، وما أكثرها في تاريخ العراق، ليستدرك بعد حين أن كل القتلة من نوع واحد، ترطبت أيديهم بدم، أو بعطر.
ووسط ضياع الرموز السياسية، أو تراجعهم، ونتيجة تحول في الوعي الجمعي، وعودة القوة الديناميكية ممثلة بالبعثيين إلى الحكم بشكل آخر، في لجة من التخبط لم يحسب الكل حساباتها البعيدة، ومعها ضغوط من كل اتجاه، نجد الأخ الأكبر يهاجر إلى الخارج، والأب يلوم السماوات لضياع ابنه البكر من بين يديه، والأم تلجأ إلى الدعاء طلبا لأمان مفقود. ولم يجد حامد، الذي وعى كل هذه الأشياء ممتزجة بمرارة الحياة، غير الجنس مهربا.. وكانت (رباب) اقصر الطرق لتحقيق غاياته، فهي تملك مفردات الحب الأول، ولها الرغبة في إرضائه، فليس أمامه غير الانصياع، هو لم يتكون على الدين والمُثل كما تكون جيلان قبله، متمثلان بعمه عبد الصمد وأخيه البكر، حيث تصاعدت الأفكار الثورية بظهور الجمهورية الأولى، وهو لم يكتو من تلك المعاناة، لأنه غلا في قدر آخر، جعلته يحمل الكثير من اللامبالاة، والقليل من الجدية والالتزام والاحترام لما رآه.
إنها ملامح الشخصية العراقية الجديدة التي ستتكون لاحقا، حذر متناه، لا هدف، رغبات دنيوية محبطة بسرقة البلد من أغراب، آمال عريضة بمستقبل مهزوز، وهو ابن الشينات الثلاث كما يشاع (شيوعي، شيعي، شروكي) التي اصطبغ بها كثير من أبناء الشعب العراقي، من الطبقات المتوسطة والفقيرة، خاصة أبناء جنوب العراق، فأراد (حامد) تعويضها بشينات من نوع آخر، هي (الشابات والشرب والشواء) إنه من جيل التمزق، جيل الهرب من مضاجع حكم الحزب الواحد، إلى ما يترآى له من حضارة، يقابله بعض آخر، عوسي، شديد الإيمان بأهدافه الثورية حتى التضحية بأي شخص من أجلها. وبتحضير الجدة (بلقيس) لكفنها، مستقبلة به موتها القريب، بعد أن تجاوز عمرها المائة سنة، ينبهنا (برهان) إلى بداية اندثار أجيال القيم والتراث، وبداية عهد جديد، مع انتقال (رباب) إلى بيت عمها في بغداد، للدراسة في المعهد، آن نضج ثدييها، تكورا، تشمهما في الأصبحة و (حامد) المنقطع عن أصوله يختلس النظر إليها متظاهرا بنوم… ويعمم المؤلف ذلك إلى حال البلد عامة، في حمى الإشباع من أموال النفط، ممهدا إلى إن ما سيأتي لاحقا هو حالة إفراغ..
عرض ستيريو مراوغ
الإشباع المستمر يتحول بعد ارتخاء إلى توتر، يزاح العقل، وبغياب التوازن بين القوة وكابحها، القيم، ممارسة ترفيهية، معارضة لحزب حاكم، تحل محل عقل ناقد، يُجر البلد إلى حرب ضروس لا مثيل لها في تاريخ المنطقة، كما يتمادى (حامد) في علاقته المشبوهة وسط قسوة الحرب وتهديداتها المستقبلية، يتحول بملء إرادته إلى جاسوس بامتياز، بدءا على أقربائه، انتهاء على أخلص أصدقائه. إنه حال تتفاقم فيه الأخطاء، خاصة في ظرف احتلال، وفي غمرة هذا التشوه العام أيضا نجد علاقته مع (رباب) تتأزم بفعل مواقفه منها، يسود بينهم البرود والتلوث، بينما هو يتمادى بعلاقته مع عدنان وإياد إلى الحد الذي يتجسس على عمه الثاني المعمم (عبد الصمد) ويتسبب بتهجيره إلى إيران، بالوقت نفسه يوعز إلى عدنان ليسهل الطريق لابنة عمه رباب، إرسالها في بعثة إلى الخارج، للتخلص من آخر الإيماءات الجميلة التي كانت في حياته. ذلك ليس من سطور رواية رومانتيكية، يريد برهان من خلالها خداع الآخرين، إنها حقائق مصاغة في مختبر للقهر، عن تجارب واقعية، جاءت إلى الرواية هذه بلغة قست حينا، نعمت، رأفت حينا، مثلما تبدت تلك التجارب لمن خبرها من العراقيين.
ما كنت أريد تقديم تلخيص لهذا الجزء من الرواية، ولا لغيره، بل النفاذ من خلال حركة أشخاصها لالتقاط ملامح فترة مهمة نعيشها اليوم، مرورا بحكم الحزب الواحد إلى فترة الاحتلال، فترة حولت كثرة من أبناء العراق إلى وحوش كاسرة في منظومات أمنية متكاملة ومترابطة، فترة غيرتنا جميعا قسرا، إلى أسوأ أو غيره، ذلك من اجتهاد شخصي، تسنده هذه الرواية بما يصعب إحاطته بمقال صغير نسبيا كهذا، فطريقة الخطيب في عرض موضوعه يمكن أن يقال عنها ستيريو مراوغة، من أكثر من زاوية، فنية بامتياز، تحيل أي انطباع منها إلى تأويل لا ينتهي، يعادل أي جانب منه جانبه الآخر، حتى نطلع من مشهد إلى آخر متخلين عن انحيازنا، عن عدوانيتنا، بالتالي عن كيفية نظر قديمة إلى غيرنا، إلى أنفستا، في هذا غلبة الأدب على الواقع، يغيرنا من غير أن نشعر، من غير قسر. وحيث يعود حامد إلى أيام ارتياده مع أخيه مقهى البرازيلي، يستدرك أحد أصدقائه إن المهم من الصراع، لصالح مَن الحل. ويرد أخوه بأن الصراع لا يُفض بقمع ولا بعزل بين طرفي مشكلة، بل بتعايش في ظل سلطة مؤمنة بالتنوع، أي معالجته إنسانيا. إذن الصراع في العراق والمنطقة ليس بين طرفي فكرة معينة، أو إرادة معينة، إنما هو صراع بين فكرتين على السلطة، مغلفا بسلوفان السياسة متنوع الألوان. يدرك حامد مبكرا، وهو المتحول الأبدي من فكر لآخر، نتيجة ترهيب وترغيب من ظرف قاس، حقه في تبرير ما يقوم به (السلطة نفسها موضوع صراع، وكل قرار ضمنا قتل جاء من فوق من أصحاب عقول.. كندي شاهد).
في نهاية الجنينة الأولى، تلتقي متناقضات، النقاء والتلوث، الحذر والمغامرة، تتسارع الأحداث، تتكاثف، والقارئ يلهث وراء عقل حامد المضطرب، ومعه يرى تصدع البنيان الداخلي للبيت العراقي، بممارسات رباب الغريبة في الغربة، بانطواء خالد مع قصف بغداد بطائرات قوات التحالف، وقت تلطخ (حامد) تماما، بممارسات سياسة معقدة، بدفع من حماة السلطة حينذاك، بينما تجد رباب فرصتها لهرب من الواقع، بانضواء تحت جناح السلطة، ثم بعثة إلى الخارج يساهم فيها نفس الشخص الذي كان له الدور الكبير في تلويث (حامد) ويبدأ التكوين المنسجم فكريا وجسديا لحامد ورباب يتفكك، يواصلان خوض تجربتيهما بمعزل عن الآخر. تنتهي الجنينة الأولى مفتوحة، (رباب) تسقط مع (عدنان) رمز السلطة، بعد أن أصبح قنصلا في السفارة العراقية في موسكو، حامد يهرب إلى الخارج بمساعدة المخابرات العراقية، يمارس دورا بدأه في العراق، مشوار عبث آخر، ينخرط مع جموع المهجّرين إلى إيران، يجد عمه (عبد الصمد) منتقلا إلى الشام، ينضم للمعارضة الدينية، التي تظهر وتكبر هناك على السطح السياسي، بعد الانحسار المخزي للأفكار التقدمية والعلمانية.
ذلك حدث في واقع نعرفه، في الرواية، لكن الأهم من ذلك كله ليس ما حدث طبعا، بل كيف تم سرده، على أي مستوى، بأي ألوان، ماذا انكشف؟ ذلك هو الفن، فيه تكمن قيمة النص، وفيه الدافع لمواصلة الكلام عنه حتى بعد مرور عشرة أعوام على الطبعة الأولى، وما زال النص الذاخر هذا بالكثير ينتظر ولادة أخرى، بطبعة جديدة قادمة.
كافيار، انهيار، ونساء جميلات
في هذه الفسحة من (الجنائن المغلقة) نرى التفكك يسري في شخوص المنظمة السرية، حال أساسه غياب التفاهم وتراجع القانون، يغزو الشك العقول من جدوى حرب تطحن الجميع. والتسلط والخوف وعدم الثقة يؤدي إلى الكذب، إلى توجيه الأحقاد نحو أي شخص لا ينتمي للعصبة. هكذا تلازم ثنائية الخير والشر في الحياة الكثيرين، كمبدأ للعيش أيضا، في عهد غامض الأهداف والرؤى، يغدو الفصل بينهما هو الخطأ، ولا نجد غير ذلك يُفسر انضمام ملايين إلى حزب سلطة، ثم تحوّل معظمهم بعد التغيير دراماتيكيا إلى مواقع على الطرف المقابل، وهم في غير حيرة من أمرهم أو تدبير بين جبل نور وجبل نار. ويبقى المستور حافلا بالمعاني، كما الراديو بالأغاني، أكثر إن برهان الخطيب يطرق رؤوسنا بحقائق وأسئلة كنا عاجزين عن تفسيرها، بلد شعبه فقير وأرضه غنية بخيراتها يقوده حزب له مبادئه الخاصة، ثم بعد تحديات وتجارب قتل مريرة يتحول إلى حزب جماهيري، يخوض الحروب ويهدد الجيران، ذلك من واقعية مبتذلة برأي (عدنان) ابتلى بها ساسة وجروا بها خلفهم إلى النكد شعبا برمته. الأهم من ذلك (هز الرؤوس بالموافقة دون تفكير، و إلاّ فإنها تُقطف أو تُأمم أو تُحلق) كما جاء بلسان (غالا) الموسكوفية الحسناء، يرسم جمالها المؤلف بفرشاة ملائكية سليلة للآلهة إنانا، أو فينوس، على لسانها ينبهنا إلى محنة الشرقيين، إلى أحد أسباب فشلهم في الحياة (انتم الشرقيين أحاديو التفكير والرغبات، هذا يعيق تفتحكم) ذلك حين أراد عدنان استمالتها، لمعرفة شخص حاول إيذاءه، ظهر انه (ضرغام) صديق خالد أيام الطفولة، ابن العائلة البرجوازية الإقطاعية، المصاب بحمى ثأر لوالده، الذي تسبب عدنان بإعدامه، يتيه في شوارع موسكو ومقاهيها، ورغم مكنونه البرجوازي يدرك وهو في محنته جوهر صراع الطبقات (الأرض لمالكي المال جنائن، لكنها مغلقة للفقراء) وهي برأي (خالد) أرض الجنائن المعلقة، التي غدت في ظل حكم الحزب الواحد مغلقة، انعكاسا لنظام شمولي لبلد الاشتراكية الأول في وضع دولي متداخل. حال ليس لنا فيه لنكبر غير جنينة النفس، اللامتناهية، في رفض لفكرة الموت شكلا للحياة، وعلى لسان بطله يحاورنا المؤلف نحو غاية، يجارينا، يناقضنا، يدلنا إلى هدف أسمى، هو التفاؤل المستنير، رغم شظف وعنف، باعتباره الضمان الوحيد الباقي، لاستمرار الإنسان في حياته طبيعيا، هو ليس تفاؤل البله طبعا، الساهي عن المصائب، بل هو تفاؤل الحكيم العارف ضرورة وجدوى وقوة الحكمة الفاضلة، خاصة في ظرف شديد القسوة.
في عالم تلتقي فيه الأضداد، كما الحكمة بالعواطف المنفلتة، يلتقي (خالد) مع صديقه (ضرغام) الذي اعتاد مناداته بعواء ذئب عال رافعا رأسه (خلدوووووون… بزوووووون) يقلده أشرف زازا تماما، في مسلسل وادي الذئاب الشهير، بصيحته: (نجد…..ة… النجد…..ة) كأنه توقيع من المسلسل واعتراف بحسن استلهام من (الجنائن المغلقة) ومؤلفها، وصل من ألمعي يكتب قليلا، ما يدفع لقول إن تداخل الوضع الدولي انتقل من السياسية والاقتصاد إلى الأدب وغير الأدب مع تجلي الاقتباس من هذه الرواية لذلك المسلسل وغيره، بالأساسي طبعا قبل التفاصيل، طالما للوطنيات ألوان مختلفة. كلغة الحوار المنطقية المحكمة، صراع الساسة بالأفكار والقتل، البعد العراقي لرواية الجنائن المغلقة مقابل تتريك ذلك بالمسلسل. سابقا فعلوا ذلك أيضا بتعريب بعض الأفلام الغربية، علما قد نشرت الرواية بدار بوديوم السويدية قبل المسلسل بعدة سنوات، عام 2000 تحديدا، وكتبوا عنها أول صدورها بأنها ترصد ظاهرة بروز القطب الأوحد في السياسة، ثم استكمل برهان الخطيب تلك الفكرة بمقال عام 2007 عن تحول قيادة العالم إلى عدة أقطاب، كذلك عن ضرورة تكامل العرب وتركيا وإيران وصولا إلى نهضة للعرب حديثة، وعن تشكل الكتلة الأوراسية، لتحقيق توازن وانسجام في الوضع الدولي، لصالح العرب والعالم. ذلك استطراد طبعا لتوضيح البيئة التي صدرت منها الرواية وروحية المشاكل في ثناياها.
نعود للقاء خالد وضرغام، في حفلة صحبة صديقته (غالا) حيث يأنف (خالد) من تقطيع خنزير صغير جلبه ضرغام من السوق، كما يمتنع ضرغام عن ذلك، لكن (غالا) الحسناء التي هي برأي صديقها (كريس كيلي ومارلين مونرو وكيم نوفاك ومادونا معا) تبدي استعدادا لتقطيع الخنزير، متقبلة ذلك بكل أريحية: (دعوه لي، أنا أحب التقطيع)..
حياة غدت حقل ألغام
هل في ذلك الصوت البعيد إيحاء ضمني لتقطيع عدنان إلى أوصال في ستوكهولم؟ ومن ثم فرارها (النساء قويات، لأنهن يرين الدم كل شهر بعادتهن الشهرية) فسّر خالد ذلك، ومن مفاتيح اللغز التي تبقى ترن في مخيلة القارئ انه حين قال (خالد) لها إن معظم تاريخ الجرائم من حصة الرجال، استدركت غالا بلا مبالاة: (ربما لأن جرائمهن لا تُكشف) بعد ذلك ينقلنا المؤلف إلى عدنان، هذه الشخصية المتمرسة في العنف، منذ كان شابا في الحرس القومي، إلى أن أصبح قنصلا في السفارة العراقية في موسكو، يقدم لنا جوابا لأسئلة محيرة حول مسيرته الطويلة المتعثرة وشعوره (بدل الثقة والكبرياء وقوة الشخصية.. بتفشي مع الأسف الشك والخوف والرذائل) هو الشخص الذي ساهم في بناء شبكة عنكبوتية لسلطة، ثم أصبح متذمرا لاعنا الوضع الإداري كله، حيث لم يعد يعرف فيه (مَن مسئول مَن) إذ ذاك يكشف الكاتب التكوين الاجتماعي لهذه الشخصية، منذ أيام طفولة بائسة، ابن قرية فقيرة مفلطح قدمين، من المشي حافيا، حتى ينقلنا بروية إلى أواخر العهد الملكي، إلى العلاقات الاجتماعية الرصينة إذاك، تمثلها شخصية نقية اسمها (سالم عبد الستار) يرفض الرشوة، يحرص على سمعة وتربية عائلته، ويكشف من خبايا تهريب الآثار انه نفس المجتمع المتناقض، الهابط نحو فساد، فيضع مسافة بينه وبين شروره، لا يدع زوجته تدخل بيت الوجيه بيك ذياب، عسى أن لا يتلوث، لكنه مجتمع قهّار، مشتبك الخيوط، يجابهه (عدنان) بتحد أكبر، بكبر ما نال منه، حين يَنزل بل يُنزل إلى مرجله عنوة، منذ عبثوا بشقيقته، وعنوة يصبح مثله خليطا من خير وشر، حتى يدرك أخيرا إن الحياة الجميلة، التي كانت مليئة بالسمو والنبل والشجاعة بداية الثورة، غدت في نهايتها حقل ألغام، يعود إلى بلده مودعا تلك الحياة بأسى، مرحبا بأيام الشقاء، وهو في شجاعته المعهودة، مدركا عدم توازن اللعبة حوله، عليه أن يفعل شيئا لإنقاذ نفسه، وربما البلد في آن، فهل يتمكن فرد بلوغ مناه دون تصور شامل للوضع حوله؟ غير محتمل، ترينا الرواية.
بلد النفط والفوسفات يجب أن يتصدى للتوسع الأجنبي، ليجاري بورصة وول ستريت، هكذا تحوِّل الظروف (عدنان) إلى حكيم، يلمح إن كل كلام عن قيم قديمة مضيعة للوقت، الكل يدافع عن مصلحته، القيم نظام ولا شيء يقوم بدون نظام، إنها ثنائية الخير والشر واستمرار تداخلهما في الحياة (مصيرنا لا يولد معنا ولا يصادفنا على الطريق، بل هو قارب، تصنعه في جزيرة وحدتك، بنفسك لنفسك، إذا أردت النجاة).
بموازاة ذلك يغوص عدنان في علاقته الآثمة مع رباب، في بحر من حب مصحوب برذيلة، متناسيا أو مطفئا ألمه وندمه بالتي كانت هي الداء، وربما الدواء، تتحول علاقته معها إلى نوع من إدمان، وهي بأساليب الإغراء المتنوعة التي تمارسها معه تتحول إلى شبه عاهرة. مع العري والتهتك يجد ضالته لغسل أحزانه، وقبل سفره عنها تصارحه بحملها الثاني، حيث الخطأ يولد خطأ، ولا سبيل هناك غير الاجهاض، كما يحدث حين تُجهض ثورة برمتها.
يحركنا الكاتب بعد ذلك بنقلة رمزية إلى بغداد، حيث يُستدعى (عدنان) لمقابلة رئيس الجمهورية، ومع المشاعر المتناقضة له إذاك تدرك مدى الخوف الذي يتعرض له أكثر المواطنين إخلاصا للدولة وإيمانا بقائدها في غياب القانون، لجة من الشكوك ومتاهات التفتيش، يسترجع عدنان على عتبة ذلك اللقاء التاريخ البعيد لنشوء الإنسان وتطوره، مرآة مغبشة لحال هو فيه، مليون سنة مرت منذ بدأ مخيخ (لوسي) الحبشية، نصف مخنا، يكبر، ويكبر، وها تفاهم ادمي مع ادمي شبه معدوم، حيث يسود الإرغام والقسر، فتفاهم مع رئيس، لا يأخذ ولا يعطي، يعني تنفيذ أمره، يعني كلاما حسب هواه، أي مضاعفة الخطأ بآخر في غياب العقل.
في ساعة متأخرة من ليل
ومن فحوصات الصدر بالأشعة إلى فحوصات الأعضاء التناسلية يقرف (عدنان) المغالاة خرجت من كونها حماية إلى ترهيب، رغبة لتغطية خطأ، أصبح يشك حتى بنفسه، يراها عنصرا مشبوها، لكن العقل فيه يبقى يدافع عنه، ضد عقل متجبر خارجه، كاشفا عن عالم حولنا متصارع بكل الوسائل، من غير فقدان بوصلته الإنسانية عند مدرك: (العظمة ليست في سحق الآخرين، بل في استيعاب رغباتهم والتعبير عنها. النظام المجبِر على صمت آلة كارثة) وبعد سلسلة من المقابلات والنظرات الفاحصة، من عقداء ومستشارين أمنيين ومرافقين وأقرباء للرئيس، ومزيد من خضات ونظرات لوم وعنجهية وكبرياء مبالغ فيه، يتمكن عدنان من مقابلة وكيل المطلق، له محفّز ومعادل حتما في زاوية أخرى من الوجود البشري، حسب قانون لكل فعل رد فعل، رغم إهمال البعض لشرطه الثاني، و إلاّ ما ظهر هذا هنا لموازنته، واقفا على مبعدة مترين عنه، أشار لعدنان ليجلس، ومن وراء المكتب قبالته يبدأ الاستنطاق، لا المقابلة، كأنه في حضرة رجل أمن وقاض وفيلسوف وحاكم اجتمعوا في واحد، يستفهم صدام من (عدنان) عن رأيه بهدوء الجبهات، يفسرها هذا بهدوء معارك العقول عادة، المجدية لو كانت بين: (عقلنا وعقل العدو).
والفضيلة لو ما دعمتها قوة برأي صدام لا قيمة لها.. تجرفها الرذيلة، وترينا الرواية، وهي الوحيدة بعلمي قدمت (صدام) شخصية روائية واقعيا، أي بوجهيها الإنساني العادي والمتشدد، وكيف يستدرج رجلا من رجاله على وشك الانشقاق عنه إلى حقيقة ينبع منها النظام، وبالتالي القيم، وهي: الإخلاص، كما يلمِّح له في المقابل بعقاب شديد، مألوف لأجهزة الكتمان، أبسطه (الآذن التي لا تسمع جيدا نقطعها، واللسان الذي لا ينطق صحيحا نقصه) كما يلوِّح صدام لعدنان (الطبعة الأولى للرواية عام 2000) إن تغييبه يعني: فقدان المنطقة مَن يدافع عنها. وبين المرارة والتحدي واختبار محدثه يقدم الرئيس مسدسه الخاص إليه، يطلب منه رميه، ليرى التاريخ.. مَن يعده يتصدى لأعداء الأمة؟ ثم يعمد لدعوته حين يشك في إخلاص عدنان، إلى حفلة إعدام صديقه (إياد) فماذا تبقى من دراما القهر والتشتت هذه، غير قتل الصديق ورفيق العمر، لا لشيء سوى لأن غياب العقل يحوّل نابذيه قتلة، ودخول الأجنبي يجعلهم نكرات، منوها بذلك لضرورة التغيير قبل الغزو بأي ثمن، حتى لو بتنح عن السلطة.
في ساعة متأخرة من ليل كالح يُساق عدنان إلى القصر الجمهوري، في الطريق يكفر بعنجهيات رؤساء وساسة لاعبين بمصائر بشر، يدرك أخيرا إن خشونة الصبي المترعرع بتشجيع وإعجاب لها من الأقربين تنتهي بعنف، بذلك الحجم الجمعي والاتساع، حيث يتلقى الأهل قبل غيرهم في المستقبل مردود ما وظفوه في بنك أوهامهم في الماضي. يقابله صديقه (إياد) قبل لفظ أنفاسه الأخيرة بآخر كلمات مذبوح الصوت من الألم (كن من تكون، هنيئا لك ولغيرك هذا العالم الذي تعيشون فيه) ويقتل عدنان ما تبقى من روحه، من إنسانيته، يشرب قدح حقارة إلى منتهاه، تدوي الطلقات منفلتة من عقال عقله هو طالب العقل: (طراخ! .. طراخ! .. طراخ!) على درب مختار أصبح لمحتار، غابت عنه المشورة والشفافية واليقين، لم تعد تنزل عليه إمطورة منعشة، لحب الزوجة والأخ والقريب والصديق (إنه درب العدم والمطلق والرجاء الكاذب، فأية سفاهة كبرى تبدّى عنها هذا الوجود!) تلك هي صيحة برهان الخطيب الوجودية البعيدة التي يطلقها هنا في نهاية هذا الفصل، في أمل لدحض العبث السياسي قبل الميتافيزيقي، سعيا لإعادة ترتيب الوضع العراقي ومعه العربي، وربما العالمي، على سكة متجهة نحو المستقبل، لا الماضي.
منزل الغريب والبلابل
بعد عقد ونصف من الكتابة والدراسة والعمل في الترجمة في بلد الاشتراكية الأول، حيث العدل والمساواة واللا طبقية وقيل أكثر، يُرمى (خالد) مخفورا خارج الحدود، لا لشيء سوى لأنه رفض أن يعطي من نفسه ما جعله يغادر بلده سابقا، في لعبة قوى خفية همها إحكام قبضتها على نشطين، وبهم، على عالم أكبر. فأي إحساس بهزيمة عانت تلك القوى منه في مواجهة فرد، تبدى أكبر منها، بتمسكه بحريته مع إدراكه: (في بؤرة عالم محترب لا وجود لخط وسط، عالم تأليه الفلس الذي استهان به).
كما هناك في بلده آلاف العراقيين انتزعت منهم مثله وثائقهم وهُجروا إلى خارج الحدود، وآلاف أخرى سيقوا كخراف إلى حرب ضروس، وإزاء الأزمة يراود خالدا إن الخلاص في عالم الفلس بـ (نفس أخرى لها رصيد في جيب أو بنك، حينه يكون السعي إلى البقاء والرصيد أطغى، من غير جمال حقيقي وأخلاق عالية) حيث أينما تخطو القدم تجد الشك يحيطك، مبينا بذلك إن للإنسان المعاصر مأساة، ظاهرها عدم السماح له بأن يكون متفردا، وفي تفكيره حرا، عليه أن يصدق أكاذيب، يكون جزءا من كل غافل عما يجري، و إلاّ فالثمن الذي يدفعه باهظ (كيف سولت لأولئك المتحضرين أنفسهم أن ينفوه بتلك الطريقة الهمجية عن عمله وابنه).
وإذ يعمِّق الألمُ الوعيَ يصبح اليأسُ مكافئا أحيانا لتخلص النفس من وهم، حيث لا وجود للعقل المجرد في حياتنا وسط ركام تخلفنا سوى لدى مستفيدين من ذلك (تحتاج فكرتك مجتمعا لتنمو فيه) وذلك ما يجعل فردا عند النكوص ضد رغبته ماسوشيا، إنه النقاء الداخلي، عدم رغبته في إيذاء الآخرين، عدم قدرته أن يكون جزءا من آلة نظام تؤذي الآخرين.. كن شيوعيا أو بعثيا أو قوميا أو اسلامويا يكون لك ناسك ومريدوك، لكن إن تكون نفسك يحاربك الكل، فهل (الحضارة قذارة ملفوفة بسلوفان جميل) أو أن الأديب ليس من يَفهم الناس، بل مَن يحاول إفهامهم نفسه، المشذبة، المدركة، ضمنا رسالة استثنائية، كـ (الجنائن المغلقة) التي تظهر مفتوحة أمام طلاب التأمل في مروج فسيحة؟!
من خلال بقية الأبطال نرى إن العراق كانت تديره حكومة ملكية، حينه انتشرت في العالم موجات ثورية واشتراكية، ثم غُيرت الملكية وتعالت صيحات القومية والوحدة العربية إلى ما بعد 8 شباط 1963 وفي أقل من عام أعقبت قوى معتدلة، تمهد الطريق لتغيير آخر، ثم عاد البعث، ومن تأميم النفط دخل البلد متاهات الحرب والجوع نحو قبضة الاحتلال، اشتباك قوى عديدة أوجزه خالد: (الشيوعيون صراعهم صراع مصالح، والسلفيون صراع قيَم، والقوميون صراع على مناطق نفوذ، والكل يضيع منجزه حين يتصارع على مكاسب آنية) حتى نجد الكاتب على مذهب غراهام غرين، يحوِّل بطله اللا منتمي من إنسان لا دخل له في الصراع إلى ذي رؤية، في بؤرته، حيث يكتسب فهما أعمق للصراع. إنها ليست الاستقلالية إذن بمعناها الساذج، بقدر ما هي غور في الحلم الإنساني المتفاعل مع الوجود، الاجتماعي والميتافيزيقي، لتأسيس جنائن مفتوحة للجميع على كرتنا الأرضية، وقت يوصدها بوجه العامة دعاة حرب من رأسماليين وصهاينة، والنتيجة يكبح مثقفون وحزبيون ومتعلمون طموحاتهم تحت وطأة الضرورة، نحو مهادنة، إلاّ اللا منتمي من هذا النوع، لأنه يمتلك رؤيته الخاصة للعالم، وذلك مجد لديمومة الحلم وانتشاره، ويمنح هذه الرواية سمة خاصة كونية.
في دمشق يبدأ فصل جديد من حياة (خالد) المتعرجة، يكشف الكاتب خلاله عن حال العراقيين في مهجر عربي، عن طبقة جديدة من الأفراد، جلهم لجأ إلى الفكر الديني، يلتقي خالد أبناء بلدته الفيحاء، هاربون، مهجرون، فنانون، سياسيون، بعضهم انحدر إلى عهر، وحينما يلتقي عمه (عبد الصمد) يتجاوزه هذا لأن (خالد) لم يكن يوما مرتزقا، يتجنب الانخراط في صفوف معارضة تغلّب الثانوي على الرئيسي، حمراء خضراء بنفسجي صفراء، كل ألوان الطيف الشمسي، لكنْ، أيٌّ بمفرده لا ينير، وجودها معا فقط يولّد النور، هنا هزيمة أهل القيم كبيرة أمام متدافعين على منافع. (خالد) يرفض الهزيمة (على المهزوم التفكير بأسباب هزيمته، بقيمه) وحين يلتقي مع عمه الآخر (صلاح) ممثل المعارضة الشيوعية في الخارج، يدور نقاش قاس، حول الخير والشر، يرفض خالد كون الشر شرا مطلقا، والخير خيرا مطلقا، الهزيمة شقت الناس (أرى داخل كل جلاد ضحية وفي كل ضحية جلاد).
الحظ أم العقل أفضل؟
يستضيفه في المنفى أحد الميسورين، فخالد الغريب هنا يمثل قطبا يجتذب الكثيرين من المهجر، ينتبه الرجل إلى اختلاف ضيفه عن البقية، ينصحه بالرجوع إلى شرقه، إلى ذاته الحقيقية القديمة، لكن خالدا يدرك إن استقلاليته ليست رغبة في التفرد حسب، إنما هي ردة فعل، لا مناص عنها، على مجتمع قهار يضيع الحقيقة، هنا وهناك. وإزاء ذلك القنوط يتصل مع والدته في بغداد، ينقلنا الكاتب إلى أسمى صور النبل والإيثار والحب الحقيقي، يهزك، يبكي عالما يتهدم في صمت، يأتيه صوت أمه المتهدج، يستعيد جزءا من قوته المبددة بهواجس، يغالب ألمه في منزل الغريب والبلابل، منزل النفي والهجرة، هنا تجد البلابل تتكالب برقّتها على (خالد) الإنسان المتفرد المتصلب المازح، تفترسه بإثارة شجنه، كما تجد الشاعر، الراقصة، المغني، الشابة الفلسطينية وإيماءاتها من شباك الشقة المقابلة، الفنان التشكيلي الذي يزوّر الجوازات تاركا جداريات بابل خلفه، حتى القنصل السوفيتي الطاشقندي المسلم، الكل تحول في غربته إلى بلبل يشدو بشجن، الكل يزقزق، يغرد من زاويته، في انتظار فجر، ويتساءل أحد البلابل، وهو صحفي يعيش بين كوم أتربة وكتب في قبو (قل لي، هل يعدل الحال يوما لأصحاب العقول، أو نحن نخدع أنفسنا.. بالأمل) ذلك أعادني إلى أحد المهندسين الزملاء، حاصل على شهادة دكتوراه، دعا ربه دائما (يا رب اجعلني من أصحاب الحظوظ لا من أصحاب العقول) المشكلة واحدة، (خالد) يفيد: (التشخيص نصف العلاج) يجيبه الصحفي: (التشخيص يحتاج حرية كلام ولحما نأكله) ويسترسلان في مزاح وتداعيات: (واللحم عند القصاب، والقصاب بيده سكين، والسكين ترقص على رقبة مسكين، والبعير يغني لحمي للي عنده قريشات) ويصيحان مقلدين البعير المذبوح (هيع… هيع … هاعوووو) ذلك هو ديدن التحدي لدى العراقيين في محنة، ولمَن لا يعرفه أقول كنا، برهان وأنا، نتجول قبل شهر بين ركام بغداد المتهالك، في توجس طبعا من غدر مجهول، رغم ذلك ضحكنا كثيرا، لشدة يأسنا أيضا من تعدل الأوضاع، حتى نبهني الروائي بأنه يجب علينا مراعاة مزاج الناس، امتعاضهم في المأساة منتظر من سارح بخياله فوق خراب. فقلت له: لا تبتئس، لنا حق في قليل من مرح، كما هم يدرون، الرقص هنا لطير يذبحه ألم. وفي الرواية هذه قرأت له بعد حين: لا ملكة جمال الكون، ولا جنة على الأرض، ولا أفخم الصالات، ولا أعذب الأوبرات، تعوض الحب الحقيقي، ومسقط الرأس، ومقهى الطرف، وأغنية الشباب.. فمن أي نمط ذلك العراقي العربي النافر من غربته إذن، أكان خالد بطل الرواية، أو برهان كاتبها، أو قارئها المعذب هنا وهناك (نمط المغترب الحائر، أم الحائر المغترب) تساءلت عن ذلك وأنا أرى الفرق بينهم يتلاشى، تلاشيه بين (خالد) الفقير و(هاملت) الغني.
في مشهد آخر من الرواية يتذكر الرئيس السوري حافظ الأسد في اجتماع مع المعارضة العراقية بعض شخصيات شكسبير (نزاع عائلة يعبّر عن نزاع أمة) من خلال الرموز الثلاثة الأساسية التي طرحها كاتبنا في تصوره للمعارضة العراقية، تحديدا (عدنان) البعثي الهارب، (صلاح) الشيوعي المغترب، و(عبد الصمد) المعمم المهجَّر، كلٌ منهم يفسر الأمور بطريقته، المعمم يجد في هاملت جانب من مقتل الحسين، بينما يؤكد (عدنان) إن ما رآه هاملت في تخيلاته لغيمة في السماء على شكل بعير، إنما هو تعبير عن الروح العربية المؤثرة في الحضارة، فيما ينحى (صلاح) بعيدا عن شكسبير، إلى واقعه المؤلم اليوم. ويستدرك الرئيس السوري في سبر ثاقب نحو الحقيقة في ذلك المشهد الأخاذ بأن الصراع داخل المعارضة هو صراع قيم، وليس صراع مصالح واقتصاديات أمم. لذلك هو قابل للحل دون نزاع، وحين يجيّره (صلاح ) لصراع مصالح، وعبد الصمد لصراع طائفي، وعدنان لصراع على مناطق نفوذ، فإن تنافسهم الطبيعي ينحرف، برأي الرئيس، يتحول إلى صراع على مكاسب آنية، وبذلك يفقد الكل هدفه البعيد، ويخسر الوطن معهم.
في نهاية الجنينة الثالثة يقوم الروائي بتحليق شاهق، فوق أحداث العالم، حائما في آن حول بؤرة الرواية، أي رمزية تسفير (خالد) من الاتحاد السوفيتي، كاشفا بذلك عن خيوط لعبة دولية مديدة جديدة، بدأت بإبعاد أرانب وسوف يعقبها إبعاد الثعالب، وبرمزية أيضا يسقط (صلاح) الشيوعي، الممثل للإيديولوجية الثورية والاشتراكية في العالم الثالث، من القنطرة، حيث لا عبور بعدها إلى أي مكان خارج المحنة، أي مواجهتها بواقعية ونزاهة (يعبر الكاتب عن ذلك بفتح صلاح عينيه في مستشفى، تحت نظر خالد، الوطني العربي الأممي، الستالايت، كما أسماه صلاح) بينما تتوالى أفكار (خالد) بين البقاء في الشام العزيزة عليه والرجوع إلى موسكو، حيث ابنه وشقته و.. (أوراسيا) في الوقت الذي يراوده الغرب ملاذا آمنا من المحنة، بعد تجربة مريرة مع الشرق، ويذكره أحد رموز المعارضة بأنه لا يمكن الوثوق بالغرب، لأن هدفه البعيد إخضاع المنطقة. ولأن الأمل المرجو لا يأتي من دكتاتور يستضعف الجميع، فذلك يسهل إخضاع البلد للأجنبي، عليه أن يجد طريقا ثالثة إذن، نحن أمام إحدى إرهاصات الكاتب البعيدة لما يحدث، أُجهِضَت مؤقتا عند تقاود معارضة مع غزو 2003. وليس إلاّ حين تشرف الحرب العراقية الإيرانية على نهايتها تتيسر لخالد العودة إلى ابنه في موسكو، هناك أيضا يجد العالم قد انقلب، واضعا العراقي والقارئ بذلك على موقع الصفر شبه المطلق، بداية جديدة لتأريخ قديم، المؤسسات الكبيرة تتحلل إلى دكاكين صغيرة، شوارع قذرة مليئة بفئران وأناس شاتمين، لاعنين، عواهر خشنات لا يبتسمن إلا لمن تعامل معهن بغير حسنى، تعامل أجنبي مع باعة مصير.
موسكو الخطيب انتهت
موسكو الخطيب انتهت، نهاية تذكر بموسكو تولستوي بداية القرن التاسع عشر، حينما احتلها نابليون، آنذاك أيضا صالت العواهر واللصوص والقتلة تمرح وتجول في طرقاتها.. وها حريق آخر شب في موسكو، إنه حريق البرسترويكا، آخر ينتظر بغداد بالغزو، وقد يغدو مثل الثاني حريقا مطهرا لو التهم اليابس والعفن الواجب إزالته. إن برهان الخطيب يمسك العصا من وسطها دائما، لا يدعنا نقنط، يقربنا بالإيماءة الحرة لطرفها الآخر إلى الروح النبيلة، والذكاء الفطري، المتمثل بابن (خالد) الصغير، الذي يشم من النافذة، وهو في الطابق الثامن، رائحة آبيه الغائب، أي صورة أكثر إنسانية وأكثر تناغما من تلك، ولا نفاجأ، حينما نجد خالد في مقابلته لابنه، هذا المخلوق الصغير، المرهف الإحساس، (هذه الإشراقة المطلة من بين الغيم على حياته) يصبح أكثر قوة وعنفوان، لا يستسلم للغرق في بحر الأكاذيب والحماقات القاتلة، لا يختار غير أن يقاوم، غير أن لا يستسلم لهوان، متجنبا إلغاء الواقع المشين باستهتار أو جنون، مفضلا المواجهة العقلانية، المدركة لضرورة القيم العالية في حياتنا، حينذاك يجيئنا (برهان) بشفاء مبين، لما ابتلينا به نحن المترددين بنكوص، إذ يدفعنا إلى التوازن، إلى إعلاء النفس بإبداع، ولا يدع أرواحنا تثلم، بل يجعلها بقوة الفن صلدة كالصلصال.
ستوكهولم.. جنة يحكمها شيطان؟
ينقلنا برهان بهذه الجنينة من موسكو، حيث البرسترويكا والعشوائيات التي رافقتها، إلى ستوكهولم، إلى النتائج الوخيمة لحرب الخليج الثانية على العراقيين والحصار العالمي على البنى التحتية للجماهير المبتلية دائما بأهواء الساسة ومصالحهم.
وهنا (ضرغام) ذلك البرجوازي الهارب، صديق طفولة خالد، ابن الحكم الملكي المولع بـ (غالا) المتزوج منها أخيرا، وسط وحشة العلاقات الحميمة التي أخذت تبرد وتتراجع، فيمني نفسه تعويض ذلك بقضاء نهاره بين ساقيها، إلى أن تقول له (شكرا جزيلا، لقد حبلت) لكن تلك المرة، وهو يواصل منحها من جسده وروحه، شعر إنها باردة تحته، غير متفاعلة معه، ما شكّل تواصله معها نوعا من اغتصاب، حسب تصورها، ذلك يؤدي إلى الحكم عليه بمحكمة (ياغوبزبيري ـ جبل يعقوب) سجنا ثلاثة أعوام… لكن شيئا ما كان قد حدث قبل ذلك، أدى إلى خراب علاقتهما، إلى نوع من فوضى وتغير، ولا سبيل إمامه لمعرفة حقيقة الأمر (هل نحن نكسب الزمن، نجعله لحظات، نطالب الكون والآلهة بتمديده، لأننا فهمنا قدرنا، أو نحن أموات بالحيات.. كما تقول غالا!).
إن رواية برهان الخطيب كتاب مفتوح في عالم السياسة والأدب والفلسفة، إنها تؤسس لحقيقة جديدة لعالمنا، حقيقة اللا ممكن الذي يصبح ممكنا، ينبغي قراءتها للقيام من خلالها برحلة استثنائية، في جنائن تبدو مغلقة، لكنها إذ تفتح بواباتها للقارئ في حوار خفي معه، تشرعها نحو سماء بلا حدود، حيث تُسمع أصوات أدغال وطبيعة كلية، في محاكاة ودحض لعمق مأساة الإنسان المعاصر، المغترب في حضارته، التي تبدو في طريق مسدود، بقهر حروب لا تنتهي، إنما تهبنا على مروج لا نهائية لها حلولا من خلال كشف حقائق (بدون تدخل المؤلف) حول خيارتنا، للدرب الذي نريد، كأنها (سفر تكوين) آخر الزمان للعراقيين. ويمكن فهم من أين جاءت هذه الرؤية هنا، فالمؤلف لا يحبذ العنف والأكاذيب ولا تغليب المصالح الشخصية على العامة، يرى الجميع سواسية، حتى (عدنان) يتعجب من تفسير وربما تبرير (خالد) للدكتاتورية، بوجود عدو على الأبواب، ولعل ذلك نزل عليه من فكرة (القيصر الطيب) السائدة في الثقافة الروسية قديما، وعادت اليوم حية في صورة الرئيس بوتين. المشكلة إذن أزلية منذ خلق الإنسان، وان خلق (الله) للشيطان وتمرد هذا أعطانا بالنتيجة الجحيم والنعيم، وعلى الأرض الكبار والصغار، تضارب المصالح، والضحية دائما هو الإنسان البسيط، فهل في ذلك دعوة ليقظته!
في هذه الجنينة المغلقة، الرابعة، الأخيرة، التي هي عودة أيضا وامتداد للبداية البعيدة (إنها ليست مقدمة) تظهر الشخوص الرئيسية في الرواية حلقة واحدة، غالا الحسناء المسكوفية الغامضة، ضرغام البرجوازي السابق، خالد الكاتب، الشعاع المنير الذي لا يُمسك بيد، وعدنان يمارس آخر لعبه، حيث ينتحل اسم إياد مجيد، الذي أعدمه بنفسه في بغداد، ويظهر به في ستوكهولم. وهنا نرى ضرغام في دوامة علاقات غير مفهومة وسلوكيات جديدة تمارسها غالا أثناء ترددها على شقة إياد مجيد (عدنان) حيث الشمس المشرقة في حياته الباردة تنطفئ، وخالد يستقطب الزوابع بمحاضرة شاملة عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في بلده، يطلب التغلب على النفس واستيعاب ما يريده الغير، مقدمة لتفاعل أو وقفة مقابله، محذرا من تحويل تفكير غيبي توسعي إلى برنامج سياسي، جاعلا بذلك من جهنم جنة بالفلسفة، حسب رأي ضرغام، التائه الحائر في حبه ومصابه منه، واضعا الحب عموما موضع تساؤل. أما العنوان الغريب لهذه الجنينة فقد سألت عنه الخطيب كيف نحته، قال ثمة مقولة عن ستوكهولم تفيد بأنها جنة يحكمها شيطان، لكني فضلت جعله (جنة فيها مكان لشيطان) وقد أكون صخبت بعزفي عليه.
له ظل قاتم
الأسمر، ذو الندبة بين الحاجبين، التي يؤكد عليها الكاتب في البداية، لفك السر الكامن وراء تقطيعه وبعثرة جثته في أكياس نفايات، بأماكن مختلفة من العاصمة ستوكهولم، عدا الرأس التي لم تتمكن الشرطة السويدية من العثور عليها لتعرف (ماذا يخفي ويدبر هذه السياسي الانقلابي المخضرم المتقافز فوق الألغام من بغداد إلى موسكو فإلى بغداد فدمشق ومنها إلى ستوكهولم) يتضح له ظل قاتم، يعيش حيا جنوب ستوكهولم، وبعملية شبه بوليسية جد مشوقة يقتحم خالد شقة الظل، إياد مجيد، يكتشف حقائق جديدة، أسماء صحفيين من ضمنها اسمه، تلفونه، منشورات متنوعة للمعارضة، حتى يجد اسم أخيه (حامد) الذي انتقل إلى كوبنهاغن، استقر هناك، إلى أن يعرف بمتابعة إلى هناك إن أخاه أُرسل لقتل (عدنان) الذي استثمره سابقا أسوأ استثمار، ثم أصبح يطلب منه أن يكون حلقة وصل بين المعارضة في الخارج و (نوفل) زوج أخته العسكري المخضرم. تزداد كراهية حامد لعدنان لتلاعبه معه، لتحويله شخصية مشوهة متمرسة في الانتهازية والرداءة، وأيضا لاستغلاله ابنة عمه، حين كان قنصلا في موسكو، وتركها حبلى هناك.
في هذه الرواية، بل الملحمة الروائية، الشقيقة الكبرى لروايات الخطيب، نجد العبرة الفردية والاجتماعية جزءا من رؤية سياسية واسعة متنوعة لإبطالها، نحو العراق خاصة، والعالم عامة. فيها مهم كيفية التوازن والتعامل الحر مع الواقع (القائد الكبير يرى الخطر إمام أمته، يتجنبه بدفاع، لا بهجوم مدمر لها، كذلك الإنسان العادي، مثلك ومثلي، عليه احترام الواقع) وتنهار حلقة حامد رباب في الدنمارك، حيث تغيرت شروط الحب، وفقدت رباب من رصيدها الأنثوي الكثير، في مغامرة مع عدنان أنجبتها طفلا أخيرا، كما تعذب حامد من الماضي والحاضر سواء، بينما يعود خالد إلى ستوكهولم نافرا من تغيرات احتطبت حياة أناس سعوا لألفة، ويجد الحلقة الأخرى أيضا تفككت.. ضرغام في سجن ( ياغوبزبيري) بتهمة اغتصاب زوجته، و(غالا) أيضا غائبة. ويتقابل خالد وعدنان، طرفا المعادلة الخفية، الحياة السوية في النفس الرضية، ونقيضها اضطراب الخارج وانعكاسه عليها، الأول ترك الإغراءات وراءه من اجل إثبات حقائق الحياة السَنية وكشفها، والآخر مارس ألاعيب قذرة من اجل التسلق والوصول إلى القمة، لكن حين يشعر إن الأرض تميد تحت أقدامه انقلب على نفسه، أخذ يبحث عن سبيل آخر للارتقاء، لذا لا نفاجئ هذه المرة حين نرى السبع خائفا، مرتبكا. الرجلان أخيرا وجها لوجه، على ارض محايدة، كان عدنان قد توسل إلى خالد ليتصل بزوج أخته، الرجل المؤهل كبديل لرئاسة البلد، ثم تحول دراماتيكيا مع تخليه عن مبادئه، من وطني حريص ضالع في نشاطات ضد رئيسه، إلى شخص ضائع في خيبة مريرة.
الخطيب: لا أريد ترشيحي لبوكر؟!
كان ذلك آخر لقاء مع عدنان قبل تحوله جثةً مقطعة، وهو اللقاء الذي جعل محقق الشرطة ستيفنسن يحسب خالد أحد الخيوط المهمة، لكشف الجريمة الغامضة، وحين مرت عشر سنوات على اختفاء عدنان وغالا يلتقي خالد بالمحقق ستيفنسن، بعد إحالته على التقاعد، لكن بعد تصورات وشرب واسترخاء في مواجهة غير محسوبة مع المحقق، وهما في المطار، والمحقق يحاول تكليفه بمهمة، يقرر خالد أخيرا إلغاء رحلته، يكتفي بالسفر عبر أوراقه، مؤكدا بذلك أفضلية الإبداع على سواه.
الثقافة والسلطة لا يتصالحان من وجهة نظر خالد، أما ستيفنسن فيرى كالخطيب نفسه إن إحداهما تكمل الأخرى، تنافرهما يضر كليهما. ماذا يريد أن يقول الكاتب هنا؟ هل تنحصر كل مشاكلنا، وفي عالمنا الثالث المتخلف، في كون المثقف غير متصالح مع السلطة؟ إنه استنتاج في غاية الأهمية. ذلك مؤيد لما نجده في المدنية الحديثة، ورموزها الحضارية، حيث تصالح المثقف مع السلطة. وإذا رجعنا إلى ظهور البرجوازية الأوربية بعد انحسار الإقطاع نجدها قد ساهمت بشكل فعال في بناء الحضارة، واغتناء الحركة الفكرية والفنية، بكل سبل الدعم. وحينما حل عصر النهضة جاءت معه مؤشرات التقدم العلمي الاستطلاعي والتجريبي. إن هذا التدرج في تطور الفكر والمعلوماتية لا نجده في واقعنا العربي مع الأسف، سوى في الآونة الأخيرة حيث زحف التنوير إلى أعلى، ومنه إلى أسفل، وكان قد ظهر ذلك التفتح الثقافي، مع انتشار المدارس الدينية المتنورة، في العصر العباسي، لكن قضت الموجة المغولية عليه، التي كانت من الأسباب المهمة لانحسار الثقافة وتعاملاتها مع الواقع إلى يومنا، إنما ليس تماما، فقد مدنت الثقافة العباسية حتى غزاتها أخيرا. وكل ذلك يحتاج بحثا مطولا آخر يتناول روايات برهان الخطيب ككل، يوضح علاقة الثقافة والمثقف بالمجتمع، بالسياسة، وبالسلطة .
أخيرا، فكرت.. ما الذي سيكافئ برهان الخطيب على صرفه عمره في نظم تاريخ العراق الحديث تحفة إبداعية فريدة، صادقة، موضوعية، حيادية، احتضنت حياة أشخاص عرفناهم، وأحداثا حقيقية عشناها، خلال أكثر من نصف قرن؟! مَن الذي سيرفع يده تحية لهذا الإنسان، الذي ضحى بكثير من المغانم من اجل قول الحقيقة وتسطيرها فنا رفيعا بروايات تتحدى الزمن؟ نعم، خير مكافأة له تبقى أعماله نفسها. والخطيب برهان يختلف عن كل كتاب الرواية، فهو لا يبغي حبكة أدبية مصطنعة على حساب الحقائق التاريخية، ولا يبالغ في السرد الروائي المعتاد، كما لا يتساهل فيه، أو يروج لأفكار معينة على حساب ما يقتنع به الآخرون، هو يفتح أذهاننا وضمائرنا ويعطينا من معينه الذي لا ينضب رؤى إلى ما وراء الأفق. في شارع الرشيد، ونحن نتمشى بين الخطر والخطر، سألته لماذا لا ترشح روايتك الأخيرة لجائزة البوكر مثلا، يقال فيها مغنم كبير. ابتسم كعادته، أجاب: لا أريد ترشيحي لجائزة بوكر، فهي جائزة غير مستقيمة تبيّن لي.
آه.. ماذا فعل الاحتلال!
أي بلد عاق هذا الذي يولي ظهره لبرهان، وأي مؤسسات وعناصر جاهلة تلك التي تحاول تجاوزه. لقد قطعت مسيرة نصف قرن معه وأنا اليوم في أفضل رضا عنه، لما رأيت من تجرده واعتكافه للأدب وإنجازه. عهد مضى شاب صداقتنا خيط لوم مرير من ناحيتي، لمسافة باعدتنا بعد تخرجنا من كلية الهندسة، هو ذهب في دربه الإبداعي الذي اختاره، وأنا إلى المهنة بكل جد، أرفد تجربة وطنية تعثرت، بمكائد وتعقيدات لم تحل بتفاهم، النتيجة تفاقمت كارثة حقيقية اليوم، عسى العوض في الآتي.
إنها لخصلة طبيعية، الحس الرافض للتباعد والفوضى، مرئية وغير مرئية، خاصة عند العراقي، خلاف ما يشاع عنه الآن، هكذا عدنا والتقينا، برهان وأنا، رغم الزمن والمسافات، وقطعنا بغداد مشيا كما في أيامنا الخوالي، نكاية بالخطر حينا، وتأكيدا على حب متأصل فينا، لعاصمتنا الجميلة وتأريخها العريق، حتى في جحيم يؤججه أجنبي دوسا على القيم والتراث، رغمه مشينا طويلا، من كتاب في المتنبي، إلى خراب في الرشيد، إلى سراب في أبو نؤاس، نتطارح شؤون الثقافة وهمومها، مؤكدين بذلك على ديمومة الأدب والفن في مدينتنا، بل وعلوهما، خاصة قد حضر المثال، فبأدبه الجم ورؤيته الواضحة رغم سنين الشك والارتباك تواصل الخطيب معي، مع أناس عاديين مررنا بهم، عراقيا أصيلا رغم نأيه الاضطراري عن بلده، من وهن إلى وهن، مؤكدا بذلك الحضور ليس في العالم كله مثل بغداد وفتنتها. ونحن أمام دجلة شبه المهجور قال: فاتنة نعم، كيف لا؟ ألا ترى الفتنة مشتعلة حولها بالجميع نصف قرن من حياتنا!
مقابل ذلك بدا لي إن الاحتلال، لأكن أكثر صراحة، جعل كثرة من الفنانين والسياسيين والأدباء والمهندسين و.. و.. دجالين، حتى زملاء أفاضل، راحوا يلهثون وراء مناصب، غير مؤهلين لها، ممارسين لصوصية، محسوبية، من اجل ثراء سريع. كل ذلك باسم الوطنية والتغيير. نعم، ما عدانا، برهان وأنا، أقول ذلك بكبرياء عال، من غير مبالغة. لذلك، رغم الطرق المتشعبة أمس، التقينا مجددا، هو وأنا، على نفس الموقع الذي افترقنا عنده قبل أربعة عقود، موقع حُب الحقيقة، ضرورة النزاهة، الابتعاد عن التلوث، نبذ المهادنة والخنوع. بدون ذلك، كان رأينا وما زال، لا احترام لنفس، ولا راحة لبال.
ذلك أيضا وجدته الأساس، وأنا أنقب، في عمله الإبداعي الكبير هذا، بين يدي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عن (العرب الأسبوعي) 2 اكتوبر 2010