د. قيس كاظم الجنابي : البناء السردي في رواية ” الجنائن المغلقة ” (ملف/36)

إشارة :
برغم أن الروائي المبدع برهان الخطيب يُحسب على جيل الستينات إلا أنّ ما يميز منجزه الابداعي هو هذا التجدّد والتجديد في الأسلوبية وتناول الموضوعات مع ثبات بصمته السردية الجوهرية على خارطة الأدب الروائي العراقي والعربي. وقد أغنى عمله الصحفي وحياته الحافلة بالمتغيرات مخزونه التجاربي فأثرى المكتبة السردية العربية بأكثر من اثنتى عشرة رواية كل واحدة لها عالمها المستقل المتفرّد. يسر أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ ملفها عنه متمنية على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراءه بالمقالات والصور والوثائق. تحية للمبدع الكبير برهان الخطيب.

د. قيس كاظم الجنابي: البناء السردي في رواية ” الجنائن المغلقة “

ـ 1 ـ
أول ما يطالعنا في رواية (الجنائن المغلقة) لبرهان الخطيب، الصادرة عام 2000م هو عنوانها الذي يشير إلى علاقة مضمرة بين الجنائن المعلقة في بابل وبين ما يوحي عنوان الرواية من إحالة إلى الاضطهاد والكبت السياسي الذي يعانيه مغترب رحل من بلاده بتهم سياسية والشيء الغريب إن الكاتب لم يصرح بعلاقة العنوان والمتن إلا بعد أكثر من (170 صفحة) من الرواية إذ يشير على لسان خالد احد شخصياته وهو يحدث صديقه بقوله:
ــ من يصدق بلد الجنائن المعلقة يصبح بلد جنائن مغلقة!!
ثم يعقب آخر بالقول:
ــ جنائن مفتوحة لأغنياء ومغامرين ومغلقة لفقراء للأسف.. ثم ينهره خالد بقوله:
ــ دلتك المحنة إلى الصراعات والطبقات؟!..انتظر تدلك بعد إلى المساواة في جنينة الكون المغلقة على الجميع..
ــ الجنائن المغلقة تكون خرابة في النهاية..(1)
وهذه المماحكة تدلل بلا شك على إن الصراعات السياسية هي إحالة إلى العراق إلى مكان مغلق ليس فيه سوى رأي واحد؛ وتشير إلى إن علاقة العنوان بالنص (غدت علاقة سؤال ممتد من العنوان إلى النص برمته مرورا بالخطاب الافتتاحي الداخلي والخارجي (…) فقد غدا محفل العنوان ضروريا لا مفر من أخذه بنظر الاعتبار لدى كل مقاربة نصية مادة عتية تسلمنا إلى عالم الداخل (النص)..(2).
يقتضي هذا الدخول إلى محفل الرواية اخذ الكثير من الإحالات بما فيها إحالة العنوان على محمل الجد، لأنها تتوغل في ثنائي لتشخص صيرورة الدلالة بكل إبعادها في الرواية.
والجنائن المعلقة كما يعتقد بعض المؤرخين مجرد أسطورة أو تعليقات من الخيال(3) وهذا ما يحيل إلى إن الكاتب يعتبر الحياة السياسية في العراق هي أيضا مجرد تلفيق من الخيال.. ولان الإحالة ذات خلفية أسطورية فإنها تجعل الرواية وسيلة لتوظيف الكثير من الأساطير والأفكار المتعلقة بتاريخ العراق وحضارته المترامية الأطراف والتي تطل برأسها منذ الصفحات الأولى من اجل توظيف الصراع الفكري القائم منذ انبثاق الحكم الجمهورية في العراق عام 1958م،إذ حاول الكاتب أن يشير إلى الحياة السحرية والبحث عن الحزوز في بقايا اثار بابل القديمة، لهذا نجده يهتم بحكايات الملكة بلقيس من خلال شخصية (بلقيس) وحكايات (إلف ليلة وليلة) في محاولة لمزج الحقيقية بالخيال، والعودة إلى أيام الحكواتي (القصخون) وحكايات البئر المقدسة، وكذلك حكاية تموز مع انانا السومرية، وشارع الموكب في بابل القديمة وسد بابل، وكيفية تفسير أسطورة التمثال لدى عامة الناس، وقوانين حمورابي وزرقاء اليمامة وعيد الايكيتو رأس السنة لدى قدماء العراق.
لقد حاول الكاتب توظيف الأسطورة العراقية القديمة بشكل متواز مع زمنه الذي يحاول فيه الكشف عن الأبعاد السياسية الكامنة وراء تزييف التاريخ والاضطهاد السياسي وفقا لوجهة نظره، من خلال توظيف النقوش الاثارية التي تعبر عن الأصالة وتميل إلى الهمجية الكامنة في زمنه، فقد كانت النقوش المسمارية في طابوقة الجدة زائفة بموازة قضية الرأس المقطوع والتي عبرت عن جريمة عصرية استخدمت النقش وسيلة لإضاءة اثار الجريمة حين يقول الكاتب: (دور النقش المسماري على الفخذ لا يعني شيئا سوى إن الجاني قد وسم ضحيته به لإلصاق التهمة بآخر عراقي أو فعلها عراقي حقا قصاصا وجعلها بالنقش نيابة عن عراقيين(4). وكذلك حاول أن يجعل رمز سيزيف سياسيا للبحث عن خلاص قريب من الأزمة التي يعيشها الكاتب وآخرون.

ــ 2 ــ
لقد قام السرد الروائي على مجموعة مقتربات رئيسة، وهي التوازي بين سرد الرواية وسرد مجموعة من الحكايات والأفلام (أو ما يتعلق بالسينما) وبهذا حقق إمكانية الانتقال بين داخل العراق وخارجه وبين الماضي والحاضر، لان هذه الرواية كما يبدو ذات طبيعة بانورامية تجمع بين التاريخ السياسي والمسار الاجتماعي، وسردها يسير على وفق مشاهد بنيت بطريقة قريبة جدا من المونتاج السينمي لتحقيق الانتقال زمنيا ومكانيا وتاريخيا واجتماعيا، فقد قامت على استخدام ضمير الغائب (هو) يشاطره (انا السارد) بوضوح على لسان الكاتب مع غالب الشخصيات حين يتوغل ـ أحيانا ـ في دواخل الشخصيات ليعكس وجهة نظره فمنذ البداية سارت الرواية سيرها الوئيد القادر على استثمار تاريخ مرحلة صعبة جدا من تاريخ العراق المعاصر تمتد بين 1958 ـ 2000 م تقريبا إذ بدأت من جريمة بشعة حدثت لأحد المغتربين وزعت بها أطراف الجثة بصورة ديمقراطية حسب جغرافية ستوكهولم وأماكن النزهة والراحة فيها بحيث لا يسمح ذلك لأية ولاية الادعاء بأنها تستضيف الأجانب وترعى المواطنين أفضل من غيرها..(5) ثم جرى السماح لهذا الحكاية بالتوغل تدريجيا من اجل استثمار الكثير من الجرائم التاريخية التي ينفذها الساسة ضد خصومهم السياسيين، وخصوصا الصراع بين التيارات السياسية اليسارية والقومية، وبهذا يستوعب الكاتب ما طرحته في روايته (ليلة بغدادية) والتي تحدثت عن أحداث 8 شباط 1963 ومصرع عبد الكريم قاسم والشروع بملاحقة الشيوعيين، أي أن مسار التاريخ السياسي يسير موازيا للمسار الروائي بطريقة أو بأخرى، مستفيدا من بناء رواية الجريمة وأفلام الجاسوسية لذا يقول: الخوض في حكاية إياد مجيد وأخباره يرينا القضية ليست كما في قصص بوليسية جثة وأشخاص ومعلومات كافية لإلصاق شبهة القتيل بالجميع(6) مما يهيئ السرد الروائي لان يتعرض لتحولات سريعة مثل تحولات حركة الجريمة وانتقالها وتوقع المتغيرات السريعة التي تنقل الموقف من مساره العادي إلى مسار معاكس له وتحمل المفاجآت الخطيرة فيه، لهذا نجده يحيلنا إلى رواية اجاثا كريستي الشيخ الرهيب فيقول عن الجريمة التي يسير بالتوازي مع حركة المسار التاريخية السياسي الاجتماعي وقد مات الحارس بطريقة غامضة مشابهة للطريقة التي ماتت بها ضحية اجاثا كريستي في (الشيخ الرهيب) مع فرق أنهم يعترون على القاتل في رواياتها وإلا كانت غير أخلاقية (000) ثم إن عالم الآثار في رواية كريستي مثلا يعطي سبائك ذهب للعاملين في الحفريات (…) وكذلك فان الخوف الموجود في رواية كريستي هذه وفي روايات انكليزية عديدة يعكس اعتقاد ناقد مجنون خوف الأمة الانكليزية من مستعمراتها نتيجة نهب ثرواتها وقتل أبنائها بينما الخوف الذي وجد في نفوس مع من حققوا معهم في قضية التمثال يعكس خوف الأمة العراقية من حاكميها أنفسهم (7).
وتزامن سرد هذه الرواية مع أسلوب استخدام المونتاج الزمني في السرد، في بعض الأحيان باستخدام الحروف المشددة (السوداء) وهذا الأسلوب هو الذي استخدمه في روايته (ليلة بغدادية) والتي كانت رافدا لهذه الرواية في جوانبها التاريخية السردية حيث وردت مجموعة من الشخصيات مثل حامد وعدنان وخالد وسالم وغيرها وذكره للمثل المعروف بـ (درب الصد مارد) في إشارة إلى هجرة السياسيين العراقيين وعدم قدرتهم العودة إلى بلدانهم.. والتي يشير إليها بقوله عرف حامد إن الكلام دار عن تلك الليلة التي جاء فيها إياد وعدنان ومفرزتهما إلى بيتهم ونصبوا كمينا لعمه صلاح في هذه الغرفة (…) والملك رحل إلى السماء السابعة في درب الصد ما رد(8) وبالتوازي مع هذا السرد الروائي تسير حركة الصراع الفكري بين الفكر القومي والفكر الماركسي ويوظفه التاريخ وسيرة الشخصيات وحركتها في المكان المشحون بحركة الزمن، وبعض الجوانب المحلية الخاصة بمدينتي المسيب والحلة، وقد حاول منح بعض الشخصيات الحقيقية حضورها حتى يمكن أحداث التواصل بين الخيال والواقع، أو بين السردي والمتخيل اعتمادا على ذكريات قديمة وأخبار تولت نشرها الصحافة وبهذا يتحول السرد إلى مشجب لحمل الأفكار السياسية وتسويقها إلى المتلقي بحيث يدفعه إلى أن يقف في زاوية معينة لا يبارحها كما في إشارته إلى تاريخ الحركة الثقافية، واهم المقاهي الأدبية التي كان يرتادها المثقفون مثل البلدية والبرلمان، والبرازيلية، وحسن عجمي، والتي شكلت الحواضن المكانية لحركة أدباء الستينيات في الصراع السياسي والأخلاقيات الفكرية.

ــ 3 ــ
ابرز ما يلاحظ على بناء الرواية هو انها تحاول ان تسير في سردها بشكل متواز مع سرديات السينما بطريقة او باخرى، كما فعل الكاتب في روايته السابقة (ليلة بغدادية) بصورة اقل اذ بدت ملامح تأثير السينما على الكاتب في ملاحظة الاحداث بوقت مبكر، ومنذ الصفحات الاولى، ومنذ الجملة الاولى حين يقول (اهتمت المدينة ووسائل الاعلام السويدية والاجنبية بالجريمة المروعة اياما عديدة.. ثم طوى الحادث نسيان.. انقضى الصيف وعاد مقدمو برنامج (جرائم وألغاز) في التلفزيون الى المشاهدين وطلبوا مساعدة في حل لغز ما حدث تلك الايام الساخنة الباقية في ذاكرة كثيرين(9) وهي بداية تحاول ان تشحن السرد بقوة مؤثرة تعتمد على اسلوب الاثارة السينمائية الذي يجعل التلفزيون والصحافة وسيلته في البداية، مع الافادة من الصور الفوتغرافية وشرائط الفديو محاولا دمج السيرة السياسية مع مسار حركة الرواية لبناء نص سردي قائم على المزاوجة بين حركة السرد الروائي والسرد السينمائي وهذا ما دفع احدى الشخصيات الى القول: (حكاية اي عراقي الان صالحة لكتاب او فيلم (10) ومن هذا المنطلق فان مشاهد القهر السياسي ارتطبت باساليب اخرى تتعلق برواية الجريمة لهذا بدت شخصية عدنان الذي يتحول من موقف الى اخر حتى دفعه الامر الى قتل (اياد مجيد) وانتحال صفته وقد سرد ذلك بطريقة السرد السينمائي بقوله: (لا معارف ولا صديقات ولا اقارب للرجل المنثور في غابات ستوكهولم، لا مخالفة مرور، لا مخالفة مرور لا شجار لا سرقة.. الاخبارية القديمة والفيلم المصور عن اياد لا يعطيان كثيرا(11) ذلك ان البناء السينمائي يتحمل التحولات الفجائية السريعة واسلوب المصادفة بينما يبدو ذلك في الرواية مهلهلا ومن هنا يمكن ملاحظة ان الكاتب يحاول ان يلقي بكل ثقله على البناء الدرامي السينمائي واكتفى بتدخلات سريعة تربط بين منهج رواية الجريمة الذي انطلق منه الى منهج السيرة السياسية ذات العلاقة بالواقع السياسي وتحولات الاحداث على الساحة الثقافية لهذا آن له أن يحيل ولو بشكل يسير الى قضية الصراع بين الشرق والغرب والتي كتب عنها الكثير اذ تشظى العالم (بين شرق وغرب، ومن شمال وجنوب بين انوثة وذكورة، بين احلام وواقع وطمع وقناعة (12) وهذا فضلا عن قصص وروايات عالمية مشهورة مثل الف ليلة وليلة وروميو وجوليت وافكارها لها علاقة باليهود والمسيحيين وبهذا حقق الكاتب التنوع المطلوب في السرد عبر السرد والمونتاج الزمني وعبر حركة الشخصيات وتبادل الحوارات واستخدام الرسائل وتوزيع الاحداث بين خارج العراق وداخله ولكن نزعة الانحياز المبطنة بموقف ايديولوجي واضحة في الرواية.

هوامش:
1. الجنائن المعلقة، دار يوديوم للنشر والتوزيع، ستوكهولم (السويد، 2000م) ص171.
2. العنوان في الرواية العربية عبد الملك اشهبون دارنايا دار محاكاة دمشق 2011 ص 134.
3. الحياة اليومية في العراق القديم: ساكيز، ترجمة كاظم سعد الدين، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 2000 ص 187.
4. الجنائن المغلقة 458
5. نفسه ص 12.
6. نفسه ص27.
7. نفسه ص 16
8. نفسه ص 68.
9. نفسه ص 7
10. نفسه ص 407.
11. نفسه ص 462.
12. نفسه ص 318.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *