إشارة :
رحل المفكّر الكبير والروائي والناقد “عزيز السيد جاسم” بصورة مأساوية تاركا إرثا فكريا وروائيا ونقديا ضخما يستحق الإحتفاء والتحليل العميق مؤسسا على شخصية إنسانية رائعة وسجل نضالي أبيض وتاريخ صحفي حافل. لقد كان مؤسسة قائمة بذاتها. ولكن، وباستثناء الجائزة السنوية المسماة باسمه والتي أطلقتها صحيفة الزمان الغراء إدراكا منها لقيمته الفكرية والوطنية الفذّة لا نجد احتفاء رسميا يليق بقامته الشامخة وعطائه الفريد وكأنه ليس من تراب هذه البلاد المقدّس. بمقالة الأستاذ قحطان السعيدي الجميلة هذه يفتتح موقع الناقد العراقي ملفه عن الراحل الكبير ويدعو الأحبّة الكتّاب والقرّاء إلى إغنائه بالدراسات والمقالات والصور والوثائق.
(الزمان) تنفرد بنشر كتاب غير مطبوع للمفكر عزيز السيد جاسم
منذ تغييبه سنة 1991 يعود بنتاج جديد … لماذا الفلسفة ؟ (2)
التشويش في تاريخ الفلسفة منحها صفة اللاواقعية
قد يأتي شخص ويقول دونكم الفيلسوف جون ديوي هل انه جائع فأشبعته فلسفته ام انه عار فكسته ولا يعني هنا الا ان ينبشم وما اطيب الانبشام، اننا عندما نقول بان الفلسفة شعار للمعدة قبل كل شيء فلا نقصد بذلك اعتبار تلك المحصلة بحدود الفرد وبتلك الحيوانية النفعية الجشعة، لا وانما لم يضع جون ديوي فلسفته لو لم يكن قد درس وخاض التجارب، ولم يكن قد درس وخاض التجارب لو لم يكن حيا ولم يكن حيا لو كان بلا معدة، والمعدة تحتاج الى زاد، والزاد يغذي العقل، والا لمات فسلجيا وانتهت أعماله الفكرية، ثم ان جون ديوي عندما وضع فلسفته فأنما لم يضعها لنفسه بل وضعها ليقرأها الاخرون ويستفيدوا منها، والاخرون لو كانوا جياعا حفاة لما اعتبروا للفلسفة أي شأن، وعندما أقول ان الفلسفة معدة مفكرة ناطقة فليست المعدة للواحد المفرد بل قد تكون معدة جماعية وقد يرى شخص بأن ذلك الرأي يصدمه لغرابته ولعرضه بهذه الصورة المخجلة، وانا اتفق معه ولكن ما ذنبي انا اذا كانت الحقائق العملية هي التي تعلن ذلك،فهو ليس رأيي على كل حال ولا رأي شخص اخر بل هو سنة الأشياء ان العقل هو نفسه امتداد ولكن بشكل جد مختلف للمعدة، انه يحتاج الى غذاء وهو يهضم فهو يأخذ ويغير ويعطي، وان هذا الرأي تتبدد فيه المغالاة المنطقية، لكن ذلك لا يبعدنا عن حقيقة أخرى، الا وهي ان الاخلاق والمثل والاشياء الروحية تلك التي تعتبر المعبر الأمثل عن الوجود الإنساني وتعتبر ملحقا أساسيا لوجوده، هي أيضا بمرور الزمن وتقادم الحضارات ونشوء حضارات جديدة، أصبحت لها عوالمها الخاصة التي تحتاج الى وسائل وأساليب فكرية حصيفة للولوج اليها ومن اجل جعلها صمام امان للكرامة الإنسانية.
وعندما تتبنى حكومة ما فلسفة معينة، فماذا يعني ذلك؟ هل انها تريد تثقيف الناس وتزويدهم باوسع المعلومات بغية خلق فضاء ثقافي واسع؟ لا.. انما الحكومة تثبتها فلسفة معينة، فهي انما تتبنى الفلسفة التي تركز وتثبت وتدعم تسلط قوى اجتماعية معينة، وهذه القوى الاجتماعية المتحكمة كائنة من كانت.
تيسير الفلسفة:
قلنا ان للتعقيد الذي خالط الفلسفة حتى كاد ان يكون الصفة الملاصقة دوما للفلسفة، ان هذا التعقيد جعلها في حالة من الغموض ابعدتها عن الاذهان وعزلتها عن الأوساط العامة فاصبحت كلمة المتفلسف تطلق على المتعالين او المتغطرسين الذين لا يفهمهم احد، ولما كان من المفهوم الذي لاشك فيه ان المجتمع الذي يعاني قصورا في المضمار الفلسفي بحيث ان الفلسفة محدودة في نطاق صغير ضيق، هو مجتمع متأخر منعزل عن الركب الحضاري الصاعد، شعرنا ان الواجب يحتم علينا ان ندخل الميدان بكل ثقلنا من جانب الفلسفة وان نخلق الأرض الجيدة الخصبة الصالحة للانبات الفلسفي، وهذا لا يتم بجهود فردية مبعثرة متناثرة بل بجهود منظمة متكتلة تسعى من اجل هذا الهدف المبارك الا وهو هدف اعلاء شأن الفلسفة وتعميمها. ولا يكون هذا الاعلاء او التعميم بالسهل اليسير فهو يلاقي في طريقة عقبات كأداء تحاول قدر ما تستطيع ان تعرقل السير الحثيث للفلسفة، ان طريقا واحدا هو الذي يكفل لنا انتشار الفلسفة وتعميمها وهذا الطريق هو طريق تيسير الفلسفة، ذلك الطريق الذي يجعل من الفلسفة في متناول عقول كل الناس وليست الهاما او طلسما.
وهناك أمور لا بأس ان نذكرها ربما لتسهم في طريق التيسير، وأول هذه الأمور هو فتح مديرية او شعبة تأخذ على عاتقها الاعداد والتوجيه والنشر الفلسفي، بحيث تصدر كراسات وكتب وملحقات فلسفية تتناول حياة وتاريخ طبيعة كل فلسفة مع الفيلسوف الذي اوجدها، ويراعى في هذه المؤلفات الأسلوب العذب السهل المبسط الواضح المثير للرغبة لا الأسلوب المعقد الغامض المثير للاستياء والملل.
ان هذه المؤلفات تخلق ارحب المجالات للنهوض الفلسفي، وان انتشارها وتوزيعها بسعر رخيص هو الامر الذي يضع كل تلك الكتب في ايدي الأغلبية المتعلمة.
ثم الاهتمام ثانيا بفتح دورات فلسفية يدخلها كل راغب بحيث تضمن هذه الدورات تحصيلا فلسفيا جيدا يغذي الرغبة الملحة وينميها ويوسع الأوساط المعجبة بالفلسفة، كما يجعل ارتباط الفلسفة وثيقا بشؤون الناس واعمالهم ومستقبلهم.
وثالثا لا يستطيع القيام بالاشراف على تدريب الفلسفة مثقفون عاديون بل يشترط ان يسهم في إدارة ذلك مطلعون متعمقون في الشؤون الفلسفية الدراسية، ولا مانع من الاستعانة ببعض الأساتذة الأجانب ممن تخصصوا بالبحوث الفلسفية ونشروا لهم مؤلفات تثبت كفاءاتهم الثقافية واطلاعهم الفلسفي.
ورابعا من المستحب والمفضل ان يكون للفلسفة درس خاص يدرس في المدارس الابتدائية والثانوية بحيث يكون هذا الدرس مناسبا لمدارك الطلبة وملكاتهم العقلية وقابلياتهم غير باعث على الاستياء والضجر والتخوف، ان الحلقة الأولى في التدريس الناجح للفلسفة هو ترغيب الطلاب بهذا الدرس وجعله محببا لهم، ومن المناسب ان نذكر بان الدروس الفلسفية لا تدرس بالشكل الجامد الميت الذي يغلق حواس وذهن الطلبة بل ينبغي ان ترتبط دروس الفلسفة بالتاريخ والدين والقصص الاجتماعية والعلوم وكل ما له مساس بشؤون وحياة الطلبة والمجتمع. وفي التدريس يجب تقوية تعويد الطالب ان لا يكون جهده مقتصرا على حفظ النصوص الفلسفية وفهمها فحسب بل عليه ان يربط بين الفلسفة واموره الحياتية. ان تشجيع الطالب على ان يكتب كثيرا عن نفسه ووجدانه ومشاعره لهو العمود الفقري للنشوء الفلسفي الجيد.
وخامسا لقد كان للتشويش في تاريخ الفلسفة وما رافقه من بلبلة وتهويش وارتباك امر فعال في إعطاء الفلسفة صفة اللاواقعية واللامعقولة، لذا يترتب على المعنيين بالفلسفة ودروسها من الأساتذة والمؤلفين ان تكون بحوثهم حول الفلسفة موضوعية متجردة نزيهة مبينة تاريخ الفلسفة في كل العالم بدقة وامانة وبدون تحيز او أغراض، فبهذا وحده يعرض الفيلم الكامل لقصة الفلسفة امام ذهن الطالب الذي يأخذ بعد ان رأى ما رأى من مذاهب وأفكار، كل ما هو جيد يعجبه ويلائم ذهنه وذوقه ومشاربه، وبعد ذلك يتمكن من ان يوجه جهوده من اجل خلق أنماط فلسفية إبداعية جديدة.
ان تيسير الفلسفة مهمة عسيرة وشاقة، والعسير فيها هو الباسها رداء لم تهيء نفسها لارتدائه.
فالتعقيد ليس عيبا وهو أحيانا ضروري بل لابد من وجوده، لان الوجود الإنساني مفقود وتلافيف الدماغ معقدة ومسيرة حياتنا معقدة. ولكن في استطاعتنا ان نخضع ذلك التعقيد للحاجة الملحة، ان الشيء السهل قد يفقد أهميته لانه لا يحتاج الى جهد في نيله وتحصيله.
وعملية تيسير الفلسفة عملية طويلة لا تتعلق بجهة معينة او بفيلسوف ما، انما هي عمل جماعي تشترك فيه جميع الأطراف المعنية والمختصة، من الشعب الفلسفية الى الأساتذة الى المطبوعات الفلسفية الى التدريس الجامعي الحاوي لكل عناصر الرغبة والاهتمام.
ونحن لا نقصد بالتيسير الغاء الطابع الفلسفي للفلسفات بحجة خلع الجفاف الاسلوبي انما نقصد بذلك جعل الفلسفة تأخذ طريقها الى كل بيت ومدرسة ومكتبة ومكان، انها مهمة تنتظر مجهودا شاقا ونحن ننتظر ذلك اليوم الذي نعلن فيه بفرحة وامتلاء بان الفلسفة أضحت ملكا لنا، وسيلة في حياتنا وعيشنا وخيرنا وطريقا الى غدنا. واذا كان للمدارس دور بارز في تلك المهمة فأن للمجتمع نفسه الدور الأهم انه هو الذي تقتات في وسطه كل الفلسفات والأفكار. ان الحقيقة التي لا تغيب عن بالنا ان جميع الفلسفات موجودة ، الفلسفات العالمية لها بداياتها وبذورها في مجتمعنا ولا اعتقد ان ذلك يبدو غريبا، ان الفلسفات موجودة في اذهاننا كمواد أولية، انها تحتاج الى جمع وتنظيم وتهذيب وبلورة، وتلك هي المهمة التي قام بها الثلاثة الغربيون، ولم تجد من يقوم بها عندنا.
فمزيدا من البحث والدراسة والثقافة، ذلك هو الطريق الواسع الذي يغذي كل ما يمكن ان يكون رأسا للفلسفات، وما هذا الا طريق البداية والبداية الجيدة حتما تثير تفاؤلا حسنا وليس مشرفا لنا ان نجعل من الفلسفة فزاعة او شبحا او شيئا رهيبا يخيف الطلبة، وليكن شعار الساعة (يسروا الفلسفة واجعلوها شعبية تطرق باب كل ذهن بلا حرج وبلا عراقيل).
اسئلة وأجوبة
لقد كان موضوع السيادة الموضوع الذي شغل فكري في يومي هذا، ولا اقصد بالسيادة أي سيادة وكفى، فالسيادة هي قبطان التأريخ الذي يدفعه ويحركه ودور القادة والزعماء والناس والتوجيه والسيطرة، كل ذلك لا يحتاج الى بيان او توضيح.
ولكن الذي يثير اهتمامي هو موضوع قيادة الرجل والمرأة، لقد كان الصراع بين الرجل والمرأة واضحا في حدود الحاجة العضوية المعنوية المشتركة بين الطرفين، وحقا فأن الرجل هو الذي يمسك بيده زمام السيطرة اليوم فهو الذي يقرر ويعمل ويرسم ويحكم، والمرأة تاتي في الباب الثاني، ولكنها ظهرت الى الميدان محاولة ان تسلب السيادة من الرجل، والبدء في ذلك هو إعلانها طلب المساواة فاذا أصبحت على قدم المساواة مع الرجل فستظل تبحث عن سيادة تعزز سيطرتها على العالم مثلما كانت سيطرتها لفترة قديمة معينة عندما كان الرجل يخرج باحثا عن صيده فتبقى هي الوحيدة في الميدان.
والذي يطرق باب الذهن هو لمن ستكون السيادة في الغد البعيد؟ ان سيادة مشتركة لا يمكن ان تحل وتزيل التناقض الديني القائم بين الرجل والمرأة فالمرأة تدعي ان لها الفضل في إيجاد الرجل فلولا رحمها لما جاء رجل الى الوجود؟
والرجل يرد عليها بان المرأة لن توجد بدون اب رجل، وهكذا كل يقدم حججه وبراهينه واقواله، وتظل المعركة محتدمة الأدوار معلنة حينا ومكظومة حينا اخر وكل مهما اخفى طرق مشاعره فالقضية واضحة وتليدة.
اننا لا نستطيع ان نتكهن فالحدس له حدود والتكهن له حدود، ولكن الغد لابد ان يحمل في احشائه جوابا له علاماته وله سماته وفوارقه، ان عاطفة السيادة في نفس الرجل قوية اكدتها قرون طويلة، السيادة والحكم والسيطرة، وكذلك عاطفة السيادة لدى المرأة قوية وقوتها نزعة التمرد على سيطرة الرجل، واحساس المرأة بدورها القيادي الذي اريد له ان يظل مهملا مضروبا فلمن ستكون السيادة غدا؟ هذا سؤال لم يفارقني طيلة هذا اليوم، وعجزي عن الإجابة جعلني في حالة من القلق والضياع والبلادة المملة.
الرجل يولد وينمو ويهرم ويموت، تلك حقيقة ثابتة، ولا اريد ان أؤكد تلك الحقيقة فهي اقوى من ان تكون بحاجة الى اثبات وتأييد اسنادي، لكني لاحظت شيئا جديرا بالالتفات، فما هو هذا الشيء يا ترى؟ لقد رأيت (س) وهو شخص بلغ من العمر عتيا والذي لاحظته هو مصداق لما سمعته من افواه عديدة، فالذي رأيته ان هذا الشيخ بدت تصرفاته كتصرفات الأطفال تماما، في النطق واللعب والحركات اللاارادية، وكثير من التصرفات التي تجعل رابطة الشبه بين الهرم والطفل قوية ووثيقة.
وسألت فقال لي المطلعون، ان الشخص عندما يشيخ فأنه يظل يهرف ويهذي ويتصرف بسلوك طفل وهذا بحد ذاته ليس هو المهم لدي، ولكن المهم هو انه اثار تساؤلا اخر اشتققته من بطنه، فالذي تعرفه ان الانسان القديم في بدء النشوء الإنساني كان عاريا لا يستره شيء ولم يفكر وقته بضرورة ستر عريه الفاضح، ولكنه بمرور الزمن احس بضرورة استعمال أي شيء يستر عورته، ومن ثم اوجد اللباس الذي تطور الى تغطية تامة للجسد، واستمرت عجلة التطور حتى تقليص شكل التغطية التام واخذ الناس يميلون الى ستر بعض أجزاء الجسم وعرض بعض الأجزاء الأخرى، والأيام تستمر والسنين تتقدم والقرون تتحرك بسرعة الى الامام، وكل شيء يتغير ويتبدل ويهرم الزمان الإنساني، والذي نسأله هو هل ان ذلك يحمل أيضا في جوفه بذورا من التي كانت لدى الانسان القديم وهل ان العري الذي كان صفة للإنسان القديم، سيكون في ذلك المستقبل صفة للإنسان الشائخ تاريخيا، وهل تكون تلك الفكرة متمثلة بهذه المعادلة (عري لباس عري)؟.
ان ذلك تفكير يتجاوز حدود المعرفة وحدود (الزمكان) ولكنه مع ذلك يجد مبرراته ودواعيه في استطراد التاريخ الإنساني، أَوَ ليس للإنسان شبه في صفاته وحركاته وقوانينه ونظمه مع الجماعات الإنسانية فالذي يحدث للإنسان قد يحدث للجماعة وذلك بحد ذاته مشروع في التفسير الحيوي للقضايا الإنسانية والوجودية ومع هذا سيظل ذلك استفهاما محرجا مقلقا وبلا جواب!
سؤال آخر ايهما يسبق الاخر الليل ام النهار؟ حقيقة هذا الموضوع يحتاج الى بحث طويل لا يعتمد على العلم في شيء، والذي ذكرني بهذا السؤال هو تلك الليلة المزعجة التي اغرقتني بفيض آلامها ومتاعبها، فكانت حصتي الارق والسهاد والنوائب الفكرية المرهقة والذكريات التي لا اول لها ولا اخر، فاصبحت ساعات الليل ثقيلة قاتلة تمضي ببطء بطئ لا تمر دقيقة الا بشق الانفس وبعد تقديم القرابين من دمي وروحي واعصابي ومن مخي.
وكانت اعماقي كلها تصرخ بالفجر ان يأتي، فعسى ان تبدد شعاعات الفجر الأولى تلك الظلمة البهيمة، ظلمة الليل الحالكة وظلمة نفسي الكئيبة، ولكن هل بمقدور نداءاتي ان تبدل ما هو كائن؟ لا، ولكني احمد الله على ان تفكيري اتجه الى قسط اخر فبدل ان كان منصبا على الذكريات والأمور المتعبة يمم الان شطره نحو موضوع جديدا ايهما السابق الليل ام النهار؟ وهل في بداية الوجود كان الظلام هو المخيم الذي عم الكون والفضاء وبعد ذلك جاء النهار بضوئه الذي يشق طريقه عبره، ام ان النهار هو الموجود في البداية والضوء كان يعمر كل الكون حتى جاء الليل فداهمه وحجبه وراء طياته السوداء؟
وذلك امر جديد محرج احس بشبه بينه وبين ما يعمله أبناء الذوات من الاسر اليونانية حينما كانوا يلهون متساءلين (هل الملائكة ذكور ام اناث؟) او (هل ان الحيوانات تدخل النار ام الجنة؟) او (كم جني ترقص على رأس الدبوس؟) وهلمجرا..
لكننا اليوم لا نحب اللهو بل نريد الحقيقة كاملة صريحة، ولذا نسأل هذا السؤال كما نسأل سؤالا اخر (هو ان الدجاجة من البيضة ام البيضة من الدجاجة) فشتان ما بين السؤالين الأول علمي والأخر منطقي، ولو ان الفلسفة تضم تحت جناحيها كل ما كان علميا او منطقيا. وانا مدين في ليلتي الى هذا السؤال فقد انقذني من الارق الحاد ومكنني من نوم هنئ، ولكن السؤال لم يبرح ذهني بل بقي يراودني حتى في الحلم، ومع الصباح لازال السؤال يبحث عن جوابه، فذلك الذي لا اقدر على جوابه لا يرحم ابدا اعصابي بل يظل يداهمها حتى يصمته جواب.
موضوعات الفلسفة:
للفلسفة موضوعاتها التي لا تحيد عنها والتي تعطي للفلسفة قوامها الخاص وقابلياتها على الحياة والخلود، فالفلسفة التي تبحث في الموضوعات القريبة العلاقة والوثيقة الارتباط بالإنسان ، هذه الفلسفة تتشرب جذورها الغذاء من تربة صالحة فتزداد قوة وشموخا ورسوخا، اما الفلسفة التي تدور مواضيعها حول قضايا جامدة لا فعالية لها ولا تتخذ من الأمور المهمة الا كما يتخذ الطارئ الوقتي فهذه مثلها كالنبتة في ارض سبخاء فسرعان ما تموت وتنعدم شروط استمراريتها ونموها.
ان موضوعات الفلسفة لا تتعدى حدود ذلك المركب المزجي الذي يبلور الحياة الإنسانية وينقلها عبر الدرجات الحضارية وهذا المركب المزجي هو (الخبز والجنس والحضارة)، ان الخبز هو الذي يشغل الذهن قبل غيره، وهنا لا نعني بالخبز معناه العادي المتعارف عليه بل هو رمز عام للمادة تلك التي تشيد الصرح الكياني للبشرية، اما الجنس فان قضية التناسل هي التي تمنح المجاميع البشرية ذلك التجدد والانتشار وتقيها من شر الانقراض والتلاشي وللقضية الجنسية الأهمية الكبرى في تحديد استمرارية العيش، فاذا كانت للخبز الضرورة الأولى في حياة الفرد فأن القضية الجنسية الضرورة البالغة الأهمية في حياة الجماعات، واننا باستفادتنا القصوى في التحليل النفسي من آراء (فرويد) لا يمكن ان نذهب معه فيما ذهب اليه من تفسير للوجود والتصرف والفعل الإنساني على ضوء القوة الجنسية التي تعد القوة الكامنة المتربعة على عرش الذات، لان هذا التفسير مع جدارته واجابته على أمور كثيرة عالقة،ولتشخيصه أهمية اللاشعور وما قبل الشعور في التصرفات السيكولوجية، لكنه من الممكن ان يعد بذلك الشكل من التركيز والتعصب والمغالاة، وجوعا الى الاطوار البهيمية الحيوانية للإنسان، أي في اصله عندما كان حيوانا، أوَليس شاذا وغريبا وصفعة للإنسان ان نقول له: انك لم تشيد هذه العمارات الا لتخلق ارحب مجال للتناسل؟ وانك لم تخلق ذلك السلم الضخم من الحضارة والعلم والانشاء والتطور الا لتهيئة ظروف الجماع والمواقعة الجنسية. شأنك شأن أي كلب باحثا عن انثاه في أي ساحة او درب؟!
اننا نعتبر القوة الجنسية الموجودة حساسة وفعالة جدا ولكننا لا نعطيها طابع الأولوية، كما واننا لا نتثقف مع (ادلر) في أفكاره ونفيه لقيمة الغريزة الجنسية وفي إعلانه بان العقد النفسية والتعويض هي التي توجه السلوك الإنساني ولا مع (يونغ) في تأكيده على تسيير اللاوعي للفرد وللجماعة في نفس الوقت والا لكان العقل لا وجود له اطلاقا ولما كان أي داع للحكمة والعلم والمعرفة وكل ما يدخل في مملكة الوعي العظيمة الموجودة.
يتبع
*عن صحيفة الزمان