حول ديوان الشاعرة الأسبانية آنا سيلبا” جسد صوب الداخل”، ترجمة باهرة عبداللطيف
باهرة عبداللطيف/ أسبانيا**

حول ديوان الشاعرة الأسبانية آنا سيلبا” جسد صوب الداخل”، ترجمة باهرة عبداللطيف

باهرة عبداللطيف/ أسبانيا**

التصدي لترجمة عمل شعري غالباً ما يخضع لاعتبارات تتعلق بأهمية الشاعر/ة ومكانته الشعرية المكرسة محلياً أو عالمياً ثم تأتي لاحقاً الذائقة الشخصية والمزاج النفسي ومعايير ذاتية أخرى تدفع المترجم لانتقاء هذا النص أو ذاك من أعماله الشعرية لترجمته. إلا أن الاعتبار الأول لا ينطبق على حالة الشاعرة آنا سيلبا التي نحن بصددها في هذا المقال، فهي شاعرة أسبانية شابة من خارج الوسط الأدبي -تحمل شهادة الدكتوراه في القانون- وهذا هو ديوانها الأول. لكن ما يبرر اختيارنا إياها هو الصوت الشعري المتميز بصدقه الذي يستشفه القارئ بدون كثير عناء وما حفل به من اشتغال وجودي ونزوع صوفي عبر تأمل عميق نحو الداخل، نحو الذات، عبر الجسد. وثمة عامل آخر مضاف، هو عشقها المتأصل لثقافتنا العربية الإسلامية، وكلاهما كان سبباً كافياً لإقدامي على ترجمة ديوانها الأول “جسد صوب الداخل”.
تعارفنا وأصبحنا صديقتين، وتكفل الوعي المشترك منذ الحوار الأول بردم المسافة الجيلية الفاصلة ما بيننا. ترجمت ديوانها هذا وكنت أمر بظرف صحي دقيق تأخر بسببه صدور الديوان أكثر من عامين. واستمر الحوار بيننا بكل وسائل التواصل الممكنة حتى انتهاء الترجمة ليصدر الديوان أخيراً -باللغتين الأسبانية والعربية. وهكذا التقينا أول مرة في حفل تقديم الكتاب، في (البيت العربي) بمدريد الذي ضمنا ومعنا المستعربة المعروفة البروفيسورة كارمن رويث برافو، وكانت تجربة استثنائية حقاً لكلتينا. وقد أحتفي بالديوان في أسبانيا ونفدت طبعته الأولى وحالياً تعد الشاعرة طبعته الثانية.
قدمت الشاعرة آنا سيلبا ديوانها إلى القراء بهذه الكلمات التي دونتها على شكل يوميات توثق لصدور تجربتها الشعرية هذه:
لغة الجسد. سرد زمني
تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2014، غرناطة: أشعة الشمس تنعكس على أشجار البرتقال في حي الرياليخو. كان الجو بارداً حينما كنت اتوجه إلى أول درس نظامي لي في اللغة العربية. أسلمت نفسي للّقاء مع لغة يطيب لي أن أدعوها -ولو لم تكن كذلك- باللغة الأم، لغة لها طعم الياسمين الذي ينفذ إلى أبعد من الجلد ليستقر عميقاً في ذاكرة جسدي.

الشاعرة الأسبانية آنا سيلبا

أيار/مايو 2015، مدريد: دعاني “المنتدى الثقافي العربي الإسباني” للتحدث عن النسوية الإسلامية وحدود النوع الاجتماعي (الجندر) وذلك في المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد. وكانت الكاتبة والأكاديمية العراقية باهرة عبد اللطيف قد دعيت لإدارة المحاضرة إلا أنها لم تتمكن من الحضور وهكذا رجعت إلى غرناطة وفي نفسي رغبة في التعرف إلى هذه المرأة.
حزيران/ يونيو، غرناطة- مدريد: الكون يقربنا من بعضنا. فقد حدث التواصل مع باهرة. وقد أخبرتني بترجمات عربية أنجزتها عن اللغة الإسبانية لألبرتي. وكذلك ترجمتها المخطوطة لكتاب “فلسفة وشعر” للفيلسوفة ماريا ثامبرانو. حدثتني عن عملها سابقاً كأستاذة في القسم الإسباني في كلية الآداب بجامعة بغداد وعن شِعرها. حدثتني أيضا عن كفاحها من أجل حقوق النساء العراقيات والعربيات، عن دورها كناشطة ثقافية وعن منفاها.
تموز/ يوليو 2015، طنجة: أرسلت الديوان إلى صديقتي العزيزة الشاعرة القديرة رشيدة مدني فردت علي بحماس. ثم شرعت رشيدة بكتابة المقدمة فغمرني شعور بالامتنان، حتى اللحظة مازلت غير مصدقة.
آب/ أغسطس 2015. مكالمة هاتفية من باهرة قطعت ذلك المساء الحار. فقد اخبرتني بانها ستترجم ديوان قصائدي إلى اللغة العربية. شعرت بان قوساً سحرياً محكماً ارتسم في السماء ليربط ما بين باهرة ورشيدة. وبأن ديوان ” جسد صوب الداخل ” كان الذريعة فحسب، محض حجة صغيرة لنشوء هذا الاتحاد. بفضلهما أدركت أن اللغة العربية تمثل سلالة حقيقية: سلالة كيمياء الجسد والذاكرة والقلب. وها أنا أحتفي بمصادفة القدر الهائلة التي جعلتني التقيهما في طريقي.
أما الصديقة الشاعرة المغربية، رشيدة مدني، فقد قدمت للكتاب بهذه الكلمات (بالفرنسية) عن شعر آنا سيلبا قائلة:
” الإقدام على اتخاذ الخطوة الكبرى باتجاه الكتابة بالنسبة للشاعرة آنا يعني قبل كل شيء قبول تحدي الغوص في دواخل النفس. من هنا نجد حميمية الجسد كمشهد حتمي، كمساحة مميزة لما هو أنثوي بالدرجة الأولى، إضافة إلى حميمية القلب بلا ريب، ذلك المكان الذي ينطوي على إمكانية الأشياء كلها حيث التعبير عن عمق الكينونة، عن الرؤية وعن المستقبل. إنه البحث عن الذات الذي هو بدوره بحث عن الحقيقة.
لذا فالجسد والقلب وما هو داخلي وما ينتمي إلى الخارج فضلاً عن الماضي والحاضر وسحر أندالوسيّا ونداء إسطنبول وأفريقيا كلها تشكل مساراً شعرياً يسير فيه جنباً إلى جنب الواقعي والمتخيل، القلق والإشراق.
آنا سيلبا تمضي بنا من ارتباك القصيدة إلى الكلمة المُحَرَّرة. صحيح أنه نوع من تلمس الدرب في الظلمة لكنه تقدم واثق، مغامرة، وقبل ذلك فهو يخترق المُعاش من خلال التجارب الإنسانية المتمثلة بالطفولة، الحب، المعاناة، العلاقة مع ذاتها ومع الآخر، وكذلك في الحاجة إلى التجذر وإلى الذاكرة الجماعية.
والشاعرة لا تتردد في بحثها في ارتياد الطريق الروحي الصوفي الذي سيحملها من العتمة إلى النور، من الكينونة التي هي موضع تساؤلاتها حتى تلك الكينونة التي تلامس المتبقي منها ما وراء نفسها. هذا البعد الجديد للكينونة، المتسامية بذاتها، برغم كونه غير مسبور الأغوار بعد فأنه يطمح إلى إعادة ابتكار الذات عبر زمانية ومكانية الكتابة.
من ديوان “جسد صوب الداخل”:
“مَسار”
الغُيومُ
تَغْمُرُ شَعْري
بِصَمْتٍ.
ضَيّعْتُ
البوصَلةَ
كُلّ شيءٍ صَحْراء
غَيْمةٌ حَمْراء
أرْضٌ مَحْروقة.
مَساري
الأوْحَدُ هو
النَّظَرُ دوماً
صوْبَ الداخل.

مِنْ كُلّ ما كُنْتُ عَلَيْهِ
تَبقّى لي في ظَهْري
أثرُ دَفعةِ الريحِ الواهنةِ
وما بَيْنَ شَفَتيَّ
تَنْهيدَةُ المُسْتَقْبلِ
المَوْصولَة.
الأُفقُ قائِمٌ هُناكَ،
يَتَنَفّسُ رائِحَةَ
دَمِهِ.

أَنا مَنْ وُلِدْتُ بِيَديْنِ مَلْآى بِالمَرايا،
أنْتَظِرُ الصُّورَةَ النّهائِيةَ:
واجِهةً زُجاجِيّةً ما،
جَسَداً ما،
فَمَاً..
وذلكَ الصّوْتُ البَعيدُ
يَتَرَدّدُ صَداهُ في أُذُنيَّ
يُذكّرُني بأَني، أَنا
تلكَ الواقفةُ على الجانِبِ الآخَر
على مسافةِ ثَلاثة سنْتيمترات مِنَ الزُّجاجِ،
نائِيَةٌ جِدّاً عني،
على بُعدِ سَنَواتٍ ضَوْئيةٍ
مِنْ وُجودي.

*”جسد صوب الداخل” ديوان صدرت طبعته الأولى باللغتين الأسبانية والعربية للشاعرة آنا سيلبا، ترجمة باهرة عبداللطيف، منشورات ديل خينال، 2018، أسبانيا.
** باهرة عبداللطيف: كاتبة ومترجمة وأكاديمية عراقية تقيم في أسبانيا.

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد عبد حسن : المتن السردي المفترض في رواية “العاشرة بتوقيت واشنطن”(1) .

(ملاحظات قارئ للاقتراب من النص) ينجح الروائي، منذ البداية، في الإمساك بقارئه.. حيث، يضعه منذ …

| حميد الحريزي : “قضايا المرأة في التدين الأجتماعي” للدكتورة بتول فاروق .

           جرأة في الفكر وتجــــــــــــــــــاوز للتقليد   كتاب ((قضايا المرأة في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *