سعد محمد رحيم : قاسم عبد الأمير عجام ..القابض على الجمر (2 ـ 2) (ملف/4)

إشارة :
في يوم أسود من أيام الثقافة العراقية ، أغتيل الربيع الثقافي كما كنا نسميه ، أبو ربيع – المبدع الإنسان العراقي الغيور “قاسم عبد الأمير عجام ” على أيدي قتلة أوغاد. إنسانا كان قاسم أباً حانياً وأخاً كبيراً وصديقاً صدروقاً للجميع وبلا استثناء. ومبدعا كان قاسم أنموذجا للمثقف المهذب المتحضر المتسامح الصبور الداعي أبدا إلى الحوار وعدم التعصب. إن ما أخاف الأوباش في أبي ربيع هو هذا الربيع الإنساني الدائم أيضاً. من ينسى الإبتسامة الحيية الدائمة والنظرة الحنون شبه المنكسرة والخدّين المتوردين وكأنه خَجِلٌ من وقوف إنسانيته العظيمة عند حدود لا يستطيع تعدّيها. وإدارة موقع الناقد العراقي إذ تستذكر شهيد الثقافة العراقية في غير يوم رحيله الرسمي فلأن الإنسانية الشهيدة لا موعد رسميا للإحتفاء بها أولا ولأننا نريد أن نذكر وستنفع الذكرى ثانيا.
أبا ربيع دمت في عليين …

قاسم عبد الأمير عجام ..القابض على الجمر (2 ـ 2)
سعد محمد رحيم
في الأشهر الأولى من العام 1967 يكتب قاسم بحماس عن حرب مرتقبة، ومبادرات تتفجر بالحياة، وسقوط الأقنعة.. عن عالم جديد لا مكان فيه للظَلَمَة، لكن الكارثة تحل في حزيران من العام ذاته. ويتكشف الوضع عن زيف مريع.

فماذا يقول، هو الضاج بالأمل وبأوهام الشباب، تماماً مثل أبناء جيله.. سيشير من طرف خفي إلى حديث يؤلمه عن المعركة فلا يريد الخوض فيه.. يهرب من عبء الهزيمة على روحه ليحكي لنا عن الفلم العراقي الذي شاهده لتوِّه: ( الحارس ).. يكتب بضعة أسطر قبل أن يسكت سنة كاملة. وفي هذه الأثناء يكون نظام الحكم في البلاد قد تبدّل بانقلاب عسكري وجاء النظام الجديد ـ القديم بوعود معسولة لتتبدى حيرة قاسم وشكوكه. ولن يومئ بكلمة واحدة عن هذا التغيير.. إن صمته يفضح اضطراب فكره فتتباعد فترات كتابته لليوميات. ونادراً ما يخبرنا هنا عن أحداث تمر به.. يكتفي بتدوين أفكاره ومشاعره وهواجسه ومخاوفه.. يتلمس طريقه إلى الحقيقة في الضباب من غير علامات دالة تعينه سوى ثوابته المبدئية.. يتفاءل أحياناً قبل أن يبدأ بالارتياب ثانية.. ينشد ثورة حقيقية، اشتراكية في مضمونها، ويحلم بنصر على الأعداء، لكنه يعي جوهر المعضلة؛ “وحين نتهيأ لحرب العدو نحارب بذراع واحدة ونوجّه السلاح نحو صدور أصحاب القضية.. نشتم العدو ونغذّي مموليه بالحياة والوقود ونفتح أسواقنا لإنتاجهم” 25/6/1970.
تمتد حيرته إلى خياراته في مجال الثقافة فتؤرقه دوماً تساؤلات من قبيل إن كان عليه أن يقرأ أو يكتب. وماذا يقرأ وماذا يكتب؟ وما المنهج الذي يجب إتباعه في الحالين؟ “لماذا لا أبدأ بغالي شكري أو نجيب محفوظ أو السباعي أو بإحدى القضايا المهمة في حياتنا كقضية اليسار أو الصراع الأدبي”!.
تواصله في كتابة اليوميات وكفـِّه عنها في فترات تطول أو تقصر يعكس جانباً من تغيرات مزاجه النفسي وظرفه الاجتماعي، وأيضاً تقلبات الوضع السياسي من حوله. لنأخذ مثالاً ذا دلالة لا تُخفى حول انقطاعه عن تدوين يومياته ( من 27/2/1971 إلى 8/8/1978 ) وهي الفاصلة التي شهدت طرح شعارات الجبهة الوطنية وولادتها ومن ثم اضمحلالها. وسيكون صريحاً جداً فيما يتعلق بالحصار المفروض، الآن، على من هم مثله، حيث لا يستطيع أن يتخذ موقفاً “وهل يستطيع أحد أن يقرر؟ وهل بمستطاع أحد في بلادنا أن يقرر لنفسه موقفاً؟” 6/1/1979. وبعد خمسة أيام يكتب؛ “أخيراً وقع المحذور، جاء أحد ( زوار الفجر ) واقتادني من الدائرة إلى المركز ومنه إلى المقر حيث مات الذي أحكي لك قصته وخرج من عنق الزجاجة شخص آخر مخذولاً..” 11/1/1979. هكذا سيكون له ماضٍ مسطّر في تقارير وملفات أمنية، يلاحقه في عمله ويحول دون إكماله لدراسته العلمية.
خلال الحرب العراقية الإيرانية سيعاود الكتابة بلغة مواربة حذرة. ويشرع بسرد تفاصيل عن تجربته العسكرية: عن همومه اليومية الاعتيادية في الجبهة، عن علاقاته بزملائه، عن قراءاته هناك، عن أشواقه وأحزانه وتمزقات روحه. ولن يختلف الأمر مع الحوادث الجسيمة اللاحقة؛ احتلال الكويت وحرب الخليج الثانية والحصار الاقتصادي ومن ثم احتلال العراق.
إن قراءة نقدية متأنية لهذه اليوميات ستكشف عن تطور أسلوب الكاتب ولغته، والكيفية التي بها يؤسس سرديته الخاصة. وعلى الرغم من غلبة الطابع الإنشائي على صفحات كثيرة إلاّ أننا لا نعدم متعة قراءتها لاسيما وأن قاسم ينقل قصته ( وقصتنا ) مع السياسة والسلطة والحرب والحب والأوجاع والخيبات والآمال الكبيرة. وأعتقد أن الفصل الأول الذي تضمن رسالة طويلة كتبها لأخيه في 1/11/1995 ومقالة بعنوان ( تجربتي مع الصحافة ) كتبها في العام 2000 لا يقل إثارة عن يومياته وربما يفوقها درجات في المنظور الإبداعي. فالرسالة مفرطة الصدق كتبت بعفوية، كما لو على لسان طفل، وفيها يحكي عن طفولته، وعلاقته بأبيه وعائلته، عن مدرسته ومعلميه. وعن أول تعرّفه على عوالم الثقافة والسياسة تلك التي ستغريه بولوجها ليدفع ثمن ذلك، فيما بعد، غالياً؛ حياته. فبيننا من ( ينحر أقمارنا المضيئة ) على حد تعبير د. نادية العزاوي في إهدائها الخاص لي لهذا الكتاب الذي لابد لكل مثقف عراقي أن يقرأه بعقل منفتح وحس تاريخي يقظ.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *