خلدون الموسوي : شعر قصي الشيخ عسكر (دراسة موضوعية وفنية) (3)

المبحث الثاني : الرثاء
الرثــاء : (لعل أصدق الفنون الشعرية شعوراً ، وأحفلها عاطفة فن الرثاء الصادر من قلب ملتاع ونفس فقدت أثيراً)( ) ، فهو (عاطفة حزن وإعجاب وذكر لحسنات المرثي من خير وشجاعة وكرم وتأبين الموتى بذكر محامدهم وهو يمثل أصدق المشاعر الإنسانية وهي تواجه أعتى ضربات الدهر حين تفارق أعز الناس ) ( ) ، وهو أكثر فنون الشعر تأثيراً في النفوس وسمتهُ ( أن ينبعث عن سبب صحيح غير زائف ولا مصطنع حتى يكون عميقاً يهب للأدب قيمتهُ الخالدة )( ) .
وهو أحد فنون الشعر العربي المعروفة ، وهو شعبه من المدح على رأي قدامه بن جعفر( ) ، وهو غرض أساسي من أغراض القصيدة الشعرية ، أتخذهُ الشاعر العربي للتعبير عن أحاسيسه وأحزانه إزاء ما مُني به من صروف الدهر ونكباته بفقد من يعز عليهِ فراقه من الأهل أو الأصدقاء .
وهو الغرض الذي بث الشعراء به ألامهم وأحزانهم لفقد شخصيات عظيمة ، فناحوا عليهم وعددوا من فضائلهم وأحصوا محامدهم وبكوا على فراقهم .
والرثاء فن يصور فجيعة الإنسان وتألمه بفقد عزيز لهُ فهو (مبعث تفكير الإنسان في مأساة الحياة وبيان عجزهِ وضعفه أمام حقيقة الموت )( ) ، وهو من أكثر الموضوعات ارتباطاً بحياة الإنسان لأنه يدور حول الموت الذي هو نهاية حتمية لكل إنسان ، لذلك جاءت المرثية تحمل نظرة إلى الموت وهي نظرة يشوبها الحزن الشديد على فراق الراحلين ، ونستطيع القول ان الموت هو الذي أوجد لنا قصائد الرثاء .
فمن هنا حفلت المراثي التي قالها الشعراء بالخواطر والأفكار الفلسفية حول مشكلة الحياة والموت ، تلك المشكلة التي تزرع الحيرة والقلق والخوف في أعــماقهم وتمنحهم
النظرة الدقيقة والنافذة إلى تقلبات الدهر وأحوالهِ .
وهذا ما أشار إليه أبن رشيق القيرواني بقوله : ( وسبيل الرثاء أن يكون ظاهر التفجع بين الحسرة ، مخلوطاً بالتلهف والأسف والحزن والاستعظام إن كان الميت ملكاً أو رئيساً أو قائد كبيراً .. ) وقول أبن رشيق هذا يقترب من سؤال الأصمعي( ) لرجلٍ أعرابي : (ما بال المراثي أشرفُ أشعاركم ؟ قال : لأننا نقولها وقلوبنا محترقة )( ) .
فيمتدح الشاعر صفات المرثي الفاضلة ويُشيد بفضلهِ ليبقى ذكرهُ طيباً بعد مماته ، فهو ثناء على الميت وتقدير مآثره( ) ، والتعبير عن الفجيعة فيه شعراً( ) .
وقد أقترن الرثاء بألفاظ الندب ، والتأبين ، والنعي والعزاء ، التي تعطي معنى الرثاء أو جزءا من معناه ومهما كانت درجة استيعابها لهذهِ المعاني (فإنها كلها تُقال في ظروف الحزن والبكاء عند فقدان أي شخص عزيز يُبكيه الراثي ، ويُعدد حسناته كما يُرثي نفسه لكونهُ فقد إنساناً لهُ هذهِ الأخلاق والفضائل النفسية الرائعة )( ) ، وقد قسم الدكتور شوقي ضيف الرثاء إلى ثلاثة أنواع ( ندب ، تأبين ، عزاء ) .
الندب : هو ما عبّر بهِ الشاعر عمّا تكنهُ نفسهُ من مشاعر حزينة ، مؤلمة ، نحو قريب( ) تربطهُ بهِ وشائج الدم ، أو صديق تصلهً بهِ صداقة حميمة أو وطن يصاب بنكبة تزعزع كيانه وتشيع في أرجائه البؤس والشقاء .
أما التأبين : فهو تعداد مآثر الميت ، وامتداح ما كان يتحلى بهِ من خصال حميدة وسجايا نبيلة ، وهو أدنى إلى الثناء فيه إلى الحزن الخالص ، ويُعد التأبين ضرباً من التعاطف والتعاون الاجتماعي .
وأما العزاء : فهو مرتبة عقلية فوق مرتبة التأبين ، ويدور على عرض أفكار وإرسال حكم تخفف من وقع المصاب على المفجوع وتحمله على الصبر والتأسي ، إذ أن الموت كأس يُدار على كل نفس فترشفه .
ويمكننا القول أنَّ الشاعر (قصي الشيخ عسكر) يُجيد الرثاء ويحسن البكاء والعويل ويُعد الحزن لديهِ من أهم ما يميز بهِ رثائه الصادق وهذا ما سنجده في شعره .
وقد برع الشاعر وأجاد في هذا الفن ، إذْ كانت مراثية تفيض لوعة ، وأسى ، فالعاطفة عندهُ ترنيمة حزينة تخفف عن كربته وحزنهِ وغربتهِ ، ولا نبالغ إذا قلنا إنها تصور حزنهِ على نفسهِ وغربتهِ عن أحبتهِ من أهلهِ وأصدقائه( ) … .
لِذا إنّ باعث حزن الشاعر هو الفراق الذي يولده الموت نتيجة رحيل من عزَّ بهم واصطفاهم لنفسه حتى أصبحوا جزءا منه .
(فقصي الشيخ عسكر) معروف بحبهِ إلى أهلهِ وأقاربهِ وأصدقائهِ فهم عندهُ مثل الجوارح لا يعوّض فقدها ، فهو يفخر بهم في حياتهم ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم وآلامهم ويتوجع لفقدهم .
وأهم من رثا الشاعر (والدهُ) الذي فارقهُ وهو في ديار الغُربة ، بعد ورود نبأ استشهاده على يد قتلة كلمة الحق الذين قاموا بإعدامه ورمي جثتهِ في الشارع لأنهُ لم يتنازل عن مبادئهِ وعقيدتهِ ولم يتهاون بقول كلمة الحق أمام الحاكم الجائر ( ).

رثــاء الأهـل :
أن رثاء الأهل متفاوت بين الشعراء من حيث حرارة العاطفة والأسلوب وأشهر من رثاهم الشاعر من الأهل (والديه) ، رثا والدهُ بعدة قصائد خصوصاً بعد ورود نبأ وفاته ، فكان له تأثير كبير وحزين ومؤلم على نفسية الشاعر لأنه كان في ديار الغربة ولم يكن حاضراً عند وفاة والدهِ ومعلمهِ الذي أنار له الطريق وجعله لهُ سلماً من أجل العلم والأدب ، فبكاه بكاءاً مريراً تفوح منهُ رائحة الألم والحسرة والحزن العميق الذي لا يهدأ ولا يسكت حين يقول في رثاء والده :
أكبرتُ نعيك أن يكون عــويلا فلقد تجسد صدمةًِ وذهــولا
اكبرتهُ فتن الهمــــوم رتابة ليحيل من نسق الحياة فصولا
ووعيته حزناً ترقرق في العيون ولم يجد نحو الدموع سـبيلا
فنفضت عن حزني غبار تغربي كي أستريح مع الطلول قـليلا
لم يوقف الزمن العـنيد إرادتي ووقفت أنـدبُ دمنة وطلـولا
ولقد علمـــت إذ التفت بأنه سيكون قلبي كالطلول محيلا ( )
فالشاعر قد صُدم وذُهِل ولم يصدق النبأ بأن هذا الشيخ الجليل قد هوى وانتهى ، وفارق الُدنيا والتحق بربهِ وارتاح من همومها ومصائبها ونكباتها ، والشاعر قد ربط بين موت والده وذكر الأطلال وجعلها في صورةٍ واحدة حزينة مؤلمة فهو إلى جانب نعيه وبكائه على والده الذي فارق الدنيا وفي الوقت نفسه يبكي على الديار التي تركها ورحل عنها ، والأبيات الثلاثة الأخيرة خير دليل لمن يقرأها ويستدل على معاناة الشاعر من أثر الفقد (فقد والدهِ) الذي كان له خير سند وخير معلم في هذه الدنيا .
أما في هذه المقطوعة الشعرية يتكلم عن والده ويستذكر أيامه هو ورفيق دربه منبر الحسين (u) الذي لازمه منذ الطفولة واصطفاه خليلاً وهو بحق خير خليل يقول :
أبتاه والذكرى تؤرق مضجعي فأعود من وادي الخيال عليلا
يشــكو غيابك منبر رافقته منذ الطفولة فاصطفاك خليلا
أعليت من يوم الطفـوف مآثراً واجهت فيه غـاصباً ودخيلا
ورغبت عن لهو الحديث لمجلسٍ دارست فيه الوحي والتنزيلا
ورددت عن فـكرٍ صحيح هجمةً كادت ستجرف للضلالة جيلا( )
فكلام الشاعر واضح المعنى والمقصد وهو يتكلم عن مسيرة والدهِ الذي لازم المنبر الحق منذ طفولته إلى آخر نفس في حياته وهو معروف في تلك الفترة من الزمن بتقواه وتواضعه فهو إلى جانب كونه من القّراء الحسينيين الكبار خلال تلك الفترة من الزمن فقد كان من العُلماء المتواضعين الأجلاء في البصرة .
فقد كان صاحب فكر وعلم ومبادئ دافع عن الدين بكل ما يحمل من علم ووقف موقفاً واحداً ضد أصحاب الجهل والضلالة الذين أرادوا جرف المجتمع نحو الضلالة والخراب والدمار على الرغم من كل ما واجه من الم وقهر ، وهو معروف قبل وفاته كم مرة ومرة قد سُجن في طوامير الطاغية المتكبر ، فقد أعتقل عدة مرات وسُجن لمبادئهِ وأفكاره وشجاعتهِ في قول كلمة الحق بوجه الطغاة الظلمة حين يقول:
ماكنت ترهب سجنهم وشهودهم مادامت أقوى حجةً ودليلا
ومنافق مهـــما نصحت فإنهُ لا يسـتطيع لطبعهِ تبديلا( )
فهو على الرغم من كل ما واجه من قهر وسجن إلاّ أنه يبقى صاحب رسالة وصاحب فكر ومبادئ لا يمكن بسهولة أن يخضع وإن يستسلم للطغاة وأهل الضلالة والشقاق .
ويقول : وهو يبث أحزانه وأشجانه إلى قبر والده ما يجول في فكره وخاطره :
أبتاه والذكرى شــجون كلها ماذا أقول وأنت أصدق قيلا
وطني تنازعه الضباب فلا أرى أبداً لمطلع فجــره تأويلا
والأجنبي يبث فينا ســــمه ليكون جلّ شبابنا مشـلولا
والناس من جشع تصعّد حقدهم ليسرهم أنّ السـلام اغتيلا
والركب يخشى أن يضيع بغربة قد أحبطته شــبيبة وكهولا
يصحو على بوم تناغـي فجره ويرى إذا رقدت عيونه غولا
أسفي على القٍ تقاصر فجره لكنه وســـع العيون ذبولا
يا للفصاحة ضيعّت عنوانها لم ترض غيرك أن يكون بديلا
سأظل من أسفي عليك بعبرةٍ بعثت لقبرك بالرثاء رسـولا( )
فالشاعر يُعبر عمّا يجول في قلبه من ألم وأسى على فقد والده الذي كان صادق القول والفكر ، ويبث أحزانه إلى قبره ليخبره ما الذي حدث لوطنهِ وأهلهِ من نكبات ومنغصات جعلت الضباب يُخيم عليهِ وعلى فجره ، وهو هنا قد أستخدم (الكناية) لإيصال الغرض المقصود من هذا البيت الشعري :
يصحو على بوم تناغـي فجره ويرى إذا رقدت عيونه غولا
ليأت بالبيت الذي بعده ويعطفه عليه لكن بصريح العبارة والمعنى في أن الأجنبي يبث فينا حقدهُ وأفكاره الخبيثة المضللة ليشل عقول الشباب الذين هم عمود المجتمع وأساسه ، فهم يحاربون العقول والقلوب لما تحمل من أفكار ومبادئ لبناء مجتمع صالح يعيش أهلهُ بخيرٍ وسلام وأمان .
وأهم ما يُلفت النظر أن الشاعر سيظل من حزنه وبكائهِ في فقد أبيهِ يُرسل الرثاء والبكاء رسولاً إلى قبره بدلالة حرف (السين) التي هي للمستقبل .
ويستمر الشاعر في رثاء والدهِ وهو رثاء يتميز في صفاء اللغة الشعرية ، وصدق الإحساس والعاطفة ، وشدة البكاء والحزن لفقد والده وشدة التأثر بالمصيبة والحادثة يقول :
لمصيبةٍ حلّت فأيسر وقعها أن تستبيح مشاعراً وعقولاً( )
فرثاؤه أكثرهُ مدح وفخر وذكر لفضائل الميت لكن بصورة حزينة مؤلمة باكية وتعداد لحسناته ومواقفه في الدفاع عن الدين وإصلاح المجتمع وهو يعتلي المنبر الحسيني طيلة أربعين سنة .
أمّا الجانب الثاني من رثاء الشاعر (قصي الشيخ عسكر) وهو الأشد والأصعب والأكثر إيلاماً على نفسه وقلبه وهو في ديار الغربة والمحنة رثاء أمهِ العزيزة الغالية التي هاجر عنها وتركها في حزنها وألمها لفقدهِ عندما هاجر العراق الحبيب عام 1977م ، ومع مرور الأيام والليالي وبعد وفاة والدهِ بسبب ظُلم الطغاة وتلك المسيرة التي قضاها في خدمة الله ورسولهِ وخدمةِ آل البيت (عليهم السلام) ، حتى جاء خبر وفاة أمهِ فلم يستطيع التماسك والاحتمال فبكاها بكاءً مُرّاً ورثاها شعراً تفوح منهُ رائحة ألم فراق الأُم وأيُّ أمِّ هي كلها عطاء وخير وبركة حين يقولُ فيها :
إطلالةُ فجرٍ
أم إطراقة حزنٍ
تمتدُّ إلى قلبي حتى يدركها المأوى
بيني والحزن صباحٌ
لا يعرفه أحدٌ قبلي
ومسافات
لا يقطعها نغمٌ غيري
لكنّ نداوة فجرٍ يا أمي
هامت في عينيك
لتأوي كل مداراتي
قد ناجيتُ الحزن ورائي
ورسمتهُ في همسة فجرٍ
لورود تتفتح بين الأحلام
منذ سنين
والذكرى تطرقني بالصمت( )
فرثاء الشاعر قصي لأمهِ رثاء فيه رقة وعاطفة جيّاشه وهو رثاء يغلفهُ الحزن والألم والبكاء وهي بعيدة عنه فهو عندما يقول :
إطلالة فجرٍ
أم اطراقة حزن
تمتد إلى قلبي( )
الشاعر يوحي لنا بأنه يُكلم نفسهُ حين يتذكر وجهها المشرق ليشبهها بإطلالة الفجر أو يرمز لوجهها بإطلالة الفجر الذي هو بداية النور والخير والضياء هذا من جانب ، من جانب آخر نرى الصورة الثانية التي يرسمها الشاعر لنا يرمز لها (بإطراقة الحزن) وهو يُرثيها ويبكي على فراقها من ناحية ومن ناحية أخرى على فقدها وموتها وإن حزنها ليس عابراً أو يمر مرور الكرام وإنما هو حزنٌ عميق في القلب ، فالعاطفة هنا بارزة من خلال صياغة الشاعر وتفننهِ في شعره وهذا ما أشار إليهِ نقاد العرب القدماء منهم والمحدثين في أن (جودة العاطفة قائمٌ على أساس الصياغة الفنية وملاحظة الخلق وشرف المعنى ، وكان عندهم تصور عام لقوة العاطفة من ضعفها ولصدقها من زيفها وخاصة في الغزل والرثاء والمديح) ( ).
ومن اللافت للنظر أن العاطفة عند الشاعر تحرك الخيال لديه وتهبه القدرة على رسم صورة قوّية يُعبر بها عمّا يجول في وجدانه من أحاسيس وأفكار ورؤى ، هذا من باب ومن باب آخر نرى أن رثاء الشاعر قصي الشيخ عسكر رثاء صادق الإحاسيس والمشاعر غير مصطنعة ولا زائفة كيف وهو يُرثي أهم شخصيتين في حياته (والديه) ، فالشاعر قد جُرح بفقدهما وخاصة بفقد أُمهِ إذا عرفنا أنه كان متمسكاً بها وبحبها ، فهو عندما يُرثيها يأتي لنا بألفاظ قوية ، متماسكة الأجزاء ، وصوت الموسيقى والعاطفة الحزينة الصادقة ، والمعاني الثرة .
فهو يناجي الحزن ، ويستذكر الأيام الخوالي التي عاشها بين أحضان أمهِ ويأتي بالذكرى التي تطرقه بالصمت من أجل رؤية وجه أمهِ الذي يبعث بالنشوة والحياة .
حين يقول فيها :
كانتْ
كل وجوه العالم تعبى
وبوجهي
تغلق بسمتها
وأنا النغم الناعس بالهمسات
لم يبق سوى
وجهك
يؤويني يا أمي( )
نلاحظ هنا الصورة التي يرسمها الشاعر فهو بالرغم من البعد والغربة والحزن الذي يعيشه الشاعر وبالرغم من انسداد كل الطرق والمسالك بوجههِ يبقى يحن إلى رؤية وجه والدته ذلك الوجه الذي ملؤه الخير والتفاؤل في الحياة .
ويبقى الشاعر يتذكر ذلك الوجه الذي لطالما كان يرى منه كل الحب والحنان ، فيبقى يستذكره كلما طاب له وقت وكلما أحسَّ أنه بحاجه إلى الرجوع بالزمن من أجل نظرة لوجه أمهِ فنراه يقول في (إطراقة الندى) :
وجهك يا أمي
إطراقة الندى الشفيق
وهمسة الصباح للحقول
تحملني
لعالم جديد
أدخلهُ
مخلفاً
ورائي الأحزان والهموم( )
فهو يأتي بصورة جميلة رقيقة هادئة ويُضفيها على وجه أمه ، فصورة (الندى ، وهمسة الصباح ، والعالم الجديد) كلها صور توحي لنا بالتفاؤل والخير والعطاء والمحبة فهو عندما يرى وجه أمه ينسى الهموم والأحزان وينسى الماضي الأليم بإطراقة الندى وهمسة الصباح وهو وجه أمه الذي فارقه لسنين وسنين حتى أن فارقت روحها الدنيا وهو بعيدٌ عنها في ديار الغربة .
رثــاء القادة :
لم يعرف تاريخ العراق المعاصر شخصية سياسية سمت فوق كل الشبهات كشخصية الزعيم الراحل (عبد الكريم قاسم ) ذلك الرجل الذي كان وطنياً شريفاً بحقٍّ ، حيث أعطى للعراق ما لم يعطهِ أي سياسي آخر رغم قصر فترة حكمهِ ورغم كل المؤامرات التي حيكت ضده سواء من داخل العراق أم من خارجه ، ويتضح لنا جلياً بأن عبد الكريم قاسم كان يَعدُّ نفسه من عامّة الناس رغم إنهُ يمثل أعلى الهرم للسلطة في العراق ، فقد كان بسيطاً ، متواضعاً ، رقيقاً ، رحيماً مع شعبهِ ، وعنيداً ، قوياً أمام الآخرين .
من خلال هذهِ المُقدمة المتواضعة يتضح لنا بأنّ الشاعر (قصي الشيخ عسكر) لم يكن مأجوراً ، أو طالباً للمال أو كان منتفعاً من حياة الزعيم بل أن الموقف المبدئي حتّم عليه أن يرثي هذهِ الشخصية الفذّة بكل عِفّه وصدق ونُبل وهذا ما يؤكد مصداقية الشاعر في رثاء الزعيم الراحل (عبد الكريم قاسم) .
حيث يقول في رثائه :
ماذا أكتب عنك ؟
يا من آنست الحق رفيقاً
ورفعت على رأس الجلاد نِعال المظلومين
قالوا عنك شعوبي كافر
والتهمةُ تلصق دوماً بالشرفاء
ما دمت شريفاً
ستكون شعوبياً أو مجنوناً ( )
فهنا تتجلى معاني الرثاء الصادق في أعلى صورها إذ لا تربط الشاعر بالمرثي إلاّ الألفة والمحبة والفكرة والقيِّم والمبادئ ، والشاعر يستفهم ما الذي يكتبه بحق هذه الشخصية العظيمة التي ضحت بالغالي والنفيس من أجل الوطن والقيم ، هذهِ الشخصيّة التي آنست طريق الحقّ وسايرتهُ منذّ الطفولة هذهِ الشخصية التي رفعت صوت المظلومين ووقفت معهم بوجه العُتاة الظلمة ، الذين كُلّ همهم أكلُّ أموال الشعب والتكبر عليهم ، وهو شريف وطني صاحب رسالة وطنية خالية من الزيف والكذب والجبروت وتستمر القصيدة في بثّ مشاعر الحزن الصادقة مشيدة بعظمة المرثي سمواً ورفعةً فيقول الشاعر :
ما دمت تدافع عن حق الإنسان
ولقد كانت بعدك أنباء
تخجل منها صفحات التاريخ
إن أسود الكلمات ، ومن شنوا حرب المذياع
باتوا ، والجنرال الأعور يدحرهم ، باتوا
أحقر من جرذان تبحث عن مجرى تدلف فيه( )
هنا يبرز الشاعر بصدق الإحساس وتصوير الفجيعة شعراً وعلى حد تعبير أحد الباحثين ( قد يشتد الحزن في رثاء الشاعر ، لكنه على حزنه يظل نزاعاً إلى المفاخرة بمثل هكذا شخصية ، فهنا يمزج الشاعر بين الرثاء والفخر )( ) .
والشاعر في الأبيات الشعرية يستخدم الرمز (الدجال) دلالة على تناقضات الزمن وسيادة الجهل واختفاء الحقائق في هذا العصر ، ولعلهُ كان يرمز إلى حاكم النظام السابق الذي كان سبباً في غربتهِ وبُعدهِ عن بلدهِ ووطنهِ العراق ويستمر الشاعر في رثائهِ الشخصية القائد (عبد الكريم قاسم) فيقول:
عفواً يا ابن المظلومين الشرفاء
لم نقتلك فيوم قتلناك
كنّا نقتل فينا الشرف الثوري
كنّا نمسح من دمنا تيار الأخلاق( )

فهنا يظهر اعتزاز الشاعر وولاؤه وحبه لشخصية الزعيم وهو رثاء صادق صادرٌ من وجدان الشاعر و ذاته خالٍ من أيّ نفع ذاتي .

رثــاء النفس :

كُلّنا نعلم أن رثاء مالك بن الريب لنفسهِ يعد أفجع رثاء وأطول رثاء في الشعر العربي .
إذن رثاء النفس يتجذر من مواجهة الشعراء لحظاتهم الأخيرة فيرثون أنفسهم خائفين من الموت الذي يُمثل الجانب المقابل للحياة ، فإن الحياة قضية تولد الرثاء نتيجة اليأس والملل وكره العيش وعدم القناعة بالحياة ، وبسبب ما يحس بهِ الشاعر من ألم وحزن وقهر في هذهِ الحياة .
فقصي الشيخ عسكر رثى نفسهُ بسبب ما عانى في هذه الحياة من ظلم وألم وحزن على فراق الأهل والأحبة ، وبسبب الغُربة التي لا تطاق ولا تحتمل خاصّة إذا عرفنا كلّ
ما مرَّ بهِ الشاعر من آلام حيث يقول :
وينهار المدى خلف الحدود
يضيع كرجفة الحلم الســـعيد
فأجثو ثم أكبو ثمَّ أصحو
وبعض الصحـو تاريخ الرقود
أنا روحٌ من السكنات فرّت
لتاريخٍ تجلى فــــي الجمود
أنا ثقل السكون وليس شكاً
بأن الصـمت ناقوس الرّعود( )

الشاعر هُنا يرثي نفسه بكلِّ وضوح وصدق ، وهو رثاء يغلفه ألم البعاد والاغتراب والترحال من مكان إلى آخر طوال ثلاث وثلاثين سنة أو أكثر ، فيمكننا القول إنها خُلاصة لمسيرة الشاعر المغترب عن الأهل والوطن والأحبة وكُلّ ما مرَّ به من آلام ومصائب ومحن فجعلتهُ يبحث عن الحياة لعلهُ ينسى بعض ما في قلبهِ من حزنٍ على فراق كلّ ما هو عزيز وغال عليهِ .
ويستمر الشاعر في رثاء نفسهِ وذاتهِ حين يقول:
حملتك يا جراح ولست أدري أفـي نبضي لنزفٍ من مـزيد
بحثتُ عن الخلود بلا توان وحبلُ الشّك مربوط بجــيدي
فعّمرت السّعير بثلج خوفي وأسرجت الشرارة من جمودي
فأورقت المتاهة سيف غدرٍ ليذبحني بمــــثواي الجديد
وفي موتي خلاص من أساري ولكن صـرت قيداً من قيودي( )

فالشاعر حمل معهُ جراحهُ وآلامهُ ليبحث عن الطمأنينة والسلام والخلود بلا توان ، إلاّ إنهُ أدرك أخيراً أن راحتهُ وسلامهُ وخلاصه من كل ما ألمَّ بهِ في الموت الذي لا مفرّ منهُ فهو القادر على إعطائه ما يُريد وما يتمنى ، وكأن الشاعر يؤمن بالقدر المكتوب عليه وينطلق من قوله تعالى :
((قُلْْ إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس * فتمنوا الموت إن كنتم صادقين )) ( ).
وقوله تعالى : (( كُلَّ نفسٍ ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز )) ( ).
لابد أن نشير الى أنه لاتوجد هناك أية مبالغة في الأبيات الشعرية فشاعرنا لايلبث أن يبالغ ليمنح حزنه عمقاً جديداً ، وإحساساً مرهفاً وعاطفة حية صادقة .
وهو لايهدأ ولا يتوقف بل يستمر في رثاء نفسه ورثاء تلك الأيام التي عاشها والتي أصبحت ماضياً منسياً وذكرى لايمكن رجوعها ، وهو يبعث الشكوى اليها بما ألمَّ به من وقع الحياة وقسوتها ، وهو يشكو عمّا يعتلج في نفسهِ بصدق ووضوح ولعل أكثر ماأثر
فيه وأشجاه هو رحيل ربيع عمره ( الشباب) وهبوب رياح الخريف الصفراء ( رياح الكبر ) التي أخذت تسقط أوراق حياته لذلك نراه يُرثي نفسه وشبابه الضائع رثاءً حاراً مفعماً بالحسرة والألم حيث يقول :
أشكو لأيام الطفــولة أنني ضيعتّها فلقيتهــن رحيلا
ما أثقل اللحظات حين نظمها بين الجوانح عبرة وعويلا
فنظل نحتطب الحياة كأن فيـ نا رغبة أن تحرق المجهولا( )
ويقول :
في غبار السنين أفقد حـزني كأنشغالي بلحظةٍ من صفاءِ
أغسل الليل في ينابيع سهدي وحميم الغبار يمسـح دائي( )

فهنا ترجمة صادقة لواقع الشاعر وعالمه النفسي وما يحوم فيه من انفعالات وهموم وأشجان وهواجس سببها مايشعر به من حرمان وإحباط أو الضعف والعجز عن الحصول على أهدافه ورغباته وحاجاته .
إذن يمكننا أن نستنتج بأن رثاء الشاعر ( قصي الشيخ عسكر ) من خلال مادرسناه في هذا المبحث يتلخص بما يلي : –
– أن رثاء الشاعر في والديه ( أمه وأبيه ) كان رثاء صادقاً بكل معنى ونابعا من قلب مكسور حزين لفراقهما ، ولوفاتهما من دون رؤيتهما فكان هذا مبعث الحزن والبكاء والعزاء لهما وكتابة هذا الشعر في رثائهما ، وهو قد أجاد في ايصال مايجول في خاطره.
– رثاء الشاعر لشخصية سياسية شريفة وطنية بحتة مثل شخصية (عبد الكريم قاسم ) كان رثاءً مفعماً بالعاطفة والأحساس الخلاب والمشاعر الصادقة النابعة من حزنٍ عميق لما حدث وجرى عليها من ظلم وقتل لاتستحقها ، ودلالة الأرتباط بالوطنية وحب الوطن.
– رثاء الشاعر لنفسه كان رثاءً مؤلماً وذا عاطفة جيّاشة وصادقا في كل معانيه وأفكاره التي رسمها الشاعر لنا وهي خلاصة لآلامه ومحنه التي مرت عليه وهو في ديار العزلة والغربة ونتيجة للحرمان والقلق وفقد الأحبة والقدوة بالنسبة له رثى نفسه رثاءً صادقاً ليس متكلفاً وبلغة شعرية صافية من كل الشوائب التي قد نجدها عند بعض الشعراء ، وبأفكار واضحة الدلالة والمعنى المقصود التي أراد الشاعر إيصاله الى المتلقي . والشاعر لم يبالغ في رثاء نفسه إذا عرفنا كلّ مامر به خلال حياته ومسيرته الطويلة في ديار المنفى .

المبحث الأول : أنسنة الطبيعة
يعد ( قصي الشيخ عسكر ) من الشعراء الذين وظفوا الطبيعة وعناصرها للأغراض الشعرية فنجد إن وصف الطبيعة يكاد يكون السمة البارزة لشعر الشاعر .
فهو يحاكيها كشخوص حيّة وإن مفرداتها ( الطبيعة الصامتة والحية ) بمثابة العائلة التي ينتمي اليها الشاعر ، وهو الذي أوجد علاقة الأنسنة بين الطبيعة و الشاعر كإنسان لذلك ( يعد شعر وصف الطبيعة من أوسع الأبواب الأدبية انطلاقاً وأكثرها شمولاً، فهو رأس الأغراض الشعرية ومصدر فنونها ، لذلك نجد هذا الغرض ممزوجاً بالأغراض الشعرية الأخرى ، فالغزل وصف للحبيبة ، والمدح وصف للخصال الحميدة ، …. ) ( ).
( لذلك تفاعل الشعراء بها حتى امتزجت بعروقهم وخالطت بشاشتها روحهم الشاعرة ، فكانت الطبيعة من حولهم ديوان شعر مفتوح ينظمون منه الألفاظ ، ويتعلمون منه الأوزان ، فلا يخطئون الصواب ) ( )، فهو من الشعراء الذين لجأوا الى الطبيعة بكل مافيها يناجيها ويحاكيها همومه وآلامه .
و( شعر الطبيعة من المصطلحات الحديثة التي دخلت الأدب العربي عن طريق الآداب الأجنبية ، علماً بأن وجوده في الآداب العربية لم يتعد نهاية القرن التاسع عشر، وتعني الطبيعة : الحي ماخلا الأنسان كالطيور والحيوانات كما تعني الصامت كالنباتات والجبال والبحار وأمثالها ) ( )، وهو قد جسد الطبيعة بشقيها ( الحي والجامد ) في شعره وهذا دليل على براعة الشاعر في محاكاتها وتجسيدها وتصويرها .
و( شعر الطبيعة أخذ مكانته البارزة في القصيدة العربية ورمز الى كثير من الأوضاع النفسية التي كان الشاعر يعيشها) ( ) ، وهذا ماوجدناه عند دراستنا لشعر قصي الشيخ عسكر بحيث أن الوضع النفسي كان له دور كبير في لجوء الشاعر الى الطبيعة بكل مفاتنها .
وبما إن ( الشعر بوصفه فن الكلمة كما يقول الفيلسوف الألماني هيجل) ( )، فقد وجد في الإحساس بالوجود ومظاهرة الميدان الأرحب للرسم بالكلمات مما اتاح للشاعر المبدع ان يبعث بشعورهِ نحو المتلقي مجسداً تجربتهُ ، وقد تفاوت الشعراء على مر العصور في مدى استيعابهم للطبيعة وصوغ تجاربهم الوجدانية حيالها .
فالطبيعة كانت بكل مافيها الينبوع الذي يغرف منهُ الشاعر، فلقد أحبها بكل جوارحهِ، فأصبحت ملهمتهُ في كل ما كتب او ليست الطبيعة ملهمة الفن كما يقال .
و( قصي الشيخ عسكر) لجأ الى الطبيعة لينسى آلامه وأحزانهُ والغربة التي يعانيها، وهو لم يلتجيء الى الطبيعة هروباً … بل قد وظّف الطبيعة بكل مظاهرها لخدمة هدفهِ وإيصال فكرتهِ وبوح مافي القلب من آهات وآلام .
فالشاعر يشخص الطبيعة ويجسمها ليجعلها إنساناً يحاوره ويبثه كل مافي نفسه المتعبة القلقة المشبعة بالآلام سائرً في ذلك على طريق الرومانسيين الذين ( كثيراً ماتكون الطبيعة ملجأ نفوسهم القلقة ، لذا فهم يفرون اليها )( ).
فهو يهب الوجود بما يمثلهُ من طبيعة إنسانية الإنسان بأعمق مدياتها ، ويحولها من مادية الى معنوية تبحر الى أعماقهِ ، وهو في هذا يواكب الشعراء الذين ( يلقون على الطبيعة الساكنة مشاعرهم فإذا هي شاخصة ) ( ).
ولعل من وظائف الشعر الأولى هي أنسنة الطبيعة بالكلمات( )، والشاعر أنسن الطبيعة بشقيها ( الجامد والمتحرك ) ونسبة الطبيعة الجامدة أو الصامتة هي الأكثر في هذا المضمار ، فقد جعل منها إنساناً يخاطبه ويناغيه ويبثه كل مايعتري نفسه من غربة وألم وفراق وحنين الى الوطن والأهل ، وهو يثق بها ويحاكيها كل مافي نفسه المتعبة وهو يُضفي على الطبيعة سمات الإنسان بكل معنى ، من الإحساس ، والأمان ، والثقة ، والراحة والاطمئنان ، والتأمل ،والشكوى .
والشاعر ما لجأ الى الطبيعة وشخّصها وخاطبها الاّ بعد أن يئس وعجز من مخاطبة الأنسان فأنزاح نحوها وجعلها إنساناً يشـكوه همومه وآلامه ، ( متخذاً من أنسـنة الطبيعة
طريقاً لتحرر ذاته واستقلالها ومن ثم تحققها ) ( )،واجداً نفسه وأمله فيها ومايبحث عنه ويبتغيه ، وهي خصلة ليست بجديدة على الشعراء بل تمتد جذورها الى العصر الجاهلي ، فـ ( قد وجد العربي ذاته في الطبيعة منذ العصر الجاهلي إذاْ كانت أمه الروؤم التي تآلف معها حد الاندماج بها)( ).
وقد ندرك ابداع الشاعر يتراءى في سهولة الفاظه، ودقة تصويره وروعة تشبيهاته، وقوة تشخيصه وتجسيمه للطبيعة ،وبراعته في محاكاتها .
وهو شعر يتميز بالرقة والعذوبة في أغلب الأحيان ،خالٍ من الألفاظ الغريبة والمعقدة ، بل نجد السهولة والجزالة واضحة في شعرهِ .وقد كتب الدكتور صدام فهد الأسدي مقالاً حول ( أنسنة الطبيعة الجامدة في شعر قصي الشيخ عسكر ) دراسة لديوان ( رحلة الشمس والقمر ) ذكر فيه ( أن الرمز عند الشاعر يخترق جماليات اللغة المقننة بطاقات تعبير متقنة ، والرمز من أكثر وسائل الشاعر تنوعاً ، وهو فنان في رصف الرموز وأكثرها رموز الطبيعة الجامدة ، وله دور كبير في جماليات الوصف ( وصف الطبيعة ) ، وهو أحياناً يستخدم التضخيم لقلقه الدائم ) ( ).
يقـول :
سيدتي
أنا – كما ادعت عيناك
رسالة الأحزان لسنين
أدركت أني قادم إليك
فلم أزل مبعثراً
كالليل عند ملتقى القرون
ولم تزل
تلمني عيناك
في لحظةٍ عميقة القرار
وقبل أن تخلعني الرياح
رايت فيك صحوتي
فكيف لي أن أدرك المدار( )

الشاعر هنا أعطى صورة واضحة لغربة الزمن التي يمر بها ، حين يقول : ( رسالة الأحزان للسنين ) ، مع وجود صورة تشبيهية واضحة الدلالة بوصف الليل له .
وهو يثير تساؤلات ويتخذ من الطبيعة رمزاً جنى عليه بالخلع والاندثار والنفي ، لكنه يبقى متشبثاً بالارتباط بالأرض لكنها عزيزة عليه توحي له بالكثير من الذكريات ، ودلالة الرياح عند الشاعر هي إشارة الى السلطة الحاكمة في العهد المباد بدلالة قرينة الخلع التي وظفها الشاعر فأحسن توظيفها وهو هنا يخاطب فكراً أو مجتمعاً أو قضية لها علاقة به وهو قد شخّص العين في رسم صورة جاءت على هيأة الاستعارة التخيلية في فكر الشاعر ، ولابد أن نذكر ان النص كما هو واضح من قراءته أن الشاعر قد خلط في رسم هذه الصورة بين الرمز والتشخيص ، وهذا الاندماج كوّن في النص صورة تتراوح بين عنف الفكرة وبساطة الصورة ، ونجد هذا الاندماج واضحاً في سياقاته ( أنا كما ادعت عيناك ) و( تلمني عيناك ) و( تخلعني الرياح ) وهو في كل هذه الصور يقدم تشخيصهُ بأسلوب ماهيته وجوهره هما أنسنة العين والرياح .
ونراه يقول في ( رحلة الشمس والقمر ) :
ظمأي لون تاه بصحراء الماس سنيناً
بسحيق الجمر تشبث دهراً وتوارى
خلف حجاب الحرقة أضحى( )
فهو يرسم صورة قاتمة محيرة للطبيعة الصامتة حيث تنبثق من هذه الصورة دلالة تراسل الحواس التي يرمز اليها إذ يصف الظمأ ويعطيه لوناً حيث لايوجد للظمأ لون وهو يضفيه على ( صحراء الماس سنينا) ، وهي اشارة منه الى ضياع حياته وأيام شبابه .
ويقول :

النسيان سفير الرّوح الى الماضي
وأنا أدخل في رغوة هذا الزمن المحفور بذاكرتي
أذكر أني قابلت البحر فناداني لؤلوه
حتى كاد أسمي ينساني
أعطاني قمرُ الحوت سماءً
قصرت عنها الأعين شبرا( )

حيث يغدو النسيان سفيراً لروح الشاعر ، وهو يطلق جناحيه الى مدى جديد ، ويكاد ينسى أسمه ، بين مقالب هذا الزمان فهو يجسد البحر شخصاً ومن خلاله يفرغ شحنات أوجاعه وآلامه وهو قد شخّص اللولؤ وجعل منه إنساناً يناديه أو يتحدث معه أو يخاطبه ، فهو يصرح بما يجول في خاطره ويبدو النسيان من أهم مايذكره الشاعر وهو سمة من سمات الإنسان ، فهو مصدر قلق لدى الشاعر .
ونراه يقول أيضاً :
قابلت الرمل وحيداً
فأبى المحل
وقابلت البحر وحيداً
فابى الليل
وقابلت الريح وحيداً
فتشظيت لأكثر مني
هدهد أفكاري قال
سآتيك بما لن يأتي في رمشة عين
قلقي يلبس أشكالاً تتوحد في الكون
وعيني وفاتنتي
أقواس قزح ، الماء ، الحب ، العهد ، الوعد ، الرقة والعنف ،
العالم حولي مختوم بالصبّار
والرمل قماط الصحراء ( )

وتأتي مقابلته ثانياً للرمل حيث يجسده شخصاً ، بحيث تتشظى مفردات الطبيعة ( الليل ، الرمل ،البحر ) وكلها دلالات لطبيعة جامدة ولكنها في روئ الشاعر تتحرك بديلاً عن الأنسان ، فهو يصور لنا محاوره ذات رؤيا خاصة بين الشاعر وبين مفردات الطبيعة الصامتة ، وما نجده هنا أن الشاعر يربط أفكاره وما يجول في خاطره مع هدهد سليمان (ع) وهو مقتبس من القرآن الكريم (( وَتَفَقَّد الطَّير فقالَ ماليَ لا أرى الهُدهد أم كان من الغائبين )) [ سورة النمل / آية (20) ] ، ليوحي لنا بما يجول في فكره هو وما يريد أن يوصله لنا وغايتهُ في كل هذا ، والشاعر يضفي على قلقهِ اشكالاً والواناً وهذا نتيجة الغربة والقلق والحرمان النفسي الذي يعانيه وهنا صورة واضحة للصوفية عند الشاعر وهذا كله مرتبط بحالتهِ ونفسيتهِ ومدى الأحساس بالألم .
فمن الرموز التي ذكرها لنا ( الماء ) ، والماء في نظر أكثر الشعراء المحدثين يأخذ بعداً شجياً ، قلقاً ، يختلف من شاعر الى آخر باختلاف خصوصية الرؤية وطبيعة التكوين النفسي والانفعالي لكل شاعر بعد أن قررنا أن الشاعرالحديث أصبح يتعامل مع أشيائه وموضوعاته بأتخاذ نقطة انطلاق يبحر من خلالها الى أعماق ذاته مستكشفاً مايعتمل فيها من مشاعر وما يتلاقح من صور ليعود ثانية ملقياً بما يراه وما يلمسهُ في ذاتهِ على الأشياء من حولهِ في عملية كشف وإشراق في ذات الشاعر من حزن وألم .
فنراه يقول في قصيدة ( من وصايا صوفي مغمور ) :
ندمي منزلتي
والضوء يحاصرني
كالصحراء ، كأشواك الغيرة ، كالليل يحاصرني
فأنا آتيك إذا لم أترك ندمي
وأرى الضوء يحاصرني وحدي
أنفيك وتنفيني
لكنك تؤوي غيري فيك وتؤويني( )

الشاعر هنا يعطي صورة لافتة للنظر للضوء ، وهو يتكلم عن ذاته ووحدته ، وكما هو معروف أنَّ الضوء رحمة ونعمة لكن لدى الشاعر الضوء يحاصره هو وحده ، وهو ينظر اليه نظرة تشاؤمية صوفية ، ويشبهه ( بالصحراء ، والأشواك ، والليل ) وهي كلها رموز استخدمها الشاعر ليعطينا صورة مليئة بالسراب( الوهم ) ، والظلمة ، والضياع ، وهو في كل هذا يشيرالى مدى الألم والحزن الذي عاناه ومازال يعانيه وهو في تلك الديار. ويقول :
قمر عاكفٌ ونجم تهاوى
وصباح أسير قيد المحال
لغة الخوف أن نسير نهاراً
فلك الليل عالم الترحال( )

يبدو أن ( الخوف) والنظرة السوداوية التي انغرست في قلب الشاعر لأسباب يجهلها بدأ يعكسها على الطبيعة وخصوصاً الصامتة فلايوجد قمرٌ عاكف الاّ بمفهوم الشاعر أي أن الشاعر هو المعتكف وهو الذي تهاوى كالنجم وليس النجم ولم يكن الصباح أسيراً بل إنه رمز للنشاط والنور الساطع بعد الظلام الحالك ، ولانستطيع أن نقول أن الطبيعة قد تغيرت لكن الشاعر هو الذي تغير ،فالتناقض والتضاد هو الشاعر نفسه .
ويقول في ( أحاديث القلب ) :
كالنهر
يسيل القلب
ولم يخرج عن مجراه
قلبي
ينساب وحيداً حزيناً( )

فهو لم تتغير حياته ، فحياته رتيبة باقية على حالها كمياه النهر فهي تنساب دون صوت ولا أنيس ، فهو لم يجد مايفرحه وكأنه صديقٌ مقيمٌ للحزن والشجن ورفيق دائماً لليأس ، يسير في طريق موحش لانديم له سوى الغربة تلازمهُ والآلام.
ويقول :
أيها الصبح الذي يجري وراء العاصفة
سئمت منك قرون وقرون
قد قرأناك بدنيانا دموعاً زائفة
وعرفناك هموماً وظنون( )

فالشاعر ينتظر زوال الغمة والعودة الى الحياة التي يحلم بها بعد ان كان الليل يستوطنها ، فهو يتمنى عودة الصبح اليه لكنه صبح زائف فمازال مثقلاً بالهموم والظنون ومازالت الدموع تذرف دون مقابل أو وعد وأمل بعودة الحياة ، والشاعر هنا أنسن الفعل ( يجري ) ، وأنسن ( الصباح ) وجعله يجري كالإنسان ويقول:
كل الملاحم تنجلي في قطرةٍ وأراك بحراً دائم الهيجان
فالماء يجذبني لأنزع ســرّه وأصوغ منه دقائقاً وثواني
والنار في نبضي أشد جذورها للماء إذْ تعلو على الخفقان( )
فقد مرت بالشاعر أحداث جسيمة عصيبة جعلته الى درجة يصف كل الملاحم الكبرى تنجلي وتتسرب في قطرة ماء ،بينما يرى بالمقابل مشكلتهُ التي يعاني منها بحراً عصياً دائم الهيجان فهو يثير مقابلة بين القطرة والبحر على الرغم من أنها جزء من البحر ، فهو يضخم الأمور والأشياء خاصة التي تتعلق به هو ، وهو يتمنى أن يغوص في أعماق الحدث الذي يعتبره كالماء لكي يعرف أسراره ولو في دقائق ولحظات قليلة عابرة، ولربما يقصد بأنهُ يكتفي بلقاء عابر ويكتفي بنظرة من هذا الحدث ، وبالرغم من أن الشاعر يشبه دماءه كالنار الملتهبة في نبضهِ وعروقه التي تحتاج الى الماء رغم وجوده في الماء نفسه ، ورغم حرارة النار وقسوتها فأن قلب الشاعر مازال قادراً على الخفقان والحياة بالرغم من كل مايواجهه في حياته .
ويقول:
والليل يجرفني ليكشف قسوتي فأحيد عنه وما فقـدت مكاني
والريح تنثرني وكنت نشيجها فأدق في صخر الصدى الحاني
موتى هي اللحظات لولا خفقة جاشت بها الجمرات تحت دخان( )

في هذه الأبيات صراع بين الشاعر والليل ، وكما هو معروف ان دلالة الليل بشكل عام عند الشاعر مصدر تكالب الأحزان والآهات والآلام وذرف الدموع ، فهو يحاول دائماً الهرب من ماضيه لكن الليل يجبره للتعلق بذلك الماضي الكئيب ، وهو يبدو ضعيفاً دائماً وكأنه نديم الليل نفسه ، كذلك الشاعر رغم حبه للريح فهي قد نثرت أحلامه بحيث لا نديم له الاّ صداه ، ورغم ذلك يتشبث الشاعر يخيط الأمل الذي يشبهه بجمرةٍ كانت تحت الركام .
إن ماورد في هذه الأبيات الشعرية نستنتج أن الشاعر في حيرةٍ من أمره وهو في ضياعٍ دائم بسبب الغربة أو فقدان الهوية فهو قد استحضر ( الليل ، الريح ) وهي من أحدى المكونات التي مازال يبحث عنها في الطبيعة الصامتة وأضفى عليها سمات الشخوص الحية فحاكاها وكأنها تسمع وتصغي لما يريد أن يقوله ويفعله .
ونراه يقول في قصيدة ( انقسامات ):
النور يقطــر من كفـي فأنثره في التيه ســـاقية والقلب نيرانا
والريح لوني،وكف الضوء يخنقها فأقلب الكون أنّى شـــئت ألوانا
والنار في أضلعي بالماء أنسجها للشمس إذ غرقت في البحر أكفانا
إن كنت قاتلتي فالبحـر ينقـذني أو كنت منقذتي فالوقــت ماحانا ( )
يبدو أن الغموض الذي يلف نفسية وشخصية الشاعر والتناقض الذي يبدو من سمات شخصيته قد انعكس على القصيدة ، فعندما نحلل أبيات القصيدة تكتنفنا الحيرة بسبب التضاد في المعنى والألغاز في التفسيرات مما ينعكس على الوضع النفسي للشاعر نفسه ، الذي يعيش حياته والمنعكس في تضادات القصيدة نفسها بين الأمل واليأس ، والحب والكره ، والحياة والموت ، فهو كالبحر لاتستطيع أن تحل الغازهِ الاّ بعد أن تغوص في أعماقه .
وهذا كله بسبب الأنطواء والعزلة وكأن الطبيعة ومكوناتها حولها الى مجتمع وكأنها ربيب للشاعر ، فهي نديم له ، تقبلت كل أفكاره وكل مايجول في خلجات نفسه المتعبة ، الطبيعة هنا هي نفسها الوطن بالنسبة اليه ، فهو يثير مقابلة يكتنفها الغموض بين ( الريح لوني ، وكف الضوء ) و ( النار والماء ) وهذا كله بسبب تقلبات حياته وأيام شبابه وما يعتري نفسه من هواجس وأفكار جعلت كل هذا ينعكس على شعره .
فكل هذا أدى الى الضبابية والسوداوية لدى الشاعر والتي أدت في نهاية المطاف الى العزلة والانطواء .
أما لو نظرنا الى مايقوله في قصيدة ( شجر الريح ) ، فنجده قائلاً :
القمر الغائب مرآة الأرض
نبصرُ فيها
عن بعدٍ
أوجهنا
أصغر منّا
فإذا غادرناه أنقلبت
أعيننا
كالشجر المثقل بالريح
فنرى
أوجهنا
أنساماً ناعسة
تبحث عن مأوى
تجهله الأرض( )

يقصد الشاعر بالقمر هو الوطن الغائب في الغربة والحاضر في القلب ، وبسبب اللوعة والحزن ومرارة الفراق أوجهنا هي أحلامنا أصبحت صغيرة ومضمحلة بسبب البعد الزماني والمكاني عن الأرض ( الوطن ) وعن الناس ( الأهل والأحبة ) وإن كنا بينهم ، لأن الناس في الغربة ليسوا أناسنا .
وأن من يغادر وطنه يصبح جريح القلب ، كثير الهموم ، يشبه الشجرة التي تنحني أمام الريح ، وتنكسر من شدة الثقل ،ثقل التفكير والقلق أحياناً ، وهنا الطبيعة في هيجانها وغضبها تشبه بيئة الإنسان التي تعصف رياح الفقر واللوعة والحرمان فيها .
ومهما يحاول الإنسان الغريب البحث عن مأوى أو أرض يسكنها يبقى صدى الوطن يؤجج مشاعر الشاعر كالناقوس الذي يدق في قلبه فهو دائماً يشعر بأنه بلا وطن ولا عنوان، دائم الترحال وكأنه يدور في فلك النسيان والسراب .
ويقول:
راودني عشق يقبع في نفسي
راودني ذاك العشق لأخلع نفسي من كل الأشياء
لافصل ولاحد ،أنا العاشق يا ليل ،وفي احترق لؤلؤة الأوقات
مازالت تشكوني
تشكو ظمأي
حبك يا ليل كشوف الصحراء يسارع أن ينسخني
إحدى المرات ظلاماً
والأخرى نوراً
ما بينهما تتقاطع أعتى الصبوات
الفجر تجلى أحلاماً
والصخرعيوناً
والأشجار سياط
أشكال لا تألفها عين من قبل
يوم أضعتك يا ليل ويا صحراء
كان العالم ينزف من حولي إيلافاً مختلفاً
سميتهُ
أشواق الروح أو أشواك القلب
فمتى ألقاك لألقى نفسي !! ( )
فهو يُجسد الطبيعة الصامتة في شعره وكأنها شخوص حيّه يُناجيها ويحاكيها همومه ، والليل هو المظلة التي تمنح الشاعر الأمان والهدوء والسكينة ، وأحياناً يُثير الليل فيه اللوعة والحزن والشجن وذكريات الصبا ومهد الطفولة والحنين للوطن ، والشاعر قد خلط في أنسنته هنا بين المادي والمعنوي ، تمثل المادي بالصيغة الصامتة في ألفاظ (الصحراء ، الليل ، الفجر ) ، أما المعنوي فتمثل (بالعالم ، الروح ) وكأنه في صراع أبدي مع الغربة ، فهو يتمنى أن يلقى الوطن الذي غدا كالوهم لديه ليلقى نفسه التائهة المتعبة المحمّلة بكل أنواع الألم ، وفي البيت الأخير يبرز السياق الرمزي إلى الوطن الذي يحن إليه الشاعر بعد فراق طويل وما زال إلى الآن .
أمّا في هذهِ المقطوعة يقول:
مرعوباً
يتلوى كان البحر
والغيمة تمطرهُ بالقبلات
أي مكان يخفيه ؟
هل يجعل من قلبي مأواه حين سيطويه الجدب ؟
أم
هل يهرب للأعين حين ستؤيه الأحزان ؟ ( )
هنا وصلت النظرة السوداوية لدى الشاعر نهايتها بأن يصف البحر الذي هو مصدر خوف للأخرين بأنهُ مرعوبٌ ، فنسأل أنفسنا سؤالاً هل يوجد تشاؤم أكثر من هذا؟
وكيف للشاعر أن يأوي مرعوباً والمعروف أن المرعوب لايأوي مرعوباً ، ومما يزيد المأساة أن الشاعر يطرح سؤالاً غير منطقي كيف للأعين أن تأوي الأحزان فأنهما ضدان لايجتمعان أبداً ؟ والصداقة بينهما هي الدمع فقط .
والوسيلة بغض النظر عن استعارة الشاعر لعناصر الطبيعة فهو مفضوح هنا لأنه يوصف نفسه بهذا الوصف وهذا دليل قوي على ما يمر به الشاعر من أزمات نفسية واجتماعية مؤلمة .
ويقول :
ونزعتُ عن ثقل السنين ملامحي فتحررتُ مـن محنة الآفاق
ووقفتُ أختصر الظــلام لعلني آنسـت ناراً عذبةُ الإحراق
فإلى متى أُخفي الضباب بخافقي حتى تظل الشمس في إشراقِ
وإلى متى أُنفي السـراب حقيقةً والماء طيفُ ضاق بالأحداقِ
إني نسجتُ من السكون ملاحماً للمتعبين : الليل والأشواقِ( )
على ما يبدو أنّ الشاعر كثير الهموم ، متعبٌ من ثقل السنين التي غيّرت ملامح الوجه والقلب ، إلى درجة كان يتمنى أن يتحرر من القيود التي أوصدت قلبه المكلوم فهو في هذهِ الأبيات يبدو حائراً ضائعاً بين ظلام السنين ونار الهجير ولا ندري أيّ هجر ، أهو هجر الحبيب أم هجر الوطن أم هجر الأهل والأحبة وهو يتساءل إلى متى يتحمل الهموم وحدهُ مثل شمعة تحترق لكي تضيء الطريق للآخرين ويبدو لنا هذا الأمر جلياً حيث اقتبس من القرآن الكريم قوله تعالى (( إذ قال موسى لأهله إني آنست ناراً سآتيكم منها بخبرٍ أو آتيكم بشهاب قبسٍ لعلكم تسطلون )) ( ) ، وكذلك الشاعر يتمنى أن يتحول سرابه الفكري والوجداني إلى العقلانية ووضوح الأشياء التي ابتعد عنها كثيراً ، ولا ندري كيف يمكن للشاعر أن ينسج من الصمت والسكون هدياً وملاذاً للمتعبين بالرغم من ظلام الليل والأشواق ووحشة الطريق ولوعة الأشواق هذا من جانب ، ومن جانب آخر ربما تتفتح من خلال هذهٍ الأبيات ثورة يحس بها المتلقي وهو يتابع (أنا) الشاعر وهي تحاول أن تتحرر من واقعها المعاش ، ولعل ما يدل على ذلك من سياقاته في هذا المقام أو النص قوله (اختصر الظلام ، ونزعت عن ثقل السنين ، إلى متى أُخفي الضباب بخافقي) وكذلك ما يمثله اعترافه بالتقاعس والخضوع والخنوع لواقعهِ في بيته الأخير(إني نسجتُ
من السكون ملاحماً ) دليل على سوداوية حياته .
ويقول في هذهِ المقطوعة :
في الغسق احتملت
خاطرتي النسمات
فتعرّت كل الأشجار على نظراتي
ثم هبطتُ وحيداً في حزني( )

إن الحزن الذي نلحظهُ في هذه المقطوعة قد استبان من خلال ألفاظه التي عكست في سياقها سوداويةً وهو يريد من خلال هذا أن يرمز إلى حزنه بالوحدة والغربة المعاشة خارج وطنه .
ومن المعروف أن الغسق هو الظلام وهل يستطيع الإنسان أن يتلذذ بالنسمات ، هل كانت خاطرة الشاعر سليمة ، يمكننا القول بأن كل نسمات الدنيا لاتصفي عكر خواطره ،إنّ تعرّي الأشجار بسبب خريف عمره الذابل ، وهو لم يرتقِ بل كان حالماً (غير واقعي) استفاق ووجد نفسهُ بين آهات الحزن فهو لم يرتقِ أبداً.
فيقول :
قطرةُ ماء
من إحدى الغيمات انحدرت
بحبال العطر تدلت
لتحط على نافذة القلب
كانت تنقر كالعصفور
لكن
لمّا عرفت أن الحزن سيقتلها
انسلت
دمعاً من عيني
للغيمة عادت ثانيةً ( )
لعل الشاعر كان يتأمل لحظة فرح بعد حزنٍ عميق فيرى بأن قطرة الفرح المدلاة بحبلٍ من العطر وهو تعبير مجازي ، ومن المعروف أن للقلب باباً مفتوحاً دائماً لكن شاعرنا لشدة حزنهِ لم تستطع قطرة الفرح الصغيرة أن تنفذ من بقايا نافذةٍ خاوية في قلبه بعد أن أوصد بابه لكثرة الألم والحزن ، فتلاشت الفرحة وعادت للمجهول ٍ، وهو هنا قد شبه القطرة بحال النقر للعصفور فهو ربط بين الطبيعة الصامتة (القطرة) والحية (العصفور) ليرسم لنا صورة مجازية واضحة المغزى للطبيعة .
أمّا في (المرآة والصورة) يقول :
المصابيح أستفاقت في المساء وأنا والبحر نجوى وذهول
شفنّي الصيف وواراني الشتاء وتجلت فيّ أحداث الفصول
أأنا العهد الذي طــال البقاء وتعرّى خلف ماضيه الثقيل
لم يُجاذب صحوتي قط أرتقاء غير ما يحمله عنها الأصيل
بسمتي البعد ومرآة الفضاء صورتي الأخرى وأحلام تطول( )
الشاعر هنا يُمني النفس بأن تستفيق من غيبوبة الصمت في أحد المساءات ، وهو يُناجي بحر الهموم التي أثقلت كاهله وهو يصف حياته كالفصول الأربعة بين لهفة الصيف وبرد الشتاء واندثار الربيع والخوف من خريف العمر ، فهو يُعاني من الالتزام بالعهود التي طال بقاؤها إلى درجةٍ يرى فيه وكأنه يحمل كل هموم العالم ، وكثرة الكبت غيّرت ملامح ومعاني الأشياء عندهُ ، فالبسمة عنده البعد والصورة لا يراها إلاّ في الحلم فأي إنسان هذا الذي يُغير دائماً في ناموس الكون .
وهو قد أنسن في نصه مجموعة من الألفاظ التي مرت من خلال مجازها تحولات واقع حياته ،ويقول:
الماء والمرآة
كلاهما أبصر فيه صورتي
إن أبصر وجهي في المرآة
لا أتحسس وجه الكافور
أما في الماء فأرى
وجهي يخفق في سنيني( )

فهو يربط هنا بين صفاء الماء الذي يشبهُ صفاء المرآة ، وعلى الرغم من أن الماء عنوان الحياة الاّ أنه يحاول ربطه في حكمته الأبدية ( الموت ) بسبب اليأس الذي أوصد أبواب الأمل فيه ، فهو لايحب المرآة ويفضل أن يُبصر أو يرى وجهه في الماء للعلاقة الجدلية بين الماء والكافور فكلاهما شرطان أساسيان لجواز المرور الى الفناء ( الموت ) وهذا جل مايتمناه الشاعر وقد نتلمس في بداية النص أشارته الواضحة الى النرجسية ويقول في ( فناء ) :

على سفح قلبي
تحط طيور المساء
تلوذ
وثم تنقر حبّ الفناء( )

للوهلة الأولى يبدو الشاعر متفائلاً عندما يجعل من قلبه ملاذاً لطيور المساء بعد عنائها الكبير للبحث عن المأوى و الطعام ، وهذا المأوى الذي يوفره الشاعر لتلك الطيور لايتم دون ثمن بل وصلت به السوداوية أن يقتل حتى الطيور عندما يتمنى لها أن تنقر حب الفناء فتموت ، ورغم تناول الشاعر مفردات الطبيعة الجميلة ( الصامتة والحية) الاّ أنه جعل منها مأساته الأبدية .
وهو يقول في قصيدة أخرى:
عطـش
أنا الحسين قد أضعت كربلاء
بحثت عنها في مجاهل السماء
سألت عنها في متاهة البلاء
في بسمة الأطفال في مناحة النّساء
في يبس الصيف وفي كآبة الخريف في انتفاضة الشتاء
ورغم حقد الرمل وارتعاشة المطاف
ركبت من شوقي اليها جامح الأيام وأنتشيت بالجفاف
نكزت مهري مرتين
لم يمش الاّ خطوتين
تعبت من ارهاصاتي الأخيرة
علقت بالزلف والضفيرة
ناديت أني فارس الأميرة
لم يسمع الركب النداء
لم يعرفوا ما الموت يعني دون ماء
رجعت والرمل يساوم الدماء ( )

لايختلف اثنان ان الفرق بين الأمام الحسين (ع) والشاعر لهو فرق كبير لأن الأمام الحسين لم يضيع كربلاء أي بمعنى أدق أن الشاعر من كثرة اليأس لايرتقي الى الرفعة والسمو فالحسين موته يعني انتصاراً لأنه ( موقف ، وفكر ، ونبل ، ورسالة ، ومباديء ، وقيِّم ، ومدرسة تعلم الأجيال كيف تكون الشهادة من أجل الحق ومن أجل إعلاء كلمة الحق بوجه الظلم ) ، وحياة الشاعر موت لأنه فاقد كل شيء ، لذلك نراه يبحث عن بطولة مجهولة ومجد ضائع ويتمنى أن يكون له موقفٌ وقضية ،إن عالم الحسين يختلف كثيراً عن عالم الشاعر، فالحسين متكلم والشاعر صامت ، والحسين موقف والشاعر متغير والحسين بطولة والشاعر هزيمة ، وبالرغم من إجادة الشاعر في توظيف عناصر الطبيعة ولأول مرة في ديوانه يحاكي الشخوص الحية ( الأطفال ، النساء ،المهر ) لكن بتوظيف ضبابي مبهم فهو يستخدم التضادات الفكرية في التعبير ( بسمة الأطفال ) و ( مناحة النساء ) و ( يبس الصيف ) و ( كآبة الخريف و ( انتفاضة الشتاء) وكأنه ينتزع منها عناصر الحياة (الماء، أوراق الشجر ، الثلج ) وكأن الفصول لديه صحراء ، يضاف الى ذلك إن الشاعر بالرغم من بحثه عن كربلاء ( القضية ) لكن كعادته يدور في حلقة مفرغة ، فهو لم يمش ولم يتعلق بخيط الأمل ، فهو محارب من دون سلاح ، وعاشق من دون حبيبة . إن شاعرنا يستخدم الرمل كثيراً في النص والرمل يعني السراب ، أو دلالة الغرق بالماء.
نستنتج من ذلك أن لاصلة بين كربلاء الحسين وكربلاء الشاعر الخافية ، المتعبة ، المفرغة من مضمونها ، وهي انعكاس لانهزامية وانطوائية الشاعر نفسه . لأن الحسين لم يضيع كربلاء ( القضية ) ، لكن الشاعر قد ضيع كربلاء وهي ( العراق ) وشتان بين القضيتين .
يستنتج الباحث من خلال دراسته لهذا المبحث ان الشاعر( قصي الشيخ عسكر) أنسن الطبيعة الجامدة من ( رياح ، ليل ، صحراء ، بحر ، قمر ، رمل ، أشواك ، نهر ، صبح ، النار ، صخر ، ماء ، شمس ، شجر ، الغيمة ، ظلام ، ضباب ، السراب ، الصيف ، الشتاء ) أكثر من أنسنته للطبيعة المتحركة على الرغم من أنه قد ربط بينهما في بعض الأماكن فقد وردت لفظة ( طيور ، عصفور ) لكن تبقى الطبيعة الصامته هي العنصر المهيمن على قصائد الشاعر .
مع ذلك بالرغم من توظيف الشاعر للطبيعة من الناحية الوصفية التي برع فيها وأجاد للنص وليس للمتلقي فهو قد أخذ المتلقي الى دياجير الظلام ووحشة المكان عندما حول روعة الطبيعة الى مأساة عندما جعل منها شخوصاً تحاكيه بلغة الخوف والمجهول.
أن الشاعر في رحلته هذه في ربوع الطبيعة التي يفترض أن تكون سفينة لنجاة الشاعر من طوفان همومه وآلامه لكنه جعل منها سجناً كبيراً لعواطفه المنكسرة ووطنه المفقود وكأنه يتمنى أن يذهب بعيداً ويركب سفينة اللاعودة للحياة في بحر متلاطم الأمواج لا أمل فيه للنجاة ، سوى السراب الذي يعيشهُ في غربته ووحدته . تابعاً خطى الشعراء الذين سبقوه كالسياب وأمل دنقل وخليل خوري الذين أنهوا حياتهم واستعجلوا عليها بالموت .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| جمعة الجباري : قراءة الدلالات الشعرية عند الشاعر صلاح حمه امين في ديوانه “عقارب الساعة التاسعة”.

* صلاح الدين محمد أمين علي البرزنجي المعروف بالاسم الحركي صلاح حمه أمين،  شاعر وفنان …

| اسماعيل ابراهيم عبد : على هامش ذاكرة جمال جاسم امين في الحرب والثقافة – تحايثاً بموازاة عرضه .

الكاتب جمال جاسم أمين معروف بين المثقفين العراقيين باتساع نتاجه وتنوعه كمّاً وجودة , فضلاً …

2 تعليقان

  1. صالح الرزوق

    يبدو لي ان القلم الذي يكتب به قصي العسكر نثره هو نفس القلم الذي يكتب به شعره. و أهم ميزاته الغربة و الاغتراب.و إذا كانت الغربة بالمكان فالاغتراب بالوجدان. و قد عرفت هذه الدراسة طريقها الى حقيقة معاني الاغراض الشعرية في قصائد الشاعر.

  2. قُصي عسكر

    اشاركك الرأي دكتور صالح فالأدب شعرا ام نثرا ينبع من احساس الشاعر وموضوعات الاغتراب والمهجر هي التي أعايشهما يوميا
    لك وللناقد جل احترامي. وتقديري
    قُصي عسكر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *