الحداثة الروائية وتشكيل العقل الحديث
مُراجعة لكتاب ( تطوّر الرواية الحديثة )
فلاح حكمت*
الرواية كتاب الحياة المشرق : هذه العبارة الأيقونية المختزلة التي وصف بها الروائي ( دي. إج. لورنس ) أهمية الرواية في العصر الحديث ، ربما تكون التوصيف الأكثر تميّزاً لجوهرية الفن الروائي في تشكيل العالم باعتبار أنّ الإنسان العاقل يمتاز بأنه كائن حكّاء يستطيب التعبير عن مكنوناته السايكولوجية والعقلية بأحد أشكال السرد الشفاهية أو المكتوبة ؛ وفي الوقت الذي نشهد فيه كثرة من الأعمال الروائية المنشورة في عالمنا العربي فإننا نرى شُحّاً بالغاً في الأعمال الخاصة بنظرية الرواية وتأثيراتها الفاعلة في إعادة صياغة العالم سواءُ اكانت أعمالاً مؤلفة أم مترجمة ، وهنا جاء كتاب ( تطوّر الرواية الحديثة ) الصادر عام 2016 عن دار ( المدى ) العراقية لمؤلّفه البروفسور الجامعي ( جيسي ماتز ) وترجمة الكاتبة والروائية والمترجمة ( لطفية الدليمي ) ليكون معلماً بارزاً في الدراسات الخاصة بتطوّر الفن الروائي .
يعدّ هذا الكتاب مرجعاً ممتازاً – بين بضعة مراجع أخرى – في دراسة الرواية الحديثة على صعيد النشأة والتأريخ والمآلات اللاحقة ، ومثلما بيّنت المترجمة في تقديمها فإنّ هذا الكتاب يُعدّ ( تركيباً من مباحث عدة ؛ فهو يتناول جوانب من نظرية الرواية الحديثة وفلسفتها في الفصول الأربعة الأولى ، كما يتناول مآلاتها وموقعها في العالم المعاصر في الفصول التالية ) ؛ ومن هنا تنبع أهمية هذا الكتاب لكلّ المشتغلين في حقل الرواية والدراسات السردية بعامة سواءٌ كانوا أكاديميين متخصّصين أم محض قرّاء شغوفين .
تنبع أهمية الكتاب من أهمية مؤلفه كذلك ؛ فهو أستاذ في اللغة الإنكليزيّة وآدابها ، ويعمل منذ عام 1994 رئيساً لقسم اللغة الإنكليزيّة والأدب الإنكليزيّ في كليّة كينيون Kenyon college الأمريكيّة بعد أن درّس لسنوات عدّة في جامعة هارفرد العريقة ، وقد تخصّص البروفسور ماتز بتدريس مقرّرات دراسيّة عدّة أهمّها أدب القرن العشرين ، والنظريّة السرديّة ، كما ألّف ثلاثة كتب في ميدان الجماليات والحداثة والمدارس الأدبية وتمثلات الثقافة في صورها المختلفة ، فضلاً عن كتاب فريد من نوعه يختصّ بِـ ( إيكولوجيا الزمان الحداثيّ ) .
تقديم المترجمة للكتاب
يمتاز الكتاب بتقديم ثري إفتتحت به المترجمة الكتاب ، ويتوفّر التقديم على مادة هي أشبه ماتكون بخارطة معرفية تعدّ مفتاحاً ممهّداً لقراءة الكتاب المترجم بعد تهيئة الخلفية الذهنية والثقافية أمام القارئ للخوض في التفاصيل التي يتناولها المؤلّف في الكتاب ؛ وعلى هذا الأساس فإنّ هذا التقديم يعدّ جزءً أصيلاً في الكتاب .
تفتتح المترجمة تقديمها بمادة عنوانها ( لماذا الرواية ؟ ) بيّنت فيها العوامل التي تجعل الفنّ الروائيّ يحوز على تلك المكانة التي يتفوّق بها على كلّ الأشكال السردية الأخرى ( سواءٌ كانت مكتوبة أم مرئية ) ، ويلاحظ القارئ منذ البواكير الأولى للقراءة أن هذه المسوّغات التي أوضحتها المترجمة بدقة لاتنتمي إلى تلك المسوّغات التقليدية المتداولة التي لطالما قرأناها من قبلُ . تمضي المترجمة في رحلتها التقديمية الثرية فتكتب في المادة الثانية من التقديم عن موضوعة ( الرواية وثورات الحداثة ) ؛ فتتناول بالتوضيح ستّاً من الثورات التي أثّرت في هيكلة الحداثة الروائية : الثورة الفيزيائية ، الثورة التقنية ، الثورة الفلسفية ، الثورة الإجتماعية ، الثورة السايكولوجية ، الثورة الليبرالية . تتابع المترجمة تقديمها بالكتابة عن الأشكال الروائية التي قادت لظهورها الرواية الحديثة ويمكن إجمالُها في الرواية مابعد الحداثية ، والرواية مابعد الكولونيالية ، ورواية التعددية الثقافية ( بكلّ أشكالها النوعية المتمايزة ) ، والرواية الرقمية . تتناول المترجمة في القسم الرابع والأخير من تقديمها هذا جُمْلة من الأسباب التي دفعتها لترجمة هذا الكتاب ، ويمكن الإشارة بخاصة إلى السبب الأول الذي وصفته المترجمة بقولها ( يمتاز هذا الكتاب بميزة فريدة : تلك هي إحتكامه إلى لغة منضبطة دقيقة تليق بلغة مبحثٍ أكاديميٍّ يفي بشروط النزعة الأكاديميّة المتطلّبة ؛ لكنّ لغته هذه مفعمة بطراوة وبسلاسة جعلت منها لغة مشرقة بعيدة عن الصلادة الأكاديميّة المعهودة ) ، كما يمكن الإشارة إلى سبب آخر عظيم الأهمية أشارت له المترجمة بقولها ( لم يكتفِ الكتاب بالإشتغال على الرواية الحديثة – كما يوحي بذلك عنوانه – ؛ بل تناول في أحد فصوله مدخلاً موجزاً لِرواية مابعد الحداثة ، وتناول في فصلٍ آخر مقدّمة موجزة لِلرواية مابعد الكولونياليّة ، ولايخفى مالهذين النمطين الروائيّين من طغيان صارخ و أهميّة حاسمة في أيّامنا هذه ؛ لذا يمكن القول بثقة أن هذا الكتاب يمثل منصّة جيدة للإنطلاق نحو دراسة موضوعات أكثر تقدماً وتخصصاً في نظرية الرواية وتقنياتها وتأريخها ومآلاتها الأكثر حداثة ومعاصرة ) .
أيّة حداثة ؟
يتناول المؤلّف في مقدمته للكتاب مناقشة الحداثة الروائية من حيث تأريخ اعتمادها في ميدان الفن الروائي ثمّ من حيث طبيعتها والسمات التي وسمت كتابات الروائيين الحداثيين بخصائصها المميزة ، وقد اعتمد المؤلف في تناوله هذا مقاربة ممتعة ورصينة في الوقت ذاته من حيث اعتمادُهُ مؤشراتٍ تطبيقية في الحداثة الروائية كما نشهدها في أعمال روائيين بذاتهم مثل نخبة الروائيين الحداثيين الطلائعيين ، ومنهم : جيمس جويس ، غيرترود شتاين ، فيرجينيا وولف ، جين توومر ، ثم في أعمال روائيين حداثيين لاحقين لهم . يمكن للقارئ في هذه المقدمة متابعة الكيفية التي يوضّح بها المؤلف طريقة هيكلة تعريف الحداثة الروائية شيئاً فشيئاً حتى باتت تعني :
” القدرة على التعامل مع المعضلات والإمكانيّات الملازمة للحداثة – الأعاجيب التقنيّة ، الفوضى الإجتماعيّة ، الأحجيات السايكولوجيّة ، نمط التغيّر – وجَعْلَ تلك الموضوعات المادّة الأساسيّة والأثيرة التي تستمدُّ منها الرواية تحدّياتها وإلهامها ، كما تعني الحداثة الروائيّة كذلك مواجهة الحداثة بأشكالٍ تجريبيّة غير مطروقة في الكتابة ، وتجنحُ الرواية الحديثة لفعل ذلك وهي مسكونةٌ بقناعةٍ راسخة بأنّ الأشكال الجماليّة يمكنها إحداثُ فرقٍ جوهريّ في الطريقة التي يرى بها الناس ، ويفكّرون ، ويعيشون ،،،،،، ” .
الرواية الحديثة :
النشأة والتأثيرات والمعضلات
يبدأ المؤلف كتابه بفصل عنوانه ( متى ولماذا : نشأة الرواية الحديثة ) يتناول فيه تفاصيل ممتعة بشأن نشأة الرواية الحديثة والآباء المؤسسين لها وبخاصة في بواكير عام 1914 حيث بداية الحرب العالمية الأولى ، ثمّ يُفرِدُ قسماً مهماً من هذا الفصل لسبعةٍ من الروائيين الحداثيين ومنهم (فيرجينيا وولف ، فورد مادوكس فورد ، ويلا كاثر ، دي. إج. لورنس ،،،، إلخ ) ، ويتناول بالإشارة المقتضبة عملاً حداثياً مميزاً لكلّ من هؤلاء الروائيين السبعة .
أما في الفصل الثاني الموسوم ( ماهو الواقع ؟ : الأسئلة الجديدة ) – وهو أحد الفصول التي قلّما نجد مثيلاً لها في الكتب المترجمة الخاصة بفن الرواية – فيتناول فيه المؤلف مساءلة مفهوم الواقع والأسئلة الجديدة التي نشأت بفعل هذه المساءلة والمترتبات التي إنعكست عن هذه الأسئلة في ميدان التناول الروائيّ ، ولايخفى بالطبع أنّ هذه المساءلة هي إنعكاس مباشر لنهضة الفلسفة التحليلية وسعيها لتكون فلسفة العلم من خلال هزّ القناعة بالمواضعات الراكدة في المفاهيم الأساسية التي تشكّل هيكل الوعي البشريّ ، ولايفوت المؤلفَ التأكيدُ على أنّ الرواية الحديثة كانت بالغة الحساسية في تلمّس تأثيرات هذه الفلسفة واحتوائها في الحداثة الروائية .
يتناول المؤلف في الفصل الثالث المعنون ( الأشكال الجديدة : إعادة تشكيل الرواية ) ، ومن خلال أمثلة تطبيقية لأعمال روائية حداثية مؤثرة ، الكيفية التي إنعكست بها الحداثة الطاغية في ميدان الفن الروائي ، والأشكال السردية التي تمّ توظيفها بقصد إحتواء مفاعيل هذه التأثيرات الحداثية . أما في الفصل الرابع المعنون ( المعضلات الجديدة ) فيسائل المؤلف طائفة من المعضلات الروائية المستجدّة التي جاءت مع عصر الحداثة على صعيدي الموضوعات والتقنيات الروائية في سياق المقارنة مع رواية ماقبل الحداثة .
خصّص المؤلف الفصل الخامس المعنون ( حول العالم الواقعي : السياسة ) لمناقشة التأثيرات السياسية – والدنيوية بعامة – في الفنّ الروائي وبخاصة في الفترة المحصورة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية ، وقد فعلت هذه التأثيرات فعلها في الروائيين الحداثيين ودفعتهم لاعتماد تعديلات محددة في طريقة تناولهم الروائي كما دفعتهم لمساءلة الحداثة وإحداث تعديلات مؤثرة فيها وبالكيفية التي قادت إلى عصر مابعد الحداثة والرواية المعاصرة لاحقاً ، ونقرأ عن هذه الموضوعات في الفصل السادس الذي عنونه المؤلف ( مساءلة الحداثة : مراجعات منتصف القرن ) .
الرواية الحديثة وعلاقتها بكلّ من :
الرواية مابعد الحداثية والرواية مابعد الكولونيالية
يمتاز هذا الكتاب بميزة فريدة – بالإضافة لمزايا كثيرة فيه – ، وهي أنّه لم يكتفِ بالإشتغال على الرواية الحديثة – كما يوحي بذلك عنوانه – ؛ بل تناول في أحد فصوله مدخلاً موجزاً لِرواية مابعد الحداثة في الفصل السابع المعنون ( التجديدات مابعد الحداثية ) ، كما تناول في الفصل الثامن المعنون ( الحداثة مابعد الكولونيالية ) مقدّمة موجزة لِلرواية مابعد الكولونياليّة . يتناول المؤلف في سياق بحثه للتأثيرات الحداثية في كلّ من الرواية مابعد الحداثية والرواية مابعد الكولونيالية الإشارة لعدد ليس بالقليل من الكّتاب الروائيين إلى جانب أعمالهم الروائية المميزة ؛ وهو الأمر الذي يضفي على الكتاب صفة الشمول الروائي .
مستقبل الرواية الحديثة
يختتم المؤلف كتابه بفصل مخصّص للإستنتاجات وإلقاء الضوء على مستقبل الرواية الحديثة ؛ فيتناول في خلاصات مكثفة أربعة من الروائيين ذوي الشهرة العالمية : فيليب روث ، توني موريسون ، جيانيت وينترسون ، جون كوتزي ، ثمّ يمضي المؤلف في إستكشاف بعض الحيثيات المؤثرة في تشكيل مستقبل الرواية ، ونشهد في هذا الإستكشاف تناولاً لحشد من الأسماء الروائية التي رسّخت حضورها في المشهد الروائي العالمي ( كازو إيشيغورو ، ديفيد فوستر والاس ، جوناثان فرانزن ،،، ) . ليس ثمة عباراتٌ إختزالية تُجمِلُ روح هذا الفصل أفضل من العبارات الكاشفة التالية التي أوردها المؤلف في خاتمة الفصل ذاته :
” … ربما تكون الطريقة الفضلى للإجابة على التساؤل الخاص بمستقبل الرواية الحديثة لاتكمن في التصريح بأن روايات المستقبل ستكون أكثر حداثة على الأغلب ؛ بل الأفضل هو التأكيد على حقيقة الحاجة – حتى في مستقبل معولم – إلى ماسعت الروايات الحديثة دوماً نحو منحه إيانا : تواجِهُ الحداثة الروائي الحديث – مثلما تواجهنا نحن أيضاً – كلّ عام بسيلٍ من الحقائق وفيضٍ من الرؤى والأصوات والمعلومات ، وفي مواجهة هذا الفيضان المشهديّ يشدد الروائي الحديث على الحاجة إلى رواية تكون أكثر إنتقائية ، وأكثر قدرة على ملامسة تخوم الواقع بإنطباعات وطقوس وديناميّات أكثر أساسية من ذي قبل . ”
* مهندس ومترجم عراقي