أ. م. د. سهام السامرائي : انتصار الهُوية رواية ساعة بغداد لشهد الراوي اختيارًا .

انتصار الهُوية
رواية ساعة بغداد لشهد الراوي اختيارًا .
أ. م. د. سهام السامرائي
أستاذة مادة نظرية السرد
جامعة سامراء

يرصد البحث في هذه القراءة تناول جزئية محورية اشتغلت عليها الرواية بتركيز عالٍ ألا وهي موضوعة الهوية الوطنية العراقية .والهوية تعني (( الاتحاد بالذات )) (1)، وهي هنا لا تعني الذات الفردية باستقلاليتها المجردة حسب ، بل الذات الجمعية المنبثقة منها أيضًا ، التي تعني مجموعة متجانسة من الناس تتشكل الهوية فيهم ومنهم بوساطة تحليل رؤية هؤلاء الناس للواقع الذي يعيشونه وتعكس انطباعاتهم وتلقيهم للأحداث التي يمرون بها.(2)
كما وتمثل الهوية وعاء الضمير الجمعي المتشكل لأي اتحاد انساني ومحتوى لهذا الضمير في الوقت ذاته ، بما تحمله من عادات وقيم وتقاليد وأمزجة تكيف وعي الجماعة و إرادتها في الوجود والحياة داخل نطاق الحفاظ على كيانها(3).
والحقيقة أن مكونات الهوية الإنسانية لأي مجتمع تنسج وجودها عبر شبكة من العلائق التي تندرج في الخانات الحضارية والمشتركات التالية ، مجال جغرافية ووطن تاريخي مشترك . أساطير وذاكرة تاريخية ، مشتركة .منظومة حقوق وواجبات مشتركة اقتصاد مشترك مرتبط بمناطق معينة (4) ،تشكل هذه العناصر مجتمعة شكل الهوية التي تمثل نموذج الأمة.
إذ أصبح يشكل موضوع الهُوية الوطنية عند العراقيين – ولاسيما عند الوسط الأدبي منهم تحديدًا- هاجسًا ثقافيًا بسبب تعرض الهوية العراقية إلى خطر التشظي بسبب الصراعات السياسية والاختلافات بين مكونات الشعب العراقي لاسيما بعد أحداث 2003م ،والتي عمقت جراح الهوية بدلًا من مداواتها وتضميدها.
وفي هذا الظرف الصعب نحن بأمس الحاجة إلى معالجة هذا المرض الوطني الخطير ولملمة أشتات هويتنا المبعثرة التي باتت تستهدف بنيتها من خلال عمليات تثقيف مقصودة ومتعمدة لتفتيتها وتمزيقها ، وإلى تبني أفق وطني حضاري لتغيير وتعديل وعي العراقيين روحيًا وعقائديًا وفكريًا، ونفسيًا والارتقاء بالمجتمع العراقي نحو مديات واسعة من الرقي والتمدن والتحضر، والتسامي على الجراح، ولملمة البيت العراقي من جديد ، وبلورة خطاب وطني موحد ينطق باسم العراقيين جميعًا لتثبيت مفهوم الهوية الوطنية العراقية الجامعة لكل العراقيين بعد فشل المقاربات الأخرى .
وهذا ما سعت إلى تمريره شهد الراوي في روايتها ساعة بغداد

الرواية تركز على طبيعة الحياة في بغداد وكيف كانت في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي كيف كان أبناؤه نسيجًا اجتماعيًا واحدًا ولحمًة واحدة لا يشتتهم مذهب، ولا يفرقهم دين ، لا يتكلمون في خلافات قومية ، أو نزعات عرقية ،أو انتماءات طائفية ضيقة ، فهم جيران يتزاوجون ،و يتزاورون ، و يتقاسمون مشتركاتهم من عادات وتقاليد وموروثات وطقوس متعددة و متنوعة ومختلفة باختلاف وتعدد وتنوع انتماءاتهم بمحبة وسعادة وفرح وسلام .
رواية ساعة بغداد لشهد الراوي تشكل نموذجًا متميزًا وفريدًا في محاولة اعادة الروح لهذه الهوية الغائبة في ظل التنابز السياسي الذي تنتجه طبقات لها مصالح فئوية، والانتصار لها عن طريق بعث الموروثات المشتركة، واسترجاع ذكريات الزمن الماضي الجميل نسبيًا والتذكير بما كانت عليه صورة العراق قبل الاحتلال صورة ناصعة لا يشوبها من النفس الطائفي الذي عرفناه بعد 2013.
لعل تناولها لموضوعة الهوية المخالف تمامًا لما اعتاد على تناوله أغلب الروائيين العراقيين هو الذي ميز هذه الرواية وجعل سوقها التداولي الأكثر مبيعًا في العراق، إذ جسد الروائيون العراقيون الواقع العراقي المؤلم الغارق بالفجيعة وصوره السوداوية المظلمة الباعثة على الخوف والرعب والرهبة ( الهوية القاتلة ) لاسيما بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، وما أعقبه من أحدث تفجير قبة الإمامين العسكريين في سامراء عام 2006م ،والتي نتج عن هذا الحادث عمليات احتراب طائفي ومذهبي لم يشهد له مثيل في تاريخ العراق كله قديمه وحديثه .
كما أن أغلب هذه الروايات التي اطلعت عليها في الأقل تناولت هموم فرعية بعينها لا تمثل الهُوية الوطنية الجامعة، أما الكاتبة هنا فقد خاطبت جيل الشباب تحديدًا؛ لأنَّهم الحلقة الأقوى، والصوت الأعلى، الذي يمكن الاتكاء عليه في عملية التغيير، وبناء مجتمع عراقي جديد متعايش ،متماسك ومتجانس ومتصالح ومتفاهم، مجتمع قائم على تبادل المحبة، والاحترام ،والإخلاص، هذه القيم التي بات ينشدها ويسعى إليها العراقيون كلهم بتنوع انتماءاتهم، لإعادة صورة العراق قبل الاجتياح الأمريكي له ، ومن خلال طُرق السرد الحديثة البعيدة عن الطرق التقليدية المعروفة في البناء الروائي ، ومن خلال لغتها السهلة البسيطة الخالية من التصنع و الغموض والتعقيد ، البعيدة عن التفخيم اللفظي. تلك اللغة غير المثقلة بالصور المجازية المبهمة والمحسنات البلاغية ، اللغة الخالية من مساحيق التجميل ، إن جاز لنا التعبير، لغة البيت ،والمدرسة، والجامعة ،والشارع العراقي، لغة الشباب في الوقت الحاضر، لغة وسائل التواصل الاجتماعي .
لم تكتب شهد الراوي ساعة بغداد من أجل أن تتذكر الماضي وتذكرنا به، فحسب ، بل لتستلهم ونستلهم منه شكل المستقبل أيضًا.
هل من الممكن أن يسترد العراقيون هويتهم الوطنية المفقودة ؟ سؤال لم تنطق به المؤلفة مباشرة ، لكن القارئ لساعة بغداد يجده قد تسلل في مفاصل الرواية ينتظر الإجابة .
تأتي روايتها في وقت أصبحت العلاقات الاجتماعية ما بين أطياف الشعب العراقي ، تحكمها صور الشك وعدم الاطمئنان للأخر الشريك في الوطن، تلك الصورة القاتمة التي سعت الكاتبة إلى تبديدها.
تعطينا هذه الرواية إلى جانب جمالياتها الفنية مساحة تفاؤل وجرعة أمل بهوية قابلة للحياة على وفق المقدمات التي أشرت إليها.
(( يكون الهواء في الربيع منعشًا ويصبح النهار أطول قليلًا ، نتخلص من الملابس أننا صرنا خفيفين . يخرج الأولاد بدراجاتهم الهوائية التي ينطلقون بها بسرعة للسباق . ويطلقون بمرح أصوات أجراس المنبهات الصغيرة المثبتة على مقوّد الدراجات .
تخرج الأمهات والآباء إلى الحدائق ونخرج نحن نلعب على الرصيف .
يرش أبو بيداء حديقة البيت بالماء فينتشر عبق الروائح المنعشة في كل مكان ترش أم ريتا عتبة بابهم لتصعد رائحة الأرض وتهب عليها نسائم آخر الربيع ، …..
من وراء الشبابيك تأتي رائحة الشواء ، أو طهي البطاطا المقلية بالدهن من بيت أم سالي فنشعر بشيء من الجوع .
فجأة ، تنطلق الموسيقى من بيت أم مناف فنركض على إيقاعها وننسى إننا شعرنا بالجوع ، ندخل مهرجان الألوان التي ترتديها الفتيات وهن يرقصن في حفلة عقد قران منال ، توزع أمها حلوى المهر المغلفة بمكعبات زجاجية ويرتفع صوت الأغاني وتفوح العطور الصغيرة ، في شوارعها ودرابينها ، في حدائقها وأرصفتها ))(5) .
هنا تذكرنا الساردة بطلة الرواية بالطقوس الاجتماعية اليومية للعائلة البغدادية التي يحرص أهلها على تبادلها وتقاسمها فيما بينهم، من لعب أطفالهم مع بعضهم ، إلى ما اعتادوا عليه من اهتمام مشترك بالحدائق المنزلية ، والاعتناء بعتبات وواجهات البيوت ،إلى مشاركة مناسبات جيرانهم أفراحهم وأعراسهم وغير ذلك، بمحبة ومتعة وفيض من سعادة .
وتتوسع الساردة أكثر في وصفها لتفاصيل الحياة البغدادية الجميلة وهي تستذكر طفولتها العذبة عندما كانت تتقافز على مربعات( لعبة التوكي )، وكيف كانت تقام الأعراس وسط صخب الموسيقى الشعبية ورقص الفتيات الجميلات وهن يرتدين الملابس الزاهية ، أمام سيارة العروس المزينة بالشرائط الملونة وباقات الورد :
(( أجلس أمام هذه الشاشة لمشاهدة الماضي ، الذي كان يستعد لولادتي في هذا الزقاق ، تلك الطفولة العذبة وهي تتقافز على مربعات ( التوكي ) ، شاهدوا معي من لطفكم ، هذه أول حفلة من زفاف في الدربونة ، هذه أنا في الثانية من عمري تحملني أمي الشابة وتنطلق نحو مصدر الموسيقى الشعبية في بيت أم نبيل ، تزوجت ابنتهم أميرة وجاءوا بسيارة جديدة مزينة بشرائط ملونة ، وباقة كبيرة من الورد ، لأخذ العروس بعيدًا عن المحلة ، أخذوها وسط كرنفال من ألوان الملابس الزاهية ترتديها فتيات جميلات يتراقصن أمام سيارة العروس )) (6) ،
وتذكر الساردة كيف كانوا عشية رأس كل سنة ميلادية يحتفلون في بيت أم ريتا بشجرة الميلاد وهي تضاء في زاوية بعيدة من الصالة ، وكيف كانت تصعد الابتهالات والأدعية ، والتسابيح، والأناشيد، والتراتيل ، تحت صورة العذراء وابنها الرضيع ،وهم في انتظار هدايا بابا نؤيل :
(( في هذا البيت الواسع ، الذي منحه الرب للغرباء ، كنا عشية رأس كل سنة ميلادية ، نحتفل بشجرة الميلاد وهي تضاء في الزاوية البعيدة من الصالة ، تحت صورة العذراء وابنها الرضيع تصعد الابتهالات ، والأدعية ، والتسابيح والأناشيد والتراتيل ، كنا نجتمع أمامها بانتظار هدايا بابا نؤيل ، تمتلئ جيوبنا بالحلوى ، ونخرج إلى برد شارعنا نردد الأغاني ونمشي على أضواء المصابيح اليدوية التي تنيرها الشموع النحيفة ))(7) .
ولا تنس الساردة وهي تستذكر الليلة التي سبقت يومها الأول في الجامعة عندما بحثت عن صورة قديمة لصديقة أمها فاتن ،تلك الطالبة التي كانت تمثل لها النموذج في الحياة الذي كانت تتمنى أن تكونه ،يوم كانت الطالبة الجامعية تعني الفتاة الذكية المتسلحة بالعلم والمعرفة وقوة الشخصية كما تقول :
(( تأملت الصورة جيدًا ، تمعنت في كل شيء ، في قميصها ، في تنورتها ، في جواربها وحذائها ، تمعنت طويلا في جلستها ويداها تتشابكان عند ركبتها وهي تبتسم مثل أميرة من زمن أنيق ، كانت فاتن طالبة جميلة من زمن أمي الجميل ، ذلك الزمن الذي يتنفس الكبرياء والثقة بالنفس ، حين كانت الطالبة الجامعية تعني الفتاة الذكية المتسلحة بالمعرفة وقوة الشخصية ، تعني اعتدادها بنفسها وبالعالم ، من حولها ، حشرت الصورة في حافة مرآتي من جهة اليمين ، ورحت أرتب ملابسي وأعدل تسريحتي تحت إرشاداتها ، أريد أن أكون مثلها ))(8) .
وتقارن الساردة بينها بين فاتن :
(( لبست تنورتي ووجدتها أطول من تنورتها ، لبست جواربي وكانت أكثر قتامة من لون جواربها ،لبست حذائي وكان خجولا مترددًا ، عدلت تسريحتي لكنها لم تأت كما أريدها ، بيني وبين خالة فاتن زمن بعيد ، تغيرت فيه الأشياء وتباعدت فيه دروب الحياة ، صورة فاتن تنتمي إلى المستقبل ، الذي تركته المدينة خلفها ، المستقبل الذي توقف هناك يراوح في مكانه على هيئة البوم صور قديمة منسية في الأدراج ))(9)
في إشارة إلى توقف المستقبل الذي تركته المدينة خلفها ،ففاتن تنتمي إلى المستقبل، الذي توقف هناك يراوح في مكانه على هيئة البوم صور قديمة منسية في الأدراج دلالة على توقف الهوية .
وتتناول قيمة إنسانية صبغت تكوين هوية الشخصية العراقية الأصيلة وتجدها هبة من هبات الوجود ليس لأنَّها صفة دينية أو تربوية أو مبدًا أخلاقي ؛ بل لأنَّها تمنع الإنسان من ارتكاب الفظائع بحق الغير ، عندما تتحدث عن حبيبها ( فاروق ) بإعجاب شديد ؛لأَّنه يخجل كثيًرا ويحمر وجهه عندما يتعرض لموقف محرج ، تقول :
(( أحببت( فاروق ) لأنَّه يخجل كثيرًا ويحمر وجهه عندما يتعرض لموقف محرج ، أحبه عندما ينظر إلى الأرض وهو يتحدث عن والده ، أحب حياءه من الناس عندما يكون وحيدًا ويتحاشى المعجبين به لكون لاعبًا معروفا . ماذا لو فقد فاروق هذا الخجل ، هل سيبقى هو نفسه ؟ ماذا لو تبخر الخجل من حياتنا فجأة هل نتحول إلى غابة ؟ هذه الغابة التي نعيش فيها هذه الأيام هي بمعنى من المعاني غياب الخجل الذي نزل علينا بغتة )).(10)
فاروق هو الحقيقة التي تشدها إلى ذلك الزمن الجميل هو حلقة الوصل بينها وبين نفسها ،وبينها وبين عالم محلتها ، وبينها وبين أغنياتها وذكرياتها العاطفية كما تصف ذلك:
(( فاروق هو الكلمة الأولى ، هو لمسة اليد الأولى ، هو القبلة الأولى ، هو الخجل الأول ، والخطأ الأول ، والمغامرة الأولى هو النورس الأبيض الذي حط صباحا على نافذتي ، وجاء بالشمس معه إلى حياتي وقال لي أنا معجب بك ، وعندما تلعثمت أمامه قال أنا أحبك ))(11).
وتتحدث الساردة عن عمو شوكت وكيف كان يتفقد بيوت الجيران المهجورة ، ويتأكد من إحكام إغلاق أبوابها وكيف يعتني بنباتاتها : (( ذرف دمعة ، ومشى نحو غرفة النوم ، غير ملابسه ببدلة العمل القديمة ، خرج إلى الحديقة مرة أخرى ، تناول ماكينة قص العشب وصندوق العدد اليدوية ، وخرج من البيت يتبعه برياد ليتفقد بيوت الجيران المهجورة ، ويتأكد من إحكام إغلاق أبوابها ويعتني بنباتاتها ، يكتب قطعا من الكارتون السميك ويعلقها على هذا الجدار أو ذاك، ( البيت للإجار ) ، ( البيت للبيع ) )).(12)
وتتذكر الساردة باشتياق كيف حملها أبو سالي وهي طفلة صغيرة إلى المستوصف بعد أن سقطت وسال الدم من أنفها عندما شاهد أمها تحملها وهي تبكي، في إشارة إلى عمق علاقات الجوار التي كانت تحكم المجتمع البغدادي بكل أطيافه ذلك الوقت:
(( عندما كنت صغيرة وكان أبي بعيدًا عن البيت ، وقعت مرة من السلم ، وسال الدم من أنفي ، حملتني أمي وهي تجري مسرعة نحو المستوصف الحكومي في المحلة المجاورة ، خرج أبو سالي من بيتهم وشاهدها تبكي ، دخل بسرعة وأدار محرك سيارته ، وانطلق في أثرنا وأخذنا إلى الطبيب ، كم اتمنى في هذه اللحظة أن ينخدش أنفي مرة أخرى ، أريد أن يأخذني أبو سالي إلى الطبيب وهو يحملني بين يديه ، لقد اشتقت إلى أم سالي وسالي وسندس وسوسن وسهير وسولاف، اشتقت أن ينخدش أنفي مرة أخرى )) . (13)
و على الرغم من الانتكاسات والهزات التي أصابت النسيج المجتمعي للشعب العراقي بعد الاحتلال الأمريكي له ، ظلت الروح العراقية الأصيلة وفية لأهلها وجيرانها، فمروة التي عملت مترجمة مع قوات الاحتلال، تحذر جيرانها من عمليات مداهمة ، وتتعامل مع عمو شوكت بمودة واحترام وتذكره بعضات يده على معصمها أيام طفولتها، تضع في جيبه مبلغًا نقديًا من المال ، وتسقط من عينها دمعة وهي تودعه :
(( قبل أن تغادر المحلة لآخر مرة ، توقفت مروة عند بيت أم ريتا ، لتلقي التحية على عمو شوكت ، اقتربت منه تلاطفه بمودة واحترام ، حاولت أن تذكره باسمها ، بعضات يده على معصمها ، لكنه كان ساهيًا عنها ، وضعت في جيبه مبلغًا نقديًا من المال ، سقطت من عينها دمعة أخرجت منديلها وجففتها ))(14)
وفي إشارة إلى المكون التركماني والكردي اللذين يشكلان جزءً من النسيج الاجتماعي والتاريخي للعراق، تصف الساردة وهي تستذكر طفولتها كيف كانت تمثل هي وصديقاتها من بنات المحلة لـ عمو شوكت كما تصفه وزوجته باجي نادرة ، بمثابة أبناء لهما لأنَّ زوجته لم تنجب أطفالًا ،
(( برغم مرور مدة طويلة على زواجهما لكنهما يعيشان بدون أطفال ، لم تنجب باجي نادرة طفلة تلعب معنا . أنا ونادية وكل أطفال المحلة أطفالهما ، جميعنا دخلنا بيتهما وأكلنا من مطبخ باجي التي نحبها وهي تفرح بنا ، تحكي لنا بلكنتها الكردية قصصًا خيالية عن الجبال الشاهقة ، عن ما مند وحبيبته الذي سرقها وهرب بها إلى قمة الجبل وعاشا هناك بقية حياتهما ، تحكي لنا عن السناجب والفلاحين وقصصًا أخرى ….))(15) .
وكيف كان عمو شوكت يعض على معاصمهم حين كانوا صغارًا ، كان يريد أن يبقيهم أطفالًا يلبسون ساعات وهمية ، كانوا يتألمون قليلًا ؛ لكنه ألم يتسبب بلذة للطرفين، لذة محاها المارينز عندما دخلوا على مستقبلهم ،وحطموا نوافذه، ومسحت دباباتهم آثار طفولتهم من الشوارع :
(( عندما كان عمو شوكت يعض على معاصمنا يوم كنا صغارًا ، لم يكن يعرف إننا سنكبر بهذه السرعة ، كان يريد أن يبقينا أطفالا نلبس ساعات وهمية ، طبعتها أسنانه على جلودنا الرقيقة ، كان يعرف إننا نتألم قليلًا لحظة انطباق الاسنان على لحومنا الطرية ، لكنه ألم يتسبب بلذة للطرفين ، لذة نحسها من دون أن نتمكن من الاحتفاظ بها ، ظلت هذه الساعات التي محاها الزمن تدور في أعماقنا ، وترسم خطوطًا متعرجة بين طفولتنا ومستقبلنا ، جاء المارينز على مستقبلنا وحطموا نوافذه ، لقد خربوا كل شيء ، خربوا حياتنا نحن الأطفال الذين كبرنا في هذا المكان ومسحت دباباتهم آثار طفولتنا من الشارع )) (16)
وتصف بمحبة كبيرة وهي تتحدث عن باجي نادرة كيف كانت تحرص على نظافة باب بيتهم ونظافة الرصيف والشبابيك واعتنائها بنباتات الحديقة وطيورها، وجمالية ملابسها الكردية ورقصاتها وأغانيها في الأفراح :
(( تركت باجي نادرة وظيفتها وتفرغت للاهتمام ببيتها وزوجها ، وهي تحرص كثيرًا على نظافة باب بيتهم ، ونظافة الرصيف والشبابيك ، وتعتني بنباتات حديقتهم وطيورها ، أنا أحب ملابسها الكردية بألوانها الجميلة ، أحب رقصاتها وأغانيها في الأفراح :
نرجس نرجس نرجس ….نرجس زينار جوانا
أوي نرجس نرجس نرجس …سرك ألواني إيفانا ))( 17)
والروائية تريد أن تقول أن الهوية الكردية هي جزء من هوية الأمة العراقية .
ولما كانت اللغة من أهم العوامل التي تتميز بها المجتمعات ، بل من العوامل التي تهب كل مجتمع خصائصه المميزة (( ففي كل مجتمع مهما كانت طبيعته وحجمه ، تؤدي اللغة دورًا ذا أهمية أساسية ، إذ هي أقوى الروابط بين أعضاء هذا المجتمع ، وهي في نفس الوقت رمز إلى حياتهم المشتركة ، وضمان لها . فما الأداة التي يمكن أن تكون أكثر كفاءة من اللغة في تأكيد خصائص الجماعة ؟ إذ هي في مرونتها ، ويسرها ، وامتلائها بالظلال الدقيقة للمعاني تصلح لستعمالات مختلفة متشعبة ، وتقف موقف الرابطة التي توحد أعضاء الجماعة ، فتكون العلامة التي بها يعرفون ، والنسب الذي إليه ينتسبون ))( 18) . فيما يرى فخته أن اللغة (( تجعل من الأمة الناطقة بها كلا متراصًا خاضعًا لقوانين ، إنها الرابطة الوحيدة الحقيقية بين عالم الأجسام وعالم الأوهان )) (19) ؛ لذا تنذر الكاتبة بالخطر الأكبر الذي بدأ يلتف على هويتنا الوطنية العراقية وينذر بخراب روحي عميق هو ظهور مفردات جديدة وغريبة وخالية من اللطف ، مفردات قليلة بحروف مدببة ، تحشر نفسها في اللهجة وتحاول أن تخترق الذاكرة ، ترى أن اللهجة هي المستودع الاخلاقي والموجه السلوكي للناس ، عندما يتخلى عنها الانسان يخسر ذاته وتتشوه مشاعره .
(( مع تغيير لهجتنا ، سيتغير كل شيء ، اللهجة هي المستودع الاخلاقي والموجه السلوكي للناس ، عندما نتخلى عنها نخسر ذواتنا وتتشوه مشاعرنا .
في الجامعة ، اسمع كل يوم مفردات جديدة ، غريبة بعض الشيء ، وخالية من اللطف ،
قفاص ، نكري ، حاته تملخ ، باي ، أصيلة ، طكوك.
قليلة بحروف مدببة ، تحشر نفسها في اللهجة ، وتحاول أن تخترق ذاكرتها ، لكنها من ناحية ثانية ، تنذر بخراب روحي عميق ، اللهجة المحلية في طبيعتها تتطور تلقائيًا ، وتستجيب لنموها الداخلي ، إنَّها وبمرور الوقت ، تحور الواقع وتعيد صياغته ))(20 ) .
لكن في الحقيقة أن أغلب اللغويين أكدوا على أن (( انتقال اللغة من جيل إلى جيل يعد من العوامل المهمة في تغيير المعنى وتطوره من خلال الانحرافات المستمرة ، فالألفاظ التي كانت تستخدم في العصر الجاهلي لم تبق جامدة في العصر الاسلامي ، وإنما تحركت وأخذت دلالات جديدة ، فهي أكثر العناصر اللغوية استجابة للتغيير لأنَّها لا يمكن أن تظل في قوالب ثابتة ، فهي قابلة للتأثر بالزمن وأطواره التاريخية فالعلاقة الاجتماعية والصناعية وتطور العلوم والثقافة تعمل على تغيير المفردة إلى دلالة أخرى ))( 21). و تغيير الدلالة ظاهرة طبيعية في جميع اللغات يلمسها الدارسون والباحثون لمراحل نمو وتطور اللغات .
الخطر التف على المكان أيضًا عندما اختفى منظر الحدائق الجميلة من أمام البيوت لتحل محلها المشتملات فالمكان جزء من الهوية فالعلاقة بين المكان والهوية هي علاقة تماه في أعلى درجاتها الممكنة ، فالهوية (( تتجسد وتتمفصل وتتراءى وتتمشهد في صورة المكان دائمًا ، مثلما المكان يؤسس هويته كي يعيش ويدوم ، إذ لا هوية بلا مكان ولا مكان بلا هوية ، ولعل هذه العلاقة تعد واحدة من أثرى وأخصب العلاقات المنتجة في سرديات ما بعد الحداثة ، بوصفها علاقة ذات طبيعية إشكالية من طراز رفيع ))( 22) ……. (( اختفى منظر الحدائق الجميلة من أمام البيوت تدريجيًا ، وحلت محلها المشتملات التي تبنى عليها ملحقات إضافية لسكن الأولاد المتزوجين حديثًا ، أو ملحقات صغيرة بأبواب جانبية ، يعرضونها للإيجار من أجل أن تساعدهم في توفير موارد دخل إضافية ، بعد أن اصبحت الرواتب بلا قيمة حقيقية )) (23) .
ولم تسلم المرأة من خطر تشويه هويتها، إذ تجد الكاتبة في وضعها لمساحيق التجميل المبالغ بها فوق وجهها حجب لنضارتها القديمة ، فهو وسيلة باهتة للمصالحة مع الحاضر أو وسيلة غبية لتشويه الماضي :
(( كانت نادية هذا الصباح على غير عادتها معي ، في الحقيقة لم تكن على عادتها مع نفسها هي ، لقد كبرت هذه البنت كثيرًا ، أكثر مما يستحقه زمنها ، كانت تضع طبقة من مساحيق التجميل فوق وجهها ، مساحيق تحجب عني نضارتها القديمة ، طبقة لونية مبالغ بها نسبيًا ، لم تكن بحاجة إليها بهذا القدر ، نادية في طبيعتها أجمل من نادية مع المساحيق ))(24) .
تأسيسًا على ما ذكر فالرواية قدمت صورة بهية للحياة العراقية ، والبغدادية خاصة بكل تشكلاتها، صورة جمعت أطياف متلونة بألوان النسيج العراقي ، وعلى الرغم من كل الضغوطات التي تعرضوا لها ، إلا أن عمق تلك الصلة، وامتدادها التاريخي لم يسمح بثلمها والمساس بها . ربما يكون موضوع الُهوية هو الموضوع الأكثر حضورًا في رواية ساعة بغداد ، إذ اشتغل على أكثر من جانب لكن الموضوع الرئيس المتمثل بالدفاع عن هوية المكان وهوية الشعب وهوية الإنسان هو الأبرز ، المرجعية الواقعية كانت من الميزات التي تميزت بها الرواية حيث اعتمدت على مرجعية واقعية لها علاقة بالمكان والإنسان ، وقد حضرت الذاكرة الذاتية بقوة إذ استرجعت كل ما يمكن استرجاعه ذاتيًا وموضوعيًا من أجل أن تعزز الكون الروائي القائم عليها على نحو غزر ومنتج .
الهوامش :
(1) آفاق اللغة والهوية ، عباس الطائي ، مقال نشر بالموقع الإلكتروني ،www.ahazstudies.org
(2) اللغة العربية : القيمة والهوية ، بسام بركة ، مجلة العربي ، العدد 528، نوفمبر، 2002، 86.
(3). مكونات الهوية الثقافية المغربية ، عباس الجراري ، مقال منشور ضمن كتاب الهوية الثقافية للمغرب ، كتاب العلم ، السلسلة الجديدة ، ط1 ، 1988، 22.
(4) اللغة العربية والهوية القومية ، ياسر سليمان ، منشورات Edinburgh press University2003م
(5) الرواية ، 37.
(6) الرواية ، 200
(7) الرواية ، 207.
( 8) الرواية ،139.
(9) الرواية ،139.
(10) الرواية ،215.
(11) الرواية ، 150.
(12) الرواية ، 121.
(13) الرواية ، 48.
(14) الرواية ،188.
(15) الرواية 39.
(16) الرواية 189 .
(17) الرواية ،41.
(18) J.vendryes.Lang.pp.240. نقلا عن اللغة بين المعيارية والوصفية ، د. تمام حسان ، عالم الكتب ، القاهرة ، 17.
(19) نحو وعي لغوي ، مازن هارون ، دمشق ، 1390هـ 1970م ،20.
(20) الرواية 152.
(21) نت
(22) رواية الأرض والتاريخ والهوية ، د. سهام السامرائي ، ط1 ، دار غيداء للنشر والتوزيع ، الأردن ، 2015م ، 43.
(23) الرواية ، 122 .
(24) الرواية ، 154 .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *