حسين سرمك حسن : عبد الستار ناصر .. لعبة الجنس والموت والجنون (3/2) (ملف/27)

إشارة :
رحل المبدع الكبير “عبد الستار ناصر” في الغربة ودُفن هناك .. ومرّت ذكراه شبه يتيمة بلا ذكرى .. وبلا احتفاء ومراجعة تليق بقامته الإبداعية الشامخة .. أسرة موقع الناقد العراقي تقدّم هذا الملف إحياء لذكرى عبد الستار ناصر واحتفاء بمنجزه الإبداعي الفذّ. وسيكون الملف مفتوحا على عادة الموقع . تحية للمبدع الكبير عبد الستار ناصر.

ولو راجعنا مسارات هذه القصة ، لوجدنا أنّ بطلها يوجه إلى نفسه سلسلة طويلة من الشتائم:
– أنا (أهبل).
– أنا منعوت بالغباء.
– فكرت بأني (قذر).
– قلت لها بنتانة غير ملحوظة.
– كنت شبه قرد يرقص
… وغيرها الكثير..
وهناك شتائم توجهها إليه (مريم) المعشوقة – وهو أمر يتكرر كثيراً في قصصه.. شتائم تطلقها المرأة التي يتعلق بها وكأنها مخدّرة:-
«تعال أيها الجاهل السخيف.. بعد أن انفردت ثلاثة من أصابعها الخمسة…»..
إن الشتائم هنا هي موضوع «الذي» ينطلق عند لحظة امتطاء (الهو) صهوة الجهاز النفسي بفعل ظفر هذا الطفل النهم الشره بالامرأة – الأم – . إنها ليست شتائم مجرّدة بقدر ما هي أوامر ونواه نابعة من احتراق الجسد المسعور بنار الشهوة اللذيذة المحرّمة ، وتألقه فوق سياطها الحانية.. إنّ هذه الشتائم هي لغة خطاب الطفل النـزق المحكوم بمنطق اللّذة.. إن توهج نار الغريزة وبلوغه حافة الطوفان ثم انفلات المد الهائج ، وإحاطته بعرش الأنا ، ومحاولة إغراقه ، يلغي خطاب الأخير المنطقي ، فينقلب خطاب (الهو) البدائي الفج ليصبح الألم لذة ، والشتيمة خطاباً ودعوة وإكراماً.. في اللاشعور فقط يكون تعايش المتناقضات أليفا ، ويعبّر الشيء عن نقيضه في نفس الوقت..
وعندما يسمع الراوي شتائم (مريم) ودعوتها المنتشية له لدخول فردوس الجسد يقول:
«استرجعت مدى احتمالي لهذه الألفاظ ، فوجدتني أمتطيها وأبصق قساوتها»
إنّه – وهو المأخوذ بها واقعاً – ينقّي هذه الشتائم ويمتطيها كأي امتداد من جسد المحبوب.. ففي عالم (الهو) حيث سيادة منطق الغريزة ، يكون كل شيء حسيّاً ، وفي خدمة هذا المنطق، إنّ عبارة (أيها الجاهل السخيف…) هي امتداد حسّي من تلك الأصابع الثلاثة التي انفردت مطلقة الدعوة اللذيذة الآثمة.. إنها اللحظة الغريزيّة الفائقة ، ولحظة يغيّب فيها العقل ويتواصل ويتخاطب ويمتزج (هو) الطرفين…
أمّا شتائم البطل والأوصاف السلبيّة التي يطلقها على أبيه (الطيّب الجاف) كما يقول ، فهي انعكاس لموقفه المتضاد عاطفياً تجـاه أبيـه.. فلا نجده يكيل النعوت السلبية إلا وهي ممزوجة بتعبيرات وأوصاف إيجابيّة، وهذا الأمر امتداد للموقف الأوديبي الطفلي من الأب (الحامي – الخاصي) (المعين – المنافس).. وفي عملية تبرير لسلوكه الآثم يحاول تفسير عدوانه على أبيه بسبب موقف الأخير من أمّه :
«تذكرت أمّي وذات صدفة كرهت مريم، كرهت أبي، حاولت في أكثر من مناسبة أن أضع صورة أمّي أمام الشبق الذي يلفّ أبي وزوجته، أن أرسم وجهها الندي أيام حرمانه الأولى، فقد كنت أعرف كيف تزوجها وكيف لملم ماء وجهه ليسكبه في حضنها الطيب النظيف.. كيف تمرغ في خباثة جدي..».
وتعبيراً عن ميل قوي إلى (الاستعراض) يضع جملة اعتراضية يقول فيها:
«ملحوظة – لملمت هذه المعلومات خلال أيام طويلة»
وهو في غمرة هذه العملية الثأرية ، يعلن تشفيه بأبيه الذي سوف تأكله الإهانة.. وهو يعلن أنّه – وهو في حماوة هذه اللحظة – نسي معنى أن يكون أبوه مصاباً بالربو» ثم يتصاعد عدوانه بشدّة ليقول عن أبيه:
«كان في داخله قيء خبيث أحسّه ملموماً خلف لسانه…»
وتستمر العلاقة المتوجسّة المتوترة بينهما ، ويشتد انغماسه في عباب لذة (مريم) الذي بدأ يشعر بأنّه يعشقها.. وبطلنا قـادر – لأن القاص من ورائه – على تبرير أي فعل آثم وعقلنته.. فبعد أن تزلزل (مريم) كيانه بصاعقة إعلانها أنّ أباه عقيم وناقص ، وأنّه لم يطء جسدها» ، يصدّق ما تقوله فوراً ، ودون تردّد ، ويعلن أنّه لا يحتمل أن يكون لقيطاً عادياً يحملونه من أمام المساجد».. وستدهشنا السرعة التي صدق بها ادعاء (مريم) دون أن يفكر بأنّ عجز أبيه الذي تدعيه قد يكون ملفقاً… أو – وهو الاحتمال الأكثر صحة ودقّة من وجهة النظر التحليلية أن تكون عنّة أبيه عنّة متأخرة أوصلته إلى حالة الاكتئاب والانقباض وضيق الصدر وأن اندفاعه للزواج من فتاة صغيرة تصغره بعشرين عاماً هو دفاع ضد عجز كامن ضاغط .. فلماذا صدق بطلنا هذا الادعاء بدون تدقيق؟
لقد اعتاد الكثير منّا على إعلان مفاده أنّ قناعاته تتشكل بعد تمحيص وتدقيق عقلاني متأنٍ، لكن التحليل النفسي يثبت أمامنا أنّ لا شعورنا – في الحقيقة – هو الذي يصوغ فعلياً لبّ قناعاتنا وتشكلها – من حيث لا ندري – وأنّ شعورنا إمّا أن يتبناها ساخرة حيناً ، أو مغلّفة منكرة ، أو يكون نقيضها ، أو يؤجلها بكبتها أحياناً أخرى – في كل هذه الخيارات التي تبدو شعورية منضبطة ومحسوبة تتحقق (تسويات) ترضي أهداف الشعور من جهة ، وتشبع رغبات اللاشعور الضاغطة الملتهبة من جهة أخرى ، فتتشكل قناعات يمتد فيها سمّ الباطل في أعماق عسل الحق إذا جاز التعبير.
إنّ سرعة تصديق بطلنا لادعاء (مريم) يحقق ، أولاً ، قدراً كبيراً من العدوان على الأب الذي (غدر) بالأم الوفيّة من خلال زواجه بامرأة أخرى وهو ، ثانياً ، يمسخ صورة الأب القديرة ويحط من جبروته ويطعنه في الموضع القاتل ، وهو الموضع نفسه الذي يُفترض أنّ الأب يحطم من خلال جهد الابن نحو التفرّد والتسيّد ألا وهو (الخصاء) ، وهو ، ثالثاً ، يثبت قدميه على أرض المثلث الأوديبي أمام الأم الذي ثبت أنّ منافسه في حبّها عاجز.. لقد تراجع بطلنا ، رابعاً ، بالزمن الذي حصل فيه عجز أبيه إلى ما قبل زواجه بأمّه الأولى الأمر الذي يعني أنّه – أي بطلنا – ليس من صلبه ، وبذلك يكون من حقه أن يقف أمامه كغريم ومنافس (غريب) فيتخفف عن هذا الطريق من الشعور بالإثم المرير الذي يوافق الموقف الأوديبي عادة.. إنه يخلق تصميم منوع للـ ” الرواية العائلية ” التي يتصور فيها الولد ذاته وكأنه مقحم على العائلة الأصلية .. لقيط أو غريب أو طفل متبنى أو أتي به من مكان بعيد . وكون عجز أبيه ، خامساً ، قائم قبل الزواج يعني أنّ (أمّه) امرأة ملّوثه واقعاً رغم أنّه باشر بعملية (إنقاذ) فعليّة فورا عندما اعتبر نفسه (لقيطاً) يحملونه من أمام المساجد ليبرئ ساحتها دون أن يضع في اعتباره الاحتمال السيئ الآخر.. ولكنه عاد سريعاً ليسأل أمه عن تاريخ زواجها من أبيه ليؤكد الأمر ، ويرسخ قناعته من خلال تردّدها ونظراتها الحزينة الخائفة.. وسنرى من هنا أنّ موضوع الحب الملّوث وما يترتب عليها من (عقدة إنقاذ) تستولي على الإبن ، أو ما نطلق عليه بـ ” عقدة المومس الفاضلة ” ، هو من المواضيع الأثيرة لدى القاص – راجع المخطط رقم (1 ).
وعندما كان الراوي غارقاً حتى رأسه في خضم بحر اللذة مع (مريم) ، وقبل عودة أبيه من السفر ، كان (يعقلن) خيانته ، ويتطرف في تبريرها إلى حدّ جعلها مسألة حسابيّة صرفة وخلاصتها كما يقول:
«لو كان أبي يحب مريم حبّاً سماوياً شرهاً ، فإنّه يرغب دون شك أن يرعاها إنسان، وبما أنها تحسّ الرعاية برفقتي ، فقد وجدت بهذا حلاً لرغبة أبي»
.. ثم يصوغ معادلة متسلسلة ومرتبّة لعقلنة سلوكه المنحرف وعلى الشكل التالي:-
«أبي يحب مريم – يريد لها البهجة – مريم تجد البهجة حيث أكون أنا – إذن مجرد الشعور بالذنب لا يجب أن يتغلغل في داخلي – لست بما أفعله غير وسيط هادئ طيّب لتنفيذ ما يريده أبي»..
هو يسمّى هذا الحل (مسألة حسابيّة) ، رغم أنها تعكس من الناحية النفسيّة عزلاً غريباً بل و(سايكو باثياً) للأفكار عن المشاعر والانفعالات التي ينبغي أن تصاحبها ، فحتى (أوديب) لا يجرؤ على تبرير فعلته وعقلنتها بطريقة (رياضية).. ولكنّ هذه الحسابات وهذا (العزل) ليس غريباً على القاص ، وسنجده يمتد من هذه البداية حتى يومنا هذا حيث التبريرات جاهزة مبرقعة بأغطية لغوية جميلة لأشدّ الأفعال ضراوة وإيذاءً .. ورغم قدرته (الرياضيّة) هذه نجده – في هذه القصة – يؤكد على أنه مراهق رغم أنّه يقول أنّ عمره يساوي عمر (مريم) وينسى أنّها تبلغ الحادية والعشرين من العمر.
وبعد أن ترسخ في ذهنه أنّه (لقيط) بطريقة أرادها هو ذاته ، وأسّس حيثياتها كما رأينا ، يواجه إحباطاً شديداً بعد عودة والده ويخطط (لاشعوره) العدواني للكيفية التي ينهي بها هذا الصراع الأوديبي المستعرة نيرانه أبداً.. فيسير كالمغيّب إلى غرفة أمّه الأولى (دونما فكرة سابقة) ولكن «تغيّر اتجاه الخط إلى مريم».. احتضنها واختلى بها ، وترك باب الغرفة مفتوحاً ناسياً أنّ من الممكن أن يفاجئهم أبوه في أية لحظة.. هذه من دسائس اللاشعور يقوم بها لإطفاء دوافعه الملتهبة :
«سكبت في حافة الشفاه لزوجة الحب المغمور في قلبي»..
ولتحقيق انتقامه الأوديبي.. ولإشباع الرغبة العميقة في القصاص بسبب الشعور بالذنب.. ترك الباب مفتوحاً مثل حال الكثير من المجرمين الذين (ينسون) في مكان الجريمة ما يشير إلى شخصياتهم ويدلّ عليهم.. وها هو أبوه يقف بكل ذهوله ويحدق في قرف فيهما.. ثم يسقط ميّتاً.. وليقع من بعده (بطلنا) في صراع مرير وعذاب مضنٍ.. فحبّ (مريم) يزول ، ويظل في مكانه بقية اشتهاء خبيث ، ويصبح (وجهها قميئاً) ، بعد أن كان يشتهيه بجنون.. تذكر أباه بعد أن مات ، وكيف أنّه كان الرجل الذي سلّمه عناء السنين الطويلة.. ويتحسس (طفله) في بطن (مريم) ، ثمّ يبدأ بالنظر كل يوم إلى وجهه في المرآة ، كل يوم ، ويحاول أن يبصق فيه لكنه يمتنع ويعلن بقوّة:
«عرفت أني أعشق نفسي» – راجع المخطط (2).
وبعد هذا الإعلان، هل تبقى ضرورة لسمل العيون بأسياخ الحديد ، وهي النهاية المدّمرة الدامية التي توّجت مأساة (أوديب) بعد أن أدرك فداحة الإثم الذي اقترفه ، والذي سبقته الأم (جوكاستا) في إدراكه فقتلت نفسها شنقاً؟..
إنّ (أوديب) (عبد الستار ناصر) الذي لا نعرف اسمه ، وكأنّه يريد أن يقول إنّه رابض في كلٍّ منّا – لا يحتاج قصاصاً لأنّه يعشق نفسه ، ولا أحد غيرها ، ويقتنع بقوّة ، بأنّ ساحة الصراع الأوديبي مفتوحة الأبواب دائماً لصراع يشتعل حتى الموت:- موت أحد الطرفين وهو الأب عادة.. وأنّ الأمر يجب أن يحسب على أساس (رياضي) يخضع لمنطق (الهو) اللذّي النـزق: «إن لم أقتله يقتلني» ، بعيداً عن أي نواةٍ ضميريّة أو اجتماعية.. فيكون قتل الأب تحصيل حاصل لصراع بين (هو) طرفين مستميتين في امتلاك ينبوع اللذة الدائم – الأم – وعليه فلا حاجة لسمل العيون (إيقاع الخصاء بالذات) ، وإنّ من الطبيعي أن (ينظر) أوديب الراوي إلى جـريمتـه ويتفحص انتصاره بعيون على اتساعهما .. ويترتب على ذلك أنّ على (جوكاستا) القاص – الأم أن لا تعاقب نفسها أيضاً ، وأن ترعى وتنتظر ميلاد (أوديب) جديد ، هو ندّ لأوديب (الأب) السابق أكثر مما هو في موقع الإبن في هذا الصراع..
إنّ أيّ رجل هو (أوديب) سابق بالنسبة للقاص ، أو هو مشروع (أوديب) مقبل.. وأنّ من الممكن لبطل القاص – مهما كان – أن يكون أوديباً مقتولاً إن لم يكن أدويباً قاتلاً… وعليه فإنّ (أوديب) الحقيقي بالنسبة للقاص يجب أن يكون مركز عالمه وكونه (نرجسيّة مطلقة) من جهة ، وأن يكون خنجر ذكورته الباشط مشرعاً دائماً للدفاع عن مشروعه الأدويبي (عدوانية فائضة) من جهة أخرى… ولعل هاتين السمتين هما اللتان تطبعان أدب البدايات لدى القاص بقوّة، أمّا بقية السمات – الاستعرائية، المازوخية، التبصصيّة والسمات الغريبة لموضوع الحب وغيرها – فهي مشتقة من ، ومؤسسة ببراعة ، على هاتين السمتين..
2- في قصّة «همسات مغلقة» من مجموعة «الرغبة في وقت متأخر»:
والتي يوجه فيها البطل أكثر من (80) ثمانين شتيمة ووصفاً سيئاً إلى نفسه وإلى الآخرين في القصّة – نلاحظ مدّاً ، بل طوفاناً هائلاً من السادية الطافحة :-
سادية (فميّة) تتمثل بالشتائم والألفاظ الحادّة والنابية أحياناً..
سادية (إخراجية) تتمثل في (تلطيخ) المشاهد الجميلة وخلط ركائزها بصورة تشيع الضبابيّة حولها وتشوّهها بصورة تبعث على القيء أحياناً.. وهو الأمر الذي تجسد في المشهد الذي ركز فيه (بطل) القصة المتصدّع كثيراً جداً على (علبة البصاق) التي وُضعت تحت سرير حبيبته (نادية) ، التي كانت راقدة في المستشفى بسبب طعنة سكين تلقتها على يد عاشق غيور.. ويخرق البطل – الراوي – قعر جيوب بنطلونه كي تتسرب الأشياء التي جاء بها إلى (نادية) في علبة البصاق:-
«ثم اختلطت معاً فبدت مشوهة وغريبة:- أن تكون أشيائي التي أحبها مع كومة البصاق.. اختلطت في بصاقها كخمرة العجين!!».
لقد جعلت دوافع العدوان والساديّة الطافحة الفائضة التي تطال كل شيء حتى لغة ذات البطل – لغة البدايات حادّة المفردات، مزدحمة بأفعال تدل على النوايا السلبيّة المبيّتة ، أو أفعال العدوان الصارخة التي أصبحت لازمة له في هذه القصّة ، وقصص البدايات الأخرى ، وقصص المراحل اللاحقة على حدّ سواء ومنها:-
بصقَ، تفّ، نهش، سبّ، شتم، بال، طعن، غرز، سحق، تآكل، سخر، داس…إلخ..
وتكثر في هذه القصة وغيرها مفاهيم معنويّة محددّة حُبلى أبداً بمعاني العدوان . ولا تستقيم أي قصة للقاص بدونها.. وهي حاضرة دائماً في طيّات قاموس القاص اللغوي الخاص – فلكل مبدع قاموسه الخاص الذي يضم مفردات تميّز أسلوبه وتمثل (موضوعات) حب إيجابيّة أو سلبيّة ومشتقاتها النفسيّة ويشكل تكرار هذه المفردات – حسب وصف (أنا فرويد) – درعاً مهماً من (دروع الطبع الدائمية). ومن هذه المفردات:-
– الندم، الخباثة، الذلّ، الخيانة، البشاعة، الدعارة، الغيرة، الحقد، الكآبة، النذالة، البصاق..إلخ.
ولو أخذنا – على سبيل المثال – الفعل (بصق) ومرادفاته واشتقاقاته في هذه القصّة : (همسات معلقة) ، لوجدنا عدداً كبيراً من الاستخدامات المختلفة التي تصل حدّ الإستفزاز أحياناً:-
– تف، بدأت أرجو نهشه..
– تف، وكيف صحتك الآن؟
– أفكر بتمزيق البنطلون إرباً ، وتركه عند علبة (البصاق).
– أسمعها كمن تبصق في وجهي..
– تف، أيتها العقرب الغبيّة…
– أبصق في عيونها، أبصق فيها…
– أن تكون أشيائي التي أحبها مع كومة (البصاق) فتلك إهانة أضعها بنفسي..
– الأشياء اختلطت في بصاقها كخمرة العجين..
– البصاق كأي مسلول متعب..
– لئلا يرانا فيبصقنا من حسابه..
– راحت جروحها تبصق تلك الدماء كنافورة دقيقة..
– تمنيت لو أبصق في وجهي، لو أبصق في وجهي فقط كي أحسّ براحة..
– قلت لوجهي بوقاحة: تف أيها الصغير المتسول..
– كان وجهي مشوهاً بقيت أبصق وأبصق فيه….
إنّ أول معبر (نستدخل) منه الأشياء التي نحبها هو الفم.. والفم أيضاً هو أول عضو نعلن من خلاله رفضنا للأشياء ولفظنا لها ببصاقها:-
«ما لا أريده ألفظة إلى الخارج»..
ويتبدى هذا اللفظ الطارد ، وعدم التقبل ، في صورة رفض للاستدخال، شامل أو محدّد ، مرتبط بذكرى تجارب طفلية صادمة.. رفض يمكن أن يؤطر بأطر باهرة – بعضها إبداعي ، وبعضها الآخر سياسي وثقافي وديني… إلخ – تجعله يقف بعيداً جداً أحياناً عن تصوّر أصله الطفلي الغائر.. وقد يظهر في صورة إسقاط – صحّي أو مرضي – لما يختزنه لاشعور الفرد على الخارج.. وقد يأخذ اللفظ والبصاق والرفض الفمّي صورة شتائم صارخة أو مغلّفة أو صورة تهكم وسخريّة.. وكل هذه الأشكال تجدها متعايشة مترافقة في بدايات القاص بصورة صارخة أحياناً.
ومن المظاهر الأسلوبية الأخرى التي حفلت بها البدايات ثم امتدت حتى يومنا هذا هي ظاهرة (التكرار) التي يقلّب فيها الموقف النفسي في القصّة على عشرات الوجوه ولا يترك المفردات والأوصاف إلاّ بعد أن يمتص رحيق معانيها وثمالتها الدلالية ، وهو شكل من أشكال العدوان أيضاً ، يعلي فيه القاص ، دوافعه الساديّة من خلال الكتابة. كما أنّ هذا (التقليب) يعكس سمة التبصصيّة (الاستراقية) التي تحدثنا عنها ، فهو لا يترك موقفاً ما ، مهما كان بسيطاً ، إلاّ بعد أن (ينظر) إليه من كل الجوانب ، ومن كل الزوايا ، ولا يترك مفردة إلاّ بعد أن يرفع ” الأستار ” عن معانيها الواحد تلو الآخر.. فحين تصف (نادية) – حبيبة البطل – الأخير بأنه غراب قميء وأختها التي كان يغازلها أمامها بأنها عقرب غبيّة ، يمسك بهذه الإهانة ، ويتذكرها ، في كل موقف ، ويعود إليها مراراً حتى لو لم يكن هناك مبرّر واضح لهذه العودة، فنجده يقول في مواضع مختلفة:-
– صدقت أنك تبكين لتلك الإهانة: أن تكوني عقرباً غبيّة.. وأكون أنا غراباً قميئاً.
– أنا غراب قميء ، وأنت عقرب غبيّة.
– تف أيتها العقرب الغبيّة، لكنك سيدتي طيبة وحلوة..
– تصرخ في عيوني بأني غراب قميء، تحسست أنها تحب هذا الغراب الوسخ، غراب كريه يحلم في عقربة غبيّة…
– لم تزل ترسمني في خيالها كغراب قميء..
– صراخها يحمل في رذاذه صورتينا معاً، صورة الغراب القميء والعقرب الغبيّة…
ويرتبط بظاهرة التكرار و(التقليب) هذه ظاهرة أخرى هي (طول) جملة (عبد الستار ناصر).. فلا توجد لديه جملة الضربة السريعة الحادّة التي تُكثًف في مفردات قليلة.. إنّ محاولتنا شرح معنى بيت من الشعر يقدم لنا مادة و(جُملاً) أطول من بيت الشعر ذاته ، وهو نفس الأمر الذي يحصل عندما نريد تفسير حلم ما.
فالمحتوى الظاهر للحلم يكون دائماً أقصر من المحتوى الكامن الذي نحاول الوصول إليه. ويبدو أن عمل القاص هو كشف (المستور)، والمكبوت ، وهو أمر لا يحتمل العبارة المركزية المكثفة.. إنه مفسر و(شارح) للرؤى والرغبات المحرّفة المشوّهة.. يعيدها إلى أصولها الصارخة الواضحة بدون أغطية أو أستار… وهو الذي يكّرر دائماً مقولة (جان كوكتو) التي يضعها في مقدمة بعض مجموعاته وقصصه:-
«الأسلوب، طريقة بسيطة لقول أشياء معقدة.. وليس طريقة معقدة لقول أشياء بسيطة»…
وهو الأمر الذي أكدّه أيضاً في وصاياه حول شروط كتابة القصّة القصيرة… إنّ طول الجملة يعود إلى أنّ ما يريد القاص قوله كثير جداً ، وبعبارة نفسيّة ، أنّ ما يريد (عرضه) و(استعراضه) أمام المتلقي لا ينفد . كما أنّ ما (تبصّص) عليه من شؤون وحوادث وخفايا في النفس الإنسانية كثير جدّاً… وهذه السمة هي في جذرها العميق تعبير عن عدوان (فمّي) من جهة، وعن دافع لتكرار الممارسة التي تؤكد القدرة وتطمئن (الأنا) القلق حول إمكاناته من جهة أخرى، ومن هذه القصّة نقتطع نماذج قليلة من بين العشرات التي تحفل بها والتي لازالت تطبع أسلوب القاص حتى الآن:-
-نعم، سيدتي، كنت أهذي كما تقولين، أثرثر في غباوة سمجة تجعلني أمامك مثل طفل يتبوّل في فراشه فيعيبه أن يتسخ الفراش ليحرقه من خلل الغباوة والخوف والخجل، أنا – إذن – مثل طفل يتبوّل يا سيدتي..
-ورغمها سأحمل حزني وأبكي عند أزقة قصتنا الجريحة ، وألوم نفسي ، وأضرب جبهتي ، وأحاول نسيان الذي فات بيني وبينها ، تلك التي عرفت عند عيونها لمسات الحب أول مرّة:- أختك نادية..
-ولو تأمل فينا أحد فربما سنغلق عنه وجوهنا، لئلا يرانا فيبصقنا من حسابه ، ويجعلنا عند موطئ ساقية ويدوسنا مثلما يدوس بقية الحشرات، لكننا وقعنا عند موطئ هذه الصغيرة ، وحجمها لن يكون كافياً لسحقنا معاً، وقلبها يحمل في شرايينه حفنة من الطيبة تكفينا معاً وتجعلنا نغلق وجهينا – حتى – عن بعضنا، فقط لأننا نملك أن نمارس هذه الوقاحة . نحن نعرف أنّ نصف دمائها التي تجري فيها هي منّا، تبرعنا بها حتى راحت جروحها تبصق تلك الدماء كنافورة دقيقة ، ورغم هذا أبقيت عندك وجهي ، وسألتك عن الليل ، وعن (نادية)…
ويترتب على إصرار القاص هذا – إصراره على (شرح) أفكار ورؤاه للمتلقي ، وإيمانه بأنّ الأسلوب هو طريقة بسيطة لقول أشياء معقّدة ، نتيجة مهمّة هي ما يحاول القاص إيصاله من مضامين لن يكون موجهاً إلى نخبة محدّدة ، وبشكل خاص النخبة المثقفة. إذ لو كان هدفه هو هذا ، لكان لزاماً عليه أن يستخدم لغة (خاصّة) عالية.. مزدحمة بالمجازات الشعريّة والاستعارات وأحياناً بالمفردات القاموسيّة.. ولكن (العرض) الذي صمّمه القاص وفق دوافعه يقوم على (الكم) وعليه فإنّ (حجم) الجمهور الذي يتلقى العرض سيكون مهماً.. وسيكون هذا الجمهور – حتماً – بعيداً عن (النخبويّة) والتخصص ، ولابدّ أن يستخدم القاص لغة (عامّة) مفهومة هي بين الفصحى القاموسيّة واللغة العاميّة.. وهو أمر يسعده لأنه يتيح له ساحة واسعة للتحرك الإبداعي.. ويمكننا القول بأنّ اختيار القاص لهذه اللغة (الوسطى) يتلائم مع لغة (الهو) الأوليّة التي تسعى إلى تجنّب الالتفافات والمناورات اللغويّة في الوصول إلى أهدافها كلّما أمكن ذلك .
وستجد ظاهرة أخرى تبسّط التركيبات اللغوية المعقّدة وتحتفظ للجملة بتركيبها التقليدي – فعل، فاعل، مفعول به…إلخ – أو (مبتدأ وخبر بدون ألعاب التقديم والتأخير) وكلّها تنضوي – إذا آمنّا بأنّ اللغة أداة لإخفاء الأفكار وليس لإعلانها – تحت ما أسميّه (ألعاب الهو) :
( كنت أحلم في جزيرة تحمل فيها الأشجار كل فاكهة نعرفها، نعرفها، وأجلس عند أقدام أميرتي أضمّها إلى صدري وأقـول إنـني أحبها ، ثم أراها تضحك حتى تنام وأظل أبصر عينيها وأبكي من الفرح العظيم، أبكي حتى أنام على أقدامها، فتضربني بأصبعها الصغير، وأعرف أنّها تحلم في أعراسها النظيفة.. ) .
ولو نظرنا إلى الحوارات التي يبثها القاص على ألسنة شخوص نصوصه ، فسنجد أنّها حوارات (يوميّة) بسيطة لا تقوم أبداً بدور المداخل أو الحواشي أو الشروح بل تقع في قلب المعنى المطلوب إيضاحه إلى أقصى حدّ:-
# مثال :
-ألا تريد أن تراها؟ كان أهلها يتحدثون عنك.
-إنها ممنوعة، أهلها يرفضون حبي، ويرفضون ابتسامتي..
-أتظنها مجرد سيجارة؟ مادمت تحبها لابد..
-ولو جاء أحد؟ أخوها مثلاً؟
-أنت تحبها يا رجل..
-إذن سوف أراها..
# مثال آخر :
أو الحوار التالي بين بطل القصّة وحبيبته (نادية):-
-أتراه جاءك أيضاً؟
-كان أول وجه يدق بابي..
-تف، بدأت أرجو نهشه..
-إنه منهوش جاهز، لقد رفضته، رغم أنه راح يبكي ويعتذر، ويجتر سجائره دون أن يحس بها.
-إنّ من يحمل سكيناً ليضربك به، يستطيع أن يرفضك بعد فترة الزواج، إن زواجه مجرد رغبة..
– لكنه برّر ضربته: أنّ حبه كبير وأنه لن يحتمل البعد عنّي..
-تف، وكيف صحتك أنتِ؟
-لم أعد أعشق الموت…».
ويأتي الكثير من الحوارات التي تدور بين شخوص قصصه ، وكأنها جزء من سياق السرد ، وليست وقفة محادثة للتفسير أو التبرير أو كشف إرهاصات الأشخاص وعوالمهم الداخليّة..
وتنتهي هذه القصّة بقيام البطل المجنون بقتل حبيبته في المستشفى. أي أنّه يقدم مسبقاً ذريعة تمهّد للفعل الإجرامي (القتل).. وهذا التلازم بين الموت والجنون سنجده من هذه البدايات ، وحتى يومنا هذا ، سمة من سمات المنجز الإبداعي للقاص النفسيّة المهمّة.. فالموت يشيع في قصص هاتين المجموعتين بصورة كبيرة.. بل هو المشهد المسيطر فيهما ، وبشكل خاص: موت الأب الذي سيتحول – عبر نقلات متعدّدة ومن خلال نضج أدوات القاص الإبداعية – إلى الرجل المنافس أو المُعتدى عليه أحياناً، وقد يتخذ في حالات كثيرة صورة (أي رجل) من خلال التمركز النرجسي الذي يجعل أبطال القاص – أو بطله فهو كيان واحد ولكنه متعدّد الصور – يزيحون أي رجل آخر من خلال الهبوط به إلى المستوى الأوديبي الصراعي كما قلنا.. ولكنها ليست (عقدة قابيل) المعروفة – صراع الأخوة – فلازال هذا الأوديب الجديد قادراً على تهديد الاب بالخصاء أو إخصائه فعلياً.
ويلي الأب في تسلسل الضحايا : المرأة، موضوع الحب، فبطل القاص مهدّد في أكثر الحالات بالخصاء من طرفي المثلث الأوديبي (الأم والأب على حدّ سواء رغم أنّ الأرجحيّة لتهديدات الأب طبعاً).. ويكون قتل المرأة في حالات قليلة مماثل لفعل (أورست) في الأسطورة المعروفة (إجاممنون) حين قام الابن (أورست) بقتل أمّه لكي يطلق طاقات حبه نحو (الخارج).. للتحرر من أم ملتهمة أو خاصية.. ولكنه في عدد أكثر من الحالات قتل للثأر والانتقام من أم سلبيّة تابعة أو متحالفة مع الأب من جهة ، فهو ثأر من الأب في النهاية أيضاً ، وهو محاولة نرجسيّة دفاعيّة يثبت من خلالها (الابن أنّه ليس مخصيّاً أمام الأم من خلال قتل موضوع الحب الذي هو صورة مفترضة لها أو مشتقة عنها من جهة أخرى.. إنّ التمركز النرجسي لبطل القاص تجعله لا يؤمن بالشراكة ولكن ذلك لا يلغي المنافسة وحاجته لها لتأكيد القدرة على الإنقاذ وعدم الانخصاء..
إنّ ما يقوم به بطل القاص في الكثير من الحالات هو قتل (استباقي) يقوم على أساس الشعور الممض بالتهديد الأبوي الموّجه نحو ذكورته ، الأمر الذي يثبت أنّ عدوانيته هي تكوين ضدي فائض تجاه شعور قوي لكن مكبوت بالضعف والاعتماد ، وإنّ ساديته هي الوجه الخارجي من العملة التي تشكل المازوخية وجهها الداخلي.
وإذا كان موت الأب يظهر في أكثر الأحوال في صورة قتل أوديبي لكنه مقصود مع سبق الإصرار ، أو في صورة إخصاء ومسخ ، فإنّ صور قتل موضوع الحب تتعدّد وتتشابك . ولعل من صوره المهمّة هو (الفقدان) و(ضياع) المرأة – الحبيبة المتكّرر تحت شتى الذرائع التي تفصح مجتمعة عن (إرادة) لاشعوريّة للبطل في هذا الفقدان.. وفي أكثر الحالات يصوّر القاص هذا الضياع وكأنه من مخططات (الأقدار) التي لا ترد. ونحن نعلم أنّ القدر هو من الصور التجريدّية للإرادة الأبويّة.. إنّ (تضييع) البطل لموضوع حبّه كل مرّة يعكس نزوعاً كامناً لتدمير الذات.
يقول بطل قصتنا هذه مخاطباً شقيقة حبيبته (نادية):-
«نعم ، سيدتي ، كنت أهذي كما تقولين.. أثرثر في غباوة سمجة تجعلني أمامك مثل طفل يتبول في فراشه فيعيبه أن يتسخ الفراش ليحرقه من خلل الغباوة والخوف والخجل».. وفي موضع آخر ينظر إلى علبة البصاق فيلاحظ أنّ كمية وسخة تخرج من ثقبها:-
«وضحكت كأنني أشاهد طفلة تتبول في صدر أمّها..»..
هل يمكننا اعتبار هذه العبارات – من الناحية النفسيّة – عبارات (جنونية)؟ إنّها عبارات تتضمن أوصافاً في غاية الغرابة سنستجيب لها بالهزء إذا سمعناها في مستشفى للأمراض العقليّة من قبل أحد نزلائه الذهانيين.. لكن هذا جانب من (المنفعة) التي يحققها لنا الإبداع:- توفير فرصة مشروعة للعب الطفلي (لعب الهو) الحرّ الذي يقرّب منطقه في حالات الاحتدام من المنطق الجنوني.. فدوافع (الهو) الضاغطة لدى القاص وبشكل خاص عدوانها الفائض تجعله يهبط بتعبيراته – أو يرتفع في الشعر – إلى لغة العمليات النفسيّة الأوليّة حيث لا ضابط زمني أو مكاني يحدّ الجملة دلالتها.. المفردات مائعة توضع لوصف الشيء ونقيضه في نفس الوقت.. وحيث تتعايش المعاني والأفعال المتناقضة ، وهو الأمر الذي يخالف عمل الشعور الذي يريد كل شيء واضحاً قاطعاً محدّداً.. ولو سار عمله وفق تلك الآليات الأوليّة لقلنا إنّ الشعور تصدّع وإنّ صاحبه مجنون.. ولكن غطاء الفعل الإبداعي يجعل اللّغة الجنونية هذه مقبولة بل وضروريّة.. فلغة الإبداع تحمل في أحشائها مقومات لغة العمليات النفسيّة الأوليّة – لغة اللاّشعور – ولكنها بالنسبة للقاص تصل حدوداً قويّة مصبوغة بالعدوان الفائض..
لنحاول الآن فهم آلية بناء وطبيعة هذه العبارات المجنونة من خلال العودة إلى الافتراض التحليلي الذي يرى أنّ اللغة هي وسيلة لإخفاء الأفكار من جهة ، وإنّ عملها في التعبير عن الأفكار يشبه (عمل الحلم) من جهة أخرى.
إذا اعتبرنا المشبّه القائم كحالة (ماديّة) شعوريّة فإنّ المشبه به مستلّ من مخزون الذاكرة (غير قائم كحالة شعوريّة حاضرة) أي أنه مستلّ من الذاكرة اللاّشعورية وبالتحديد من طبقاتها السطحيّة..وسيتحدد المشبّه بعبارة (نعم سيّدتي.. أثرثر في غباوة سمجة تجعلني أمامك)؛ والمشبه بعبارة (مثل طفل يتبول في فراشه فيعيبه…) وإذا اعتبرنا العبارة الأولى معنى ظاهراً ثانياً، فإنّ العبارة الثانية تمثل معنى ظاهراً أولاً، إذا اتفقنا أنّ مفردات التشبيه قد استلـت مـن الرقائق السطحيّة للاّشعور. ولكن – وعلى أساس عمل الحلم – فإنّ هناك (رغبة) كامنة في اللاّشعور هي التي كانت الحافز لتشكيل هذا الرداء اللغوي وفق هذه الصورة بالذات. أي أننا نعود من جديد إلى موضوع (استحالة) الرغبة إلى مفردات لغوية بعد أن استحالت إلى (فكرة) أولاً ، علماً أنّ هذا الفصل بين الفكرة كمضمون ، واللغة كشكل ، هو فصل لأغراض التبسيط لأنّ الفكرة تولد مع (جلدها) اللغوي. فإذا وضعنا مقابلة بين مفردات المعنى الظاهر الأول ، ومفردات المعنى الظاهر الثاني فسيقابل رمز (الطفل) ضمير المتكلم للفعل (أثرثر) ، الذي سيقابل فعل التبوّل ، وستقابل مادّة البول مادّة الثرثرة ، وفعل الوساخة والحرق سيقابل الغباوة السمجة. وتكون الحركة من المعنى الظاهر الأول المعبّر بفجاجة عن الرغبة إلى المعنى الظاهر الثاني الخاضع لمنطق الشعور حركة تقدميّة من العمليات الأوليّة التي يحكمها اللاّشعور إلى العمليات الثانويّة التي يحكمها الشعور حيث يحاول الأخير (تغريب) شكل جملته ومفرداتها لتحقق أكبر قدر من التمويه لإخفاء الرغبة الحقيقيّة (الفكرة الحقيقيّة).. من الاستمناء إلى الثرثرة. حيث يثبت تحليل سياق القصّة ووقائعها أنّ الرغبة العميقة هي الرغبة الطفلية في الاستمناء ، وإثبات البطل عدم انخصائه أمام شقيقة حبيبته ، وهو موقف يتضمن دافعاً عدوانياً أيضاً موجهاً ضد (نادية) من خلال توجيه العواطف نحو شقيقتها في عملية (ثأرية) من الأولى – راجع الشكل رقم (3) – .
وإذا أخذنا العبارة الثانية واعتبرناها جملة (علبة تخرج الأوساخ من ثقبها) معنى ظاهراً ثانياً فستكون جملة (ضحكت.. طفلة تتبول في صدر أمّها) معبّرة عن معنى ظاهراً أولاً ، وهذا بدوره يعكس استحالة الأولى لرغبة عميقة مفادها (أنا – البطل – طفل يتبول…) وتمثّل الأم في المعنى الظاهر الأول بنادية التي ترمز لها هنا بالعلبة و(قلبت) عملية (الإدخال – التبول) إلى عملية (خروج) الأوساخ من ثقبها ، وهي رغبة محكومة بدافع جنسي (إثبات عدم الإنخصاء) ودافع عدواني (خصاء استباقي ، وتأكيد خصاء قائم للأم) – راجع الشكل رقم (4) – .
وسنلاحظ أنّ جملة الشعور (جملة المعنى الظاهر الثاني) – والتي قد تستحيل إليها الرغبة مباشرة في كثير من الأحيان – هي جملة مكثفة ومركزّة ، وأننا كلّما اتجهنا عميقاً لاستكشاف جذر الرغبة اتسعت العبارات وامتدت الشروحات كما يحصل عادة عند محاولة النفاذ إلى المعنى الباطن للحلم من معناه الظاهر. كما تحقق جملة الشعور العديد من النقلات من الموضوعات الأصلية إلى موضوعات بديلة تجعل من الصعب – إن لم يكن من المستحيل أحياناً – التعرّف على الدوافع اللاّشعوريّة العميقة…

.. يتبع 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *