إشارة (1) :
يعيد موقع (الناقد العراقي) نشر التقديم والحوار المهم الذي أجرته الصحفية السيّدة شهرزاد لحيويتهما ضمن الملفات الحالية عن المبدع الكبير برهان الخطيب، وهما جزء من كتاب (الروائي والرواية) للخطيب مع نخبة من الكتّاب، كتاب يُنتظر إطلاق سراح نشره عن دائرة الشؤون الثقافية، غير مازح يقترح الخطيب تسميتها: دائرة الشجون بل السجون الثقافية..
إشارة (2) :
برغم أن الروائي المبدع برهان الخطيب يُحسب على جيل الستينات إلا أنّ ما يميز منجزه الابداعي هو هذا التجدّد والتجديد في الأسلوبية وتناول الموضوعات مع ثبات بصمته السردية الجوهرية على خارطة الأدب الروائي العراقي والعربي. وقد أغنى عمله الصحفي وحياته الحافلة بالمتغيرات مخزونه التجاربي فأثرى المكتبة السردية العربية بأكثر من اثنتى عشرة رواية كل واحدة لها عالمها المستقل المتفرّد. يسر أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ ملفها عنه متمنية على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراءه بالمقالات والصور والوثائق. تحية للمبدع الكبير برهان الخطيب.
خلدون شمعة: روايات الخطيب تكشف قدرة الأخلاق والقيم المحلية العراقية على الصمود في اختبارات*..
قدم الناقد خلدون شمعة الروائي برهان الخطيب في نادي الكوفة بكلمات حارة قال فيها عندما طلب مني على عجل، بل قبل ساعات معدودات، أن أقدم أخي العزيز برهان الخطيب، قدمت رجلا وسحبت أخرى، ثم قلت لنفسي: لا تثريب عليك. ولعل مبعث هذه الحيرة أو القلق أو ربما مراجعة النفس أن هذا الكاتب العراقي ليس روائيا واقعيا بامتياز فحسب، بل يمكن أن ينطبق عليه بشيء من التأويل طبعا تعريف شهير للواقعية لأوسكار وايلد، أحد خصومها المحلفين، يقول فيه بقدر غير يسير من الرغبة في النقار والمحاججة ان الواقعية هي صورة كاليبان وهو يحدق بوجهه في المرآة، وأنا أريد بدوري أن أقول أن واقعية برهان الخطيب التي ترفض السياسة فيها احتلال المقعد الخلفي أو الاكتفاء بدور هامشي، هي أشبه شئ بواقعية (كاليبان) أحد أبطال مسرحية (العاصفة) لشكسبير.
في هذه المسرحية يمثل كاليبان شخصية وحش كاسر شبه آدمي. وأسم كاليبان بالمناسبة هو لمن لا يعرف تحريف أو قلب لكلمة cannibal الإنجليزية التي تعني تحديدا آكل لحوم البشر، أو الوحش البشري الذي يتغذى على لحوم النوع الإنساني. ولهذا فالواقعية التي تحدث عنها أوسكار وايلد عدوها اللدود وأحد خصومها المحلفين باستنكار واقعية وحشية شبه آدمية وقابلة للتأويل بحيث يمكن اعتبارها من النوع الذي يدور في سديم سياسي، واقعية تذكرنا ببعض الواقعيات العربية التي أذكر منها على سبيل تعداد القلة لا الحصر تلك التي تمثل في نموذج رواية (الثلج يأتي من النافذة) للروائي السوري حنا مينة، حيث تتحرك الشخصيات وكأنها تعيش لتمارس السياسة وتمارس السياسة لتعيش.
هذا الضرب من الواقعية، واقعية شخصية كاليبان بلبوسها السياسي والإيديولوجي، واقعية برهان الخطيب وبعض أفراد جيله في الوطن العربي طولا وعرضا، كنا نحن النقاد الذين يمثل بعضهم معسكر المتفرجين الصامتين الذين لا تعوزهم السذاجة، أو ربما معسكر الطافين على السطح كقطع الفلين إيثارا للسلامة، كنا نعتقد أنه نموذج استثنائي من الواقعية، نموذج يكتفي عادة بالعزف على أوتار الإيديولوجيا المنفوخة الأوداج.
ثم يذهب الناقد المعروف خلدون شمعة إلى القول بأن اختلاف برهان الخطيب يكمن في أنه يقدم نموذج روائي الواقع الذي يصبح موضوعه مادة للتنقيب على طريقة الانثروبولوجيا الاجتماعية ليكشف على حد قوله عن تفاصيل حياة الناس اليومية مرصوفة بعناية في ممرات وأبهاء أحداثها. وهذه التفاصيل كما يقول تبدو أحيانا كأنها سلالم إلى مرصد عال يسمح للقارئ عند الصعود إليه برؤية العالم في مدينة صغيرة، والبشرية في أفراد قلائل، والخالد الأبدي في اليومي العابر.
الخطيب برأي الناقد شمعة ما زال يتحدث عن التغيير السياسي وغير السياسي ويتساءل من أين يأتي وإلى أين يتجه، بل أنه لا يتردد في تسجيل وقائع ما حدث فيما يتعلق بالثورة بين حزبين كل منهما آخذ بخناق الآخر، وكأنه يعيدنا مرة أخرى إلى نقطة الصفر في مشروح التغيير، هذا التغيير كما يبدو لشمعة كمراقب من وراء زجاج عازل سميك حسب كلماته يذكره من حيث مأساويته برواية (وليمة لأعشاب البحر) الشهيرة لحيدر حيدر. يعود خلدون شمعة إلى التغيير موضوعة الخطيب ويضيف:
غير أن المهجر أو المنفى يظل إطارا لموضوعة التغيير هذه، فهو أي الخطيب مازال يعود بنا القهقرى، وكأنه يحمل مضرب بومرنغ الخشبي كما يفعل سكان استراليا الأصليين الذين يستعملونه لضرب هدف ما، فإذا المضرب يرتد عائدا.. وهكذا ترتد الأحداث إلى ما جرى حقا في عام 1963 إلى تلك الليلة الانقلابية كما تتجلى في البيت العراقي، إلى تلك الليلة االبغدادية الطويلة الحافلة بمفاجآت كأنها على حد قوله تمثل التاريخ بدهوره …
بل هكذا تصبح السياسة حياة والحياة سياسة… بينما تكشف الضغوط السياسية والمخابراتية والنفسية في روايات الخطيب عن مدى قدرة الأخلاق والقيم المحلية العراقية على الصمود في اختبارات الغربة حسب تقدير الناقد، الذي تعمد عدم الخوض في تفاصيل روايات الخطيب وتجربته الأدبية فهي موضوع الروائي الضيف في الأمسية، وقدم بدلا عن ذلك نبذة بيوغرافية قصيرة عن الروائي مر فيها على تأريخ ومكان ميلاده ودراسته وقصته (الشرف) التي دفعته وراء القضبان. ثم فسح الناقد للجمهور المجال لفترة إصغاء طويلة للروائي الخطيب الجالس جواره على كرسي الاعتراف، لم يشك الناقد في أن تكون ممتعة.
ينبغي الإشارة هنا إلى أن الخطيب نشر بعد هذه الأمسية بأيام عمودا في صحيفة لندنية استذكر فيه طرفة حدثت له مع زميله الروائي غائب طعمة فرمان في مدينة بحرية ومما جاء فيها قول برهان لغائب : أنت تتصور الحقيقة الآن إبداعا مني وقبل هذا تصورت إبداعي حقائق من حياتي فماذا يقول هذا عندك؟ همّ غائب في العودة إلى غرفة الفندق وهو يتهرب من رد مناسب: يقول أنت الخسران على كل حال لأن غرفتنا مطلة على قاعة رقص وهم يتدربون فيها منذ عودتي حتى الآن.. تعال تفرج بلاش.. فأكد برهان: بل يقول إن رواياتي جيدة حد إقناعك بحياتيتها وسردي العادي فنيا حد قبوله قطعة إبداعية وإنك قارئ ذو مخيلة.
يبدو لي الآن أن برهان نشر هذا العمود ردا على ملاحظة الناقد خلدون شمعة حول تعريفه العابر له في نهاية كلمته بنادي الكوفة بكونه كاتب السيرة الذاتية، على كل حال تحدث برهان الخطيب عن تجربته الروائية في تحليق عريض فوق رحاب التاريخ والحاضر بكلمة، نشرتها صحيفة الزمان مؤخرا، مرت في نفس الوقت على بعض المحطات المهمة في إبداعه المتميز. ورغم وفرة التفاصيل فيها وسعة الأفكار ظلت هناك برأيي كما لاحظت بشأن موضوع السيرة الذاتية بعض المناطق فيها مكتنفة بظلال، فسعيت بعد نهاية الأمسية في جلسة خاصة مع الخطيب وبعض الأصدقاء والزملاء في مشرب (شكسبير ) المقابل لنادي الكوفة إلى تسليط الضوء عليها بطرح هذه الأسئلة الثقافية والسياسية على الروائي التي استكمل الإجابة عليها لاحقا في حديقة بيتي بجادة هايغافة في تمهل وإمعان وفنجان القهوة في يده. وكانت الحصيلة بيننا هذه الأسئلة والأجوبة ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقدمة الحوار الذي أجرته السيدة شهرزاد مع برهان الخطيب في صحيفة (القدس العربي) اللندنية مارس عام 2004.. الحوار يتبع..