الفتاة البشعة – لقاء في حديقة ريتشموند لندن
من رواية “مَا وَرَاءَ الأُفُقِ الأزْرَق”
بقلم الكاتب مولود بن زادي
(الجزء الثاني)

الفتاة البشعة – لقاء في حديقة ريتشموند لندن
من رواية “مَا وَرَاءَ الأُفُقِ الأزْرَق”

بقلم الكاتب مولود بن زادي
الجزء الثاني:

ما كنتُ أعلم أنّ حبَّ الأوطان همسةٌ تلامس إحساسي، وتداعب أنفاسي، وتراقص نبضات قلبي، لا يشعر بها إلا من عاش في ديار الغربة مثلي!
ولا كنتُ أعلم أن الحنينَ إلى الأوطان داءٌ يسري في شراييني، فيعبث بكياني، ويمزّق خاطري، ويحطّم مشاعري، مدى العمر!…
ها قد أصغيت إلى نصيحتك، يا صديقتي يا وفاء، فكتبتُ هذا الفصل الجديد من روايتي، وقد وقعت أحداثه في إحدى أكبر الحدائق في مدينة لندن:
“سرتُ في حديقة ريتشموند في لندن أستمتع بمناظرها الجميلة، ونسائمها العليلة ، وهدوئها العجيب الذي لم تكن تقطعه في واقع الأمر إلاّ أصوات الطيور المعشّشة في الأشجار الباسقة المنتشرة في أرجائها، أو العصافير المغرّدة المحلّقة عاليا في سمائها.
كانت السماء في ذلك اليوم من أيام فصل الربيع صافية، تتناثر منها أشعة الشمس البنفسجية، فتمتزج خيوطها الذهبية بألوان الحديقة الزاهية، فترسم في فضائها الرحب أروع لوحة زيتية.
مشاهد من أجمل ما رأت عيني، لم يعكّر صفوها إلا مشهد فتاةٍ، بدت من أصول عربية، في أواخر العشرينات من عمرها. رأيتها جالسة على كرسي خشبي مطأطئة الرأس، كاسفة البال، قلقة الخاطر، كمَنْ تحمل في نفسها هموم الدنيا بأسرها.
دنوتُ منها وألقيتُ عليها التحية، فرحّبت بي ودعتني إلى مجالستها. فرحنا نتجاذب أطراف الحديث. وفي أثناء ذلك، حدّثتها عن نفسي وعملي وشغفي بالبحث والكتابة. فأبدت إعجابها بمجالسة كاتب لأول مرَّة في حياتها. كانت تحدّثني بصوت ينِمُّ عن شجا عميق في صدرها، مما لفت انتباهي وأثار فضولي.
ترددتُ قليلاً ثمّ سألتها ما إذا كان قد أصابها شيء أزعجها، وعكّر مزاجها. وإذا بها تفضي إليّ بأسرار حياتها.
قالت مطأطئة الرأس: إنَّه قدري الذي رمى بي إلى هذه الدنيا، لا أرى فيها غير الظلم والظلام، ولا ألقى فيها غير الشقاء والآلام.
قلتُ: آسف، آسف! آسف لسماع ذلك! وما الذي جرى في الدنيا فألحق بك هذا الألم والتشاؤم، لعلي أعينك ولو بالنصح؟
رفعت بصرها قليلاً فنظرت إليّ نظرة حزينة ثم أطرقت ولم تنبس. فقلتُ لها باسماً محاولاً التخفيف من تلك الأجواء الكئيبة التي ألمّت بمحادثتنا: من يدري! قد أكتب عن تجربتك هذه يوما، فتستفيد منها الجماهير والأجيال القادمة! ألا ترغبين في لعب دور البطلة في إحدى القصص؟ وإن شئت كتبتُ عنك دون الإشارة إلى اسمك. فما قولك في ذلك؟!
وأطرقت الفتاة الحزينة بصرها ولم تنبس ببنت شفة، فسألتها باسماً محاولا استدراجها إلى الحديث: أنا بالمناسبة لم أتشرف بمعرفة اسمك الكريم…
فردت في صوت كئيب: أي واحد منهما تريد أن تعرف؟
فقلتُ مستغربا: وهل لديك أكثر من اسم؟!
فهزّت رأسها قليلا دون أن تلتفت نحوي: أجل. اسم دعاني به والديّ بعد ولادتي، واسم دعاني به المجتمع فيما بعد…
قلتُ: أخبريني بما شئتِ.
قالت: الأول هو “رزيقة” اختارته لي والدتي تخليدا لاسم والدتها رحمها الله. أما الثاني فهو “مزعوقة”…
قلت متعجّبا: “مزعوقة”! أي صنف من الألقاب هذا!
قالت: إنَّه اسم على مسمى اختاره لي البشر لأنّي قبيحة المنظر مثلما ترى.
وإذا بفضولي يحثّني على النظر إليها لأتبيّن ما كانت تقول. فالتفتت نحوها وفحصت ملامحها أكثر من أي لحظة أمضيتُ رفقتها. وإذا بها شعثاء، مبدانة، مبطانة، غليظة الكتفين، جاحظة العينين، يكسو شعر خفيف ذقنها وخديها… فقلتُ في سرّي الحق أنّ المسكينة لم تكن مخطئة عندما قالت إنَّه اسم على مسمى!…

(تتبع.. ترقبوا الجزء الموالي الخميس المقبل)

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *