حدث و ذاكرة .. قول رأي
المسرح إنموذجاً
في منتصف التسعينيات، تحديدا في عام 1996 وضمن مهرجان منتدى المسرح التجريبي في بغداد، الذي أسسه وساهم في دعمهِ وبلورته مجموعة من أسماء لامعة وهي بالتأكيد قامات فنية مهمة في مسيرة المسرح العراقي وغنية عن التعريف حيث أسهمت في صناعة مسرح عراقي متقدم وناضج.
أتذكر اثناء آحدى الجلسات النقدية المصاحبة للعروض تحدث الفنان الراحل قاسم محمد، هذه القامة الكبيرة، العارفة بأسرار المهنة، الواعية لأهميتها وتأثيرها في تربية الأجيال وتهذيب الذائقة الخاصة والعامة في دور المسرح والشباب، لاسيما أن ذلك المهرجان كان مختصا بالمشاريع المسرحية الشبابية
الواعدة والذي انطلق في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وبعد أسترسال وأستطراد أثارة نقطة جوهرية ما زالت عالقة في ذهني الى الان وقد تكون نقطة خلافية لبعض المسرحيين العراقيين!
حينها لم أدرك مضمونها جيداً بحكم الخبرة، والتراكم العملي المسرحي وهي:
” ان المسرح العراقي بغض النظر عن منجزه وتاريخه والاسماء التي عملت وتعمل فيه للأسف الشديد بُنيت أركانه على المجاملات”
بعد أكثر من عقدين من الزمن وعلى الرغم من اغترابي وبعدي إلا اني قريب وعارف بشكل جيد كيف تسير الأمور في المسرح العراقي و ما هي معطيات المشهد فيه.
لهذا أقول، اذا كانت أركانه بُنيت على المجالات سابقا على حدّ قول استاذنا الراحل قاسم محمد،
فهو الان تسيّره منظومة علاقات متشعبة، وغريبة في مضامينها يتحكم فيها أفراد وإن كانوا أسماءً
مهمه الا انهم تسيرهم أمزجة شخصية، وأمزجة متقلبة وفق لعبة المصالح والعلاقات ، وهم في ذلك يبتعدون عن ثوابت العمل الإبداعي، الاحترافي الرصين لا سيما هذه المعطيات كانت حاضرة ومازالت في
اروقة الإدارات التي تعاقبت على قيادة وصناعة القرار الإبداعي المسرحي في بغداد والعراق بشكل عام.
هذا الحال ليس حبيسا وحكرا على سياسة المسرح في العراق فحسب، انما يكاد ان يكون صفة عامة حيث كذلك الحال نجدها في المسرح العربي! هذا الأخير له منظومات هائلة من العلاقات المتشابكة والأشد تعقيداً والمتمثلة في تقديم وتفضيل شخص على آخر وفق قياسات غريبة ، وفتح باب لهذا
الفنان، وغلق باب بوجه فنان اخر، وهناك طبخات خاصة حيث يتم انضاج وتسهيل مشروع هذا
الفنان لحسابات خاصة، وأبعاد وأقصاء مشروع فنان اخر بحسابات شخصية أخرى .. الخ
ان تكريس وجوه معينة بمنجزها ولونها وتنقلها غير الطبيعي وغير المنطقي خارح عن معايير الإبداع وقياسات المهنية هذا هو حال المهرجانات العربية الذي لم اجد له سابقة في تاريخ الشعوب ولم اسمع بشيء من هذا القبيل على مستوى المهرجانات الأوربية ذات التاريخ العريق.. كل هذا يحصل
لاعتبارات في كثير من الأحيان تكون شخصية لا أكثر.
لا أعرف متى سينتبه رؤساء، ومدراء، وأصحاب القرار في المسرح العراقي والعربي لهذا المفصل
المهم، ويتركوا المجاملات تلك المبنية وفق المصالح الفردية والمزاجية المقيتة؟ متى يحتكمون
للمضمون المتميز واللون الابداعي الجديد الذي يجب أن يكون ويتحقق؟
ان التاريخ يسجل والزمن يجري ويجلب معه دماء جديدة، افكار جديدة، وطرق وأشتغالات مختلفة ومغايرة تضيف وتحقق التواصل الإيجابي مع الاسماء الرائدة ذات التاريخ الطويل بالعطاء الثري
والمنجزالإبداعي الأصيل، حيث الجودة هي الاساس وهي المعيار الحقيقي في التعامل والتبادل
الثقافي الاحترافي عالي المستوى.
هذا الرأي قد يفسّره البعض من الأصدقاء والأساتذة أو من بعض أولئك الذين يمتلكون سلطة القرار في الوسط المسرحي العراقي و العربي على حدٍ سواء على أنه رأي غير دقيق! وقد يعتبره البعض موقف فردي لا صحة له ولا ينتمي للواقع المسرحي بشيء .. لكن من يتصفح صفحات التاريخ ويضع
الأمور في نصابها الصحيح، ويقلب ألبومات صور االمهرجانات العربية، تحديدا المهمة منها سوف يرى بوضوح حيث الشخصيات نفسها كانت وما زالت تجسد الإدوار الرئيسية بلا منازع أو مناصفة كونها حريصة
على تسجيل الحضور وعدم الغياب كي لا تفقد بريقها ونقاطها المعتادة، علماً أنها ليست الأفضل ضمن معايير الفن الإبداعي والتفوق او التميّز كأنها تريد ان تكون هكذا دائما وابدا تختزل وجوه وتمحو
أسماء وتمتصّ طاقات آخرى.
على الجميع ان يعرف ويعي ان هناك أسماء وطاقات لديها الكثير لتعطيه، هذه الطاقات تتنفس هواءً نقيا، البعض منها بعيد، والبعض الآخر قريب يحاول ويسعى ان يكون خارج لعبة الأمزجة وصراعها
على النفوذ في الفضاء المسرحي العراقي والعربي على حدٍ سواء.
كفى .. من المزاجية والمجاملات المجانية والعلاقات الذاتية الضيقة، البعيدة كل البعد عن المعاييرالمهنية والاحترافية عالية المستوى ..
اخيرا أقول، في الحقيقة أتمنى من كل قلبي و أمل أن تتلاشى هذه الصفات الآنفة الذكر لنصل بالمسرح العربي الى مستوى الطموح والرغبات، وهذا ليس بالأمر المستحيل، والسبب وببساطة شديدة ليس هناك مستحيل لطالما هناك عقل يفكر، ينجز .. وقلب ينبض …
حسن خيون
مسرحي عراقي
بلجيكا