عبد الستار ناصر :
لعبة الجنس والموت والجنون
حسين سرمك حسن
(إن الشعراء والروائيين حلفاء موثوقون وينبغي أن تثمن شهاداتهم عاليا، لأنهم يعرفون أشياء كثيرة ما بين السماء والأرض ليس بمقدور حكمتنا المدرسية بعد أن تحلم بها. إنهم أساتذتنا في معرفة النفس، نحن الناس العاديين، لأنهم ينهلون من ينابيع لم نجعلها في متناول العلم بعد )
( سجموند فرويد )
( مازلت عند الرأي الذي قلته سابقا في (بيروت المساء) : هذا القاص يجب أن يُقرأ ، وباهتمام شديد . ولن أكون مبالغة جدا لو قلت : إنه بعد يوسف إدريس وزكريا تامر ، هناك ثالث ينافسهما بشكل خطير ومفاجىء : عبد الستار ناصر . أقول هذا الرأي بمسؤولية كبيرة ، وبقناعة شبه جازمة بأن هذا القاص(واعد) بما يكفي لكي يهز عرش الكبيرين : المصري يوسف إدريس الذي تحول نحو المسرح والأفكار “المكررة” في قصص فقدت بعض بريقها ، والسوري زكريا تامر الذي يبدو أنه أفلس – ولو مؤقتا – من إمكانية عطاء خلّاق في فن القصة فتحول نحو “القصة الشعرية” وهذا بظني : أردأ تحوّل .. عبد الستار ناصر هو غير الإثنين معا : يملك من إدريس عنف الأحاسيس ودقة تصويرها ، ويملك من تامر الإيجاز المشبع لغة وصورا وحركة ، ويملك شيئا مميزا عن الإثنين معا : وهو هذا النبض الشاب الحار الذي مازال يؤمن أن فن القصة سيف حاد وقادر على التغيير ، مازال متمسكا ، وربما لصغر سنه وتجربته ، بالمبدأ القائل إن الفن للحياة ، ولأنه للحياة فيجب أن يشمل كل زواياها .. هذا الفنان يجب أن يُقرأ وباهتمام زائد .. فهو يعد بمنافسة جادة لكل التيارات الفنية المطروحة على بساط القصة القصيرة في الوطن العربي ) .
الناقدة
( ليلى الحر )
«مقدمة»
لقد عمل القاص «عبد الستّار ناصر» في مجال الإبداع القصصي أكثر من أربعين عاماً، ولازال – إلى يومنا هذا – يعمل بمثابرة وعزم مدهشين ، وبإيمان راسخ بمسوؤليته الإبداعية في التعبير الصادق المخلص عن هموم الإنسان. وقد انشغل القاص عبر سنوات إبداعه الطويلة بمعالجة مختلف جوانب الحياة الإنسانية ، ولكنه انهمّ بإصرار وثبات بجانبا حسّاس وشائك من جوانبها ، وهو المتعلّق بموضوعة (الجنس) بشكل عام ، و(العقدة الأوديبية) بصورة خاصّة ، بجسارة وجرأة تثير الإعجاب ، في مجتمع تقوم الحياة النفسيّة والاجتماعية فيه على الكبت والقمع والمداهنات المنافقة .
وقد ظل الكثير من القراء ، وحتى النقّاد ، يصفون الراحل المبدع الكبير ” نزار قباني ” بأنه ” شاعر المرأة ” وأحيانا ” شاعر المراهقات ” معبّرين عن سوء فهم فادح للدور ” النهضوي ” الهائل الذي قام به هذا المبدع الذي دعا بثبات وعزم وفنية عالية إلى تحرير الجسد واحترام كرامته ، ومن المعروف أن تحرير الجسد كان من الركائز الرئيسية التي قامت عليها الحداثة الأوربية ، بالإضافة إلى تحرير العقل وفصل الدين عن الدولة وغيرها . ومن وجهة نظر شخصية أستطيع القول إننا يمكن أن ننظر للمسؤولية الإبداعية لعبد الستار ناصر من هذا الإطار في حدود المجتمع العراقي رغم الفوارق المعروفة طبعا .
وقد وجدتُ أنّ هذا القاص – وإنتاجه الإبداعي – لم يُدرس بصورة متأنية وشاملة. ولأنني حزت شرف إدخال منهج تحليلنفسي ( لغوي / كلّي) بصورته العلمية في مجال النقد الأدبي في العراق ، فقد قمت بوضع هذا الكتاب ليكون الكتاب الأول في الأدب العراقي الذي يخصص لدراسة أعمال كاتب واحد في معالجة تحليلية نفسيّة شاملة ، ودراسة المنجز الإبداعي لعبد الستار ناصر تحديدا . وهي محاولة متواضعة لإنصاف واحد من المبدعين العراقيين – بل والعرب – البارزين في ساحة ثقافية يحكمها منطق «مغنيّة الحي لا تُطرب».
لقد أنجزت هذه الدراسة في ضوء تحليل مجموعة كبيرة من آثار الكاتب وهي :
أ) المجموعات القصصيّة:
1- الرغبة في وقت متأخر – بغداد – 1968.
2- فوق الجسد البارد – بغداد – 1969.
3- طائر الحقيقة – بغداد – 1974.
4- مرّة واحدة وإلى الأبد = بغداد – 1979.
5- الحب رمياً بالرصاص – القاهرة – 1985.
6- مطر تحت الشمس – القاهرة – 1986.
7- لا عشاء بعد الليلة – القاهرة – 1987.
8- نساء من مطر – بغداد – 1987.
9- السفر إلى الحب – بغداد – 1988.
10- امرأة في البريد – بغداد 1990.
11- شمبارة الميمونة – بغداد 1993.
12- بقية ليل – بغداد 1996.
ب) رواية (تلك الشمس كنت أحبّها) – بغداد – 1971.
ج) قصص قصيرة متفرقة:
1- الذي ينام مبكراً – مجلة الأقلام العراقية – العدد (10/11/12) – 1994.
2- مقهى (حسن عجمي) – مجلة الأقلام العراقية – العدد (1/11/12) – 1995.
3- مكتب الإنسان – مجلة الأقلام العراقية – العدد (5 – 7) – 1996.
4- مذكرات مالك الحزين – مجلة الأقلام العراقية – العدد (4) – 1998.
5- بئر في غابة – مجلة (ألف باء) العراقية.
6- المفتاح – جريدة (العرب) اللندنية – 21/1/1999.
د) محاضرة بعنوان «ماذا فعل أبي (ناصر جدّوع) في قصصي وحياتي؟» تاريخ كتابتها (22/1/1993-ليلاً).
هـ) لقاءات صحفية:
1- جريدة (الزوراء) العراقية – 11/3/1999.
2- جريدة (المصور العربي) العراقية – 21/3/1999.
و) مقالات:
1- كلمة لا تستحق القراءة – جريدة (الثورة) العراقية…
2- شهادة حب في زمن الحقد (البلاد التي كانت) – جريدة (العرب) اللندنية – 13/1/1999.
ز) لقاء إذاعي في برنامج (حوار بلا أسوار) – إذاعة بغداد – 1998.
ح) قصة طويلة للأطفال (كوكب زامراون) – بغداد – 1994.
وسيشتمل الفصل الأخير من الكتاب على مجموعة من المقالات عن الكتب التي صدرت للكاتب بين عامي 2007 و2010 .
وقد أجريت لقاءات شخصية مباشرة كثيرة مع القاص ، الذي تحمّل بصبر وتسامح ، فضولي النقدي الذي طال أدق خصوصياته من أجل تقديم مساهمة نقدية متواضعة تخدم حركة الإبداع العراقي.
وقد أنجزت الفصول الأربعة الأولى من هذا الكتاب في بغداد المحروسة في عام 1999 ، وتعطل نشره لأسباب قاهرة . وقد أكملت الفصل الخامس في دمشق في عام 2010 عن بعض أعمال الكاتب التي صدرت بعد عام 2007 ، وهي تتسق من ناحية مضامينها وبنيتها مع استنتاجاتنا في الفصول الأربعة الأولى .
وذات مرة كتبت مقالة قصيرة حملت رأيا طريفا عن عبد الستار ناصر قلت فيه إن أدب عبد الستار ناصر ، هو أدب علاجي نفسي ، بحيث – ولو في هذا مبالغة نسبيا – يمكنني القول إن باستطاعة الطبيب النفسي أن يصف لمريضه المعصوب : قصة لعبد الستار ناصر ، ثلاث مرّات يوميا ..
والله من وراء القصد.
حسين …
«المحتويات»
رقم الصفحة الموضوع
——- ——-
مقدّمة
الفصل الأول : البدايات.. فوضى العدوان الباهرة.
الفصل الثاني: المومس الفاضلة
الفصل الثالث: العصابية الخلّاقة ..
الفصل الرابع : كيف تكتب قصّة ؟
الفصل الخامس: أكتب لكي لا أموت …
الفصل الأول :
البدايات: فوضى العدوان الباهرة
«لا يمكن أن يكون بسبيل الصدفة أنّ ثلاثة من روائع الأعمال الأدبيّة في كل العصور – أعني «أوديب الملك» لـ«سوفوكل» و«هملت» لـ«شكسبير»، و«الأخوة كارامازوف» لـ«دستويفسكي» – قد تناولت موضوعاً واحداً هو قتل الأب، وأكثر من هذا فإنّ الدافع إلى العمل، متمثلاً في التنافس الجنسي على امرأة واضح في الأعمال الثلاثة».
«سمجوند فرويد»
على الغلاف الأخير من أول مجموعة قصصّية أصدرها القاص «عبد الستار ناصر» كتب معرّفاً بذاته وسيرته الشخصية مايأتي:
– عاش طفولته وبعض شبابه في أزقة «الطاطران» ، ومن تلك الدروب تعلّم كيف يسرق الحُب.
– لم يزل عازباً ، ومن هنا بدأت عيونه تبحث في كل بيت عن قصّة يلامسها في الليل.
– ما تحسّه في القصّة التي يكتبها لا تجعل له أكثر من وجه واحد (غير الوجه الذي تلّمسته الأصابع).
– لم يمت بعد.. وكان من مواليد (1946).
وبعد هذه المجموعة «الرغبة في وقت متأخر» ، أصدر القاص ، وفي العام نفسه 1969 ، مجموعة قصصية ثانية هي «فوق الجسد البارد» ، لتشكلا أول مجموعتين له ، وهو يضع قدميه على طريق الإبداع الطويل المضني، وقد حملت هاتان المجموعتان الشيء الكثير من حماسة واحتدام البدايات التي تأتي عادة صادقة من ناحية التعبير عن مكنونات اللاّشعور ، والدافع العميقة للقاص ، رغم ارتباكها الفنّي بفعل ذلك الاحتدام وتلك الحماسة. ويأتي صدق البدايات بفعل تظافر عوامل عديدة من بين أهمها هو التظافر الجزئي الذي نادراً ما يحصل – تحت ظل هذه الحماسة – بين دوافع الأنا من جهة ، ودوافع (الهو) اللاّ شعورية من جهة أخرى. حيث يندفع (الأنا) بقوّة لتحقيق هدفه المنطقي والمشروع في تحقيق الذات ، وتأكيد إمكانياتها ، وبناء المكانة الاجتماعيّة ، معززاً بطاقة (الهو) الذي يحاول تمرير أهدافه وتحقيق رغباته الجائعة والباحثة عن الإشباع مستثمراً (غفلة) الأنا ، وانتقال بؤرة انتباهه نحو الخارج ، ومستخدماً إياه كاسحة ألغامٍ أحياناً تنظف أمامه أرض الشعور من المقاومات وحواجز الرقابة والكبت.
وإذا حاولنا إقامة انطباعات (تحليلية) سريعة تقوم على أساس الإمساك ببعض إشارات الشكل والسطح الظاهر للبطانة الشخصيّة التي كتبها على خلاف أول مجموعة له ، واعتبرناها مؤشرات أوليّة وبسيطة تشبه الطريقة التي يقدم بها زبون العيادة نفسه في المقابلة النفسيّة (طريقة كلامه، ترابطه، استعاراته، زلاّت لسانه، نبرة صوته..إلخ). فإننا نستطيع تثبيت الانطباعات المتردّدة الآتية:-
– التأكيد على أنّه تعلم أهم الأشياء في الحياة (الحُب) من طفولته التي عاشها في (الطاطران) – من محلات (بغداد) الشعبيّة حيث النماذج الإنسانية المزحومة بالتناقضات والبؤس – يعني الأهمية الحاسمة لتلك الطفولة ، وقد يعني (التثبيت – fixation ) النفسي على مرحلة أو أكثر منها.
– ذكر (العزوبية) في بداية الملاحظة الثانية وكأنها (امتياز) بما يعنيه من تحرّر وعدم ارتباط رسمي بامرأة محدّدة بعد أن تعلم كيف يسرق الحُب ، والبحث عن (أسرار الليل) ، يعني الاهتمام بموضوع الجنس وبشكل خاص دوافع النفس الجنسيّة المحرّمة المحمّلة بآثام اللاشعور السود ، وفي مقدمتها الدوافع الأوديبية.
– إن العيون التي تبحث في كل بيت عن أسرار قصص الليل تعكس سمة تبصصيّة (استراقية) ، فعلية بصرية ، أو ” ذهنية ” شديدة التغييب.
– إنّ ما (يعرضه) في هذه الملاحظات أمام القرّاء (النظّارة) من أسرار شخصية – ومن دون دعوة – ولغة (العرض) الجميلة تعكس سمة (استعرائية) أو استرعائية قويّة.
– وارتباطاً بالسمات السابقة وطريقة عرضها المضخمة المنتفخة ، نستطيع القول بوجود دوافع (نرجسيّة) أو الحاجة إلى إمدادات نرجسية معزِّزة والتي تدعّم من خلال التأكيد على أنه – أي القاص – (لم يمت بعد.. وكان من مواليد 1946). و(قد) تعكس هذه العبارة (لم يمت بعد…) قلقاً مستتراً من الموت (مكافئا للخصاء).. وهو الأمر الذي تصب في مجراه إشارة أخرى تتعلق بالتأكيد على الوجه المضاف ، والوجه الذي يُلمس بالأصابع.
– إنّ سرقة الحُب والبحث في كل بيت تحت أستار الليل وأسراره ، وما يعنيه (تبصّص) العازب في الليل يعكس أبعاداً عدوانية (سادية) ، إختراق (المجال الشخصي ) لـ ” آخر ” ، وهذا الإختراق هو جوهر كل فعل إبداعي .
– تتأكد الأبعاد العدوانية هذه من خلال قلب تسلسل (عرض) البطاقة الشخصية التي اعتاد – المبدعون الذين يقومون بها على البدء بتثبيت تاريخ ميلادهم – وهذا القلب يتضمن قدراً من فعل يهدف (تهديد) المتلقي بشكل وحجم (المعروض).
– في أحشاء هذه الحوافز السادية والعدوان تتململ دوافع (مازوخية) تتمثل في الفعل المجاني الساعي إلى كشف الأستار عن أكثر ملامح الذات خصوصيّة، والاستقبال المنفعل لعيون الآخر (الباحثة المتبصصة) كفعل معاكس .
إن العمل التحليلي النقدي يقوم على أساس تراكم القرائن المكتشفة مع غوص المحلل في أعماق النفس وكونها تصب في مجرى الظاهرة المراد إثباتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، واضعين في حسابنا حقيقة أن الدافع ذاته قد يتمظهر في تعبير فائض عنه أو في نقيضه من جهة أخرى ، وأنّ السبب الواحد قد يوصلنا إلى نتائج / ظواهر مختلفة في السلوك الإنساني وبالعكس ؛ أي أنّ الظاهرة الواحدة قد تكون جذورها غائصة في تربة عوامل مختلفة من النفس الإنسانية من جهة أخرى، ولا يوجد – لتوكيد انطباعاتنا المترددة عن بطاقة القاص الشخصية أو نفيها – أفضل من أقواله – نصوصه المبكرة / سلوكه السردي ، التي ضمتها مجموعتاه المبكرتان: «الرغبة في وقت متأخر» و«فوق الجسد البارد» ، وسنحاول التوقف ، تحليلياً ، عند بعض نصوصهما لغرض استكشاف خصائص الفعل الإبداعي للقاص في تلك المرحلة المبكرة من سيرته الإبداعية :-
1- قصّة (الموت يبدأ في الظهيرة) من مجموعة (فوق الجسد البارد):-
يوظف القاص هنا – وبصورة مبكرة – المركّب الأوديبي مع تغيير مهم في زاوية النظر إلى الأدوار وفعل الإرادات، فإذا كان (أوديب) قد قتل أباه وتزوج من أمّه دون أن (يعي) فعلته ، وألقى (سوفوكل) – المؤمن – المسؤولية على كتف الأقدار – ولو كان الأمر بيد (بوربيدس) – الملحد – لرمى الأمر على عاتق الآلهة مباشرة – فإنّ بطل (عبد الستار ناصر) يقدم على فعله الآثم عن سبق إصرار وتصميم.
وبطل القصة وراويها – فالأغلبية المطلقة من قصص هاتين المجموعتين مروية بضمير المتكلم ، وهو ما أوصى به القاص في نصّه الذي تناولناه في الفصل الأول : (كيف تكتب قصة) ، وحتى في القصتين اللتين حكاهما بضمير الغائب ، فإن شخص القاص يبرز من وراء ستار شفاف ، ويشعرك بوجوده بطرق مختلفة.
ويقدم القاص موجزاً لموضوع قصته في استهلالها دون أن يفسد ذلك حبكتها ، أو تسلسل أحداثها – وهو ما دأب عليه حتى الآن – حيث يقول الراوي:
«عرفت ذات ليلة جميلة أنّ وفاة أبي خطأ ، وأنّ ما يدور في منـزلنا مجرد أكذوبة بدأت بها أنا واستمر الآخرون يقولونها دونما اعتبار» .
وسنلاحظ من هنا أنّ من مظاهر أسلوب عبد الستار ، التي ستبقى ملازمة له ، هي هذه المزاوجة بين مظاهر ودوافع الموت والحياة كما أشرت سابقا – يعرف موت أبيه في ليلة جميلة – والمعبر عنها من خلال المفردات (السلبية والإيجابية) للتعبير عن الظاهرة الواحدة. ورغم أنّ هذا الأمر ليس غريباً على اللغة الشعرية – بل هو في صلبها – إلاّ أن الدافع الأساسي لدى القاص في هذا الاستخدام هو دافع نفسي وليس شعرياً فحسب ، فهو تعبير عن «التضاد العاطفي» الذي سيطر على الواقع النفسي لأبطاله.
ثم يتحدث الراوي عن أنّ أباه مصاب بضيق حاد في صدره ، ورغم نصائح الطبيب بأنّ خير وسيلة لشفائه هي رحلة طويلة إلى خارج العراق إلاّ أن أباه – وإن لم يكن بخيلاً – رفض هذا الحل ، لأنه لا يريد ترك زوجته (مريم) ، التي تزوجها قبل أيام ، والتي تحمل (في صدرها دسامة المرأة في كامل نضجها)..
وفي غمرة حماسة القاص لقصته وشخوصه ، وهو أمر سيستمر – من جديد – طويلاً ، ينسى بعض التفصيلات المرتبطة بتسلسل أحداث قصته:-
فإذا كان والده يعاني من ضيق التنفس منذ مدة ، وأنّ طيبيه العجوز قد نصحه بالسفر ، فكيف كان السبب الرئيسي لرفضه السفر هو عدم قدرته على ترك زوجته الثانية الشابة وقد تزوجها قبل أيام ؟..
والراوي يُسقط دوافعه الشبقيّة الآثمة ، منذ البداية ، على أبيه ، بعد أن يمهد لنا ، ولنفسه ، الطريق للتصورات المقبلة ، فيشير إلى أنّه كان في مثل شباب (مريم) ، ويؤكد ، (بين قوسين) ، أنّ عمره (21سنة)، وهذا التأكيد المضاف ظاهره الدّقة ولكن باطنه الدافع الأوديبي الساعي لإثبات فتوّته وأنّ أهليته (لمريم) هي أكثر من أهلية أبيه (العجوز) رغم أنّ (مريم) – كما يقول – تصغر أباه بعشرين عاماً فيكون عمر أبيه (41) عاماً أي أنه في ذروة شبابه. فكيف أنسى الحماس الأوديبي القاص هذه الحقيقة الحسابية ؟
ثم يبدأ الراوي بإسقاط دوافعه الآثمة ذات اليمين، وذات الشمال، فيقول:
«رغم أن أبي لا يعشق في الدار غيري إلاّ أنه يخاف الشيطان»..
ثم يلصق بعض دوافعه بزوجة أبيه ، فيقول إنها كانت تلح عليه للسفر ، وإنه – أي الراوي – كان يقول لها بأن تدعه وشأنه ، ولكن :
«كان جوابها يتحدد بالعيون ، تحركها في خباثة كأنها تريد أن تقول شيئاً خاصاً غير مسموح به ، وتركتها فليس هذا ما أسميّه بالشرف».
ولو انتبهنا إلى حدّة المفردة التي استخدمها لوصف تعلّق أبيه به «أبي لا يعشق غيري» ، وكان من المتوقع أن يقول «لا يحب» مثلاً ، لاتضح لنا أنّ جملة : «كنت أنا في مثل شبابها» تعكس قدراً من الغيرة من الأب ، وفي نفس الوقت ، تعكس قدراً من الموقف الذكوري السلبي من الأب، ومن الواضح أن لا حاجة للتأكيد المضاف على أن الحكاية تقص بضير المتكلم (الأنا) بعد أن تحدث الراوي بصيغة المتكلم (كنتُ) ولكنها صيغة تتعاون فيها الحفزات النرجسيّة مع دوافع التبرير لتخفيف الشعور بالذنب، وسنلاحظ الكثير جداً من التأكيدات – التي تصل أحياناً حدّ التفاصيل المملّة – في قصص الكاتب وهي تتراوح بين الدافعين السابقين.
وبعد أن يعاود الضيق صدر الأب ، ويسافر ، ينسى الابن – في الليلة ذاتها – الشرف الذي تحدث عنه قبل قليل ، ويدخل في علاقة محرّمة مع (مريم) ، ويطرح الأمر أمام أعيننا ، بكل سهولة فيقول ، حين تدعوه الأخيرة إلى غرفتها:
«كنت أقول أنها فرصة».
وبعد أن يرتكب الإثم ، ويقطف الثمرة المحرّمة يقول:
«إنّ الحب يولد الغازات»..
ومن هذه البداية ، وحتى الآن ، نجد أنّ القاص هو من بين الكتّاب القلائل الذين استخدموا إفرازات المرحلة الإخراجية ، للتعبير عن العدوان – فهل يوجد وصف أكثر عدوانية من «أن الحب يولد الغازات».. إنه تسفيه لكل انتصار أوديبي في الظاهر ، ولكنه في حقيقته مسخ لظفر الأب السابق ، واستثارة لمشاعر الابن السادومازوخية المركبة.. فحين يعود إلى غرفة (مريم) يجد أن :
«قامتها تعرّجت بينما تأوه صدرها كالقربة المخرومة!!».
إنّ أقصى انتشاء يعيشه أبطال القاص يجعل انفعالهم ينطق بلغة (الهو) الممزوجة بأغطية العقلنة الأنوية حيث الشتيمة إعجاب..
ويعود القاص إلى الأوصاف التفصيلية الغريبة ، فيشير إلى أنّ (مريم) دعته إلى الفراش بعد أن انفردت ثلاثة من أصابعها الخمسة.. وبطبيعة الحال ، لا ضير إذا انفردت أربعة أصابع أو أصبعان من أصابعها.. ولكنه لعب (الهو) الحر.. والحفزات النرجسية المضخمة ، ومحاولة إبراز القدرة على (الاستعراض) الغريب الذي يثير دهشة القارئ وقد يتعبه أحياناً.. مع هذه الدعوة تقول له (مريم):
«تعال أيها الجاهل السخيف»..
ومن هنا ، تبدأ وتمتد الشتائم الكثيرة والمتكررة التي توجه إلى شخص الراوي ، وإلى بقية شخوص القصة . وهي شتائم تعكس عدواناً متجذراً يطلقه أبطاله في كل اتجاه ، ولكنهم يستقبلونها أيضاً ، بروح سلبية (مازوخية).. والكثير من هذه الشتائم مركب حسب قاعدة المدح بصيغة الذم وبالعكس ، تعبيراً عن امتزاج الشحنات الوجدانية السالبة والموجبة في آن واحد ، والذي يمتد بجذوره إلى أعماق لاشعور أبطاله الذين تسيطر عليهم مشاعر «التضاد العاطفي» بحكم انعصابهم الأوديبي ، وبلا استثناء.. ثم إن هذه الصيغة التعبيرية : «جمل التسوية» تقف خلف جانب منها «ألعاب الهو»: «أشتمك إرضاءً للهو ، وأمدحك إقناعا للأنا»..
… يتبع
هذه المقالة مدخل الى عالم عبد الستار ناصر. و يبدوا انه يميل لكل شيء اسود في الحياة. و يهتم بالجوانب السرية التي يفضحها من خلال تستر الشخصيات عليها.
و هذ اول مفارقة في ادبه.
ان الكاتب يعاند شخصياته و بختلف معها.
و اصلا عالمه مليء بالكوابيس او الشخصيات المنبوذة و المستعدة لارتكاب الاثام و للاعتداء على بداهة الحس البشري.