جدلية الأنا والآخر في نماذج روائية
بقلم : أحمد شحيمط كاتب من المغرب

جدلية الأنا والآخر في نماذج روائية
بقلم : أحمد شحيمط كاتب من المغرب

تحولات الرواية العربية المعاصرة أمر في غاية الاهمية لأجل بلورة نماذج في السرد والحكاية. تتفاعل ضمنها الاحداث . ملحمة الحياة في سيرورة الزمن المتدفق والمتصل. وانفصال الراوي عن الابطال والشخصيات. والتي تستخدم كرموز نامية ومتجددة . تحكي من قلب الصراع والتناقض داخل مجتمعات منقسمة ومتشظية . ترسم العوالم المتخيلة والمفترضة . وتترك الحرية والقراءة التأويلية للقارئ للتعبير عن وجهة نظر تتجاوز المؤلف الى بناء مواقف عن النص. الذي يحتوي بدوره على نصوص أخرى أو ما يعرف بالتناص . ان روح الرواية هي روح التعقيد. كل رواية تقول للقارئ : ” ان الاشياء اكثر تعقيدا مما تظن”(1). طابع التعقيد في الرواية المعاصرة يتجلى في السرد وعامل الزمن. وتناقضات الواقع. وجدلية الانا والاخر. مستوى التفاعل والتناقضات وحقيقة الطبائع والخصائص التي تؤدي للنفور والانكماش أو للتلاقح والتقارب . فالزمن الروائي يطول أو يقلص تبعا للحدث. ايقاع الحركة وتسريع الزمن. وانكسار الوحدة والتناغم الى التفتت والتبعثر والتناثر. حيث يتوهم القارئ النهاية القطعية . بل هناك تلاوين القراءات. وغالبا ما تجعل القارئ يعيد النظر في الاستنتاج الاولي .
يبدو أن القارئ العربي مطالب أن يكون مسلحا بالآليات النقدية. والالمام بالمستجدات في عالم النقد الروائي. والنظريات المعاصرة في الادب. فالرواية ظاهرة متعددة الاسلوب والاصوات والشخصيات. ولغة شعرية وجمالية وفنية قريبة من وجدان الانسان وهمومه اليومية . في عالم يمتاز بالتعقيد. وشبكة من العلاقات الاجتماعية المتشابكة . الرواية العربية بصفة عامة حاولت أن ترصد ذلك التوتر والانجذاب بين الانا والاخر في مواضيع تتعلق بالشرق والغرب. وانبهار الكتاب العرب بالحضارة الغربية من” الحي اللاتيني” لسهيل ادريس. و” موسم الهجرة للشمال” للطيب صالح . و”عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم . وفي الطفولة لعبد المجيد بن جلون . وعمار لخوص في رواية “”كيف ترضع الذئبة من دون أن تعضك “. و” حب مجوسية ” لعبد الرحمان منيف… طرحت العلاقة في بعدها الوجودي والمعرفي والعلائقي. الاخر ككيان متمايز ومختلف عن العربي في الطبع والثقافة . يمتلك خصائص مميزة تثير الروائي العربي في قلب لندن وباريس ونيويورك. تهدأ روح الانتقام وفكرة الغرب العدو والنقيض. وتبدأ مرحلة الاستكشاف . واقامة جسور من العلاقة الانسانية . فالطيب صالح طرح مشكلة علاقة الانا بالآخر. ومشكلة النظر الى ذواتنا . والفكر السكوني الذي يسكن أعماقنا عن الغرب الاستعماري والامبريالي . والشرخ الذي تنطوي عليه الذات من الحنين الى القرية. والرغبة في البقاء هنا في المدينة من أجل العلم والمعرفة. كما تتكامل العلاقة بين الشرق والغرب في البطل الذي أحب الفتاة “ليليان”. امرأة متزوجة وقصة عشق حتى الامتلاء. كل ما في ليليان يغري بالعشق. ذاكرة العاشق تسكنها صورة ليليان. منذ ان وطأت قدمي المدينة وليليان شبح يسيطر علي(2) . فالبحث عن المعشوقة . نار مجوسية . شعلة ملتهبة من الغيظ والحسرة في رؤية هذا الوجه الذي ظهر واختفى . شعاع ضوئي اشتعل وتوارى عن الانظار. هذا السحر الذي ألهب مشاعر العاشق في باريس سرعان ما زادت شرارته الملتهبة . حمم بركانية . بدأت رحلتي الجديدة في المدينة. لم تعد تستهويني النساء الا بمقدار ما تشابه الواحد منهن ليليان. وهذا الشبه كنت أريد أن اقترب من خلاله ليليان… أتطلع الى الوجوه حتى اذا تأكدت. وواصلت طريقي دون أن أترك ورائي ما يشي برغبتي (3) . يعتقد كل قارئ أن عبد الرحمان منيف يروي رواية عاطفية بامتياز. الا ان الحب يخفي توترا عن ميلاد العلاقة التفاعلية التي تتكلل بالزواج المعرفي والوجداني. ما في الغرب من حداثة وتنوير. وما في الشرق من اشراق وروحانيات. أعتقد أن عبد الرحمان منيف نقل الصراع بين الشرق والغرب من مجال الفكر والتوتر التاريخي الى مجال الرواية ولو بطريقة ضمنية. ترحال الرجل بين مدن عدة ترك بصمة وجدانية وفكرية أننا في حاجة الى عقلانية الغرب . مبنية وفق مقياس ما عندنا من ثقافة. فعندما نعترف بالكوابح في ثقافتنا وذواتنا. نقيم علاقة متينة مبنية على النقد المزدوج كما قال المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي. وفي قضية أخرى يحكي الروائي سعود السنعوسي عن علاقة الذات بالآخر في رواية “ساق البامبو” وحكاية الطفل عيسى (جوزيه). من زواج لم يكتمل. من راشد والخادمة الفلبينية “جوزافين” . لأسباب عائلية وتقاليد موروثة. جاءت الخادمة الى الكويت. ولم تتخيل يوما أنها ستصير كذلك . جاءت والدتي للعمل هنا. تجهل كل شيء عن ثقافة هذا المكان. الناس هنا لا يشبهون الناس هناك. الوجوه والملامح واللغة . حتى النظرات لها معان أخرى تجهلها . والطبيعة هنا لا تشبه هناك في شيء الا في شروق الشمس في النهار وطلوع القمر في الليل(4). في فضاء كبير عملت جوزافين عند أسرة ميسورة في بيت تسكنه أرملة في منتصف الخمسينات مع ولدها البكر وبناتها الثلاث. هذه الارملة ستصبح جدة جوزيه(عيسى) . قساوة الجدة ازداد بعد ولادة الطفل عيسى. وبقيت الخادمة تروي لابنها بعد مغادرة المنزل أن الاب راشد كان رجلا مثاليا كما كنت أرى وأجزم أن الجميع كان يراه كذلك(5). تبدأ المعاناة من الكويت الى الفلبين. أسئلة لا تنتهي عن الهوية بين دين الاب الاسلام . ودين أمه المسيحية . وفي أجواء الفلبين والكويت يروي الشاب جوزيه عن ظروف الحياة وطبائع الناس ومعاناة الام . ورقة الاب راشد الا أن للمجتمع الكلمة الفصل في ميلاد علاقة بين ثقافتين أنجبت ولدا. لم تساهم التقاليد والثقافة الشعبية في الاعتراف بالمولود الجديد في أسرة غنية. مسألة الرفض حتمية. ومن يتأمل في مرامي الرواية. يدرك أن الزواج المعرفي والثقافي بين الحضارات والثقافات بالتأكيد صعب التحقق في ظل القيم الموروثة والراسخة في اللاوعي الفردي والجمعي. وهذا يعطي الانطباع أننا مجتمعات منغلقة نسبيا على ذاتها وقيمها. مجتمعات تأبى التلاقح الثقافي . والاعتراف بالآخر الذي يسكن بيننا. هذا يطرح استفهامات عن الشرخ بين الانا والاخر . كيف يمكن أن يؤدي الانصهار بين العربي والثقافات الاخرى ويصعب الامر في العالم المعاصر؟ هل يمكن ان تكون عائلة “الطاروف” نموذجا معمما في العالم العربي أم ان المسألة لا تغدو لتكون سوى رواية من نسيج الخيال؟ .
رحلة البحث عن الذات. والهوية الضائعة من غياب الاعتراف بالانا الاخر القريب. الذي جاء نتاج لعلاقة معقولة. وتتويج لإعجاب انتهى الى زواج بين ثقافتين. من هنا نجد الروائي يرى هويته في اطار من التعددية. كما قال الروائي اللبناني أمين معلوف حين سئل عن هويته : هل هي فرنسية ام لبنانية ؟ أجاب لا هذا وذاك . ليس بمعنى أن نصفه فرنسي ونصفه لبناني لان الهوية لا تتجزأ أبدا الى انصاف او ثلاث. بلا هوية واحدة(6). هوية تتشكل من مجموع العناصر الثقافية والذهنية والاخلاقية والاجتماعية في ارتباط بجماعة بشرية . الا أن الانا في بحثها عن ما يمكن أن يعزز الهوية. نلتقي بالآخر الذي يثير فينا الشعور بالانتماء والتناقض والاختلاف. هذا الاخر ليس جحيما كما يدعي سارتر بل الوسيط والكائن الذي يعرفني على بنيات وجودي. يقاسمني الوجود. ويكشف عن تعددية الانا. وامكانية الذوات في تفاعل مستمر. سؤال ظل يوجه للروائي العربي الذي يكتب بلغة الاخر. الطاهر بن جلون وادريس الشرايبي من المغرب. ومولود فرعون وكاتب ياسين وياسمينة خضرا من الجزائر. وامين معلوف من لبنان… يكتب الروائي للتعبير عن قضايا مشتركة. والكتابات لا تكتب عن هموم الاخر بقدر ما تكتب عن مادة من قلب العالم العربي في استعادة الذكريات وتصويرها في حبكة تعبر عن صورة الانسان والمكتوبة بلغة الاخر.
ان الادب جنس ينطوي على حرية الابداع بأي لغة . لازال الطاهر بن جلون أسيرا للذاكرة . يكتب عن طنجة ومشاكل الهجرة والرحيل . يكتب عن ذكريات فاس. الاسوار والدكاكين. ويقتحم همسات النساء وثقافة البلد . فكل المعطيات دليل على ان الهوية متأصلة في اعماق الانسان. أجدادنا لم يشعروا بالخوف على هويتهم. حين انفتحوا على ثقافة الاخر. لانهم كانوا اقوياء واثقين حتى في عصر النهضة . كانوا اكثر جرأة في حماية هويتهم. ألم نجدهم اكثر انفتاحا على الاخر مما نحن عليه اليوم؟ ألم يكونوا اكثر ايمانا بما يشكل ثوابت أمتنا؟ لهذا لم يهب اجدادنا من الحوار . عل الرغم من اعتزازهم بخصوصيتهم! ألا يكمن العيب في ذواتنا اليوم. قبل ان يكمن في غيرنا ؟(7). لا يهدأ الفكر المعاصر على طرح مسألة الاختلاف والتلاقح بين الثقافات. واحترام الشعوب دون تمركز على اثنية والقول بالتفوق الحضاري والتقدم. يسود منطق النقد الذاتي للنزعة المركزية الغربية. وكل فكر يدعي الاكتمال والنهاية. وينفتح الفكر على الهامشي والمنسي واللامفكر فيه. فالعالم العربي وجد نفسه أمام تدفق الشعوب الاخرى من العمالة الاجنبية في دول الخليج. عمالة تساهم بأجسادها وعقولها ورساميل أموالهم. والعمل في البناء والتعمير وقطاعات حيوية اخرى. فالكاتبة ماجدة حمود في كتاب” اشكالية الانا والاخر”. ترصد هذا التوتر في مجموعة من الابداعات الروائية . موضوع الخادمة الاجنبية في دول الخليج. عند الروائي الكويتي اسماعيل فهد اسماعيل في رحلة شاقة للخادمة السريلانكية لدى اسرة كويتية . أفكار الخادمة لصيق بالوطن والعائلة والهوية. التي تشكلت منذ الطفولة. والرواية في جماليات السرد تعري جانبا من العلاقة بين الانا والاخ . والمعاملة القاسية . التي أتاحت الفرصة للتعبير عن الصورة الفعلية في قلب مجتمعاتنا التي تنم أننا نستعلي على الاخر المخالف والبعيد. تهمة ” كوماري” بالسرقة والسجن يولد في ذاتية الاخر الشعور بالظلم والدونية . هناك مفارقة صارخة في عالمنا العربي بين القيم التي نعلي منها في العالم ونعتبرها خالدة وربانية وأفعال الانسان في الواقع. وعند التأمل في النهاية. ندرك أننا نعاني من تصدع وتمزق. وهذا يدفعنا للتساؤل عن هويتنا الضائعة أمام اختفاء أو تواري القيم النبيلة في ثقافتنا. التي تعني اكرام الضيف وصيانة حياته من كل تهديد. كما تتدرج الروائية ماجدة حمود الى اثارة جدلية العلاقة بين الانسان العربي والافريقي. فمن عمق العلاقة لا نريد الدخول في التاريخ. واستحضار الانصهار بين العرب والافارقة في السودان وجيبوتي والصومال وجزر القمر وتشاد ودول أخرى. رواية السودانية بثينة خضر مكي “حجول من شوك” . التي تصور قلق الانسان السوداني من مسألة الانتماء . وجه عربي ووجه افريقي . تعاني البطلة ” نصرة ” قلق الانتماء. لأنها لم تحسم أمر انتمائها الى السودان العربي أم الافريقي. فهي تعتز بسودانيتها وبأصلها الهجين. الذي يجتمع فيه العنصر العربي والعنصر الافريقي. مما يعني أن ما يشكل “أنا” البطلة هو امتزاج هذين العنصرين معا(8) . فالاغتراب عن الوطن يطرح الانسان هذا المشكل في ظل التعامل أو المفاضلة بين الاجناس. هذا الانتماء ان كان طبيعيا في البلد الام. يمكن ان يثير تساؤلات جمة في الاوطان الاخرى. البشرة السمراء والعنصرية والتعصب. يعود الناس الى أوطانهم حاملين سمات الشخصية المكونة عن الاخر. ويدركون أن العصر الحالي نتاج للتغير الذي طرأ على المعرفة وارادة الحقيقة . تلك الارادة التي لا تعترف الا بالقوة والاوطان البعيدة ذات رأسمال مادي وعلمي قوي الحضور في البلدان الخليجية. أو ما شابه ذلك من الاسباب التي لا يذكرها الروائي في انتاجه. حيث يترك للقارئ أن يتأمل في السرد والحكاية. وينمو شعوره وفكره. أن العالم العربي تنخره ظواهر جديدة من التمييز بين الاوطان على أساس اللون والعرق ومعيار الرقي والتقدم. لعل من أسبابها كما قال عبد الرحمان منيف. الطفرة النفطية وانتقال البدو للمدينة .وما صاحب ذلك من تغيرات في المظاهر السلوكية الاجتماعية. ومن جدلية الانا والاخر الافريقي والاسيوي الى الاسرائيلي عند الروائية الفلسطينية سحر خليفة في رواية “ربيع حار”. فمن البداية يبدو أن التقارب بين الانا والاخر صعبة وبالغة التعقيد من خلال صراع وجودي لا ينتهي. والربيع في بهجة الوانه ونقاء هوائه. والاخضرار الذي يملأ المكان. لا يزهر وينمو بالشكل الطبيعي عند حلول الصيف ومرحلة قطف الثمار. تدرك الروائية أن الخلل في العلاقات الانسانية والعاطفية يعود للأحقاد ومشاعر الكراهية التي ترسخت في عقول ونفوس الناس وساهمت في نسف أحلام الطفولة. على الرغم من أن للطفل العربي صفات تجمعه بالطفلة المستوطنة على الصعيد الانساني . لكنه لم يستطع التحرر من مقولات سائدة في مجتمعه تعزز الفوارق بين الانا والاخر. وتبرز اختلافهما في العادات الاجتماعية (9). ليس الخلاف طبقي أو لغوي بل يتعدى الى الصراع الوجودي . حياة الطفل الفلسطيني الذي تربى في أحضان النكبة والنكسة والقهر. وحياة الطفل الاسرائيلي في نعيم ورخاء واستحواذ على الارض التي ترفض ان تعترف بالملكية العامة والمشتركة . ما يعني صعوبة بناء علاقة انسانية يطبعها المحبة والمودة . الصراع المديد بين الانا والاخر ين يداويه الا الاعتراف كما قال هيجل بينهما الذي يؤدي الى الاعتراف والسيادة المشتركة أو البحث عن البدائل الاخرى. تستمر الكراهية وتتعالى الاصوات المنددة بالقتامة. وتنتقل من جيل الى اخر . فهي بمثابة “هابيتوس”. حسب بيير بورديو . نماذج روائية في علاقة يطبعها الصراع وحلم الالتقاء بين الانا والاخر . ومن روايات امين معلوف يتجلى الرحيل والمغادرة لأرض لبنان نحو فرنسا. حيث نهاية التعصب الديني والحروب الاهلية. واختلال العلاقة بين مكونات الشعب الواحد ساهم في عودة المكبوت والعداء. واستفحال الهويات القاتلة. جدلية الانا والاخر. قاومت ما هو استئصالي وراديكالي. وأعلنت عن ميلاد فكر يعترف بالتعايش والاختلاف بين الحضارات الانسانية . جدور الانسان في سماء الحرية ونهاية الاستبداد والاستعباد. أول ما يبدأ امين معلوف في بداية روايته “بدايات ” في نقد كلمة جذور لأنها تتوارى في التربة والاوحال. نحن البشر لسنا كذلك . نتطلع للأعلى . نرحل ولا نمكث في مكان معين . فأنا أنتمي الى عشيرة ترتحل منذ الازل في صحراء بحجم الكون. مواطننا واحات نفارقها متى جف الينبوع. وبيوتنا خيام من حجارة . وجنسياتنا مسألة تواريخ أو سفن . وراء الاجيال. ووراء البحار. ووراء باب اللغات . رنيم اسم (10). من قلب الصحراء يفكر الانسان العربي في ذاته والعالم . لا يقوى الناظر بالعين عن تحديد حدود الصحراء. لكن يجيد الترحال والانتقال من مكان الى اخر. يلم الانسان العربي بالمكان ويدرك ان الزمن غير اساسي في المسير والاقامة. ربما حياة الروائي العربي في الترحال من البلد الاصلي الى بلدان اخرى يتطابق وعدم السكون الى مكان بذاته . لا يشعر العربي من هذه النقطة الا بجوار الجماعة البشرية التي اثرت في اعماقه وسكنت وجدانه. فمن الطبيعي أن تتخلى “الانا” عن مكوناتها التي تشكلت من الاحتكاك بالطبيعة . تشتت الانسان العربي في الاوطان بين المغادرة الطوعية والقسرية سرعان ما يتحول الشوق في العودة الى الشرق . وان كانت العودة فعلية ونهائية أو عودة لاكتشاف التغير الذي طرأ على الاوطان. امكانيات “الانا” للتذكر واستحضار الاصدقاء والاهل والطفولة بكل ألمها وهواجسها وافراحها. يترك فينا الانطباع بالبقاء. وعدم الرحيل مجددا بعد استنشاق هواء باريس ولندن والاغتراب في بلدان امريكا اللاتينية واستراليا . تائهون ومنغمسون في اليومي والحياة الجديدة . الرحيل كانت دوافعه كثيرة ومتباينة من شخص لآخر . ليس لنا مبادئ وقناعات واحدة . نفترق في الاديان ويجمعنا الوطن الواحد. لا يسأل الانسان عن تعدد الهوية في البعد الديني. فطالما نعتبر الاوطان العربية عبارة عن عوالم مختلفة تدين للوطن والمشترك . يعود الانسان من بلاد المهجر وفي ذاته حمولة من الماضي. وشيء من عالمه الجديد. صدمة الاخر تركت بصمة في الذات العربية . الحرية والتسامح . نكران الجميل والمساهمة في خدمة الاوطان. كلها مستقاة من المعنى الجديد للحياة في الغرب . ذلك الاخر الذي يضفي قيمة انسانية على المبدعين ويذوب الاختلافات والصراعات الدينية والعرقية في بوثقة واحدة . سيرة الروائي العربي أمين معلوف أو عبد الله العروي وغيره من المبدعين تنم دائما عن قلق وجودي . لا يستطيع ان يتنصل من قيمه وحضارته . والمبدع العربي في حرية الاختيار . فهو يمتلك الموقف الشخصي للمغادرة والانفتاح على الاخر وثقافته . أو البقاء ضمن افق ضيق . فالرحيل عن الوطن هو سنة الحياة . وأحيانا تفرضه الاحداث والا . فجبان نخترع له عذرا . لقد ولدت ايضا في بلد . في مدينة . في طائفة . في أسرة . في حضانة. في فراش… ولكن المهم عندي. وعند جميع البشر على السواء. انني جئت الى هذا العالم(11). أوطاننا يسكنها الصراع والعنف الذي يستشري في أعماقنا. ويطفو على السطح. ويسبب أضرارا بالغة في التكوين النفسي والفكري للأجيال الصاعدة . اختلال في الذات الفردية والجماعية . قلق من أوضاع تعاش وتروى وتترك بصمة من غياب التنوع والحرية . مخاوف الروائي العربي من التشرذم والهويات القاتلة التي بدأت تنخر العالم العربي. لا بد من الغوص في “الانا” دون التأسف على الماضي أو جلد الذات حتى تصل الى سادية أو مازوشية تسري بين الذات وذاتها. وبين الانا والاخر. بعيدا أو قريبا. صورة “الانا” في عيون الاخر قاتمة . تعطيل الفكر وقصف العقول وتمديد أجل الحروب التي لا تنتهي. لا يكف الاخرون في الترديد أن تلك هي حال الشرق . وأنه ستكون هناك دوما عصابات .وتجاوزات للقانون ورشى ومحاباة صارخة . وأن لا خيار اخر سوى التكيف مع هذا الوضع . وبما أني أرفض كل ذلك جملة وتفصيلا . يتهمونني بالتعجرف. لا بل بعدم التسامح . أيكون المرء متعجرفا لو تمنى أن يكون بلده أقل رجعية وفسادا وأقل عنفا ؟ (12) . كل ما في الذات من شوائب وطفيليات يعشعش فيها الجهل ويستبطن الفساد . ويسكن اليأس. لا يقبل عقل يهفو للتغيير. كتب الروائي العربي من قبل عن الانبهار بالغرب والاعجاب بالحضارة الغربية . وضعت قواعد في الحريات والانتقال الديمقراطي. وأنسنة الانسان وصيانة حقوقه وكرامته . فالروائي العربي الى جانب الانبهار اندهش من الازدواجية في الخطاب الغربي الموجه للشعوب الاخرى . انثروبولوجيا معكوسة من الغرب كذات الى الاخر كمخالف ومتمايز . فكانت الرواية العربية في لحظة تأسيسها عبارة عن وعظ وارشاد للقيم الراسخة في الهوية. للتربية والضبط واستمرارية الذاكرة الجماعية. فلازالت الرواية العربية المعاصرة تكافح وتشيد امكانيات مهمة من السرديات والمحكيات في عالم منقسم ومنفلت . تراجعت الأيديولوجيات. فأصبح صراع الارادات ونهاية الانسان بتلك الصورة التي رسخها الفكر الانساني في المرحلة الحديثة وعصر الانوار. كذات عاقلة حرة ومريدة . نحن في عصر التشكيك والنقد وتأصيل الاعمال الابداعية وما يتناسب والخيال والكلمة الشعرية . وتنوع الاصوات والشخصيات . روايات بلا ضفاف وبدون نهاية حتمية لانتصار البطل والقيم المثالية .

الهوامش :
(1) ميلان كونديرا ” فن الرواية ” ترجمة بدر الدين عرودكي . الطبعة الاولى 1999 ص25
(2) عبد الرحمان منيف ” قصة حب مجوسية ” المؤسسة العربية للدراسات والنشر . الطبعة الخامسة 1999 ص89
(3) عبد الرحمان منيف ” قصة حب مجوسية ” المؤسسة العربية للدراسات والنشر . الطبعة الخامسة 1999 ص90
(4) سعود السنعوسي ” ساق البامبو ” الدار العربية للعلوم ناشرون . الطبعة الاولى 2012 ص29
(5) سعود السنعوسي ” ساق البامبو ” ص33
(6) ماجدة حمود ” اشكالية الانا والاخر . نماذج روائية عربية ” المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت مارس 2013 عدد 398 ص 16
(7) ماجدة حمود . نفس المرجع . ص19
(8) ماجدة حمود .نفس المرجع . ص89
(9) ماجدة حمود .نفس المرجع . ص108
(10) أمين معلوف ” بدايات ” ترجمة نهلة بيضون . دار النشر الفارابي . بيروت الطبعة الاولى 2004 ص12
(11) امين معلوف ” التائهون ” ترجمة نهلة بيضون . الطبعة الاولى 2013 ص61-62
(12) أمين معلوف “التائهون ” ص 69- 70

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

تعليق واحد

  1. A.karim Benlaayouni

    A great and interesting article from a great professor. thank you for the precious information and wish you more sucess and prosperity

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *