علي الشوك في «الأوبرا والكلب»:
المأساة العراقية بين “أوبرا” دون جوفاني .. و”كلب” ياسمين
الدكتور
حسين سرمك حسن
لقد كان الاحتكاك الأول بين المواطن العربي والمواطن الغربي هو في العلاقة بين والد ياسمين، أكرم محمود الفلسطيني وكارولا الألمانية والتي انتهت بزواجهما الذي كانت ياسمين ثمرته. وأهم ما يلفت الانتباه في حديث الأم المُعاد لابنتها عن أبيها هو غرابة أطواره، فقبل الزواج أرسل رسالة إلى كارولا يرجوها أن تفعم ورقة رسالتها برائحة إبطها الطبيعية بلا عطر:
«أريد أن أشم عرقك يا عزيزتي.. صرت أعتاد على هذيانه عندما يشم إبطي» (ص65).
كما كانت له نزواته الجنسية الغريبة حيث طلب من صديقته المكسيكية التي حملت منه أن تترك قاعة الحفلة الموسيقية التي كانا يحضرانها فاستجابت له ظناً منها بأن هناك طارئاً يدعوه لذلك، لكنه أخبرها بأنه يريد ممارسة الجنس معها في الغابة القريبة من الصالة ، وعندما رفضت صفعها وهجرها «لاحظ أن ياسمين كانت لها نزوة مع هيرمان حين طلبت منه أن يعمل الحب معها في الماء وهما يسبحان في البحر» (ص51و52).
وبرغم أنه يعيش في مجتمع غربي لسنوات طويلة إلا أنه حاول الزواج من شابة تشيكية أوهمته بأنها عذراء:
«فوجد أبوك تلك فرصة ثمينة لأنه شرقي الذهنية تماماً في هذه المسائل، وعندما اكتشف أنها لم تكن عذراء ضربها بكف على خدّها بقوة». (ص68).
لكن اللمحة الأهم التي تقدمها الأم هي الكيفية التي انفصل فيها عن الشابة التشيكية في ليلة زواجهما نفسها عندما علم أن لها أخاً طياراً في إسرائيل:
«أخبرته وهما متعانقان في سرير النوم فصرخ في وجهها غاضباً : إن شقيقك لابد أن يكون قد قتل بالقنابل التي ألقاها على مخيمات الفلسطينيين وسيقتل أيضاً عدداً من أبناء شعبي.. أخرجي فوراً من الغرفة – وانخرط في موجة من البكاء والصراخ» (ص66).
وياسمين بدورها لم تنسَ انتماءها الفلسطيني والعربي، فهي تقول: «عندنا نحن العرب ص27» عندما تتحدث مع أمها التي تطرب لهذا التعبير، وتعد الفلسطينيين شعبها، الأكثر من ذلك نجدها تقول لسالم صبري الذي كان يحدثها عن إحساسه المضاعف بالكآبة لأنه مغترب ويعيش وحيداً أنها «نصف مغتربة ص104»، ثم جاءت الرحلة إلى المغرب لتمثل فرصة الاحتكاك المباشر للأم الألمانية خصوصاً بالمواطنين المغاربة والعراقي «ناصر إبراهيم». لقد اعتبرت الأم أن ضيافة الفنانة المغربية «فاطمة» لهما هو سلوك استبدادي وأن كرمها خانق (ويحضرني هنا كقارئ عربي العرض الذي قدّمه هيرمان لياسمين – وهي زوجته – لاستعادة تجربة شهر العسل على أن يتحملا النفقات بالتساوي !!!. ص31)، فهنا يصبح الزواج – وحسب وصف المفكر الراحل روجيه غارودي – “شركة” لا “شراكة” . وخلاف ذلك فقد كان موقف (ناصر) و(فاطمة) رائعاً.. فقد استأجر الأول شقة لياسمين وأمها لمدة عشرة أيام وفر لهما خلالها المأكل والمشرب والتنقل بسيارته في حين جندا نفسيهما – هو وفاطمة – لمساعدة ياسمين في العثور على الوثائق اللازمة لإكمال أطروحتها واللقاء بالمغاربة المختصين في الموسيقى، وسنلاحظ أن ياسمين وأمها دخلتا المغرب ببساطة وهما تتنقلان فيها بحرية في حين أن «ناصر» لا يُسمح له بالدخول إلى النمسا إلا إذا رتبت له ياسمين دعوة لإلقاء محاضرة.
لكن في المغرب يفجّر الكاتب أمام كارولا وياسمين نمطاً مدمّراً من أنماط الاحتكاك بين الغرب والشرق، فعلى مائدة طعام الغداء في شقة الدكتور ناصر يعاهدهما الأخير على أن لا يتحدث عن أخبار العراق والتي تصله عبر الرسائل لأنها كلها أخبار محزنة:
«لكنه لم يستطع السيطرة على نفسه ولم يلتزم بوعده بأن لا يروي لهن شيئاً. أول الأمر أخذ يقارن بين أسعار المواد الأولية الاستهلاكية في العراق الآن وفي المغرب أو أي بلد آخر، مؤكداً أنّ ما على هذه المائدة من طعام يفوق كثيراً بكلفته راتب شهر لأستاذ جامعي مثله بالعراق»
لكن هذا يبقى شيئاً وإبادة عوائل بأكملها شيء.. وتحدث عن عائلة ابن عمه التي أبيدت بالكامل. حتى ليلى التي كان لها من العمر 12عاماً، وطفرت الدمعة من عينيه.. ليلى التي.. وغصّ صوته، ثم ترك مقعده مسرعاً إلى غرفة النوم ليجهش بالبكاء ص75».
ولا أغتقد أن ثمة اختباراً فعلياً ودامياً تعرضت له العلاقة بين الشرق والغرب مثل «المأساة العراقية» كما سمّاها الشوك، إلى الآن لا يستطيع أحد استيعاب الكيفية التي تتفق فيها الأمم المتحدة، بضغوط الأطراف الغربية المتنفذة – على تجويع شعب حتى الموت – في الحصار مات مليون عراقي معظمهم من الأطفال – من أجل تحقيق هدف سياسي، ولا الكيفية التي تقرّر فيها شنّ حرب تدمر البنى التحتية لشعب لتعيده إلى ظلمات العصور الوسطى.
بعد المحاضرة المشتركة التي ألقاها ناصر وياسمين في فينا حول النهج الفسيفسائي في الموسيقى والفن التشكيلي الإسلاميين التقى ناصر مصادفة صديقه «طارق مصطفى» زميله في الثانوية ببغداد بعد أكثر من عشرين عاماً مع زوجته الاسكتلندية «شينا» فجلسا يبكيان على العراق ، فتحدثهم (شينا) عن الكآبة التي خيّمت على طارق منذ حرب الخليج الثانية وعن أيام الرعب التي مرّ بها في أثناء الحرب، وكيف كان يتمزق على مصير أهله وشعبه وبلاده:
«كان النوم يجفوه في أكثر الأحيان. واضطر إلى استعمال الحبوب المنوّمة والمهدئة للأعصاب بكثرة، ورغم ذلك كان يفيق في بعض الليالي ويجهش بالبكاء : لا أستطيع.. جسر الجمهورية.. دمروا جسر الجمهورية هذا اليوم .. من قبله الجسر المعلّق.. دمروا الجسور والبنى التحتية للاقتصاد والعمران.. شينا – ص134)) .
وقفة:
—-
حين تقرأ حوارات شخوص رواية «الأوبرا والكلب» حول ما أسماه الشوك، «المأساة العراقية» ستشعر بنوع من «الانفصال» النفسي المستتر وبعقلنة متخفية وراء أستار حماسة تنفجر وقتياً ثم تخمد. قد يكون السبب كامناً في شحوب الذاكرة.. وهـذا يشـمل المـؤلف أيضاً – من ناحية وكون المغترب يمتلك ماض لا عناصر ديمومة وتواصل له في الحاضر من ناحية أخرى، يبحث (سالم) عن جذوره فيضنيه هذا البحث. يقضي بعض الوقت في مخزن يعود لشباب عراقيين حيث يشعر هناك بشيء من الانتماء، لكن سرعان ما تبتلعه الوحدة حتى عندما يكون بين الناس. يتحدث (سالم) إلى طارق فيقول له:
«حتى الأحاديث مع الأصدقاء لم تعد لها تلك النكهة، أنت تشعر أن هناك شيئاً مفقوداً كما تعلم.. هناك مرارة.. مرارة مستمرة في فمك، لأنك فقد شيئاً كبيراً جداً يجعلك تشعر بالأسى والضياع حتى مع أقرب المقربين إليك.. إذا كان أبطال صاموئيل يبكيت بانتظار شيء، وإن لم يأتِ، فقد كانوا يعيشون بأمل هذا الانتظار. أما نحن فقد فقدنا حتى نعمة الانتظار هذه.. صارت أحاديثنا مناحة وبكاء على الماضي وأحلامنا هي اجترار ذكرياتنا الراحلة.. نتحدث عن الأربعينيات والخمسينيات وما قبلها…» فيقاطعه ناصر بالقول: «نعم.. كل شيء أصبح له الآن طعم الفردوس المفقود، بعد ضياع الوطن وانهيار اليوتوبيا.. المشكلة بالنسبة لي أيضاً أن كل شيء الآن يفقد طعمه.. الأدب، الفن، كل شيء صار ينتمي إلى عالم زال وانتهى. أنا أيضاً أشعر أن الفضاء الذي أتحرك فيه، أو فرض عليّ أن أتحرك فيه، هو الماضي فقط، لأن الحاضر احترق، أما المستقبل؟» .
وأمام هذا العذاب الموجع والتصدع النفسي الساحق ينقل لنا المؤلف بذكاء محسوب ما تقوله امرأة نمساوية تقف قريباً منهم في طابور تذاكر الأوبرا لصاحبها أنها قرأت في المجلة قصة مضحكة وترويها له:
«تشاجر صاحبا حانة ، وهما زوج وزوجته، وقررا تصفية الحانة، وسبب شجارهما أن الزوجة لها عشيق يشرب قدر ما يشاء بلا حساب والزوج يحمحم ويدمدم. وهو الآخر له عشيقة تشرب بلا حساب، والزوجة تحمحم وتدمدم. وتكتشف الزوجة أن عشيقها يخونها مع إحدى زبونات الحانة ويسقيها من الكؤوس التي تقدم له بلا حساب، فتثور ثارتها وتصب غضبها على عشيقة العشيـق، ويكتشف الزوج أيضاً أن عشيقته تخونه مع أحد زبائن الحانة وتسقيه من الكؤوس التي تقدم لها بلا حساب، فتثور ثائرته ويصب غضبه على عشيق العشيقة».
إنّ هذه التفاهات اليومية لا تخلق ذاكرة لدى المغترب، فذاكرته هي صندوق وجوده الأسود الذي لن يستطيع تخزين أي شيء جديد فيه، إنّ مأساة المغتربين العراقيين – وهي جزء من «المأساة العراقية» – التي عرضها الشوك من خلال شخوص روايته هذه هي مأساة ذاكرة أقفلت على محتوياتها إلى الأبد، وأن هذه المحتويات – بفعل عوامل التعرية النفسية إذا جاز الوصف – بدأت تصدأ لذلك نجد ميلان كونديرا يعبر عن ذلك ببلاغة حين يقول: إن صراع الفرد ضد السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان،. إن سالم وناصر وطارق هم نفسياً كائنات تعيش على ماضيها الذي بدأ يفقد مخزونه ، ومطلوب منهم اجتماعياً أن يعيشوا واقعاً منفصماً عن ذاك الماضي الذي لا تسعفهم خبراته في التواصل الصحي مع اشتراطات الحاضر.
ومما يزيد من مأساة المغترب العراقي هو أنه، وهذه سمة من سمات شخصية المواطن العراقي عموماً، لا يستطيع أن ينسى أنه «حيوان سياسي» إذا ساغ الوصف، فالعراقيون من شخوص الرواية لا يتحدثون إلاّ في السياسة في أي لقاء يجمعهم، كما يقول ناصر لياسمين: «السياسة صارت خبزنا اليومي نحن العراقيين» في حين تقول له ياسمين: إن هذه هي أول مرّة أشترك فيها في حديث سياسي، بل إن طارق الذي حضر محاضرة ناصر بعد فراق دام عشرين عاماً يقول له: كنت أتوقع أن تكون محاضرتك عن الوضع في العراق ص132». ولم يتوقع أن تكون عن الفن. وهذا في الواقع شكل من أشكال جلد الذات.
وقد قدّم الكاتب لمحة ذكية تعكس بذكاء الفارق بين انهمام المغترب العراقي بالسياسة واهتمامات المواطن الغربي. فخلال وقوف المجموعة في الطابور للحصول على تذاكر الأوبرا يقدم الشوك أولاً جانباً من حوار ناصر وطارق وقد انتقلت عدوى انهمامهم السياسي لتشمل (شينا): «أنا لا أفهم شيئاً مما جرى ويجري الآن» قالت شينا: «شيء لا يمكن أن يتصوره العقل، كل الحروب السابقة كانت قابلة للتفسير، كانت حكايات، أما هذه فلا أستطيع أن أجد لها تسمية – وتقصد العدوان الثلاثيني على العراق في ما سمي بحرب الخليج الثانية» «بوسعك أن تسميها مسرحية خيالية، أو لا معقولة». قال ناصر: «والغريب». قال طارق: «إن العالم لا يزال يتفرج عليها بدلاً من أن يفعل شيئاً تجاهها» «أنا أنحني إجلالاً لساسة هذا الزمن» قال ناصر: «على براعتهم في إخراج هذه المسرحية الرهيبة ص149 – 150»، ثم يرصد سلوك جارتهم الغربية وصاحبها في الطابور حيث تعرض على صاحبها صورة فوتوغرافية ملونة تجمع أختها بالممثل «أنتوني كوين»: «أرسلت لي الصورة من هونولولو. ذهبت في سفرة جماعية وزارت المجموعة منـزل أنتوني كوين. هل ترى اللوحات المعلقة على الجدار؟ هذا هو مرسمه، إنه يرسم. قالت أختي إنها أعجبت بلوحة واحدة فقط – ص150»
وجلد الذات وهو من سمات الشخصية العراقية التي تتأسّس على حقيقة أن المواطن العراقي ومنذ فجر تاريخه هو «حيوان مذنب» إذا جاز التعبير ، يركبه – لاشعورياً – شعور ممض بالذنب، وقد عـززت المأسـاة العراقية هذا الشعور في أعماق العراقيين عموماً والمغتربين منهم خصوصاً . يجلب سالم علبـة بقـلاوة للمجـموعة الواقفة في الطابور فيعلق طارق بالقول: «نحن نأكل بقلاوة، ونشاهد أوبرا دون جوفاني وشعبنا يتضور جوعاً – ص145».
عودة إلى ياسمين:
——————-
يحاول الشوك طرح تصوّر عن العلاقة بين الغرب والشرق – العرب تحديداً – من خلال أطروحة الدكتوراه التي تعدها ياسمين والتي تحاول من خلالها أن تثبت الأصول العربية للكثير من مكونات الموسيقى الغربيّة، وبعد أن عادت مع أمها من المغرب وصلت جهودها إلى مسار مسدود فقررت التوقف . لكن طرداً بريدياً جاءها من الدكتور ناصر فتح أمامها فضاءات واسعة وأعانها على تحقيق اكتشافات مذهلة. لقد وجدت أن «النوبة» في الموسيقى العربية هي أصل «المتتالية» في الموسيقى الغربية وأن رقصة «السربندة» وهي إحدى رقصات أو حركات المتتالية، أندلسية الأصل، أي عربية. لقد لاحظت أن المسيحية منذ أيام القديس أوغسطين عادت الجسد وحركاته في الرقص ، في حين كانت الموسيقى توأماً للرقص عند المسلمين، كما وجدت أن الرقص الرجالي في إنكلترا مثلاً مستعار من العالم الإسلامي. اكتشافات رائعة ومحكمة يقدمها لنا الشوك مستثمراً معرفته الموسيقية الموسوعية. وهي محاولة مخلصة منه للاعتراف بحق عربي لا يُعترف به (تصور أن اكتشافاً أصيلاً لابن النفيس يُنسب ظلماً وتعسفاً ومنذ خمسة قرون إلى وليم هارفي!!) وهي رسالة تكشف البعد الروحي، السباق والخلاق للحضارة العربية مقابل الحضارة الأوروبية التي قدمت لنا أعظم المنجزات المادية ، لكنها ضربت الأنموذج الكامل للعدوان والسادية من الناحية الأخلاقية، وقد تحقق النضج الكامل لهذه الروح السادية في المأساة العراقية (تقول مادلين أولبرايت – وفي عقر دار الأمم المتحدة «المدافعة» عن حقوق الإنسان – أن مليون عراقي مات بسبب الحصار، وإذا لم يسقط النظام فسوف نقتلهم كلهم (كذا!!) وقبل شن الحرب قال كولن باول: سوف نجعل العراقيين يكرهون أنفسهم!! ولم يقل سوف نجعل النظام أو الحزب أو الجيش يكره نفسه!!».
المهم أن محاولة الشوك في تمرير رؤاه من خلال معالجة المأساة العراقية وذلك يتم بطريقة يكتفي فيها الشوك بـ«العرض» و«التصوير» و«إثارة التساؤلات» وهذا هو الواجب الحقيقي للفنان – لا إصدار الأحكام وتحديد النتائج. محاولة الشوك هذه تصل الذروة في الفصل الأخير من الرواية وفيه سنفهم مغزى عنوانها: «الأوبرا والكلب». يتفق الجميع، ناصر وسالم وطارق وشينا وياسمين، على مشاهدة أوبرا (دون جوفاني) وقوفاً لأن المقاعد تُحجز قبل عدة أشهر ويتعين على الراغب في مشاهدة الأوبرا أن يسهر ليلة بأكملها في العراء أمام شباك التذاكر لضمان موقع متقدم في الطابور الطويل الذي سيتشكل أمام شباك التذاكر، وهذا يقتضي الذهاب أمام بناية الأوبرا والوقوف أمام شباك التذاكر من أول الليل في السادسة أو السابعة مساءً، والسهر طوال الليل لأجل قطع التذاكر صباح اليوم التالي. يتساءل ناصر – وأنا معه كقارئ عراقي تحديداً – هل الأمر يستحق كل هذا العناء؟ حتى ياسمين تقول إنها ذاقت مرارة هذه التجربة وقرّرت أن لا تكررّها. ولا أعلم ما الذي يبغيه عراقي مغترب يبكي على شعبة المحاصر من السهر في العراء حتى الصباح للحصول على تذاكر يشاهد فيها أوبرا وقوفاً على قدميه؟. أعتقد أن هذا واحد من مآزق المغترب العراقي وعذاباته وهو أن «يمثّل» التحضّر و”يصطنعه” من دون قناعة داخلية حقيقية، وهذا يمثل واحداً من مصائد الحضارة الغربية في الوقت نفسه.
يصف الشوك الناس الواقفين في الطابور بأنهم «من الساهرين الذين تجمعهم قضية واحدة، لكأنهم في عالم خاص، والناس الآخرون الذين يمرّون من أمامهم من عالم آخر – ص138» فهم أناس توحدهم الموسيقى برغم اختلاف مشاربهم وأعراقهم، وقد تكون هذه رؤية في حلّ صراع الحضارات بعيداً عن أطروحات المعصوبَين: هنتنغتون وفوكاياما. هذه الرؤية تؤكدها ياسمين وهي تقول لناصر – المتيّم بها – «كنت أفكر ماذا لو كانت السياسة مثل الموسيقى»؟ فيقول ناصر: «أو الشعر» «لا، الموسيقى أكثر براءة» «ليكن. اتفقنا.. إنما هل تعلمين لماذا لا يمكن أن تكون السياسة مثل الموسيقى؟ لماذا؟ لأن الموسيقى شيء أنثوي. كل الفنون أنثوية – ص154». لكن الطابور متناقض، فالعراقيون الذين تحترق أعصابهم لمصائب شعبهم الفاجعة.. الجوع والمرض ونقص التغذية والموت البطيء والقتل ، يقابلهم الأوروبيون المنشغلون بحقوق الحيوان وشؤونه؛ يلتحق شاب بالطابور ويقول لصديقته:
«الحيوانات بحديقة الحيوانات بسيراييفو تنفق الواحدة بعد الأخرى بسبب الحرب والحصار، وحينما أوشك دب على الموت متضوراً من الجوع، رقّ قلب حارسه عليه، فحمل الطعام والماء له، لكنه قُتل في الحال برصاصة قناص وجده صيداً جاهزاً – ص144».
من الأخبار التي قرأتها مؤخرا أن قاضيا أمريكيا حكم على زوجين بغرامة قدرها (500) دولاراً لأنهما تركا القطة في المنـزل تموء لوحدها . وفي العراق «يموء» إلى الله شعب كامل من (25) مليون نسمة بلا مجيب – يُحاصر شعب كامل حتى الموت وتُسلب منه حرية الحركة في كل مجالات الحياة في حين يتحرك الكلب «قيصر» – وهذا جانب من فلسفة الشوك – بحرية في كل مجال . إنه – أي الكلب – يفكر ويتخذ قراراته بنفسه.. إنه يجول حراً في شوارع فيينا ، وهو مدمن على الآيس كريم في حين أنّ أطفال العراق لا يجدون ما يأكلونه، الكلب في أوروبا وأمريكا لديه حقوق تفوق حقوق أي مواطن عربي، فما بالك بالمواطن العراقي المحاصر؟
وقفة وفذلكة عن الموقف الفلسفي الغربي من الكلاب:
—————————————————-
أن ما ينبغي علينا الإحالة إليه ، وهي إحالة متسقة مع افتراضنا الأساسي الذي يرى أن هذا التعلق النفسي المفرط بالكلاب خصوصا والحيوانات عموما ما هو إلا جزء من معطيات الفلسفة المادية الحاكمة التي سيطرت على الفكر الغربي والتي قدّمت تأويلات خطيرة لأهمية مساواة الإنسان بالحيوان ووضع لائحة بحقوق الأخير مشابهة للائحة حقوق الإنسان؛ إنه نتاج حضارة وفلسفة خاصة هي الفلسفة المادية العلمانية الغربية، والتي من أهم مرتكزاتها “التسوية” ، وإلغاء أي مرجعية ثنائية. تسوية الإنسان بالطبيعة وبالتالي بالحيوان، لإلغاء أي خصوصة له . (وتظهر هذه العنصرية الجديدة المعادية للإنسان، والتي تقوم بتسويته بالكائنات الأخرى وتصفّي كل الثنائيات وتنكر كل تجاوز (تجاوز بالمعنى الفلسفي طبعا) في أفكار العالم البريطاني ريتشارد دوكنز (أستاذ علم الأحياء في جامعة أكسفورد) الذي يبدأ منظومته بالقول بأن الإيمان بإله متجاوز للنظام الطبيعي إن هو إلا خلل في العقل يشبه الفيروس الذي يصيب الكومبيوتر ، أي أن المرجعية النهائية هنا هي الطبيعة/ المادة التي تشبه الكومبيوتر المُبرمَج بدقة. وقد بدأ هذا الأستاذ حركة سياسية لمنح القرود (باعتبارهم أقلية مضطهدة) حقوقا متساوية مع البشر، على أساس الأطروحة الداروينية التي تذهب إلى أن الإنسان والقردة متساوون من الناحية الجوهرية.. وظهر ما يُسمى بمشروع القرد الأعظم الذي أصدر إعلان القردة العليا على غرار إعلان حقوق الإنسان ، ويبدأ الإعلان بما يلي:
(نحن نطالب بتأسيس جماعة من القردة العليا من الأعضاء المتساوين في الحقوق تضم ما يلي: البشر والشمبانزي والغوريلا والأورنج تانج).
وقد عرّفت عالمة الأنثروبولوجيا الهولندية بربارة نوسكي هدف هذا الإعلان بأنه “فك التمركز حول الإنسان” .. وقد بدأ مشروع القرد الأعظم في لندن في يوم 14 تموز 1993 م . وقد بدأ بمقال في مجلة التايمز في 7 تموز كتبه أستاذ في جامعة برنستون يُسمّى آلان ريان بعنوان: هل للقردة العليا حقوق ؟ بيّن فيه أن مجموعة من الأكاديميين المتميزين مثل بيتر سنجر وهو منظّر حركة تحرير الحيوانات وحقوق الحيوان ، وباولا كافالييري وجين جودال يساندونه في هذه الحركة . وقد نحت ريان مصطلح سبيشيزم – speciesism ، أي التمييز ضد العناصر البشرية الأخرى .
ثم كتب دوكنز مقالا في مجلة نيو ساينس New Science ذا طابع معرفي. فهو يرى أن الإيمان بأن الإنسان يشغل مكانة خاصة في الكون هو تعبير عما سمّاه العقل غير المستمر – discontinuous mind أي العقل الذي يرى عدم استمرار في الكون ، أي يرى أن ثمة مسافة بين الإنسان والطبيعة ، وهو مفهوم يرى أن الإنسان مفهوم مطلق مختلف عن مفهوم الفرد ، وهذا التمييز وهذه الثنائية – في تصوره – هي مصدر كل الشرور . أما النظرية التطورية – فهي تنكر عدم الاستمرار ، وترى استمرارا كاملا بين الانسان والقرد . ولذا ، فإن مقولة قرد تتضمن مقولة إنسان. وقد أكد دوكينز أن المواقف الاخلاقية للمجتمع في الوقت الحالي تستند الى المقولات النوعية – speciest ، أي التي تفرّق بين الأنواع وتؤكد عدم الاستمرار.
ثم يرمي دوكينز بالقفاز في وجه كل من يؤمن بانسانية الانسان واختلافه عن الحيوان فيقول:
“وماذا لو نجح أحد العلماء في تطوير هجين من الإنسان والقرد. في هذه اللحظة سيصبح القساوسة والمحامون والانسانيون والرجعيون جبهة واحدة وسيقفون ضد هذا الانجاز العلمي الذي يدعم نظرية الاستمرار ، وهو ما يدل على تحجرهم وايمانهم بقيمهم الاخلاقية المتحجرة ، والقيم الاخلاقية ليست مصنوعة من الحجر، فهي خاضعة للتغيير” .
وقد أتبع هذه المقالة بمقالة ثانية يبين فيها كيف يمكن تمثيل القرود في المحاكم لحماية حقوقهم ، وهاجم محاولة بعض الرجعيين في أن يضعوا خطاً أخلاقيا فاصلا بين الإنسان والقردة، ودعا إلى تصنيف الإنسان على أنه نوع ثالث من أنواع الشمبانزي) (2) .
إن إشاعة العناية بالكلاب إلى درجة مساواتها بالإنسان هو نتاج فلسفة عميقة تحكم الحياة الأوروبية عموما والأميركية خصوصا. وهي نتاج السعي لفك التمركز حول الإنسان ورفض الثنائيات وإلغاء المرجعيات ومفهوم التجاوز . وبفك التمركز حول الإنسان يصبح كل شيء مساوٍ لأي شيء (وهذا هو محور الفلسفة التي تقود العولمة). ويصبح أي مواطن في أي مكان مساوٍ لأي مواطن في أي مكان آخر ليس من ناحية حقوق الإنسان أبدا، ولكن من ناحية تسطيحه كسلعة وإلغاء مركزيته التي تتأسس في عائلة ووطن وأمة.
وكما ذكرتُ قبل قليل ، فقد قام أحد القضاة الأميركيين بمعاقبة زوجين، بغرامة قدرها خمسمئة دولار، لأنهما تركا “قطة” تموء وحيدة وجائعة في البيت لعدة ساعات، في حين أن جزّاري ملجأ العامرية – وهم الكلاب الفعليون، بل هم أدنى من الكلاب – والذين أحرقوا أكثر من ثمان مائة طفل وامرأة (وبعض الإحصائيات تقول إن العدد هو 1200)، وهم أحياء، لم يُحاسبوا حتى الآن، بل بالعكس فإن سفّاحهم “شوارزكوف” قد مُنح أوسمة ونياشين التكريم !!
عودة إلى كلب ياسمين :
————————
والكلب فوق ذلك منضبط، فقد تلقى دروساً منذ الصغر بأن لا يقرب المأكولات الدسمة حتى بغياب أهل البيت ما لم يُسمح له بذلك ، وذلك كي يحافظ على رشاقته:
«إنه يعلم أن له طعامه الخاص الذي يدير الرأس أيضاً برائحته، لاسيما عندما تبدأ عصافير بطنه بالتغريد.. يبدو أن صديقته العزيزة ياسمين نسيته هذه المرة فهي لا تني توزع الروائح على هؤلاء الأصدقاء الذين نسوه أيضاً.. لولا أنه تلقى دروساً مكثفة في الالتزام بالأدب لنبح الآن بعد أن عيل صبره.. أعذرني يا حبيبي لحظة واحدة وافتح لك علبتك – ص141»
وإمعاناً في إثارة نقمة القارئ العراقي يعمد الكاتب إلى «أنسنة» هذا الكلب والاحتفاء بمشاعره، فهو – أي الكلب – خبير بالموسيقى يعرف أن اللحن الذي تدندن به ياسمين هو (تانهويزر) لفاغنر الذي أعاد “فرانز ليست” صياغته على البيانو، وهو من أداء «أرتور شنابل» أحد العازفين المفضلين لديها، في تسجيل قديم يرقى إلى ما قبل خمسين عاماً!!. وتصل عملية الأنسنة هذه أقصى مستوياتها عندما يفكّر الكلب وهو يتجول على هواه بأن «الحرية شيء ثمين» فيتذكر القارئ العراقي فوراً شعبه الذي وُضع لعقد من السنين في سجن كبير ومُنع عنه الغذاء والدواء. والمشكلة أن العراقي الدكتور (ناصر) الذي كان يبكي على شعبه الذي يتعرّض للإبادة دخل اللعبة واستمرأها ، وها هو يجلب مخروطين من الآيس كريم واحد للكلب والآخر لياسمين، وحين تسأله عن سبب عدم جلبه واحداً له يجبيها بالقول:
«لأنني أردت أن أظهر بمظهر أكثر فروسية» .
ولا أعلم ما هي علاقة الآيس كريم بالفروسية ؟! ثم يقوم بإطعام الكلب وذلك كي يعزز روابط الصداقة معه . وهنا تقصّ ياسمين على ناصر حادثة كلب والدها التي ذكرناها، ويبدو أن ذكرى الكلب قد رسخت في وجدانها عميقاً جداً بحيث لم يعد باستطاعتها استعادتها دون أن تدهمها نوبة بكاء لأنها ترعرعت في مجتمع يحترم الكلب بنفس درجة احترامه للإنسان. وقد كانت وكالات الأنباء تنقل أخباراً عن نساءً عراقيات يصل صراخهن إلى الله ألماً لأن بطونهن وأرحامهن كانت تشق في العمليات القيصرية دون تخدير . وشاهدت بأم عيني صوراً للأصابع الناعمة والسلاميات الصغيرة لأطفال مجزرة ملجأ العامرية ملتصقة بسقف الملجأ ؛ مئات الأطفال تم حرقهم حتى الموت. الطيارون يتفاخرون بدقة الإصابة وكيف أدخلوا القذائف التي صُنعت خصيصاً لهذه المهمة من فتحات التهوية ، وأغلقوا باب الملجأ ليكون شوي الأطفال كاملاً . ثم يخرج شوارزكوف ليبرّر الجريمة / المذبحة بابتسامة ودم بارد أمام الصحفيين ليقول إن هذه الأخطاء تحصل في الحروب. ولا أعرف من هو الكلب هنا ؟ هل نستطيع القول إن الاهتمام بالكلب وتحويله إلى (طوطم) في المجتمع الأمريكي خصوصاً ومنحه حقوق المواطن كافة عدا حق الانتخاب والترشيح مصدره إسقاط الظل «الكلبي» في شخصية الفرد على هذا الكائن – ظلٌّ ترسّخ تاريخيا عبر النشأة والجذور والفلسفة الذرائعية – ؟ المهم أن صاحبنا العراقي قد أصبح صديقاً لقيصر / كلب ياسمين وهذا ما أكدته الأخيرة له وهي لا تعلم أن تقرّبه من كلبها هو بسبب هيامه بها، ولا تدري أنه كان يتبصص على جسدها، يتطلع إلى استدارة نهديها عندما تلتفت بوجهها هنا أو هناك، ويتلصص إلى رشاقة فخذيها وملتقاهما، يلاحقها وهي تبتعد عنه معطية له ظهرها، وتمشي بتشنج يجعل ردفها يهتز بسببه فينظر إلى جسدها بانسحاق ويتساءل هل من الممكن أن يمتلكه يوماً ؟ .
إن الرواية تنتهي نهاية سعيدة :
قال لها بنبرة هي بين العتاب والمزاح «كنت أتصور أن لي مكاناً في قلبك، فإذا بي أجدني خارج قوس»
سارعت ياسمين للاعتذار «كيف يا عزيزي؟ أنا آسفة طبعاً» وابتسمت «لكني لم أسمع منك كلمة واحدة تعطيني انطباعاً بأنك تحبني».
«أيتها الظالمة، ألم تلاحظي طول هذا الوقت أنني أعبدك؟
«آه، لماذا لم تقل لي ذلك؟» على أية حال، لم يفت الأوان كما أظن، «بالطبع لا». وسيتزوجان ويعيشان في ثبات ونبات مخلصين للكلب «قيصر» الذي سيستميتان من أجل توفير مخاريط الآيس كريم التي أدمن عليها له وخصوصاً من جانب العراقي الدكتور «ناصر إبراهيم» الذي سيحاول مخلصاً الحصول على صداقة الكلب ورضاه.. صداقة قد تكون «خير سلوى له في أيام المأساة العراقية».
هوامش :
———-
(1) الأوبرا والكلب – علي الشوك – رواية – دار المدى – دمشق –
(2) الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان – د. عبد الوهاب المسيري – دار الفكر – دمشق – الطبعة الرابعة – 2002 .