رياض عبد الواحد: “تعاضد الجزئي والكلي” قراءة في مجموعة “الريشة والطائر” للشاعر فوزي السعد

توطئة:
(فوزي السعد) عالم خاص، يسعى بدأب لبناء هيكله الشعري، لا يتكئ على احد، بل ينظر إلى الآخرين بأفق معرفي، ويجترح طريقه الشعري بآلية متفردة، يتقصى في آفاق الطبيعة، ويجس بيد طبيب ماهر الآم الحب ومكابداته، ثم يصوغ قصيدته صياغة فنية منشغلة بالإبداع العفوي الذي تتداخل فيه الأرض والسماء في أكثر من موقع ومكان. متوحد مع نفسه بيد انه موجود في كل الأمكنة، يعيش غربته لكنه لا ينأى بنفسه عن الآخرين، يتلمس ذاته ليعيد اكتشافها بواسطة منجزه الإبداعي. الكثير فيما يمكن أن يقال في فوزي السعد قليل، والقليل الذي قيل فيه كبير لأنه ينهض بذائقتنا إلى مصاف أن نتلمس أنفسنا أو ما يحيط بنا من خلال شعره.

في / الريشة والطائر / يضعنا / النصيص / في مواجهة الجزئي والكلي، فالريشة تقودنا إلى مجموعة تأويلات، فهي أداة الكتابة القديمة، وسيلة الرسام، آلة العزف والبنية الأساسية في تحليق الطير.إذن علاقة الريشة بالطائر علاقة وجود، كيان ، هيكل، صعود. هذا التنويع أعطاها آليات متعددة ومتنوعة إضافة لكونها بنية علاماتية، إشارة تواصل بين الفنون وهي بعد هذا كله سمة انحراف تأويلي باتجاه الخلق الناصع.
في | شاهدة على قبر فراشة | تخرج الفراشة بثياب الحزن الموشى بأريج الذكرى، وهذا أسرع خرق من حيث المنتج الزمني. والفراشة – هنا – وان كانت ميتة نصيا إلا أنها يقظة، حية في جوهرها لأنها قادرة على نبش الذكريات بحركة ذاتية تنم عن طاقة حركية، إضافة إلى ذلك تتخذ الفراشة حضورا إنسانيا مرهفا بدليل أنها تعد الرابط بين الشاعر ومحيطه. إن الألفة التي تربط الشاعر بفراشته الفة وفاء، بل إن فضاءها موجود في الحياة، في المخيلة لهذا فهي تتخطى كينونتها لأنها ذات فاعلية حركية خلاقة وليست مجرد اثر في الذاكرة يمكن أن تمحوه الأيام، إنها تتجدد في التفاصيل والابتكار وتستجلب خلودها بواسطة حركتها اليقظة داخل ذات حية. إذن هي قيمة مضافة إلى وجود عياني متحرك، قيمة تقودنا إلى ثراء روحي بواسطة مجموعة من الاشتغالات الروحية السامقة
هل يهون ابتعادك عني.. يهون؟
وعلى مشعل من عذاب… أكون
بين فقدك قسرا
وبين بقائك ذكرى
تدق نواقيس
ذاكرتي بالجنون؟
هل يهون؟
لا يهون!!
غير انك مجبرة
مثل أمي على رحلة
دونما عودة
في السكون!!
 
إن غلق السطور بسواكن | يهون، أكون، جنون، سكون | يتخذ شكل التذييل، وتتدرج التماثلات الصوتية بنحو جميل حتى إن أول كلمة ساكنة | يهون | تتطابق من الجانب الدلالي مع آخر كلمة في القصيدة | السكون |، أنهما متطابقتان بواسطة المعطيات الدلالية. ويرتبط تكرير القافية | حرف النون | بغايتين أولهما التنغيم الموسيقي الذي يحدثه حرف النون وثانيهما إن هذا الحرف يشبه إلى حد ما دواة الكتابة التي احد مفرداتها الرئيسة هي الريشة المنصوص عليها في النصيص، وبهذا لا يخرج النص على نسقه الأصلي. ويلاحظ أيضا أن الهيمنة الفعلية (من الفعل) تشي بتمركز البنية التركيبية، بمعنى ايلاء هذه البنية اهتماما اكبر كونها الفاعلة في لا تمدد بنية الانزياح إلى مديات سائبة بسبب من طراوة التعابير وسهولتها. ثم إن النص يبتكر أسلوب التوازي المتمثل في بعض الجمل الاسمية
بين فقدك قسرا
وبين بقاءك ذكرى
 
يملأ الآخر | الغائب كل الفراغات الروحية وتتناوب ضمائر المتكلم مع ضمائر المخاطب / الغائب (ابتعادك، ذاكرتي….الخ)، وينطوي النص في نهايته على أيجاد وسيلة تبرير من اجل أن لا يتحمل الغائب ما حصل للحاضر إذ دخلت الأم على العلاقة كخط متواز في صيرورة الغياب
غير انك مجبرة
مثل أمي
في رحلة
دونما عودة
في السكون
 
إن الإيقاعية في النص السابق عالية لكنها شجية بواسطة المهيمنة الحرفية لصوت النون.
. وتتخذ الدهشة المقرونة بالفاجعة والرحيل المفاجئ مساحة واسعة وتضعنا في مواجهة توقعات قادمة مبنية على مجموعة من الانزياحات المحسوبة. لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر قصيدة | قبر فوق الغصون |. لاحظ إن | النصيص يصلح أن يكون متنا لوحده. هنا نلحظ استحالة تحقق مثل هذا الطرح إلا انه في الواقع احد منتجات ثريا المجموعة، إذ إن قبر أي طائر قد يكون عشه الذي بناه لحياته. تبدأ القصيدة بالدال اللساني | فجأة | الدال على المباغتة ثم فراغ منقوط يسمح لتوقعاتنا أن تأخذ أيضا مساحتها عبر مجموعة من الجمل الفعلية ذات السمت المضارع الذي يسمح لنا بالتمدد الزمني عبر صيغتي الحاضر والمستقبل من اجل تكريس اللاثبات واللااستقرار
فجأة… قد ترجل
فلبك قبل ترجل
ساقيك من سدرة المنتهى
فوريقة جسمك ها هي
تسقط
لكن روحك لما تزل
مثل شرنقة ترقد الآن
بين خيوط الحرير
 
هذا النولوجست الذاتي يضج بمظاهر الوجود الحسي تجسده التقابلات المادية (قلبك، ساقيك، روحك، شرنقة) ونلاحظ ان النص منح روح الغائب صفة | الاضاءة | بمعى الانبعاث وان كانت تحمل برواز القبور
الشرانق هذي القبور
المضيئة فوق القبور
ذات يوم ستنهض
منها الفراشات
 
هذه السطور تخلق لدينا تضادا بين الموت والحياة، السكون واللاسكون، حركة الموت وحركة الحياة، فهي وان كانت قبورا الا انها ستكون مثابة لانطلاق الفراشات الى حياة جديدة. ويشتمل النص على مظاهر تقديم الفواعل على افعالها والذي يصب في بلورة خلود الغائب في ضمير وعقل الحاضر
قبرك
فوق الزهور
يطير
 
ان عملية | الطيران | و | فوق القبور | يعد امرا غير مقبول بيد انه لا يستحيل شعريا لان الشاعر اراد ان يرينا ان موت الغائب ما هو الا احد المظاهر الكاذبة بدليل انه ماثل في ذواتنا وهذا ما يعززه الفعل المضارع | يطير | الذي لا يخلو من الحركة والحياة اضافة الى انه يؤطر شخصية الغائب بعلو منزلتها بدايل ان طيرانها لم يكن الا فوق الزهور وهذا هو ديدنها كونها تتحرك ضمن البؤرة الرئيسة.
وتحظى الاشياء بميزة مهمة في شعر الشاعر بنحو عام، اذ يتخذ متها وسيلة لمعالجة مفردات المكان معالجة ذكية ونابهة، ففي قصيدة | الباب | اسئلة لا تخطر على البال، اسئلة لا يمكن الاجابة عنها لأنها سر الاشياء غير الناطقة بذاتها. تبدأ القصيدة بجملة اسمية يحتل فيها | الباب | مركز الدائرة، لانه يحمل سر ما بعده وما قبله. انه – هنا – خارج المتداول، والشاعر حال لسانه، فالشاعر يستدرجنا عبر الباب الى الاجابة | اللغز بواسطة لغة مقتصدة مؤطرة بمنحى رؤيوي حيال الاشياء
افنى الباب لاجل الغير شبابه!!
من يفتح بابا للباب
لو فكر يوما ان يرتاح
ينام قليلا
او من وسخ الايدي
قرر ان يغسل
اخشابه؟
 
ان القصيدة هنا تحاول ان تعيد صياغة الاشياء بنحو استفهامي تهكمي لكنه مسوغ عقليا ونلاحظ ايضا كثافة الافعال في هذه السطور (ستة افعال في ستة سطور) موزعة بين الماضي والمضارع كونهما يقعان ضمن دائرة ما هو موجود

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *