أ.د. عبد الرحمن الشهري: التعليق على كتاب «الكتاب في الحضارة الإسلامية» تأليف د. يحيى وهيب الجبوري
(الحلقة الرابعة والخامسة – الأخيرة) (ملف/4)

الحلقة الرابعة…

الفصل الرابع:
الترجمة والمترجمون تحدث المؤلف في هذا الفصل عن عربية كلمة (ترجمة)، وهي تفسير الكلام بلسان آخر. وقد اكتسبت الكلمة معنى آخر أكثر تحديداً بسبب تقدم الحضارة، وكثرة الاختلاط مع الشعوب المجاورة للعرب، فصار معناها ينصرف إلى نقل الكلام من لغة إلى أخرى، وهي في الأصل تأتي بمعنى التفسير والبيان، ومنه ترجمان القرآن لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما. وأشار المؤلف إلى معرفة العرب المبكرة للتراجم، فقد كانوا يفدون على أكاسرة الفرس وقياصرة الروم، وكان في بلاطاتهم مترجمون من الفارسية إلى العربية، ومن العربية إلى الفارسية ومن اللاتينية إلى العربية، ومن العربية إلى اللاتينية، وكان من العرب من يجيد الفارسية، ومنهم من يجيد اللاتينية والسريانية (الآرامية) والعبرية. وإذا ابتعدنا في الزمان نجد أن أقدم المترجمات إلى اللغة العربية هي النقوش البابلية، وألواح الحثيين، ونقوش تل العمارنة، وألواح مدينة نينوى، وحجر رشيد. وقد توقف المؤلف عند كل واحدة من هذه النقوش والآثار وبين تاريخها. الترجمة عند العرب قبل الاسم: لقد كان العرب الجاهليون على صلة وثيقة بحضارة العالم القديم، فضلا عن حضارتهم العريقة، وقد كانت الصلات قائمةً بين العرب وغيرهم من فرس وروم وهنود، وكان من مظاهر ذلك إمارة المناذرة في العراق والغساسنة في الشام، اللتان أتاحتا لثقافة الفرس والروم أن تدخل الجزيرة وتمتزج بثقافة العرب، وكذلك أتيحت للعرب مواسم وأسواق كثيرة للاختلاط بغيرهم، فقد كان العرب وغيرهم يرتادون هذه الأسواق والمواسم في أنحاء متفرقة من الجزيرة العربية. كما كان العرب يسافرون إلى بلاد الروم لأسباب مختلفة كالتجارة وغيرها. الترجمة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل الرسل إلى ملوك الأمم وأمراء الجزيرة حاملين رسائله، وكانت هذه الرسائل بالعربية؛ ويترجمها التراجمة من الفرس والروم إلى لغتهم. وكانت الحاجة داعية أيضاً إلى وجود من يجيد اللغة العبرية والسريانية خصوصاً في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تحرف مقاصد الدين وكتب الرسول صلى الله عليه وسلم وخاصة أن اليهود كانوا مجاورين للمسلمين في المدينة، والسريان على صلة بالمسلمين، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على تعلم لغات الأمم المجاورة. الترجمة في العصر الأموي: ازدهرت الترجمة في عهد بني أمية نظرا لعناية خلفاء بني أمية بالعلم والترجمة، ويبرز اسم خالد بن يزيد بن معاوية المتوفى سنة 85هـ على أنه رائد الترجمة والمعني بكتب الطب والكيمياء والهيئة؛ والساعي إلى ترجمتها للعربية، والأخبار تصوره رجلا فذاً، بحث في العلوم العقلية، وهو رجل متميز في الأسرة الأموية، وقد استرعى انتباه الدارسين من القدامى والمحدثين. وله ينسب الفضل في كثير من التراجم الأولى لكتب الطب وغيرها. وقد أفاض المؤلف في النقول التي تشيد بمكانته في هذا الجانب. الترجمة في العصر العباسي في القرن الثاني الهجري: زادت العناية بالترجمة ونقل الكتب المتميزة من اللغات غير العربية إلى العربية في زمن بني العباس، وتميز زمن أبي جعفر المنصور بتطور حركة الترجمة وازدهارها. وترجمت في زمن المنصور كتب على قدر من الأهمية منها: – كتاب كليلة ودمنة، حيث ترجمه من الفارسية عبدالله بن المقفع. – كتاب السند هند، وهو في علم النجوم. – كتب أرسطو في المنطق، حيث ترجمها كلها عبدالله بن المقفع. – كتاب المجسطي لبطليموس، وكتاب إقليدس في الهندسة. – كتاب ألأثماطيقي. وقد لمعت أسماء مجموعة من المترجمين كابن المقفع، وأبي يحيى البطريق، وابنه يحيى البطريق وغيرهم. واستمرت الترجمة في الازدهار في زمن خلفاء بني العباس كهارون الرشيد والمأمون، ويعتبر عصر المأمون من أزهى عصور العباسيين في الترجمة، وقد توقف المؤلف مع أبرز الكتب التي ترجمت في هذه العصور العباسية المتعاقبة، وأبرز المترجمين. ويظهر من قراءة هذا الفصل أثر حركة الترجمة على ازدهار العلم، وغزارة المؤلفات التي دارت حول هذه الكتب المترجمة، شرحاً لها أو رداً عليها أو استدراكا عليها. وقد أحدثت بعض الكتب المترجمة بلبلة في عقائد المسلمين وخصوصاً كتب الفلسفة والنجوم ونحوها.

الفصل الخامس:
خزائن الكتب والمكتبات أفرد المؤلف هذا الفصل للحديث عن أول نشوء المكتبات العامة في التاريخ الإسلامي، وأشار إلى أن أول كتاب عرفه المسلمون وحملوه معهم في فتوحاتهم هو القرآن الكريم، وأن المسلمين شهدوا في فتوحهم لدى الأمم المجاورة كتبا مخطوطة فما أعاروها اهتماماً أول الأمر، ولكنهم حين بدأوا يعتنون بالتفسير والحديث والشعر والخطب والأمثال والحكم شعروا بالحاجة إلى التدوين ونسخ الكتب وحفظها في أماكن عرفت فيما بعد بـ ( بيت الحكمة) أو (خزانة الحكمة)، فكانت الكتب التي يجلبها الفاتحون من الأمم المجاورة، والكتب التي يؤلفها العلماء المسلمون تحفظ في هذه البيوت أو الخزائن ليصار إلى الرجوع إليها والإفادة منها والنقل عنها. وأشار المؤلف إلى أن أول ذكر لبيت الحكمة يرد مرتبطا بالصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ومنسوبا إليه كما في المناظرة التي وقعت بين عثمان بن سعيد الدارمي (ت280هـ) وبشر المريسي (ت218هـ)، ومعروف أن معاوية رضي الله عنه إبان خلافته كان يحب سماع أخبار الملوك المتقدمين، فدعى من أجل ذلك عبيد بن شرية الجرهمي الذي كتب له كتبا في أخبارهم.. وأشار المؤلف إلى دور حفيد معاوية رضي الله عنه خالد بن يزيد بن معاوية الذي كان مولعاً بالكتب والعلم وجمع كتبه، وله ذكر حسن في كتب التاريخ والتراجم، وإليه ينسب الفضل في نشأة عدد من العلوم والعناية بها وبكتبها، وقد أنفق الكثير من المال على ترجمة الكثير من الكتب من اللغات غير العربية إلى العربية، وإليه ينسب الفضل في إنشاء أول خزانة كتب عامة في التاريخ الإسلامي سماها (بيت الحكمة). ثم ينقطع خبر بيت الحكمة بعد خالد بن يزيد بن معاوية حتى زمن الوليد بن عبدالملك (ت96هـ)، حيث يذكر أن لمكتبته خازناً وناسخاً، ولكل منهما لقب محدد، فقد لقب أحدهما بالمصاحفي، وسمي مولاه (زياد مولى سعد صاحب المصاحف) تلميذ ابن عباس، وأول ما ينصرف الذهن عند الوصف بالمصاحفي إلى المصحف، غير أنه لا يمنع انصرافها لبقية الكتب المجلدة باعتبارها صحف مجموعة. وقد ذكر ابن عبدالبر عن الكتب التي ضمت إلى مكتبة الوليد بن عبدالملك قوله:(من جملة ما وجد في الأندلس اثنان وعشرون مصحفاً محلاة … ومصحف آخر محلى بفضة فيه منافع الأحجار والأشجار والدواب وطلسمات عجيبة، فحمل ذلك إلى الوليد، وكان في المصاحف مصحف فيه عمل الصنعة وأصباغ اليواقيت) [القصد والأمم لابن عبدالبر ص 34]. ولا نجد بعد ذلك ذكراً واضحاً لخزائن الكتب والمكتبات العامة، إلا ما يذكر عن مكتبة الوليد الثاني (ت125هـ) فبعد وفاته حملت الدفاتر التي كانت تحتويها مكتبته على دواب عديدة، وهي الدفاتر التي تضم في معظمها أحاديث وروايات ابن شهاب الزهري. ومن هذا يتبين أن المكتبات الأموية كانت تحتوي على كتب في الحديث والشعر والأخبار والتاريخ والنجوم والطب والكيمياء وبعض الكتب الفلسفية، وكان فيها أمناء ونساخ، وكان بعض المترجمين قد ترجموا كتبا في الطب. في العصر العباسي: عرف عن أبي جعفر المنصور ميله لعلم النجوم إضافة إلى بقية العلوم. فقد كلف المنصور من يترجم له كتبا في الطب وغيرها من العلوم التي لم تعرفها العرب إلى العربية، ولذلك أقبل عليه المترجمون، وبعث له ملوك العجم بالكثير من كتبهم بناء على طلبه، وكان له دور بارز في دعم ترجمة الكثير من الكتب المهمة في الطب والرياضيات وغيرها. وقد تواصلت عناية خلفاء بني العباس بدعم العلم والكتب والخزائن، فكان المهدي وهارون الرشيد ومن بعده من أبنائه يولون هذه المكتبات عنايتهم، وينفقون بسخاء على القائمين عليها، وعلى تزويدها بالكتب في كل الفنون، ولذلك ازدهرت هذه المكتبات في زمن العباسيين بشكل ملفت للنظر. ويعتبر زمن المأمون من أزهى عصور بيت الحكمة، فقد تطور العمل في بيت الحكمة تطورا كبيراً جدا، حتى إن بعض المؤرخين يظن أن بيت الحكمة لم ينشأ إلا في عهد المأمون لعنايته به. فقد كان بيت الحكمة في زمن المأمون خزانة للكتب، ومركزاً للترجمة والتأليف، ومركزاً للأبحاث ورصد النجوم، وجمع بيت الحكمة كل الكتب القديمة التي وصلت عن طريق الوراثة أو الاقتناء، وهي بمختلف اللغات، والكتب التي ترجمت عن تلك اللغات، والكتب التي ألفت للمأمون وغيره من الخلفاء والأمراء وغيرها. وكان لتشجيع المأمون ورعايته دور في إقبال العلماء على بيت الحكمة ينهلون منه ويؤلفون في ظلاله وينالون من هباته وكرمه، وفي نصوص التراث ما يعزز هذا ويدعمه، وقد نقل المؤلف الكثير من النصوص المعززة لهذا المعنى. صاحب بيت الحكمة: تكلم المؤلف عن أن صاحب بيت الحكمة هو المتولي لشؤونها، والقائم على إدارتها، وأول من يذكر في تولي هذا المنصب هو سهل بن هارون (ت215هـ). وقد تولى إدارة بيت الحكمة بعد سهل بن هارون عدد من كبار الأدباء والكتاب، وقد أورد المؤلف أسماء عدد كبير من الباحثين في مختلف العلوم الذين عملوا في بيت الحكمة. وقد بدأ اسم بيت الحكمة يتضاءل ويكاد يختفي بعد وفاة المأمون ومجيئ المعتصم، وانتقال مركز الخلافة إلى سامراء بدل بغداد، ولم يعد يذكر بيت الحكمة إلا باسم خزانة كتب المأمون، أو مكتبة المأمون، فقد ذهبت صفته العلمية، وخبا ضوؤه بعد أن كان يحفل بالعلماء والمترجمين والمنجمين، وحتى هذه الخزانة أو المكتبة لم يعد لها ذكر في مصادر التراث بعد القرن الرابع الهجري. ما سمي ببيت الحكمة من خزائن الكتب الأخرى: ذكر المؤلف عدداً من الخزائن العامة سميت أيضاً ببيت الحكمة، ومنها: 1- خزانة الحكمة لعلي بن يحيى بن أبي منصور المنجم (ت275هـ). وكان صاحبها شاعراً أديبا راوية للأخبار والأشعار، وكان يعمل في بيت الحكمة للمأمون، ثم أنشأ بعد ذلك هذه الدار الخاصة به. 2- خزانة الحكمة للفتح بن خاقان. وهو وزير المتوكل الأول، وكان أديبا جوادا حكيماً، محبا للكتب والقراءة، حتى قال فيه أبو هفان: (ثلاثة لم أر قط ولا سمعت أحبَّ إليهم من الكتب والعلوم، الفتح بن خاقان، والجاحظ، وإسماعيل بن إسحاق القاضي). خزائن أخرى شبه عامة (دور العلم والخزائن المحلقة بالمدارس): أ- دار العلم في الموصل. وقد أنشأها أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي الشحام المتوفى سنة 323هـ. وكان بصيراً بالنجوم وعلوم الأوائل كما يسمونها، وكانت خزانته تضم كتبا من جميع صنوف المعرفة، في الحكمة والفلك وغيرها، وقد جعل خزانته وقفا على طلاب العلم يقرأون فيها، ويقدم للغرباء المال والورق والإقامة في بيوت مخصصة للغرباء والمحتاجين، وخصص فيها مكاناً للتدريس. ب- دار العلم الفاطمية. وقد أنشأت في القاهرة بأمر الحاكم بأمر الله العبيدي الباطني سنة 395هـ، وقد كانت على مذهب الإسماعيلية والطعن في السنة وأهلها، وقد أغلقت ثم فتحت عدة مرات، ثم أغلقت نهائيا بعد تولي صلاح الدين الإيوبي ملك مصر وسقوط دولة الباطنية. وقد أغدق الحاكم بأمر الله على هذه الدار أموالا طائلة وجلب لها الكتب من كل مكان، وكانت حافلة بكل الكتب والمعارف. ت- دار العلم لسابور في بغداد. وقد أسسها سابور بن أردشير ت 416هـ وزير بهاء الدولة العباسي، وكان كاتبا مثقفا أديبا يحب العلم والعلماء، وكان شيعياً من أصل فارسي، وقد أنشأ هذه الدار في حي للشيعة، وأغدق عليها الأموال فأصبحت مثابة للعلماء وطلاب العلم والأدباء والشعراء. وقد عمل سبط ابن الجوزي فهرساً لكتب هذه الدار. ث- خزانة المدرسة النظامية في بغداد. وقد أسسها الوزير نظام الملك أحد أكبر رجال الدولة السلجوقية، وقد عرف بذكائه ونشاطه وشغفه بالعلوم ومجالسة العلماء، وبعد وفاة الملك السلجوقي ألب أرسلان سنة 465هـ كان نظام الملك هو الملك الحاكم الحقيقي. وقد شيدت هذه المدرسة على ضفاف نهر دجلة، قرب قصر الخليفة سنة 457هـ واستغرق بناؤها سنتين، فأنجزت سنة 459هـ وقد خصص في هذه المدرسة الكبيرة بناء خاص للمكتبة التي عرفت حينا باسم (دار الكتب)، وقد حظيت باهتمام نظام الملك نفسه، وكتب فيها كراسة في الحديث النبوي عند زيارته لها أول مرة تيمناً وتبركاً كما يقولون. وقد أورد المؤلف الكثير من أخبار هذه الدار وأخبار من قام عليها من العلماء والأدباء. ج- دار العلم في طرابلس. وقد أنشأها جلال الملك أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد صاحب مدينة طرابلس وقاضيها، وكانت هذه الدار غنية بالكتب، وتعتبر من أغنى المكتبات الإسلامية، وقد قيل إنها كانت أكبر وأجمل مكتبة في عصرها حوالي 463هـ، حيث يقدر عدد كتبها بثلاثة ملايين كتاب، كان من بينها خمسون ألف نسخة من القرآن الكريم، وعشرون ألف نسخة من التفاسير، وعمل بها مئة وثمانون كاتباً، منهم ثلاثون كانوا يقيمون بها ليلا ونهاراً، وقد هيأ لها حكام بني عمار كل أسباب التزويد بالكتب، وقد ازدهرت طرابلس في عهد بني عمار بالعلوم، وزارها العلماء من سائر البلدان، وقدموا خدماتهم للمشرفين عليها. ومما يؤسف له أن هذه الدار لم تدم طويلا، فقد أحرقت سنة 493هـ بعد ثلاثين عاما من تأسيسها، فقد حاصر الصليبيون طرابلس سنة 493هـ ودام حصارهم لها عشر سنوات، فلما دخلوها سنة 503هـ أحرقوا من جملة ما أحرقوا دار العلم، وقيل إن أحد الكهنة فزع من كتب رآها، ووقع بصره على مجموعة جليلة من المصاحف، ولما أمسك مجلداً منها شك أنه نسخة من القرآن الكريم، وأن كل ما تحتوي عليه الدار إنما هو مصاحف، ولهذا أحرقها الصليبيون، ثم استولوا على جملة الكتب ونقلوها إلى بلادهم، ويقول المؤرخون: وبعد حصار المدينة عشر سنوات استسلم سكان المدينة بعد وصول رسالة من الخليفة أمر فيها أن يبعثوا إليه بامرأة جميلة فقيرة، كان قد سمع بجمالها، بدلا من إعلانه عن إرسال مساعداته ونجداته، فاستسلمت المدينة كلها وهي يائسة إلى العدو الذي غزاها واستولى عليها، ولم يتخذ لأجلها أي حيطة لحفظ الأموال أو الأرواح، بل هاجم هو ثرواتها ونهب بعض أماكنها. [مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي 11/314]. وهكذا أحرق الغزاة هذه المكتبة العظيمة، واستولوا على بقية كتبها وطويت بذلك صفحة هذه الدار التي كانت من أجمل وأثرى المكتبات في العصر العباسي والله المستعان. ح- خزانة المدرسة المستنصرية. وهي من المآثر الجليلة للخليفة المستنصر بالله (588-640هـ) حيث أنشأ المدرسة المستنصرية وألحق بها هذه الخزانة. وتعتبر من أضخم الخزائن وأكبرها في زمانها، وقد عمل فيها عشرات من العلماء والباحثين والأدباء. وكانت نهايتها على يد المغول عند استيلائهم على بغداد سنة 656هـ. وبعض كتبها نقلت إلى المراغة بعد استيلاء المغول على بغداد لصالح نصير الدين الطوسي قبحه الله، حيث ملأ مكتبته بالكتب التي نهبت من مكتبات بغداد وغيرها حتى اشتملت مكتبته على أربعمائة ألف كتاب منهوبة. خزائن الخلفاء والأمراء: تحدث المؤلف عن الخزائن الخاصة بالخلفاء والأمراء، وأشار إلى الكتب التي كانت تحفل بها هذه المكتبات الخاصة بعلية القوم ، فذكر خزانة الخليفة الراضي، وخزانة سيف الدولة الحمداني، وخزانة المستنصر الأموي في قرطبة الأندلس، وخزانة العزيز بالله الفاطمي، وخزانة نوح الساماني في بخارى، وخزانة الناصر لدين الله العباسي، وخزانة المستنصر بالله العباسي، وغيرهم من الخلفاء والأمراء وكبار الوزراء الذين كانت مكتباتهم الخاصة تفوق بعض المكتبات العامة من حيث عدد الكتب، وكثرة العاملين فيها، ونفاسة المحتويات. وقد أوجز المؤلف أخبار هذه المكتبات في الكتاب. خزائن كتب العلماء الخاصة: لكل عالم مكتبته الخاصة، وما كان ينسخه لنفسه، أو يشتريه أو يهدى إليه من كتب، وكان لبعض العلماء مكتبات ثرية عامرة، وجاءت عنها معلومات وأوصاف في كتب التراث، وبعضهم الآخر – مع شهرتهم وحبهم للكتاب – لم تعرف لهم مكتبات عامرة، وكانت كتبهم قليلة ومحدودة، ولا شك أن لدى الأدباء المشهورين من أمثال الجاحظ وأبي حيان التوحيدي وياقوت الحموي وابن النديم والقفطي مكتبات عامرة، ولكن ليس لدينا وصف لها أو علم عنها، ولا ذكر واف عن محتوياتها. وقد أشار المؤلف إلى بعض المكتبات الخاصة، فذكر مكتبة الواقدي صاحب المغازي، وخزانة ابن الزيات وزير المعتصم والواثق العباسيين، وخزانة أبناء موسى بن شاكر، وخزانة كتب علي بن يحيى المنجم، وخزانة إبراهيم بن إسحاق الحربي، وخزانة محمد بن الحسين، وخزانة كتب ثعلب، وخزانة كتب الصولي، وغيرها من الخزائن الخاصة، وتوقف المؤلف مع كل مكتبة من هذه المكتبات فذكر طرفا من أخبارها وما قيل فيها من الأشعار، وهذا الفصل من أطرف فصول الكتاب وأمتعها بأخباره، ويستملح هذا الفصل محبو الكتب وأصحاب العناية بالكتب وهم كثيرون في القديم والحديث ولله الحمد، وللحديث بقية إن شاء الله عن هذا الكتاب الماتع.

رابط المادة: http://iswy.co/e16kag

الحلقة الخامسة (الأخيرة) 

الفصل السادس :
صناعة الكتب أفرد المؤلف هذا الفصل للحديث عن تجليد الكتب، وتذهيبها، والصور والرسوم التي تزين بها الكتب. واستهل المؤلف هذا الفصل بسؤال عن شكل الكتاب في أوله وكيف كان عند أول ظهوره في الأمم القديمة؟ وكيف تطور واتخذ شكله الحالي الذي هو صفحات تضمها دفتان من الجلد أو الورق. وخلاصة كلامه أن الكتاب في أول ظهوره كان يختلف شكلا وحجماً، وكان الإنسان القديم قد كتب كتابه الأول على الطين والحجر، وكان السومريون – سكان العراق القدماء – قد كتبوا على الألواح الطينية بأشكال وأحجام مختلفة، فدونوا بهذه الطريقة علومهم وتاريخهم، وكان النص يستغرق لوحا أو عدة ألواح، فإذا كان النص طويلا استخدموا عدة ألواح، وكانوا يرقمون الألواح بأرقام متسلسلة كما ترقم صفحات الكتب اليوم؛ وبعض هذه الألواح لا يزال محفوظا في المتحف العراقي ببغداد حرسها الله وأعادها للمسلمين حرة أبيًّة وخلصها من دنس الرافضة. وكان أهل مصر في ذلك الوقت يكتبون على لفائف البردي، وكانوا يصنعون الكتاب على شكل ملف من صحائف البردي بأحجام مختلفة يبلغ طول بعضها ستة إنجات، تلصق ببعضها فتكون على شكل شريط طويل، يلف ليصبح على شكل اسطوانة. وبالإضافة إلى البردي فقد استعمل المصريون ألواحاً من الخشب المغطى بالجص لتدوين النصوص. وكذلك استخدموا ألواح العاج المغلفة بالشمع. أما الشعوب الأخرى فقد استخدم كل شعب ما توافر له من مواد للكتابة، وما رآه مناسبا لتدوين أفكاره، فقد استخدم الصينيون ألواحا خشبية، وما دامت هذه الألواح عرضة للتلف أو الحرق فإنها لم تصل إلينا، وكذلك كتبوا على الحرير الذي عرفوه منذ وقت مبكر، واستخدم اليونان والرومان ألواح الخشب المغلفة بالشمع، وكذلك لفائف البردي، ومن الرومان أخذت شعوب غرب أوربا استخدام لفائف البردي. وعرف الرَّقُّ في مرحلة متأخرة، واستخدم في الكتب الدينية المقدسة، وقد ساعدت النصرانية على انتشار الرق لحاجتها لكتابة نسخ من كتابهم المقدس لترسلها إلى أنحاء الأمبراطورية، ولم يؤثر الرق على استخدام البريدي فكلاهما استمرا في الاستعمال في شؤون الكتابة، ولكن اختلف شكل الكتاب مع استخدام الرق فأصبح على هيئته الحالية كالمصحف، فأصبحت الصفحات ترتب الواحدة تلو الأخرى، وأصبح شكل الكتاب مستطيلا قائما كما هو اليوم. ظهور التجليد: أول ما عرف التجليد عن الأقباط المصريين، حيث كانوا يعنون بتجليد الكتاب المقدس ويتفنون في ذلك، وعنهم أخذ المسلمون فن التجليد، وقد طور المسلمون فن التجليد وخاصة تجليد المصاحف في العصور الوسطى غاية الإتقان والجمال. وكانت مادة الغلاف التي استخدمت أول مرة في التجليد من الخشب، مع تطور ما يضاف إلى الخشب من المحسنات كتطعيمه بالعاج، أو بصفائح ذهبية، أو فضية مرصعة بأحجار كريمة، وقد تغلف بالقماش المطرز، ولذلك كانت هذه الأغلفة الثمينة عرضة للسرقة لنفاستها، ولذلك لم يصل منها إلينا إلا القليل. وقد انتقلوا في بعض الأطوار للتغليف بنفس أوراق البردي بعد تضعيفها ثم تغليفها، ولكنها سهلة الانكسار فرجعوا للخشب. ثم تطور التغليف والتجليد ليصبح من الجلد بدل الخشب؛ ومن الجلد أطلق عليها اسم (التجليد) الذي استمر على مدى الزمن حتى وصل إلى العصر الحاضر دون تغيير كبير، وقد برع الأقباط في استخدام الزخرفة في تجليد الكتب، وقد وصلت نماذج قليلة من أغلفة الكتب القبطية التي استخدموا فيها الجلود المزخرفة. وقد ساهم الأقباط في نشر فن التجليد في أنحاء العالم. التجليد في الإسلام: كان القرآن الكريم أول كتاب عرفه المسلمون، وكتب المسلمون المصاحف على الرقوق، ولم يستعلموا البردي في كتابة المصاحف؛ بل كانت المصاحف مكتوبة على الرقوق، وكانت بحاجة إلى حفظها بين لوحين من خشب، وبذلك عرفوا فن التجليد، وغالب الظن أن دفتي الخشب كانتا تكسيان بالجلد أو القماش، ولا تخلو من الزخرفة والزينة، وكان أسلوب التجليد الإسلامي وفق التقاليد الحبشية والقبطية السابقة للإسلام. والمعروف أن القرآن حين جمع في عهد أبي بكر ثم في عهد عثمان بن عفان، كتب على صحائف الرق، وكتبت منه نسخة واحدة وضعت صحائفها بين دفتين لحفظها، ثم أطلق على القرآن الكريم اسم (المصحف) وابتعدوا عن تسميته بـ (السِّفْر) لأن هذه التسمية كانت مستعملة عند اليهود، وقد ذكر الجاحظ أن تسمية المصحف مأخوذ عن الحبشة، والمصحف هو الذي يحفظ الكتاب ويسهل استعماله ويصونه في تماسك وجمال، وقد نقله العرب عن الأحباش. ويستمر المسلمون في تطوير التغليف وخاصة للمصاحف، وذلك في صدر الإسلام وفي عهد الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية؛ ولكن المعلومات التي وصلت عن هذه المرحلة قليلة، حتى إذا جاء القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) شهد فن التجليد تطورا كبيرا جدا، وقد وصلت بعض أغلفة المصاحف من تلك الحقبة، وفيها دلالة على تطور فن تجليد الكتب لدى المسلمين. وفي القرون اللاحقة شاع تغليف الكتب بشرائح من الجلود فوق الخشب، وهذه المرحلة تعتبر بداية فن التجليد عند المسلمين. لقد كانت عناية المسلمين بتغليف المصاحف والكتب عناية بالغة، ولا سيما كبارهم كالخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء والأثرياء والعلماء، وقد مر معنا إنشاء بيت الحكمة في عهد الرشيد، وكان فيه جزء خاص بالتغليف للكتب بعد نسخها. وكانت الجلود تجلب من كل مكان لهذه الغاية، وتتفاوت الجلود من حيث الجودة والثمن وغيرها، وتجد في كتب التاريخ وصف لمزايا كل نوع من أنواع الجلود ومدى جودتها في التغليف. ثم لم تزل صناعة تجليد الكتب تزدهر وتتطور ويزيد أهل كل بلد من بلدان المسلمين بصماته الخاصة على التجليد للكتب فتميز أهل كل بلد بميزة في تجليد الكتب، حتى أصبح الكتاب يعرف من خلال تجليده بأنه تم تجليده في مصر أو في المغرب أو في اليمن أو العراق وهكذا. البطانة: كان المجلدون يبطنون أغلفة الكتب من الداخل بالبردي أو الرق أو الورق، ويرى بعض الباحثين أن المسلمين تأثروا بالأقباط الذين يبطنون جلود كتبهم بالرق المزخرف، وحين ازدهرت صناعة التجليد عند المسلمين صاروا يبطنون بالقماش أو الحرير، ولهم في ذلك فنون وهيئات كثيرة. اللسان: عرف اللسان الذي يوضع داخل الكتاب لتحديد مواضع الوقوف مبكرا لدى الأقباط، ونقله عنهم المسلمون إلى بلاد الغرب بعد ذلك، وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن اللسان ابتكار إسلامي. ويقع اللسان في الغلاف القبطي في الجانب الأيسر وكان على شكل قطعة مستطيلة، أما في الكتاب الإسلامي فيكون اللسان في الجانب الأيمن؛ وهو يحمي الكتاب، وكان يصنع عريضا بحيث يصلح أن يكون ظرفا للكتاب الذي يطبق فوقه. وفي مصر تطور فن التجليد تطورا كبيرا في القرنين الرابع والخامس الهجريين، ولا يزال حتى اليوم متميزا عن غيره. وفي الأندلس كان التجليد متقدما متطورا بفضل المسلمين، ويشيد المؤرخون بحذق أهل الأندلس في الوراقة، يقول المقدسي: “إن أهل الأندلس أحذق الناس في الوراقة” [أحسن التقاسيم: 239]. والفضل في ذلك للخلفاء الذين استقدموا أمهر المجلدين من بغداد وصقلية، بالإضافة إلى أهل الأندلس. وفي العراق كان فن التجليد متطورا جدا، بفضل اهتمام الخلفاء وكثرة المكتبات، وخزائن الكتب. مصحف عثمان في المغرب: بلغ فن التجليد في المغرب مرحلة متطورة، وكان لاهتمام الخلفاء بالكتب أثر في ذلك. وقد ذكر المؤرخون قصة وصول أحد المصاحف العثمانية ليد عبدالمؤمن بن علي الخليفة الموحدي وقد أهداه له أهل قرطبة فجمع أهل فن الزخرفة والتجليد من كل مكان وبالغ في العناية بهذا المصحف مبالغة شديدة فصلها ابن صاحب الصلاة في روايته للقصة في كتابه تاريخ المن بالإمامة 2/5، وأشار للحادثة المقري في نفح الطيب 2/135. أساليب التجليد الإسلامية: يمكن تقسيمها إلى ثلاثة اتجاهات في التجليد، وهي: الأول: متأثر بالنزعة الطبيعية في تنفيذ الغلاف، وهي مستمدة من العمارة الإسلامية، حيث تحلى واجهات القصور والمساجد بالآجر والفسيفساء، ومزدانة بالأعمدة مع فتحات بين الأقواس والعقود. الثاني: الطراز الهندسي الذي يتكون من مربعات وأنجم سداسية أو ثمانية، وكذلك مثلثات ومستطيلات تكون أشكالا هندسية متقنة ورائعة. الثالث: الأسلوب البسيط الذي تقل فيه الزخرفات والحلى. أثر التجليد الإسلامي في أوربا: لقد تأثر التجليد الأوربي بفن التجليد الإسلامي بشكل واضح، وكان الفن الإسلامي قد قطع شوطا كبيرا في النضج والإبداع الفني في الوقت الذي كان التجليد في أوربا بدائيا جدا، وكان التأثير والتأثر عن طريق زيارة القدس وما حولها في أيام السلم وعن طريق الحروب بين الطرفين عبر التاريخ. والأوربيون معجبون غاية الإعجاب بالفن الإسلامي عامة والتجليد والزخرفة للكتب خصوصاً، وقد نهبوا خلال حروبهم الكثير من النوادر الإسلامية في التغليف والتجليد، ولا زالت في مكتباتهم حتى اليوم. من أعلام المجلدين للكتب وبعض المؤلفات عن صناعة التجليد: ذكر المؤلف بعض أسماء وأخبار المجلدين المبدعين في تاريخ التغليف للكتب، وذكر ثلاثة مؤلفات صنفت في صناعة التجليد وهي: 1- (عمدة الكتاب وعدة ذوي الألباب) لا يعرف مؤلفه، وفيه شرح واف لكيفية التجليد وأصوله. 2- كتاب (التيسير في صناعة التسفير) للإشبيلي، شرح فيه طرق التجليد والنقش التي كانت على عهده ببلاد المغرب. 3- صناعة تسفير الكتب وحل الذهب للفقيه أبي العباس أحمد بن محمد السفياني، ألفه سنة 1029هـ. تذهيب الكتب: فن التذهيب فن قديم، يرجع عهده إلى الفراعنة المصريين القدماء، وعنهم أخذه المسلمون في تجليد المصاحف خصوصاً وعملوا صفائح رقيقة جدا من الذهب لصقوها وهي ساخنة على أغلفة الكتب المتخذة من الجلد، ثم صقلوها بعد ذلك. وهناك طريقة أخرى للتذهيب استخدمها المسلمون وهي استعمال ماء الذهب أو مداد الذهب، وهو مكون من برادة الذهب الممزوجة بالماء والصمغ وعصير الليمون. وقد تردد المسلمون أولا وتحرجوا من كتابة القرآن الكريم بمداد الذهب، خوفا من وقوع الإسراف، وطلبا للبساطة والتقشف، ولكن بمرور الوقت صار بعض من الخطاطين ينسخون بعض المصاحف بمداد الذهب، وكانت هذه المصاحف قليلةً، وبقي أكثر نسخ المصاحف بالمداد العادي . ولم يتحرج المسلمون من رسم فواصل السور وفواصل الآيات بماء الذهب، وكذلك في رسم بعض الزخارف في هوامش بعض صفحات المصحف، ثم شاع ذلك بمرور الزمن، وقد دأب المزخرفون بتذهيب الصفحتين الأولى والثانية من المصحف وكذلك الصفحتين الأخيرتين فأبدعوا في ذلك أيما إبداع. وقد أطال المؤلف في ذكر تفاصيل أخبار صناعة التذهيب للكتب وزخرفتها فليراجع الأصل للاستزادة. الصور والرسوم في الكتب: أورد المؤلف تحت هذا العنوان حكم التصوير في الإسلام وكيف تساهل الناس من العصر الأموي في التصاوير فامتلأت بيوتهم وكتبهم بها، وأشار إلى أن من أوائل الكتب التي وصلتنا مليئة بالتصاوير كتاب كليلة ودمنة الذي ترجمه ابن المقفع عن أصله الهندي. والتصاوير التي جاءت في الكتب الإسلامية إما أن تكون تصاوير توضح نصوص الكتب العلمية في الطب والهندسة ونحوها، أو لتزويق الكتب الأدبية. هذا ما تيسر من التعليق والتلخيص لأهم ما اشتمل عليه هذا الكتاب القيم “الكتاب في الحضارة الإسلامية” لمؤلفه الدكتور يحيى الجبوري وفقه الله، والغرض هو الحث على العودة للكتاب نفسه لقراءته كاملاً.

رابط المادة: http://iswy.co/e16kb5

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *