…………..الطعمية .. لله درها!! لا أعرف تماما من هو مبتكرها ولا متى بدأت هذه الأكلة بالانتشار في وطننا العربي . لكنني أرجح أن انتشارها قد تزامن معازدهار الأفكار القومية في النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين. وحملها المد القومي الهادر من مصر – قلب العروبة – مع ما حمله من أفكار وأحلام وأمنيات ، فانتشرت شرقا وغربا واكلها الجميع – اكتفى بعضهم بتغيير اسمها – ورغم أن ذلك التيار قد تراجع ثم انحسر منذ عقود ؛ لا بل أصبح من يدعو إليه موضع انتقاد أو سخرية. إلا أن الطعمية صمدت كحقيقة راسخة في حياة الشعب العربي من محيطه الهادر حتى خليجه الثائر – سابقا- .. متحدية بذلك الدعاوى القطرية والانعزالية والاقليمية كلها ، ومتحولة الى برهان راسخ على وحدة المصير العربي , بعد أن أصبحت ثقافة مشتركة ووجبة قومية يتناولها الجميع على السواء – بعد قليها بالزيت طبعا -.
تناولت وجبتي القومية قبل أكثر من ساعة إلا أن مفعولها مازال يسري في جسدي وكأنني قد انتهيت توا من الأكل . فما زلت اشعر بخدر في رأسي ، وتلبك قوي في معدتي . لحسن الحظ أن أحدا من الفقهاء لم يحرّم هذه الأكلة حتى الآن معتبرا إياها من المسكرات . ربما كانوا قد تدارسوا الأمر وأباحوها من باب الضرورة .فالضرورات تبيح المحضورات كما هو معروف . والأمر إذا ضاق اتسع .. وأي ضيق أكثر مما نحن فيه الآن . وربما أجيزت لأنها مما عمّت به البلوى .. لا أدري .. لا ادري تماما ولم اعد أستطيع السير أو الوقوف أو…أو حتى التفكير . كأنني ثمل بخمرة رديئة .
استلقيت في سريري المعدني وبدأت أتصفح كتابا عن الأحلام . ماذا يقول الكتاب : (( ما الضير في أن يخلد المرء للنوم !؟ إن اعتى الطغاة لا يقوى على إصدار قرار بمنع الأحلام . اللهم إلا إذا منع الناس من النوم في بلده . وانه لمن الجنون أن يقدم المرء على مقاربة المستحيل . ومن الكفر أن يتصدى لإرادة الله والطبيعة ., فلنسع جميعنا الى تفسير أحلامنا . رجالا ونساء . شيبا وشبابا فليس ثمة ما يميز بيننا في هذا المجال … ))
كاتب متفائل .. معه الحق .. فقد عاش في قارة أخرى وفي قرن أخر . ربما كان سكان الأرض كلهم لا يتجاوزون الملايين وقتها .. أما الآن .. فما زال اعتى الطغاة لا يستطيع منع النوم ولكن ..من منا يستطيع الآن أن يحلم ؟ أين الأحلام؟ أنا شخصيا لم أر حلما واحدا منذ ما يقرب… على.. لا أذكر .. لا أذكر تماما ولكنها مدة طويلة بالتأكيد . أنا أتمنى لا بل احلم منذ مدة طويلة برؤية حلم . حلم واحد . وقد أعددت جنب سريري ورقة وقلما لاصطياده فور رؤيته . أين هي الأحلام .؟ لعلي قد استهلكت رصيدي كله منها في مطلع حياتي . كنت وقتها لا أكف عن الحلم . لا بل أنني كنت احلم حتى وأنا مفتوح العينين . أما الآن .. فيبدو أن الأحلام قد ذهبت بعيدا.. ربما ذهبت إلى ارض الأحلام . وبقيت أنا . بقيت وحيدا بائسا على سطح هذا الكوكب المزدحم . أنام كل ليلة فيتحول ذهني الى ما يشبه الشاشة الرمادية التي تشوهها نقط بيضاء متراقصة . وحتى عندما أفيق فاني لا أستطيع فكاكا من هذا التشويش الذي يلازمني أحيانا طيلة اليوم . أين ذهبت الأحلام !! كم اشتقت إليك أيها الحلم . أيها الـ .. آه .. الطعمية . إنها تفعل أفاعيلها .. آه ؛ لله درها . يبدو أنها تفتك بجسدي المسترخي .مددت يدي وتحسست الورقة البيضاء والقلم . فربما .. ربما.. رّب…
داهمني نعاس ثقيل وبدأ يهبط على عقلي كستار اسود يرخى ببطء وثبات . فتحت عيني بصعوبة ونظرت الى المصباح المضاء في الغرفة . كان علَي إطفاؤه لكنني كنت أوشك على السقوط في بئر النوم . أغمضت عيني فارتسمت أمام أحداقي دائرتان خضراوان لم تلبثا أن اتحدتا في دائرة واحدة, اتسعت واتسعت, وبدأت اهوي منزلقا في داخلها . حاولت التوقف أو الاستيقاظ إلا أن الوقت كان قد فات . إذ أن سرعة انزلاقي بدأت تتزايد أكثر وأكثر . خشيت أن يخرج الأمر عن سيطرتي وان تكون له عواقب وخيمة . فتحت ذراعيً محاولا إيقاف جسدي من السقوط فيما يشبه أنبوبا ضخما معتما ملطخا بسائل لزج كريه الرائحة . بدأ السائل يتدفق في الأنبوب بغزارة دافعا إياي فوجدتني اصطدم بقطع طافية هنا وهناك . أنهم أشخاص آخرون ينزلقون معي بصمت في دوامة سريعة داخل المجرى المعتم ، أوشكت رائحة السائل أن تخنقني وبدأت أميز فيه رائحة كريهة مألوفة . حاولت التوقف أو العودة من حيث جئت . تشبثت بجدران الأنبوب إلا أن أظفاري قلعت وانزلقت مندفعا مع اتجاه التيار مصطدما بجسم هنا أو برأس هناك . حاولت الصراخ إلا أن صوتي خذلني . حاولت فعل شيء ما ، إلا أنني لم أتمكن إلا من إبقاء رأسي طافيا وسط دوامات يخلقها تيار صاخب يزداد جموحا كل لحظة . بدأت أدور حول نفسي وأنا انظر برعب إلى آخرين يبادلونني نظرات الرعب نفسها في الوقت الذي تصطدم فيه أجسادنا ببقايا أجساد تقطعت أثناء الرحلة تجنبت رأسا مقطوعا ودفعت عني ساقا منفردة وكفًا فارقت ذراعها . كانت بقايا الدماء والأشلاء تضيع وسط خضرة السائل اللزج الكريه وكان الأنبوب يضيق أحيانا حتى نوشك على الاختناق ويتسع أحيانا أخرى فتزداد سرعة سقوطنا أحسست برعب شديد ملأ علي وجودي كله . ضاق الأنبوب وضاق حتى أوشكت على الغرق وانضغط جسدي منسحقا ببقية الأجساد . ها انذا أتحطم أ ..ت ..ح ..ط.. م ..
فجأة .. وجدتني اهوي في فضاء رحب ناظرا تحتي إلى ارض بعيدة . كنت اسقط سقوطا حرا .حاولت أن افعل شيئا ما . لكن سرعة سقوطي تزايدت وتزايدت . اكتشفت أنني ما زلت ممسكا بالورقة والقلم في يدي . تشبثت بهما أكثر وأنا أرى الأرض تقترب مني بسرعة شديدة . بدأت التفاصيل تظهر بوضوح . سأسقط فوق مدينة . مدينة كبيرة . سأسقط وسط الملعب . كلا سأسقط قرب المدرجات . سأسقط تماما فوق صف الأشجار المحاذي للمدرجات . ها انذا اسقط وات .ح .ط .. تشبثت يدي بسعفة . لا اصدق أنني نجوت بهذه السهولة . تسلقت النخلة وأنا أتنفس الصعداء . شاهدت المئات والآلاف من الناس يسقطون بأمان على مدراج الملعب . سيحدث شيء ما . قد تكون مباراة . اهتزت النخلة فاهتززت معها وأوشكت على السقوط . لم أكن مطمئنا لمكاني لكنني اختبـأت بين السعفات وواصلت مراقبة ما يحدث أمامي حيث كان الآلاف ينتظرون بداية عرض ما . بدأ الحماس حينما دار شخص قصير ممتليء الجسم حول الميدان وهو يرتدي عباءة اغريقية يلف طرفها حول ذراعه ويمسك بيده الأخرى صولجانا ضخما. تسلق منصة عالية في أقصى الميدان . رفع صوته مهمها بكلمات لم أتبينها، ثم ضرب الأرض بصولجانه فدوى رنين الضربة عاليا ورجّعت جنبات الميدان صدى الضربة التي أسكتت الحشد مدة لم تطل ، إذ أن خروج أسد من بوابة جانبية أعاد إشعال الحماس فالتهبت الأكف بالتصفيق وانطلقت الحناجر تهتف هتافات صاخبة مجنونة . كانت الأوراق أمامي والقلم في يدي لكنني لم أتمكن من كتابة حرف واحد لأن سعفات النخلة المتحركة كادت أن تلقي بي أرضا . أمسكت السعف بيدي وبقيت محاولا التوازن وناظرا الى الميدان الذي كان الأسد يصول فيه مزمجرا بعظمة وخيلاء شديدين . لم يدم زهو الأسد وخيلاءه طويلا فقد فتحت بوابة جانبية أخرى خرجت منها أسراب كثيفة من جرذان سود بدأت بالانتشار على مساحة كبيرة من ارض الملعب . تراجع الأسد خطوات للوراء ثم قفز وهو يزأر ليصبح وسط الجرذان التي تفرقت متراجعة مذعورة . لكنها مالبثت أن عادت وتجمعت مشكلة قوسا كبيرا أحاط بالأسد من ثلاث جهات . أحس الأسد بالخطر . تلفت حوله بحذر لكنه فوجيء بجرذ أو اثنين وقد انشبا اسنانهما الحادة في ذنبه الطويل . ارتفع زئير الأسد مدويا وارتفعت معه صرخات الجمهور الذي كان قد أوشك أن يصل الى ذروة الاثارة .حاولت ثانية تسجيل هذا المشهد المؤثر لكنني لم أتمكن من المحافظة على اتزاني . كنت اخشى السقوط فبقيت متشبثا ومتطلعا الى الأسد الذي كان قد بدأ هجومه على أسراب الجرذان التي تراكضت أمامه بذعر ؛ إلا أن بعضها كان قد تمكن من القفز على ظهر الأسد الذي بدأ يصرخ بألم وغضب وهو يركض ملقيا نفسه على ارض الملعب متمرغا وساحقا بثقله مجموعة كبيرة من الجرذان السود . تسلقت مجموعة جرذان أخرى ظهر الأسد أو تشبثت ببطنه أو عنقه . نهض بشموخ ثم بدأ يركض بجنون خلف السرب الذي تفرق في كل اتجاه مبتعدا عن الوحش الغاضب المخضب بالدماء . ارتفع زئير الأسد إلا أن خطواته تباطأت وازداد تدفق الدماء من جروح بطنه وظهره وعنقه حتى تحول الى كتلة تخضبها الدماء والأتربة وما هي إلا دقائق حتى هوى الوحش ساقطا على الأرض لتعود الجرذان بجرأة شديدة ملقية بأجسادها السوداء الكريهة عليه . قاوم الوحش الجريح دون جدوى . اطلق صوتا حزينا طويلا كأنه يستغيث . في هذه اللحظات ارتفع صوت الجمهور غاضبا محتجا فزعا من هذه المباراة غير المتكافئة . طالب الجمهور بإيقاف العرض لكن حامل الصولجان صرخ بكلمات مبهمة وبلهجة قاسية غاضبة . ثم ضرب ارض المنصة بصولجانه فإذا بالسماء ترعد وتبرق . وإذا الجمهور يصمت فجأة ؛ ويتحول الى حجارة . تحجر كل شيء . حتى الأحداق تحجرت فيها نظرات الاحتجاج والرعب بينما استمرت أسراب الجرذان بعملها . وبعد دقائق كانت الجرذان تبتعد منفضة عن جسد الأسد الذي تحول الى هيكل عظمي لامع لم يبق من أشلائه إلا فروة رأسه وجزء من ذنبه الطويل الذي أمسكت به مجموعة من الجرذان السوداء ودارت به تسحبه حول الميدان . كانت أحداق الجمهور المتحجرة ما تزال تعي المشهد المرعب .. لكنها كانت عاجزة عن الحركة . كانت تنظر مرغمة الى ما يحدث أمامها ولا تستطيع حتى أن تطرف وكنت قد تجمدت في مكاني وتخليت تماما عن فكرة كتابة أي شيء . إذ أن همي الوحيد أصبح الاختفاء بعيدا عن أي عين . أكملت الجرذان المنتصرة ثلاث دورات في الملعب . بعدها ضرب حامل الصولجان ارض المنصة بكعب صولجانه فأبرقت السماء وأرعدت وسقط مطر اسود كثيف أصاب جموع المتفرجين المتحجرة . فبدأت كتلتهم بالتكسر والتحول . وبدأت ملامحهم الآدمية تختفي لتحل محلها ملامح قرود بأذناب طويلة، وحمير بآذان متهدلة ، وكلاب لاهثة ، وأرانب مشقوقة الشفاه ، وفئران تناثرت في كل مكان . تحول آخرون الى حمامات وعصافير طارت مبتعدة عن المكان . وأصبح آخرون ذئابا بدأت العواء ، وحاولت اصطياد الفرائس ألقريبة، بينما قفز آخرون الى الميدان مختلطين بالسرب الأسود ؛كانوا قد تحولوا الى جرذان . وانقلبت جماعة لتصبح دجاجات حمقاء أخذت تدور فوق المقاعد برعب غير مبتعدة عن ديكتها التي وقفت فوق المقاعد المرتفعة وبدأت تطلق أصواتها مؤذنه باحتجاج . ارتفع صوت الديكة في سماء الميدان مما شجع الحيوانات الأخرى كلها على إطلاق أصواتها عالية ضاجّة مستنكرة . اختلطت الأصوات وتداخلت لكن حامل الصولجان ضرب ارض المنصة بغضب فتحجر قطيع الحيوانات وعاد البرق والرعد . وعاد المطر الأسود والبرد للسقوط بغزارة . وبدأت كتل الحجارة تتشظى ثانية . تكسرت متحولة الى قطع اصغر واصغر حتى أصبحت فتاتا وذرات متساقطة على الأرض . لكن هذه الذّرات بدأت تسعى زاحفة على الأرض مشكلة جماعات من النمل الزاحف ، أو أسرابا من الذباب المتطاير.. حلقت بضع فراشات خافقة بأجنحتها الرقيقة محاولة الابتعاد عن المكان . اتجهت فراشة نحوي واقتربت من وجهي . اقتربت أكثر وأكثر حتى أصبحت أمام عينّي تماما . وقبل أن أدرك ما حدث كنت انقلب الى الوراء ساقطا من ارتفاع شاهق . بدأت أتقلب وأتقلب في الهواء ، وكانت أوراقي البيضاء تتطاير من حولي . بدت الأرض بعيدة جدا ، وبدا سقوطي لا نهائيا ولكن . . وقبل أن اصطدم بالأرض , أمسكت يدي بسعفة . وبسرعة شديدة كنت قد تسلقت النخلة وعدت ثانية الى مخبأي وسط السعف الكثيف . لكن أوراقي الفارغة البيضاء المتطايرة فضحتني . فاجتمعت أسراب الجرذان السود . وبدأت تقضم بأنيابها اللامعة جذع النخلة الشاهق ، لم يصمد الجذع طويلا فسرعان ما بدأ يهتز ويتمايل. سمعت صوت تكسر وقعقعة ، فتمسكت بالسعفات محاولا إخفاء نفسي لكن الجذع الضخم هوى بي متحطما لا جدني جالسا على كرسي خشبي في غرفة تحقيق ضيقة قذرة ينيرها مصباح اصفر صغير . كنت اجلس على الكرسي وذراعاي مربوطتان للخلف . وجسدي متورم من آثار التعذيب .
ـ اعترف. قال المحقق ذو الرقبة الغليضة والشارب المربع.
ـ بماذا ؟؟ أجبته بدهشة يخالطها خوف وألم
ـ اعترف بأنك صاحب هذه الأوراق وهذا القلم .
ـ أنا لم أنكر ذلك . إنها أوراقي بالفعل . ولكنها وكما ترى … أوراق بيضاء
ـ هذه هي التهمة الأشد خطورة . لقد القي القبض عليك متلبسا بحيازة أوراق بيضاء
ـ أنا .. أنا لم اكتب شيئا . قلت معتذرا بخوف
ـ هذا يعني انك تضمر شيئا لا تريد لأحد الإطلاع عليه. شيئ ممنوع . شيئ خطير . إن أكثر الأفكار خطورة تلك التي لم تكتب بعد . هذا ما تعلمناه في مهنتنا . من الأفضل لك أن تعترف وألا تتعبنا أكثر .. تكلم . اعترف اعترف .
ـ بماذا ؟
ـ بما كنت تنوي ألا تكتبه على هذه الأوراق. . بالأسرار التي قررت أن تخبئها في صدرك . اعترف . اعترف بحقدك . بتآمرك . برفضك . اعترف . اعترف. قال وانهالت علي الضربات من كل مكان . لم أكن أميز تماما تلك الأدوات التي كانوا يستخدمونها لتعذيبي لكنني كنت أحس بألم منفصل لكل ضربه أتلقاها على أي جزء من جسدي . تأكد المحقق من أنهم قد وزعوا الضربات على أجزاء جسمي جميعا بعدالة . شاهدتني فلم اعرفني . رأس منفوخ وعيون متورمة مزرقة .شفاه متدلية وأقدام مسلوخة . استمروا بالضرب فتركت لهم جسمي وبدأت أدور حول نفسي متضائلا حتى تحولت الى قلم صغير اسود. وضعت نفسي خلسة فوق طاولة المحقق قرب مجموعة من الأقلام . كانت تلك هي الطريقة الوحيدة للخروج من هذا الجحيم. بعد قليل .. بعد قليل كنت استنشق هواء الحرية خارج المخفر متطلعا الى العالم بطريقة جديدة . صرت قلما في جيب شرطي قذر . آه . آه كم اعتصرني واجبرني على كتابة ما لا أريد كتابته . كم حقيقة زورت . وكم اعترافا كاذبا انتزعت . وكم من يد خائفة مسحوقة أمسكت بي ووقعت مكرهة على ما لا تريد . أوشك أن يسحقني مرة بحذائه حينما حاولت التسلل لكتابة نشيد في كراسة طفل . أمسك بي واعتصرني حتى أفرغت ما بجوفي كله على ورق اصفر . ثم …ثم جاءت لحظة عجزت فيها عن كتابة حرف واحد . تآكل سني ونفذ حبري فالقاني الشرطي في الشارع لا صبح عرضه لخطر كبير قادم . كانت الأرض تهتز وتهتز . وكان الغبار يعلو . أناس ..أناس كثر .. مظاهرة . سحقتني الأحذية فتحطم هيكلي لكن روحي انطلقت وتوزعت على الجميع .. كنت مظاهرة صاخبة غاضبه تهدر بجنون وهي تهدد وتتوعد . كنت مظاهرة مجنونة تحاول فعل شيء ما . كانت المشاعر متأججة لكن أحدا ما كان يتحكم بي بخبث . وكان ينطقني بما لا أريد القول . عاش . عاش عاش . يسقط. يسقط. يسقط . العيون تلمع .والحناجر تهتف. والأجساد تتعرق .وقبضات الأيدي المغلقة تلوّح . تصاعد الغضب وتصاعد . حاولت تهدئة الموقف ,إلا أن الغضب اشتعل في الجهات كلها . حاولت لملمة أشتاتي إلا أنني اتسعت واتسعت واتسعت . انظمّ إلي نساء وشيوخ . وركض ورائي أطفال وصبية . توحدت الهتافات رغم اختلاف النوايا . توحد الغضب. لا. لا. لا نعم . نعم . نعم . حناجر تصرخ صرخات موحدة. والأقدام تضرب الأرض . القبضات تلوح . والحشد يتكاثف. وكنت أسير مرغما الى مكان اجهله . حاولت أن أتوقف دون جدوى . حاولت أن أغير الهتافات فلم أتمكن . كنت’ مظاهرة تسير رغم انفها الى مكان مجهول . مكان مخيف . تطايرت المنشورات وغمرتني من كل مكان . انطلق رصاص ودوّى انفجار أو انفجاران . سقط البعض مضرجا بدمه . كفنوا بورق الصحف . سقطت أوراق الصحف من السماء وغطت المتظاهرين . كنت مظاهرة يسير أفرادها كالمومياوات وقد كفنتهم أوراق الصحف من أخمص أقدامهم ، حتى قمم رؤوسهم. أصبحت مظاهرة صامتة تسير بسرعة الى مكان تنبعث منه رائحة نفاذه حادة . مكان تدوي فيه الانفجارات وتتساقط فيه اجزائي مضرجة بدم يلطخ ورق الصحف دون احتجاج .
لم البث أن اكتشفت أنني أقف عند حافة الحرب . أحسست بالخوف . وجدتني شابا حليقا مرتعشا ممسكا ببندقية . ألقيتها وحاولت الهرب .
ـ جبان . ارجع . ارجع .صرخ بي مسدس ضخم وهو يصوب ماسورته الى رأسي . رجعت ممتثلا لأمر المسدس وأمسكت البندقية. كان احدهم يفعل شيئا ما في الجهة المقابلة . ميزت رأسه . كان ما ميزته تماما هو سواد شعره . ربما كان هو الآخر يسدد نحوي. صوبت جيدا ثم ضغطت على الزناد لاحسّ فجأة بجحيم ينفجر في جسمي ونيران تتصاعد خارجة من جوفي ضاغطة بعنف على عنقي مما دفع رأسي المدبب للانطلاق بعيدا عن جسدي الملتهب الأجوف الذي أنقذف جانبا بينما اندفع راسي لينحشر فجأة في أنبوب لا يكاد يتسع لمروري. لكن ضغطا هائلا وحرارة لا تحتمل كانت تدفعني للامام. كنت انحشر مستطيلا ومندفعا_رغم انفي _ في ذلك الأنبوب الطويل المحلزن بشكل دائري بدأت أدور وأدور مع دوران الحلزنة حتى وصلت فجأة الى نهاية الأنبوب. انقذفت شاعرا بسعادة هائلة لكنني أجفلت لسماعي صوت انفجار مدو يعقب خروجي. لم استطع الالتفات للوراء فقد كنت انطلق بسرعة تزيد على سرعة الصوت. حاولت السيطرة على نفسي وإيقاف حركتي الدورانية دون جدوى . حاولت الصعود قليلا الى أعلى أو الهبوط الى أسفل. حاولت الانحراف يمينا أو شمالا. لكنني فشلت .. فشلت . استسلمت للدوران المجنون حتى اصطدمت بالرأس ذي الشعر الأسود . عندها أحسست – ولجزء من الثانية – بألم فضيع ينتاب وجودي كله . غمرتني أشياء لزجة دافئة تناثرت نتيجة الاصطدام . سقطت أرضا فشاهدت جنديا آخر يصرخ بفزع ((أصيب .. لقد أصيب .إسعاف . اتصلوا بوحدة الميدان)) لكن عريفا محنكا أجابه بهدوء وهو مستمر في إطلاق النار((انه ليس مصابا.انه ميّت)) أحسست بيد تقبض على قدمّي وتسحبني لمسافة طويلة . كان جسمي يصطدم بكتل الحجارة والصخور. وكنت اعلق أحيانا في استدارات الخنادق الطويلة ثم انفلت فجأة تاركا ورائي بقع دماء كبيرة متخثرة . بدأ صوت الرصاص يبتعد . ولم اعد اسمع إلا دوّي المدافع. عندها حملتني أربع أيد ووضعتني على نقالة . كنت نقالة قديمة مليئة ببقع دّم مسوّده. وكانت مقابضي الأربعة تئن تحت أيّ ثقل لأن خشبها قد تشظى بفعل الزمن والرطوبة والصدمات الهائلة التي تلقيتها في الآونة الأخيرة . أحسست بالاشمئزاز حينما بدأت البقع اللزجة تتسرب وتتغلغل في مسام نسيجي . لم استطع أبدا تعود هذه البقع . ما أفضع رائحتها ! إن دفئها يبعث القشعريرة في أوصال نسيجي المهتريء. وكحلم بعيد ، مرت ببالي ذكريات قديمة . حينما كنت اقضي أيامي كلها مسندة الى جدار خزانة لا يفتحها احد .و ممضية وقتي كله في تأمل أحوال هذا العالم . آه . ما أقساهم . إنهم يكادون أن يقصموا ظهري . لقد وضعوا جثة أخرى فوق الجثة الأولى . لماذا يتجاهلون مشاعري . أكتافي توشك أن تنخلع .مقابضي تكاد تتكسر . آه . ما هذا الألم الفضيع .. آه . لقد فقدت مقبضا. فقدت مقبضا وسقطت الجثث على الأرض . انها ثلاث جثث وليست اثنتين كما توهمت . احدهم يسحق بحذائه على ذراعي المخلوع . يا لقسوتهم . ولكنني قد ارتاح الآن . فلا شك أنهم سيخرجونني من الخدمة لأسباب صحية .ما هذا.؟ إنهم يلقون بي هنا . أخرجوني من هذا المكان. قد تسقط قذيفة في أية لحظة . هل نسيتم خدماتي ؟؟. صرخت صرخت ..صرخ كل خيط في نسيجي القديم. لكن أحدا لم ينتبه لصرخات نقالة ملطخة بالية مبتورة الذراع . آخ . ما هذا الشيء الذي يسحق جسدي . انه ثقيل . ثقيل واسود وملطخ بالوحول. انه إطار . إطار ممسوح متعب ..إطار لم يرحمه احد .. من سيأبه لمشاعري ؟ إنني أوشك على الانفجار . لقد خفضوا الهواء في جوفي لا تمكن من السير في الوحول.. الم يلاحظوا التشققات التي تملأ جسدي .؟؟ لماذا لم يعفونني من هذا الواجب المهلك .؟
ألا يرحم أحد إطارا عجوزا أمضى حياته مربوطا بسيارة تنقل الجثث.؟ كم ميلا قطعت وسط هذا الهول. . ؟؟كم جسدا سحقت ؟؟ وكم مسمارا أنغرز في جسدي وثقبني بلا شفقة ؟؟. اما آن لهم أن يرحموا ضعفي وشيخوختي . ألا يرون أنني افعل المستحيل لا تماسك وامنع هذه التشققات من الانتشار على جسدي المنهك الذي يوشك على التمزق . إنهم يضعون المزيد من الجثث في العربة . ما أكثر الموتى اليوم . هل سأستطيع أن أكمل المشوار المتعب . يالحظي التعيس . أنا أدور هنا بينما يدور إخوتي في شوارع معبدة تغسلها الأنوار . عشرون ميلا من حجارة حادة ووحل وبرك مياه آسن حتى اصل الى شارع ترقشه حفر القذائف . سأدور وادور وأدور حتى افقد الوعي ولا اصحوا إلا على مطب يقذف بالسيارة وما فيها الى أعلى ثم تعود لتصطدم بقوة بالإسفلت ملقية ثقلا هائلا على جسدي . يالظلمهم وحقارتهم . ألا يفكر احد منهم أن يرحم إطارا عجوزا يوشك جسده المتشقق على التمزق ؟. ألا يفكر احد منهم بأن يرحم إطارا عجوزا قضى عمره في خدمتهم ؟. إلا يـ .. بو .ووووو.م .. بريق خاطف وانفجار كبير . كل شيء يتطاير في الهواء ورائحة نفاذة تملأ المكان . ضغطة واحدة . ضغطة واحد على رأسي كانت كافية لإحداث كل هذا الدمار . ثم .و في جزء واحد من أجزاء الثانية ..بوووم .. كل ذلك الانتظار . كل تلك الساعات والأيام والشهور والسنوات قضت عليها ضغطة من إطار عجلة قديمة خرجت عن الطريق . ورغم أن كل شيء قد تم في اقل من رمشة عين إلا أنني أحسست تماما بكل ما حدث وبالتفصيل . أحسست بالعجلة المهترئة وهي تضغط على رأسي . كانت ضغطة كافية لإشعال الصاعق الذي فجر نارا صغيرة حامية جدا أحرقت جوفي كله . ملأني غضب مدمر . غضب عصف بجدران جسمي المعدني. لكنّ المعدن قاوم وقاوم .فازداد غضب النار وجن جنونها فاندفعت محطمة الهيكل المعدني وناسفة ما فوقها . ومع أن ذلك قد حدث في جزء من الثانية .. إلا أن الوقت كان كافيا لأتذكر تماما شريط حياتي التعيس . ذكرياتي كلها مرت أمامي كحلم خاطف.. حتى تلك الذكريات البعيدة التي كنت اعتقد أنها قد غابت عني تماما منذ دهور. جسدي وهو يتجمع كأجزاء في المصنع . ألعجينة المتفجرة وهي توضع في الهيكل المعدني. الهيكل وهو يستنشق رائحة الطلاء الأخضر . الصندوق الخشبي المحكم الذي سكنته طويلا . الأيدي وهي تخرجني وتجمع أجزائي وتدفنني حيا في هذا القبر . ساعات الانتظار اللانهائية والخوف المستمر .. الرعب الكبير كلما مرت قربي دبابة أو عربة . رعبي الشديد وخشيتي من الانفجار حينما داسني ولأولّ مرة حيوان صغير _ كنت وقتها لغما ساذجا_ ثم . ثم أتذكر جيدا سعادتي بنجاتي وثقتي العالية بنفسي حينما أدركت أنني لغم مخصص للآليات الثقيلة ، ولست مجرد لغم صغير مضاد للأشخاص . انتهى كل ذلك في جزء من الثانية . وها انذا أتناثر في الهواء قاذفا بشظاياي وجحيمي الى الخارج .. ما أقسى أن يقضي احدنا حياته وهو لغم ينتظر الانفجار . تناثر كل شيء ..تناثر كل شيئ واحترق لحمي وامتزجت بقايا جثتي ببقاياهم لكن احدهم كان قد دون اسمي في ورقة . ورقة انتقلت من يد الى أخرى . أضيفت إليها أسماء وحذفت منها أسماء . ووضعت ضمن أوراق تحمل أسماء أخرى ,ثم قام احدهم بصياغتنا كبيان عسكري موحد . عدل البيان مرة بعد أخرى . أضيفت إليه عبارات رنانة وآيات قرانية. حذفت أسماؤنا وتم اختزالها جميعا في رقم . رقم واحد . . قلص الرقم الى النصف . ثم الى الربع . أضيفت إليه عبارات أخرى حتى أصبح البيان بضعة صفحات يرد فيها ذكرنا بشكل عرضي . سلم البيان الى الرقيب ثم الى المدقق اللغوي الذي قام بتشكيل الكلمات . وتصحيح الأخطاء اللغوية . تمت طباعتنا ثم سلمنا الى المذيع الذي كان قد انتهى للتو من شرب ملعقة زيت زيتون دافيء . تنفس بعمق قبل أن يضاء المصباح الأحمر ويبدأ في قراءة البيان . كان صوته ضخما فخما متصنعا. وهو ينفخ الكلمات والحروف . مكثنا مدة طويلة ونحن نستمع بملل للمقدمة العنترية الجوفاء ,حتى جاءت لحظة الخلاص حينما قرأ المذيع وبعجالة عدد الشهداء الوارد في البيان . تحولتُ الى حروف منطوقة خرجت من فم المذيع مخترقة شاربه الكث . تلقفني اللاقط الضخم الموضوع أمامه فتسللت عبر الأسلاك في رحلة كهربائية غريبة تثير الدغدغة والقشعريرة في الجسم . انتقلت بين الأسلاك والمكثفات والمضخمات في رحلة سريعة معقدة حتى وصلت الى مرسلات بثتني لمستقبلات حولتني الى مرسلات أخرى . لأنقذف كموجة تتذبذب في الهواء وتتلقفها الآلاف من أجهزة الراديو المنتشرة في كل مكان . استمع لي بعضهم بتركيز واهتمام . بينما لم يصغ الكثيرون إلي . مررت عبر آذان خطيبتي التي كانت مشغولة بتحضير دروسها استعدادا لخوض الامتحانات التي ستحدد مستقبلنا . .مررت عبر آذان ربات بيوت مشغولات بتحضير الطعام أو بكي الملابس . استمعني عمال منكبون على أعمالهم . وموضفون عاكفون على مكاتبهم . أشخاص يلعبون النرد في المقاهي . أو يقودون سياراتهم في طرق مزدحمة أو خالية . مررت بهؤلاء كلهم دون أن أثير انتباه احد . دون أن اعني شيئا ما لا حد ما . كانت الحياة تسيركما كانت تسير دائما .وكنت مجرد موجة تتذبذب في الهواء . موجة تتذبذب .. حتى مررت بسمع أمي التي كانت تتنفس الصعداء وتشعر بفرح خفي . وسعادة مبعثها الخلاص . خلاصي من ساعات الحزن والألم التي كانت تتملكني قبل انتهاء اجازاتي العسكرية. سعادة مبعثها انتهاء خوفي الشديد من العوق أو الموت . ونهاية لآلامي وعذاباتي التي صاحبتني طيلة السنوات الاخيرة . لم يعد هناك مبرر للقلق . لم يعد هناك انتظار . لم يعد هناك خوف مما سيحدث . فقد حدث أسوأ ما نتوقع وانتهى الأمر . لكنها شعرت بحزن مفاجيء حينما تذكرت نفسها. ستقطع ما تبقى من رحلة العمر وحيدة دون معين . ما اشد حاجتها إلي الآن ، وغدا ، وبعد غد . من سيعينها في شيخوختها . أين الأحفاد الذين حلمت بهم . لعلها ستتبعني سريعا وترتاح مثلي . لم تتمالك نفسها. رغم إرادتها القوية لم تتمالك نفسها فسقطت من عينيها دمعة وأخرى وأخرى . كنت دمعة دافئة تسيل ببطء على خد أمي الذي حفرته السنين الصعاب . انحدرت متجاوزا الأخاديد حتى سقط جزء مني على الأرض . انهمرت ثانية وثالثة . كنت دموع امرأة صامتة . كنت دموع يأس .وكنت دموع حيرة. وكنت دموع عتاب … مسحتني أمي بطرف كمها فأصبحت دمعة تبلل ثوبا قديما . لم استطع البقاء على كمّ الثوب رغم تشبثي . فالدموع ماء .. والماء يتبخر . بدأت بالتبخر والصعود الى أعلى.. حاولت البقاء في المنزل ..منزلي . إلا أن نسمة هواء قذفتني خارجا عبر النافذة المفتوحة. حاولت العودة دون جدوى . بدأت اصعد واصعد الى أعلى . لم يكن هناك غيمة لانضم إليها. لم يكن هناك إلا آلاف الدموع المتبخرة العاجزة عن تشكيل سحابة واحدة صغيرة. كنت ذرة في بحر الدموع الصاعد الى السماء . لكن بريقا غريبا شدني الى أسفل . كان بريق مئذنة مذهبة . درت حولها وحول القباب لأجد نفسي ضريحا يطوف حوله عشرات الأشخاص . مئات الأشخاص . كانت أكفّهم تتمسح بالشّباك الفاصل بيني وبينهم . مددت يدي إليهم فحال الشبّاك دون تلاقي أكفنا . حاولت أن افعل شيئا ما لكل الأرامل والكهول والثكالى الذين كانوا يطوفون حولي . للأيتام الذين يتطلعون إلي بتوسل ورجاء مبهم . للشباب الذين يدورون ويدورون حولي بحثا عن الخلاص . حاولت أن افعل شيئا ما لنساء متشحات بالسواد . لمواكب تحمل النعوش. لتلك الطفلة .. تلك التي ترتعش بين ذراعي والدها برأسها الضخم وعينيها الجاحظتين . وأطرافها الهزيلة المرعبة . كنت أريد من أعماقي شفاءها من تلك الأورام . حاولت جاهدا أن أتسلل من أي مكان لفعل أي شيء . حاولت حاولت حاولت . لكنني عجزت . فشلت .. لم استطع .. لم استطع إلا.. إلا أن أتحول الى ألم . .. ألم كبير تنامى واتسع وانتشر ليغطي سماء البلاد كلها. أصبحت سحابة الم متحركة تلقي بظلها على الجميع . انثنيت على نفسي وحاولت جاهدا التحول الى رجاء . رجاء أو أمل .. لكن المطر الذي تساقط أذابني ونقلني معه الى باطن الأرض . انتشرت في كل مكان . رويت الحقول وشربتني الحيوانات. أصبحت جزءا من دورة الألم في الطبيعة . حاولت أن أتحلل في التربة وأتلاشى . حاولت . لكنني – ورغم انفي – بدأت أنمو ثانية . بدأت أنمو بوجع بعد أن سقاني الألم ماءه المر , وغذتني أسمدة كيماوية حارقة, ولوثني إشعاع سلاح محرم . تنفست هواء يلطخه التراب . لكن ساقي عاد ليمتد عاليا , ونمت على جانبيه أوراق خضراء طرية تتطلع نحو الشمس وتفتح أذرعتها في دعاء غير مستجاب . بقيت جذوري مغروسة في الحزن تشرب مياه الألم . استدرت وتكورت متحولا الى ثمرة سوداء . ثمرة ازرقّ سوادها واحمر . لكن قلبي بقي ابيضا رغم حرائق الأسمدة الصناعية .. جمعت المي فتحول الى بذور صغيرة شديدة المرارة . لم ادر كيف أتخلص منها, فانطويت عليها وبقيت انتظر صابرا حتى قطفتني يد فلاح متعب . وبعد رحلة قصيرة كنت استقر – مع كثير من أصحابي – على سطح عربة خشبية متداعية في سوق شعبي . نظر الكثيرون إلي . سأل آخرون عن سعري ومضوا . كان الجميع يكرهني . لكنهم كانوا لا يستطيعون الاستغناء عني . كنت المس ذلك في نظراتهم وفي تصرفاتهم أحسست تماما بعمق كراهيتهم لي . بدأ أصحابي بالتناقص بسرعة . وكنت قد خبأت نفسي في أقصى العربة . نجحت في الإفلات من قبضة عجوز متقاعد قلبني طويلا فكرمشت جلدي – والرعب يملأني – حتى عافتني نفسه . لم يبق على سطح العربة إلا القليل . كيف سأنجو بجلدي من هذا المتسول الملحاح الذي يلجّ في سؤال البائع ويتوسله . درت حول نفسي عدة دورات حتى سقطت على الأرض . أوشكت أن أهرس لكنني نجوت من قبضة المتسول اللجوج .. ما هذا ؟؟ يد قوية تمسك بي وتلقيني في سلّة. امرأة متوسطة السن قررت الشراء . حزمت أمرها بسرعة فجمعت ما تبقى وضبطتني وافشلت خطه هروبي . هل سأستطيع القفز من السلة ؟ تبدو امرأة قوية الشكيمة وشديدة الحرص . كانت تسير بسرعة وتشتري أشياء متنوعة وتلقيها فوقي . لا أكاد أتبين طريقي . إنها تسير بسرعة والسلة تهتز . أحس بغيثان . لا بل أحس برعب شديد داخل هذه السلة المظلمة . كم اكره ألاماكن المغلقة . هاهي ذي تتوقف أخيرا وتضع السلة على شيء ما . ما هذا إنها تقلبنا . أين أنا ؟ انه مطبخ . مطبخ صغير عاري الجدران مرتفع السقف فقير التأثيث . هل ستضعني في الثلاجة …؟ ليس لديهم ثلاجة. ما هذا . انها تلقي بي تحت شلال ماء بارد .. تمسك سكينا حادة وتقطع قلنسوتي . تعيدني ثانيه الى الحوض تحت الحنفية .. لست مطمئنا . لا بد أنها تخطط لفعل شيء ما . هذه فرصتي الأخيرة للهرب. ما هذه الطرقعات . هذا صوت احتكاك خفيف .لقد .لقد أشعلت النار إنها تصب الزيت في مقلاة .. كيف سأنجو ؟؟ كيف سأنجح في تسلق جدران هذا الحوض .. المياه توشك أن تغرقني .. ها قد عادت وأطبقت على عنقي .. إنها تقطعني ..آه.. جسدي يتحول الى حلقات.. سفاحة .آه. ما أقسى هذا . انها ترش الملح على جراحي. إنها مجرمة حرب . سادية . أين منظمات حقوق الباذنجان .. لكنني سأنتقم . احذري غضبتي أيتها المرأة . سأسبب لكم الحساسية.سوف… اه .. يا الهي .. ما هذا .. ستلقيني في الزيت الساخن.رائحة الزيت . ابخرته. ..النار.. لاتلقيني في النار . ارجوك . احذري.سأنتقم . سأهاجم القولون . سأهاجم كل شيء . اقسم بالـ .. لا لا لا .
ـ استيقظ . استيقظ . ما الذي يحدث لك .
فتحت عيني على وجه زوجتي والرعب مازال يملأني
ـ ماذا بك كنت تتكلم في نومك.
ـ رأيت حلما غريبا.
ـ سيكون من الغريب ألا ترى أحلاما غريبة.
ـ تلك المرأة!
ـ أي امرأة ؟؟ قالت ومضت تسوّي أغطية السرير بلامبالاة لم نتبادل قبله الصباح -فنحن متزوجان منذ مدة طويلة- . لم اخبرها بالطبع بأنني كنت قد تحولت الى باذنجانه واّن امرأة أوشكت أن تقليني . اغاضني كثيرا أنها لم تأبه لذكري تلك المرأة. سرت’ مغمض العينين وأنا أحاول تذكر التفاصيل الكثيرة التي حلمت بها . غسلت وجهي وأبدلت ملابسي وبدأت بتناول الإفطار وأنا نصف نائم. مضغت الخبز الأسمر المزرق وكأني امضغ الصبار . حاولت دفعه بجرعات شاي التموين الأسود . انتهيت من الإفطار فبحثت فورا عن نصف السيكارة الأخير الذي كنت قد احتفظت به قبل النوم في مطفأة السكاير . كانت زوجتي توشك أن تفرغ المطفأة في سلة المهملات. أنقذت عقب السيكارة الذي لم أكن لأكمل استيقاضي لولاه . تمتعت بالتدخين. ثم مسحت الغبار عن حذائي العتيق فبرزت تشوهاته أكثر وأكثر . نظرت الى المرآة .. كانت بدلتي قد حال لونها .. وتهدلت جيوبها .. وبدأت أكمامها بالتآكل.. نظرت الى وجهي كان الصلع قد بدأ يسرع خطاه منافسا الشيب . وكانت عيناي تختفي تحت تغضنات وجيوب وتجاعيد ظهرت قبل أوانها . ولكن.. ألقيت نظرة عامة كان كل شيء مقبولا .. مازلت جذابا.. مازال لي معجبون .. غمزت لنفسي قبل أن اترك المرآة لاتجه بهدوء الى غرفة الأطفال .. كانا نائمين . رغبت بتقبيلهما إلا أنني خشيت أن يستيقظا .. ربما كانا يحلمان أحلاما سعيدة.. أحلام لن أستطيع تحقيقها لهما . خرجت بهدوء شديد كما دخلت . غادرت المنزل سائرا الى موقف الحافلة. كانت أنوار الشارع ما تزال مضاءة . والشمس معلقة قرب الأفق . انتظرت الحافلة طويلا إلا أنها لم تأت. قررت السير حتى المحطة التالية. فالمشي رياضتي المفضلة .. والوحيدة أيضا . سرت على مهل في طريق خال من العربات والأشخاص . ورغم لسعة برد خفيفة إلا أن الجو كان صافيا .كانت الريح ساكنة والغيوم ثابتة كأنها قد سمرت في السماء. انتظرت الحافلة طويلا في المحطة الثانية. إلا أنها تأخرت كثيرا عن موعدها . نظرت الى ساعتي الرخيصة . لم يفاجئني أنها كانت متوقفة عن العمل . سرت من محطة الى أخرى حتى وجدت نفسي قريبا من محل عملي . أكملت طريقي ماشيا ثم تسللت بخفة الى مؤسستي . لا شك أني قد تأخرت كثيرا عن موعد العمل . دخلت الى مكتبي لكنني لم أجد زميلاي اللذان يشاركاني الحجرة . كان عملي يقتصر على استلام أوراق من احدهما ثم أقوم بتسجيل بياناتها في سجل ضخم لاسلمها بعد ذلك للموظف الآخر . ولما كان من استلم منه الأوراق ومن أسلمه الأوراق غير موجودين.فقد كان من المستحيل علي القيام بأي عمل بدونهما . جلست خلف منضدة المكتب واضعا راسي بين راحتي ومتذكرا تفاصيل الحلم الغريب الذي رأيته , ومحاولا إيجاد علاقة ما بين تلك التفاصيل. مضى وقت طويل والسكون يلف المكان . لا موظفين . لا مراجعين . حتى البواب لم يكن موجودا حينما دخلت المبنى . تذكرت أن الشوارع التي قطعتها كانت خالية من المارة تماما . بل ومن السيارات . الحافلة التي لم تأت . الشمس . الشمس التي كانت ثابتة في مكانها منذ أن غادرت المنزل حتى وصلت الى مؤسستي . لعل اليوم هو الجمعة. لكن زوجتي لم تقدم لي بيضه أثناء الفطور . وهذا ترف نحرص جميعنا عليه كل يوم جمعة.
ما الذي يجري بالضبط . نظرت الى غرفتي . لم تكن هي الغرفة نفسها التي اعتدت العمل فيها . نظرت الى مكتبي . لم تكن منضدة مكتب . كانت مجرد طاولة صغيرة عليها منفضة سكائر . نظرت الى الشباك. لم يكن هناك شبابيك . كان هناك أبواب . أبواب كبيرة موصدة فحسب . أحسست أنني قد وقعت في فخ. نهضت قافزا نحو احد الأبواب . حاولت فتحه بكلتا يدي ففشلت . انتقلت الى الباب الثاني والثالث والرابع . لا جدوى .. الأبواب مقفلة بشكل محكم . صرخت طالبا النجدة . لكن صوتي بقي حبيس حنجرتي . صرخت وصرخت دون جدوى . هجمت على احد الأبواب محاولا تحطيمه أو فتحه بالقوة .. قرعته حتى أدميت راحتي إلا أن أي صوت لم يصدر رغم شدة ضربي . ورغم كل الألم الذي اصابني . كنت قد ادخلت نفسي في مصيدة وكان عليّ الخروج منها . تلفت حولي . كان شيئا ما يحدث . كانت الغرفة قد بدأت تصغر وتصغر . عدت ثانيه لقرع الأبواب ضربتها بقدمي حتى تفتح حذائي المهتريء. واصلت الركل فوجدتني انظر فجأة من تحت الباب . كانت هناك فسحة تكفي بالكاد لمروري. لم أكن إلا فردتي حذاء عتيق تقطعت خيوطه واهترأ جلده. تسللت خارجا – بفردتي – وراكضا نحو السلالم ثم الى الباب الخارجي . بدا الطريق غريبا أمامي . فانا لم أشاهد المدينة أبدا من هذا المنظور . ربما لم تكن هي مدينتي ذاتها . احترت في اختيار الطريق الذي اسلكه . ومع هذا فانا لم أتوقف لحظة واحدة عن المسير . كنت أسير وأسير رغم صعوبة الطرقات التي أمر بها . وكنت أقف محتارا وسط التقاطعات الكثيرة التي كانت تملأ المدينة . لكنني كنت أواصل السير دون تردد ودون معرفة مسبقة بالمكان الذي انوي الوصول إليه . لم يلحظني احد – فقد كنت مجرد حذاء
عمل رائع جدا ..أتمنى ان يطلع عليه النقاد العراقيين ففيه جهد كبير ومخيلة خصبة تنطوي في ثنايا ابتكاراتها إشارات كثيرة جدا..