زيارةٌ عصريّة
سامي القريني
أزورُكَ العصرَ، تأتي بعدَ أربعةٍ كُلُّ الليالي معي
في أَوْجِ لهفتِها .. وتستحيلُ فراشاتٍ مُلوَّنةً
دقَّاتُ ساعتيَ العَجْلى، ويرتفعُ الستارُ شيئًا فشيئًا
أُدْرِكُ السُّبُلَ، الأفكارَ، تبدو ليَ الأعماقُ واضحةً.
مِنْ قِمَّةٍ، في التماعِ البرقِ عائمةٍ
أرنو، وأدنو قليلاً، لا أُصدِّقُ ما أراهُ :
تَتبعُني الأعوامُ، تحتشدُ الأوراقُ بي ..
وتُناديني الحروفُ مِنَ الماضي، كأنكَ لمْ ترحلْ.
سأكتبُ هذا اليومَ أُغنيَةً، خضراءَ، عاليةً
أُطلُّ منها على أمسي؛ وصورتِكَ الأنقى
وأفتحُ لي بابًا إليكَ / إلى نفسي
وأجلسُ قربَ البابِ أعترفُ.
دمشقُ تسبحُ في حبري، تُشاطرُني ذكراكَ :
“مقهى الهافانا” – ذاتَ أُمسيَةٍ في حَرِّ تمّوز
لـمَّا كنتَ تقرأُ ما كتبتَهُ قبلَ أنْ تغتالَ بغدادَكْ
رصاصةُ الغدرِ. كانت ذكرياتُكَ – في شوارعِ الشامِ،
في حاراتِها – زادَكْ
أيَّامَ في “باب تُوما”، كانت امرأةٌ تُصغي إليكَ،
وكنتَ الشِّعْرَ منسكبًا، والدفءَ مُنبسطًا قلبًا وذاكرةً /
حيَّتْكَ؛ حيَّيتَها .. أردفتَ مُنتفضًا، تحكي عن الأرضِ والمنفى /
عن الوطنِ المسلوبِ، والدُّوَلِ العظمى وزُخْرُفِها الخدَّاعِ ..
يَشحنُكَ الغيظُ الدفينُ لظًى
فتسكبُ الدمعةَ الحَرَّى، وتمسحُها
وتستعيدُ صدى الأحبابِ، أسئلةَ الطفلِ الذي كُنْتَهُ
قبلَ ارتحالِكَ عن “ميسانَ” ..
تستذكرُ الحُبَّ / الحياةَ معًا،
وتعشقُ الأرضَ سَيَّابِيَّةَ المطرِ
تلكَ الثمانونَ والخمسُ التي اكتملتْ كالعِقْدِ
أعطتْكَ أنْ تزدادَ في الثمرِ /
والضوءِ والأثرِ ..
وعنْ “لميعةَ”، عنْ “مسعود” .. ترتجلُ الحديثَ،
تبقى وفيّاً .. ثُمَّ يرفعُكَ الحنينُ أعلى
فتستدعي “علي الغربي”
وحين تَصبو إلى ذِكْرِ العراقِ أرى
كيف الدموعُ تُلالِي وهي تنذرفُ
مِنْ مقلتيكَ .. يُضيءُ الليلُ أجمعُهُ
في راحتيكَ نجومًا وهو ينتصفُ.
أزورُكَ العصرَ، أمشي بين أروقةٍ تضيقُ، تمتدُّ، تُفضي بي
إلى طُرُقٍ مردومةٍ، وقبورٍ لستُ أعرفُ عنْ أصحابِهَا
أيَّ شيءٍ / مَنْ سيُوصِلُني ؟
صمتٌ. حفيفُ شُجيراتٍ. قفزتُ إلى البعيدِ
وارتطمتْ روحي بجَوهرِها.
ولمْ أزلْ في خِضَمِّ الموتِ أسألُ :
هل ألقاكَ ؟ تنكسرُ المرآةُ، تنتشرُ الوجوهُ
لا يَستقرُّ النبضُ، تمتلئُ الكؤوسُ
تعلو رؤوسٌ ثم تهبطُ مِنْ عَلٍ ..
وهذا المدى اللُّجيُّ ينكشفُ.
“أودري” التي رافَقَتْنِي نحوَ قبركَ
لمْ تعلمْ بأنَّ خُطايَ الآنَ يُربكُها ألفُ اشتياقٍ
إلى عينيكَ – صوتِكَ في وَقَارهِ ..
وإلى تلك الأُبـُوَّة في وجودِكَ العَذْبِ ..
مَنْ ليْ حين أنجرفُ ؟
مضيتُ أطوي الأسى حتى انجذبتُ إلى
صوتٍ تَهَادى : تَمَهَّلْ. قُلتَ لي.
نهضتْ في الرُّكْنِ زيتونةٌ دَلَّتْ عليكَ.
إذًا وصلتُ؛ قلتُ لنفسي .. غادرتْ “أودري”.
وكنتُ أدري بأني سوفَ أرتجفُ
كنخلةٍ حَتَّ منها التَّمْرُ والسعفُ
وها أنا وسنا باريس يَغمُرُني
ألقى العراقَ – الذي قَدَّسْتَ رَمْلَتَهُ –
أمامَ قبرِكَ، مثلي، خاشعًا يقفُ.