إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.
ثلاث قصص قصيرة جدًا
قصي الخفاجي
1- بيضة النسر الأسطوري:
على صخرة الرماد النابتة في كهف مظلم قرأنا نحن الحفاة الصغار أسطورة عجيبة خطها أجدادنا العظام بحذق وبراعة وفحواها يقول: كانت هنا يومًا بيضة نسر زرقاء باردة عثر عليها بدوي عجوز ودفنها في قلبه.
أعوام مرّت كالريح.. تشققتْ قشرة الأرض واختفت خطوطها وظهرت خطوط جديدة وهطلت أمطار وجفّتْ أمطار.. وريح سفتْ.. وسكنتْ ريح.. وعصفتْ أعوام، وأعوام وأعوام.. مات فيها البدوي وفقست البيضة.
حين هبطتْ طائرة جند الغزاة آخر مرة في الحرب الكونية الأولى انشقّتْ رمال الصحراء وهاجت الضواري والوحوش ودبّتْ هوام الجحور ورحل الرعاة إلى أودية التيه بحثًا عن العشب والكلأ والأمان (كان ذلك في فجر ندي بارد يوم خرج نسر دهري عنيد من أعماق الرمال وزعق بضراوة وهو يرى الطائرة تحمل جند القيادة الغازية فحام حولها ودخل محرّكها أثناء التحليق وسقطت وتفحّمت وتفحّم كل من فيها).
نحن الذين قرأنا يومًا تلك السطور الغامضة عن طريق الصدفة الآن كبرنا وشبّتْ أخيلتنا وشغلتنا فكرة الماضي الغابر (من صلب المحاضرة قادنا أستاذ التأريخ إلى تلك المجاهيل الباقية في عرض الصحراء.. رأينا آثار العطب الأسود حين وقف معنا ذلك الأستاذ في أجواء التأريخ الميداني على تلّة رملية متحركة وهو يشير بإصبعه الثابتة إلى تلك البقعة الباقية من الصدأ المنسي المتفحم) كان الأستاذ يسكب صوته الحزين في قارورات آذاننا: يا أخوتي العزاء دوّنوا أسفار قهركم وأساطير كينوناتكم الجريحة. وفيما كنّا نمعن بالكتابة السريعة انخسفت الرمال بالأستاذ وغاص في بحر الأسطورة.
2- رعد أبيض قاهر:
خرج من متاهة السجن معتوهًا تمامًا فهام على وجهه في البراري الحزينة ينتظر سقوط الأمطار التي تغسل أوساخ السنين التي عاشها في السجن وشرع يخطّ حروفًا على طين الأرض الحمراء (وانقدحت بروق تفلق عنان السماء- وهو يحفر- ثمة عتمة ليل- وهو يحفر- حافات أنهر- وهو يحفر- الانفلاقات عالية- وهو يحفر- ويحفر- ويحفر) ثمة صخرة شاهقة نام تحت ظلّها فمرّتْ في خياله آخر هجرات السجن الجماعية إلى الما وراء الوراء الوراء الوراء.
دوى رعد قاهر فأفاق من نومه رأى العالم حفرة مظلمة ألهبتْ خياله الايروسي ظلّ يداعب (…..) الذابل ويتمرغ ويتلوّى ويعوي.
وإذ تلفّتَ كانت السماء تصدح وخيوط البرق تشتعل هي ذي هجرات تنتهي أو لا تنتهي لا يهمّ كلّ شيء لا يعود لا يعود أبدًا عدا حزن السجن الكثيف المتقطّر سيجعل من كفّي تأخذ ثارها.
أمسك شفرة حجرية باشطة وقطع (…….) الذابل ثم دسّه في فمه وغاب في حفرة العدم.
3- دردنيل:
الرجفة في شراع الخيال ويضطرب ثم بضربة ألم عاصف يخوض تجربة النزول إلى البحر يغمره سحر الأمواج وهناك تحت المظلة الشمسية تتمدد امرأة شبه عارية تلبس عوينات سود يلمحها صامتة مثل تمثال تحت الظلّ. لوّحتْ له بكفها البضّة.
شرع يدبّ بخطاه ببطء وحذر.. هتفتْ به فجأة:
آخر أقدارنا هو البحر
آخر مشاويرنا هو البحر
آخر صرعاتنا هو البحر
ثمة خوف مجهول ألمّ به.. أنّ شخصًا ما غامضًا ولو لفترة قصيرة قد صوّب عليهما ناظريه ظلّ صامتًا وقد تداركت المرأة شحوبه وأحسّتْ أنّ صمتًا أفرز بحارًا من الحلم والكلام كان يرقب الإيقاع القادم. ربتتْ على كتفه:
– ماذا بك؟
– أنا خائف، كانت هي خائفة
– أنا قلق، كانت هي قلقة
– أنا يائس، كانت هي يائسة
– “أنا ضائع” ….. …… أنا لستُ ضائعة.
شاهدتني أتلوّى في اللجج عامتْ ورائي فجأة وقد أكملتْ عريها. قادتني بعد لأي مثل سفينة إلى صخرة العالم قرأنا هناك حروفً محفورة، “ليس للحياة ساحل أمان للأرض الموعودة”.
أدركناه أخيرًا في المستشفة ذلك الغامض الذي سلّط علينا ناظريه وعرفنا أنه قد مات في الحياة وعشنا نحن في غصص حائرين، حائرين، حائرين.