أ.د. عبد الرحمن الشهري: التعليق على كتاب «الكتاب في الحضارة الإسلامية» تأليف د. يحيى وهيب الجبوري (1 و2 و3) (ملف/3)

(1)

كنتُ أسكن في حي الوصايف بمدينة أبها منذ أواخر عام 1416هـ تقريبًا، وكان حيًّا هادئًا في أطراف المدينة من الشمال، ولم يكن قد ازدحمت فيه الفلل والبيوت كما هو اليوم، وكنتُ أخرج كثيرًا أتمشى على الأقدام لزيارة فرع مكتبة الرشد الذي افتتح قريبًا، ولم يكن بعيدًا عني. وذات يوم خرجت بعد صلاة العصر قاصدًا مكتبة الرشد وكان ذلك في الصيف عام 1418هـ، وبينما أنا أبحث عن الجديد في المكتبة عثرتُ على كتاب «الكتاب في الحضارة الإسلامية» من تأليف الأستاذ الدكتور يحيى وهيب الجبوري، فأعجبني موضوعه، وكنتُ قرأتُ للباحث عددًا من المؤلفات والتحقيقات قبل ذلك، فسارعتُ إلى شراء الكتاب، واكتفيتُ به في تلك الزيارة، وخرجتُ عائدًا إلى البيت رغبة في الشروع في قراءة الكتاب، والاستمتاع بفصوله ومباحثه، ولا سيما في هدوء صيف أبها تلك الأيام، وعدم وجود ما يشغلني عن القراءة والبحث حينها. وكنت في ذلك الوقت معيدًا في كلية الشريعة بفرع جامعة الإمام بأبها، وأعكف على إنجاز بحثي للماجستير في تلك الإجازة حيث سلمته بعد بدء الفصل الدراسي الأول، وكنتُ أجد في نفسي رغبة شديدةً للقراءة والاطلاع خارج نطاق بحثي، وكنت أنقاد لهذه الرغبة أحيانًا وأغالبها أحيانًا أخرى رغبة في الإنجاز.

وعندما تصفحته في الطريق وجدته قد تناول موضوعات طريفة عن الكتاب والكتابة وما يتعلق بها في الحضارة الإسلامية، وقسّم الكتاب إلى ثمانية فصول، سأتوقف مع كلّ فصل منها في هذه المقالات إن شاء الله، وأحاول تقديم خلاصة للفصل، مع بعض التعليقات والفوائد التي استفدتها منه. وقد طلب مني مجموعة من الطلاب درسًا في الكتب والمكتبات في التراث الإسلامي بعد مجيئي للرياض عام 1420هـ فرأيتُ أن هذا الكتاب من أجود الكتب التي تعين على الحديث عن مثل هذا الموضوع، فكان هو محور تلك الدروس واللقاءات. ولا سيما أن الدكتور يحيى وهيب الجبوري باحث ومحقق له عناية كبيرة بالتراث الإسلامي، وحقق كتبًا تراثية كثيرة في الأدب والشعر وغيرها؛ مما جعله يجمع آلاف النصوص والنقولات العزيزة النادرة في مؤلفاته ومقالاته، وهذه ميزة للدكتور يحيى وهيب الجبوري، ومثله المحقق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، فإنك عندما تقرأ في كتبه وتحقيقاته تجد سعة اطلاعه ومعرفته بكتب التراث ظاهرًا في تعليقاته وبحوثه، ولن تعرف قيمة هذه النقول والفوائد إلا إذا حاولت أن تبحث عنها بنفسك في بطون الكتب .

التعريف بالمؤلف الدكتور يحيى وهيب الجبوري :

أردتُ أن أتعرف على المؤلف معكم قبل الدخول في التعليقات، فوجدت له مقابلة مع إحدى الصحف العراقية، ولكنها لم تلقِ الضوء على حياته العلمية بشكلٍ دقيقٍ، وإنما أشارت إلى بعض مؤلفاته وركزت المقابلة على موضوع (مقولة لا أدري وتاريخها عند العلماء)، وهو موضوع بحث له رأيته نشره في كتاب مؤخرًا بعنوان «في رحاب التراث العربي: دراسات في تجليات الفكر والحضارة والأدب»، نشرته دار مجدلاوي للنشر بالأردن عام 2009م .

والأستاذ الدكتور يحيى بن وهيب الجبوري باحث ومحقق عراقي، عمل أستاذًا للأدب الجاهلي في جامعات بغداد، وقطر، وليبيا، وآل البيت، وإربد الأهلية بالأردن، ولم أجد ترجمةً وافية له في الكتب التي بين يدي الآن، وإن كنتُ أذكر أن عندي في المكتبة كتابًا في تراجم الباحثين العراقيين لكوركيس عواد لكنني لم أجده الآن، والظاهر أنني قد اضطررت للتنازل عنه بعد انتقالي لمنزلي الجديد منذ سنة بسبب كثرة الكتب وضيق المكان، وتربص الأحباب الذين ساعدوني في نقل المكتبة ببعض كتبي .

والدكتور يحيى الجبوري رَفَدَ المكتبة العربية بعشرات المؤلفات التي صنفها أو حققها خلال رحلة خمسة عقود ماضية بين الـتأليف والتحقيق منذ أول مؤلف له والموسوم بـ«الإسلام والشعر»، حيث نشره ببغداد عام 1384هـ – 1964م، ثم أعقبه بمؤلفات أخرى نذكر منها:

– شعر المخضرمين وأثر الإسلام .

– الجاهلية – مقدمة في الحياة العربية لدراسة الشعر الجاهلي .

– الشعر الجاهلي: خصائصه وفنونه .

– المستشرقون والشعر الجاهلي. وقد استفدت منه في بحثي للدكتوراه عن «الشاهد الشعري في تفسير القرآن»، ولا سيما في مسألة طعن المستشرقين في الشعر الجاهلي .

– ديوان العباس بن مرداس السلمي.

– الخط والكتابة في الحضارة العربية .

– الملابس العربية في الشعر الجاهلي .

– شعر عروة بن أذينة.

– الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه.

– الحيرة ومكة وصلتهما بالقبائل العربية. “ترجمهُ عن الإنجليزية”.

– كما ترجم الجبوري لمرجليوث كتابه «أصول الشعر العربي»، وهي المقالة التي قيل إن طه حسين أخذ منها مقولته في التشكيك في الشعر الجاهلي .

– منهج البحث وتحقيق النصوص.

– تحقيق أمالي المرزوقي.

– محن الشعراء والأدباء، وما أصابهم من السجن والتعذيب والقتل والبلاء.

– بيت الحكمة ودور العلم في الحضارة الإسلامية.

– الحنين والغربة في الشعر العربي.

– تحقيق كتاب ابن الأثير مُؤنس الوحدة، وغيرها…

– تحقيق لديوان الشاعر عبدة بن الطبيب .

– في رحاب التراث العربي (مجموعة بحوث).

وقام بجمع عدد كبير من دواوين الشعراء الجاهليين والعباسيين ونشرها في دار الغرب وغيرها، ويعتبر بحقّ من أغزر الباحثين المعاصرين في خدمة الشعر الجاهلي تحقيقًا وبحثًا وتدريسًا وجمعًا لنصوص شعرائه التي فقد أكثرها.

والقراءة للدكتور يحيى الجبوري تعيد للقارئ الشاب ثقته في أدب العرب في الجاهلية، وتنمي فيه اعتزازه بحضارته الإسلامية والجوانب المضيئة في هذه الحضارة في جوانب العلم وأدواته. أسأل الله للدكتور يحيى الجبوري التوفيق، وأن يتقبل الله منه هذا الجهد والجهاد في سبيل العلم والمعرفة .

وصف الكتاب:

يقع كتاب «الكتاب في الحضارة الإسلامية» في 548 صفحة من القطع العادي، وقد نشرته دار الغرب الإسلامي -وهي مهتمة بنشر كتب وتحقيقات المؤلف- عام 1418هـ، 1998م، وهي الطبعة الأولى للكتاب .

قسّم المؤلف الكتاب بعد المقدمة إلى ثمانية فصول :

الفصل الأول: الكتاب والكتابة .

الفصل الثاني: التدوين والتأليف .

الفصل الثالث: الوراقة والوراقون .

الفصل الرابع: الترجمة والمترجمون .

الفصل الخامس: خزائن الكتب والمكتبات .

الفصل السادس: صناعة الكتب .

الفصل السابع: آفات الكتب .

الفصل الثامن: في آداب الكتب، نصوص مختارة .

الفهارس .

المقدمة:

أورد المؤلف في المقدمة الآيات والأحاديث التي تشير إلى فضل العلم والقلم والكتابة، وأهميتها في نشر العلم والمعرفة، وكيف كانت الكتابة سببًا لنقل العلم وتوارثه بين الأجيال والأمم والشعوب، وكيف بدأت العناية بالكتابة في التاريخ الإسلامي منذ البدء في كتابة القرآن الكريم بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم كتابة الحديث النبوي، ثم تفسير القرآن وفنون العلم بعد ذلك .

وقد أشار إلى أبرز غاية يبتغيها من تأليف كتابه فقال: «ويبقى أن نُجِدِّدَ ونُحيي في نفوس الأجيالِ حُبَّ الكتابِ وفضلَ الكُتُبِ؛ لنعود كما كنَّا نعطي أكثر مما نأخذ، وقد كان من جملة الدواعي لتأليف هذا الكتاب حثُّ طلبة العلم والناشئة على قراءة الكتاب، والإفادة منه، والتعلقِ به، ولينظروا من خلاله ما كان من أمر السلف الصالح من العلماء والقدوات الخيرة الذين بذلوا المال، وأفنوا العمر في تحصيل العلم، وكان الكتاب عندهم أعزَّ وأنفسَ نفيسٍ».

ولا شك أنَّ إحياء هذه المعاني في نفوسنا غاية شريفة جديرة بالعناية وتجشم عناء تأليف مثل هذا الكتاب، ولا أنسى كتابًا آخر كان له أبلغ الأثر في حبي للكتاب والعلم، وقع في يدي أول مرة عام 1411هـ في طبعته الأولى، ثم صدرت طبعته الموسعة عام 1414هـ، وهو كتاب «صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل» للمحقق المتفنن
عبد الفتاح أبو غدة ، حيث أبدع في تأليف ذلك الكتاب، وقد اشتريته حينها وقرأته عدة مرات، واشتريتُ منه في تلك السنة أكثر من خمسة وثلاثين نسخة أهديتها للأصدقاء والأحباب الذين تشوّفوا لقراءته بعد ذكري لقيمته وفوائده، ولعلي أتوقف مع هذا الكتاب في حلقات أخرى إن شاء الله .

وبعد سرد المؤلف لفصول كتابه، وما اشتمل عليه كلّ فصل منها، والتي سوف نتوقف مع كلّ فصل منها في موضوع مستقل، ختم مقدمته بقوله واصفًا رحلته مع الكتاب :

وبعدُ فقد أنفقتُ في هذا الكتاب بضع سنواتٍ هي خيرة ما تبقى من سنوات العمر القليلة الباقية، قضيتُ فيها الليالي والأيام، جمعًا ومقارنةً ومدارسة وكتابة ومراجعة، وكنت خلالها سعيدًا جَلْدًا، رغم الإرهاق والتعب والمرض، وقد أحببتُ الكتاب طفلًا ويافعًا وشابًّا وكهلًا وشيخًا، وسيكون الكتاب معي وعلى صدري حتى اللحظات والأنفاس الأخيرة من حياتي، وسألقى ربي وبيميني كتابٌ هو شفيعي بعد كتاب الله تعالى .

وقد كانت وما زالت أحلى الأيام وأسعدها عندي حين أخلو بكتابٍ أقرأ فيه، وأناجي صاحبه، وأسامر أهله، فهو سميري عند الوحدة، ورفيقي في الحل والترحال، وأول ما ألقاه عند بدء يومي، وآخر ما يودعني حين يغالبني النوم، وقد عرفت بالكتاب ربي وديني، وتعرفتُ بفضله على أفاضل العلماء من عرب ومسلمين وأجانب، في شرقي العالم وغربيّه، سواء من رأيتهم وتعلمتُ منهم من أساتذة كرام، أو من علَّمتهم من طلبة لامعين نجباء أوفياء، أو من لم أرهم وتوثقتْ أواصر الود بيني وبينهم بوساطة الكتاب، ذكرًا وتنويهًا وتهاديًا وإفادة، والكتاب بعد ذلك عندي دنيا، وهذه الدنيا كلها خير وعلم وعبادة ونفع وأنس وسمر، ليس فيها ما في دنيا الناس من غدر وخيانة وعقوق، ورحم الله القائل :

إذا اعـتـللتُ فـكــُتــْبُ العــلمِ تشفيني
إذا اشــتــكــيــتُ إليـهـا الهـمَّ مِنْ حَزَنٍ
حـســـبي الــدفـــاترُ مِنْ دُنيا قنعتُ بها

فـــيــهــا نـزاهــــةُ ألحـاظـــي وتـزيـيـنـي
مـــالتْ إليَّ تـــُعـــزِّيــنــي وتــُســليــنـي
لا أَبـتـغـي بَدَلًا مِنْها ومِنْ دِيني
وصدق -وفقه الله- فيما قال، وجزاه الله خيرًا على نيته وصدقه وصبره، وقد استفدنا من كتابه هذا ومن غيره، ونحن لم نعرفه مباشرة، ولم نره قط إلا بواسطة الكتاب، والكتاب له علينا أيادٍ لا نعدها، والحمد لله على فضله وإحسانه وتوفيقه، فقد عشتُ دهرًا من عمري لا أعرف الكتاب إلا الكتاب المدرسي فقط، ولا أنسى ذلك الضرب الموجع الذي ضربني إياه أستاذي عبد الله بن حسين عندما كان أمينًا لمكتبة متوسطة النماص لأنني أتيت إلى المكتبة وأنا طالب في المرحلة الثالثة المتوسطة لاستعارة كتاب، فسألني عن رقمي في سجل المكتبة فقلت: ليس عندي رقم. فغضب أشد الغضب لأنني لم أستعر كتابًا من قبل، ولم أتردد على المكتبة من قبل، فذهب إلى خارج المكتبة، ثم عاد وفي يده عصا (حماط) غليظة، وانهال عليَّ ضربًا وشتمًا حتى ظنَّ أنه قد بلغ من تأديبي مأربه، ثم أجبرني على استعارة بعض الكتب، وخرجتُ وقد عرفتُ قيمة المكتبة والكتاب بالإكراه والمشعاب[1].

وللحديث بقية -إن شاء الله- في اللقاءات القادمة مع هذا الكتاب الماتع، وصلى الله وسلم على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الرياض في 17/5/1433هـ

[1] المشعاب: العصا الغليظة بلهجة جبال السراة.

(2)

خصص المؤلف الفصل الأول للحديث عن نشأة الكتابة والخط، وأشار إلى الغموض الشديد الذي يلف هذه المسألة، وأن هناك من قال إن معرفة الخط والكتابة أمرٌ توقيفي منذ خلق الله آدم عليه الصلاة والسلام، ولذلك خرجت الأحرف على لسان آدم بفنون اللغات. ثم تحدث عن أول من وضع الكتابة والخط، فقيل: آدم، وقيل: إدريس، والله أعلم بالحقيقة .

وخلص المؤلف إلى أن الجزم برأي من هذه الآراء لا يمكن إلا بوحي من الله، ولذلك رجح المؤلف أنَّ الإنسان شعر بالحاجة إلى التعبير عما في نفسه فاحتاج إلى الكتابة لتدوين أفكاره وتاريخه، وقد عبَّر الإنسان أولًا بطريقة الرسم، ثم ارتقى فعبّر بطريقة الرمز، باستخدام بعض الأدوات والأجسام، أي بدأت الكتابة بالأشكال ثم الرموز، وكانت الكتابة الهيروغليفية في مصر هي أقدم الكتابات التي استعملت التعبير الصوري ثم الرمزي ثم اللغات الأخرى الحيثية في آسيا والآشورية في العراق والصينية في الصين، وكلّ من هذه الكتابات نشأت في بلاده ولم يقتبس من غيره. وقد تطورت هذه الكتابات فعرفت استخدام المقاطع ثم الحروف، والخطوط المستعملة في الكتابة كثيرة جدًّا، ويمكن إرجاعها جميعًا إلى أربعة أصول هي :

أ- الخط المصري: وهو ثلاثة أقسام: الهيروغليفي الخاص بالكهنة، والهيروغليفي الخاص بالموظفين، والهيروغليفي الخاص بالشعب .

ب- الخط الحيثي: وهو خط الشعب الحيثي الذي انتقل من بلاده القوقاز وهاجر إلى آسيا الصغرى، وتوسع نفوذه فشمل شمالي سورية وشمال العراق .

ج- الخط المسماري أو الإسفيني: وكان مستعملًا في آشور وبابل في العراق .

د- الخط الصيني: وكان ما يزال مستعملًا في الصين واليابان .

ثم تحدث المؤلف عن الآراء التي قيلت في أصل الهجاء وأول من ابتكره، وأشار إلى النقوش المكتشفة بكلّ هجاء، وتوقف عند مراحل الهجاء الذي يستخدم التصوير وهو الهجاء الصوري، وذكر أنه مر بأربعة أدوار:

– الدور الصوري المادي .

– الدور الصوري المعنوي .

-الدور الصوري الحرفي .

– الدور الصوري الصرف .

وأشار إلى أن الكتابة الصورية تستخدم صورة المحسوس عند إرادة التعبير عنه، فعند الحاجة إلى ذكر الشجرة يرسمون شجرة، وإذا احتاجوا لكتابة أسد مثلًا صوّروا صورة أسد، ولكن الإشكالية في هذه الطريقة أنها تعبر عن المحسوسات فقط ولا تعبر عن المعنويات والمشاعر وغيرها .

ثم توصلوا إلى التعبير عن المعاني برسم لوازمها من المحسوسات، فعند إرادة التعبير عن الكتابة مثلًا رسموا قلمًا ودواةً، وعند إرادة التعبير عن الحزن رسموا صورة شعر منسدل وهكذا .

ثم توقف المؤلف عند الكتابة العربية وجهود علماء الآثار من المستشرقين وغيرهم في البحث والتنقيب عن أصولها ونقوشها، وأشاد بسبق المستشرقين إلى هذا الحقل، وانقطاعهم له، والإنجازات التي تحققت على أيدي المخلصين منهم. وكانت أول بعثة أثرية انطلقت من الدنمارك عام 1761م وتوافق 1174هـ تقريبًا، وهو تاريخ قديم فعلًا.

ومن طراف رحلات المستشرقين الذين نقّبوا عن النقوش والآثار المختصة بالكتابة العربية وأصلها ما وقع للمستشرق النمساوي سيجفريد لنجر عام 1882م في اليمن، حيث كان مختصًّا باللغة العربية، وحصل على اثنين وعشرين نقشًا نادرًا في رحلته تلك، وكانت نهايته القتل على يد رجل يمني كان يصاحبه في رحلته أثناء استحمامه في نهر بنا، ولعله قد اختلف معه على أمرٍ ما، أو أن الدليل اليمني رأى منه ما يريب فأجهز عليه بطلقة من بندقيته، وذهبت تلك النقوش أدراج الرياح.

وقد بدأت عناية الجامعة العربية بدراسة هذه النقوش في الجزيرة العربية منذ عام 1936م بإرسال بعثة لليمن، وجمعت تلك البعثة واحدًا وتسعين نقشًا مهمًّا، بينها تسعة وسبعون نقشًا جديدًا لم تعرف من قبل، وبعضها اليوم موجودة في كلية الآداب بجامعة القاهرة في قسم الجغرافيا .

ثم بدأت بعد ذلك الرحلات إلى شمال السعودية، فذهل العلماء لوفرة النقوش والأدلة والآثار التي انتفع بها العلماء كثيرًا في الكشف عن الكثير من أسرار الخط العربي وغيره، ولا زالت حتى اليوم تكتشف المزيد من النقوش والآثار الثمودية وغيرها في شمال السعودية .

وقد توقف المؤلف مع الآثار المشهورة التي أثرت في مراحل اكتشاف نشأة الكتابة العربية، وهي حجر رشيد، وحجر النمارة، وحجر زيد، وحجر حران، وصخرة بهستون، وبعض الأحجار الآشورية، ولوحات منطقة أور بين النهرين، وصخور ظفار، وصخور سد مأرب الخطية، وبعض آثار حضرموت وصنعاء، وما عثر عليه في ديار عاد وثمود. وهي كلها كتبت حولها دراسات علمية موثقة منشورة .

وأشار المؤلف إلى أن هناك كشوفًا كثيرة أخرى، منها ما وجد في مصر من آثار قدماء المصريين ونقوشهم الخطية التي سجلوها على معابدهم ومقابرهم وهياكلهم ومسلاتهم، وكذلك ما وجد في بلاد الرافدين من الخطوط والكتابات على الجدران والمسلات والهياكل، وفي المتاحف مجموعات كثيرة من الكتابات على أوراق البردي، وفي دور الآثار العربية والأوربية أحجار ورقم كثيرة عليها كتابات تمثل الحضارة الشرقية، يجدر التنويه بها، ومن الصعب حصرها .

وقد اختصر المؤلف الكلام في هذه المسألة؛ لأنها ليست من صلب البحث، وإنما اتخذها مدخلًا لكتابه عن أهمية الكتاب في الحضارة الإسلامية، وإلا فهناك دراسات وبحوث قيمة مفردة تتبعت تاريخ الكتابة العربية، منها:

– الكتابة العربية، للأستاذ الدكتور غانم قدوري الحمد .

– تطور الكتابة الخطية العربية، للدكتور محمود حموده .

– الخط العربي تاريخه وحاضره، لبلال الرفاعي .

– الخط العربي جذوره وتطوره، لإبراهيم ضمرة .

– الخط والكتابة، لمحمد الخياري الحسيني .

– أجزاء من صبح الأعشى في صناعة الإنشا، للقلقشندي .

– الخطاطة الكتابة العربية، للدكتور عبد العزيز الدالي .

– المفصل في تاريخ العرب، لجواد علي .

وغيرها كثير. ونواصل الحديث في اللقاءات القادمة -إن شاء الله- مع هذا الكتاب الماتع، وصلى الله وسلم على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الإثنين 24 / 5 / 1433هـ

(3)
الفصل الثاني:

التدوين والتأليف تحدث المؤلف في هذا الفصل عن تعريف الكتابة والتدوين، وتحدث عن نشأتها في تاريخ العرب وأنها قد عرفت في العصر الجاهلي على نطاق ضيق، حيث غلبت الرواية الشفهية على نقل الأشعار والأخبار، ولكن هناك ما يعزز كتابة الشعر مع روايته رواية شفوية. وأشار المؤلف لظهور الكتابة في الحواضر والمدن مثل الحيرة والشام ومكة ويثرب واليمن خاصة، حيث كانت الحضارة مستقرة، وقد تمثلت الكتابات في النقوش المعينية والسبئية والحميرية، ومن غير المتوقع أن نجد كتابا بمعنى الكتاب المكون من عدة صحف في الجاهلية، ولكن الكتب الأولى التي وصلت أو ذكرها المؤرخون كانت من القرن الأول الهجري، ومن علماء يمتون إلى الحضارة اليمنية والأصل اليمني . من ذلك كتاب عن تاريخ الحميريين يحتوي على أسماء الملوك القدماء، وبعض القصص والأخبار والوقائع التي حدثت في الجاهلية، وهو كتاب (أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها) لعبيد بن شرية من صنعاء المتوفى سنة 70هـ. وأشار المؤلف إلى أن التدوين والكتابة وانتشارها ارتبط بتيسير الرقوق والقراطيس والورق من بعد ذلك، وكانت الصحف قد انتشرت منذ الصدر الأول، وصار لها أسواق ومتاجر، ومن يقومون بالنسخ وتكثير الكتب، وقد عرف هؤلاء بالوراقين، وقد عرف بالوراقة والتدوين في عهد الصحابة، وكانوا يكتبون الكتب الدينية مثل التوراة والإنجيل ومجلة لقمان وكتاب دانيال. وقد كثرت الكتب في عهد عمر بن الخطاب وخشي أن تشغل الناس عن قراءة القرآن الكريم، فخطب قائلاً: “أيها الناس إنه بلغني أنه ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلا أتاني به فأرى فيه رأيي”. فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار [تقييد العلم للبغدادي ص 53]. وفي منتصف القرن الأول للهجرة كثرت الكتب وصارت تباع في الأسواق، ومن دلائل ذلك ما روي من أن همام بن منبه كان يشتري الكتب لأخيه وهب بن منبه (110هـ) ومعروف أن وهب بن منبه كان واسع الاطلاع قد قرأ كثيراً من الكتب. ومما يعزز كثرة الكتب وانتشارها أن بعض العرب في العصر الأموي قد أنشأ مكتبة عامة يؤمها الناس فيقرأون فيها، فقد ذكر أن عبدالحكيم بن عمرو بن عبدالله بن صفوان الجمحي قد اتخذ بيتاً فجعل فيه شطرنجات ونردات ودفاتر فيها من كل علم، وجعل على الجدار أوتاداً فمن جاء علق ثيابه على وتد منها، ثم جر دفتراً فقرأه، أو بعض ما يلعب به فلعب به مع بعضهم. [الأغاني 4/253]. وقد تعرض المؤلف بعد ذلك إلى بداية التأليف في بعض العلوم فذكر منها: التأليف في علم الأنساب: لقد برع عرب الشمال بالأنساب، واهتموا بها اهتماماً كبيراً، حتى إن الجاحظ قد أحصى ممن ألف في الأنساب قبله أربعة عشر رجلاً، وقد عاش أكثرهم في الجاهلية أو عند ظهور الإسلام، ومنهم سطيح الذئبي ت 52هـ وقد عرف بعراف العرب وحكيمهم، ودغفل بن حنظلة السدوسي وغيره. وكانت عناية العرب بالأنساب كبيرة في الجاهلية وبعدها، وكانت هذه المدونات في الأنساب هي المادة التي رجع إليها العلماء المؤلفون في التاريخ والتراجم والأنساب بعد ذلك؛ ولم تقتصر تلك المؤلفات على الأنساب فحسب بل اشتملت على تاريخ العرب وغيرها، وقد ضاع معظم تلك الكتب المتقدمة ولم يبق منها إلا القليل. التأليف في المغازي والسير والتاريخ: كانت الأخبار والقصص والأساطير الجاهلية تروى شفاهاً، ولم يكن هناك تدوين تاريخي في ذلك العصر، وحتى الدول المجاورة كالمناذرة والغساسنة لم تخلف مدونات تأريخية، وإذا استثنينا الكتابات والنقوش التي كانت في اليمن والشام؛ فلا نجد شيئا وصل من العصر الجاهلي. وأول تفكير في الحوادث التاريخية بدأ في الإسلام، وقد رافق تفسير القرآن الكريم فقد شعر المسلمون بحاجتهم إلى معرفة مناسبة النزول والحوادث التي تشير إليها الآيات، وفي القرآن إشارات إلى الأمم والأنبياء، وقصص الأمم البائدة، فرغب المسلمون في معرفة هذه الإشارات وتوضيحها، فاستعانوا ببعض علماء اليهود والنصارى فصار هؤلاء يحدثونهم عن قصص التوراة والإنجيل وشروحهما، فربطها المسلمون بالتفسير والتاريخ، وعرفت هذه الأخبار باسم (الإسرائيليات) وقد أكثر من هذه الأخبار كعب الأحبار المتوفى سنة 34هـ، ووهب بن منبه ت 110هـ، وتركا آثارهما في كتب التاريخ والتفسير التي ألفت فيما بعد، وطال الجدل حول هذه الإسرائيليات حتى اليوم، ولا سيما توظيفها في تفسير القرآن الكريم. كما تتبع المؤلفون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه وأخباره فصارت أساساً لكتب المغازي والسيرة النبوية وكثرت كثرة بالغة بعد ذلك. تدوين القرآن الكريم والسنة النبوية وتفسيرها: أول كتاب جمع في الإسلام هو القرآن الكريم، وقد كتب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومما يسر حفظه وكتابته أنه أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً ومفرقاً على مدى ثلاث وعشرين سنة، وكانوا يحفظون ما ينزل منه ثم يكتبونه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أصلاً قامت على جنباته ولخدمته كل العلوم الإسلامية بعد ذلك. وقد تحدث المؤلف عن كتاب الوحي وعددهم وطريقة كتابتهم للقرآن وأورد الروايات في ذلك. كما ازدهرت حركة تفسير القرآن والكتابة فيه، ومثل ذلك الحديث النبوي وشروحه، وتنافس العلماء في تدوين هذه العلوم. وقد تناول المؤلف في ختام هذا الفصل مراحل كتابة الحديث النبوي وتصنيفه وعدد العلماء الذين عنوا بهذا العلم الشريف. الفصل الثالث: الوراقة والوراقون خصص المؤلف هذا الفصل للكلام عن الوراقة وأصحابها ، حيث كان لازدهار حركة التأليف في العصر العباسي وشيوع الترجمة اليونانية والفارسية، أن نشأت مهنة اشتق اسمها من اسم الورق الذي عرف في سمرقند وصنع من ثم في بغداد وبعض الحواضر الإسلامية، فعرفت هذه المهنة باسم (الوراقة) وعرف متعاطوها باسم (الوراقين). والوراقة هي كما عرفها ابن خلدون: “معاناة الكتب بالانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكُتُبيَّة والدواوين”. وكان هؤلاء الوراقون يقومون بما تقوم به دور النشر اليوم من الطبع والتوزيع وبيع الورق وأدوات الكتابة على اختلافها. وقد ازدهرت الوراقة في المدن الكبرى، وبلغت أوج ازدهارها في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وكانت سببا من أسباب ازدهار حركة التأليف والترجمة، وأضحت صورة مشرقة زاهية من صور الحضارة العباسية في أوج عزها، وقد مثلت الوراقة كل أنواع النشاط العقلي في العلوم العربية والإسلامية والعلوم المنقولة عن الأمم الأخرى. المؤلفات في الوراقة: ذكر المؤلف بعض من صنف في الوراقة، فذكر رسالتين للجاحظ الأولى في مدح الورَّاق، والثانية في ذم الورَّاقين ! ثم ذكر رسالة أبي زيد البلخي (ت 322هـ) في مدح الوراقة. وذكر كتاب (تنويق النطاقة في علم الوراقة) لعبدالرحمن بن مسك السخاوي (ت 1025هـ). ومن الكتب التي لم يشر إليها المؤلف كتاب معاصر للدكتور محمد المنوني المغربي عن تاريخ الوراقة والوراقين في المغرب وهو كتاب قيم جدا، وفيه نفائس وأخبار طريفة. بداية الوراقة: تناول المؤلف تاريخ بدء الوراقة عند المسلمين، فذكر أن أول بدء الوراقة كان من أجل نسخ المصاحف، ثم دخلت بقية علوم الشريعة والعربية بعد ذلك، وذكر أسماء من تفرغوا لنسخ المصاحف وأجاد في ذلك، ونقل نقولا نفيسة في هذا الموضوع، وهو جدير النقل كاملا هنا لولا ضيق الوقت. وتناول أخبار المشتغلين بتجليد الكتب وتذهيبها وغير ذلك. ثم تحدث عن الخطوط المستعملة في الوراقة وتاريخ انتشارها في الحواضر الإسلامية، وأبرز الخطاطين والنساخ، وأشار إلى أن مجالس الإملاء كانت من أسباب ازدهار الوراقة، حيث كان الوراقون ينسخون مباشرة الكتب من مجالس الإملاء. وذكر في ذلك أخباراً في غاية الطرافة والعجب، تثير الدهشة والإعجاب مما بلغته العناية بالعلم والاستملاء من العلماء حتى في الطرقات والبيوت والأسواق. وأشار المؤلف إلى أن الوراقة كانت مهنة مريحة امتهنها عدد من العلماء، وكانت أسعار النسخ تتفاوت بمرور الزمن، وكان الوراق المتقن الجيد الخط الصحيح النقل مقصد أنظار العلماء وطلاب العلم، وكان هؤلاء الوراقون المتقنون ربما قصدوا العلماء لعرض الكتب عليهم ونسخها لهم وفق أجر معلوم. وبعض العلماء كان يسمي حرفة الوراقة حرفة الشؤم كأبي حيان التوحيدي وغيره، ولعل التوحيدي كان أكثر الكتاب تشاؤماً من هذه الحرفة لأنه كان يرى قدره فوق أن يكون متفرغا لهذه المهنة. وقد تناول المؤلف بالحديث أجور النسخ وتفاوتها، وذكر مقدار ما يكتبه النساخ في اليوم الواحد، وفي المجلس الواحد. ثم تناول أماكن وأسواق الوراقين، وبعض أخبار الوراقين، وأشعار الوراقين وغير ذلك من طرائف أخبار الوراقين وصناعتهم الرائجة الرائعة، التي قامت بنقل هذا التراث العلمي الضخم من السلف للخلف، ولولا هذه المهنة وأهلها لضاع كثير من العلم والكتب التي نستظل اليوم بظلالها، ونحن مدينون لمؤلفيها وناسخيها بالفضل بعد الله سبحانه وتعالى في وصول هذه العلوم إلينا. والفصل فصل حافل جدير بالقراءة كله، ولولا ضيق الوقت لنقلته برمته فهو فصل ممتع.

رابط المادة: http://iswy.co/e16kaa

.. يتبع

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *