كتاب الحياة …. قصص تفركُ عيونَ الواقع العراقي
د. مثنى كاظم صادق
كتاب الحياة(1) هكذا أسمى القاص عبد الأمير المجر مجموعته القصصية ، التي تتجه صوب البحث عن رؤيا واقعية انتقادية للحياة العراقية ، فالحياة كتاب ضمن مرتكزاته الإبداعية …هذه القصص ( الحياتية ) قد رصعت عتباتها لمقولات كبرى من مأثورات قالها زعماء عالميون ( نيلسون مانديلا / غوته / كونراد / جان جاك روسو / ونصوص من الكتب المقدسة ) التي ارتبطت هذه القصص بمضمونها.
تفتتح التجربة السردية في المجموعة في قصة ( العراة ) حفرية إخضاع الواقع للتأمل عبر الفنتازيا التي تفاجئنا منذ الجمل الاستهلالية للقصة ( حين صحوت من نومي ، صعقت تماماً وارتبكتُ تماماً ، ولم أعرف كيف أتصرف ، فأنا عارٍ تماماً حتى من ملابسي الداخلية ، وممدد على خشبة السرير الذي تعرى هو الآخر من كل أغطيته ) ص 7 إن هذا العري التام للفرد وللسرير سيتحول إلى عري جماعي لنزلاء الفندق ولأبناء المدينة أيضاً !! حتى بات العري التام أمراً مفروغاً منه وغير مخجل إلا أن بطل القصة يندهش ( فالرئيس يرتدي ملابسي التي فقدتها (…) كان كل واحد يصرخ بما قلته إنها ملابسي )13 إنها مساءلات نفسية للواقع المسروق منا نتيجة تراكمات سياسية واجتماعية مما أدى بالحشود أن تحتج ( تصاعد الصراخ الذي تحول إلى دوي عاصف ، اتجه نحو المنصة حيث يريد كل واحد أن ينتزع ملابس الرئيس التي يقول إنها ملابسه ) ص 13 ويحث القاص الخطى في نصه السردي إلى إيجاد مخاتلات ومفارقات اجتماعية ضمن أحداث قصته ( وقد كان الغريب فعلاً أن كل من ينتزع مايراها ملابسه ويرتديها يعقبه آخر ينتزع ملابس أخرى تظهر تحتها فينتزعها وهكذا حتى ارتدى الجميع ملابسهم ليبقى الرجل عارياً فوق المنصة ) ص 13 إذ يعمد هنا القاص إلى إنتاج الواقع بشكل متخيل ضمن يقظة الوعي الثوري المحتج على سرقة الرئيس لهم بوصفه شاهداً على عريه وعري أبناء جلدته وعري الرئيس ورهطه بعد ذلك ضمن هذا الفصل المثير الذي عبر عنه بطل القصة بقوله ( آثرت أن أكتبه ، بصفتي شاهداً على تلك الواقعة الغريبة ، على شكل قصة قصيرة أسميتها ( العراة ) من دون أن أ‘رف بالضبط هل يحيل هذا العنوان إلى الجموع التي تعرت من أشيائها أو إلى رئيس المدينة ورهطه ممن تعروا وسط الجمع الغاضب صباح ذلك اليوم ؟!) ص 14. ثمة نزعة للتحديث السردي في هذه المجموعة ضمن المقولات التي تجعل المتلقي سيداً للنص ومالكاً له ، وأزعم أن القاص لديه ميل نحو ذلك ، لأن المتلقي هو ملح الواقع ومادته الأولية التي تنتظر صراخاً يعبر عنها فقصة ( دعوة لحفل المجانين ) هي قصة ميتا واقعية ؛ لأن بطلها (عادل الشبسي ) كان قد تلقى دعوة لحضور حفل للمجانين !! ( لم أعرف من قبل رابطة باسم ( رابطة المجانين الأحرار ) صاحبة الدعوة ؛ لأن البلاد اكتظت في السنين الأخيرة ، بمسميات لا حصر لها ، لمنظمات مجتمع مدني وروابط ومؤسسات ، ثقافية واجتماعية وغيرها لكن اسماً كهذا لم اقرأ عنه أو اسمع به ، ما جعلني حائراً أقلب الأمر على أكثر من وجه من دون أن أجد له إجابة واضحة ) ص 16 ويبدو واضحاً في هذه القصة أن القاص قد منح الأحداث حيزاً واضحاً ولاسيما أن القصة ترتكز على ( الدعوة ) لحفل غريب من نوعه يقام في فندق لم يعرفه أو يسمع به … الإسقاط المخيالي الافتراضي لوجود الإنسان / الوطن / الحياة جاء ضمنياً بوجود مدعويين من كتاب المقالات السياسية وأحزاب ذات أسماء براقة ( حزب الحياة الجميلة …. حزب الأرض الثائرة …. حزب الوفاء للوطن …. حزب الشمس القادمة … حزب الأرض الخضراء … ) ص 20ــــــــ 21 وكل حزب يقابل بالهتاف والتصفيق عندما يقرأ مقالاً لأحد الكتاب السياسيين المدعوين لهذا الحفل .. إن تخلخل أزياء من يمثلون هذه الأحزاب وما لبسوه في هذا الحفل يمثل تخلخل المعايير والقيم فرمزية الملابس المهلهة غير الأنيقة وغير المتناسقة توحي بالواقع الفوضوي ( كان هناك مجموعة من الأشخاص ، يرتدون ملابس غريبة ، أحدهم يرتدي سترة حمراء وتحتها قميص أصفر فاقع وربطة عنق سوداء ، أما بنطلونه فكان عبارة عن لباس طويل من الكتاب القديم ، وحذاؤه من الونين أحدهما بني غامق والآخر رمادي …. أما الآخر فكان يرتدي تراكسوت أبيض متسخاً ، وتعلو رأسه قبعة كتان واسعة ، والثالث يلبس سترة سوداء واسعة من دون قميص ، وقد ربطها بخيط أصفر ، لعدم وجود أزرار وبنطاله بنفسجي وشبه حافٍ …) ص 17 إن هذا الإسهاب الدقيق في الوصف غالباً ما نجده في الروايات ، لكن القاص استثمره هنا واحسن في ذلك ؛ لتبيان عدم التناسق والتناسب والفوضوية والغرائبية للواقع السياسي المجنون … الذي حال دون معرفة ( إن كان السلام الوطني المعزوف في الحفل لبلادنا أم لغيرها ) ص 19 . أن عملية فرك لعيون الواقع العراقي المقذاة بالويلات والخسارات نراها شاخصة في هذه المجموعة من خلال تفتيق مكنونات الذات من حيث انشطارها إلى ديالوج ومنلوج ومحاولة التوفيق أو التفريق بينهما ففي قصة ( كتاب الحياة ) يعيش بطل القصة حالة من الفوبيا منذ أن رن جرس هاتفه صباحاً ( كانت الرنة غريبة ، غير التي وضعتها أنا ، وحين نظرت إلى الشاشة لأقرأ اسم المتصل ، لم أرَ شيئاً سوى أرقام مبعثرة كأنها حروف لغة قديمة ، هيرغلوفية أو مسمارية ، لكني وبالرغم من ترددي القصير ، ضغطت على الزر وأجبت نعم ! كان الصوت يأتيني على شكل تموجات ، خلت أنها من كوكب آخر …قال : هل سمعت الخبر ؟ أي خبر ؟ خبر إعدامك !! ) ص 32 أن إشكالية الحياة تتأتى ضمن ثنائية جدلية هي الموت / الحياة وما بينهما من تناقضات أو اختلافات اعتقادية أو دينية وما تثيره من تساؤلات ( بصراحة ، لم يشغلني الموت وحده ، بل ما بعده أيضاً ، لأني لا أعلم لماذا جئت إلى هذه الدنيا ، ولماذا أغادرها ؟ ) ص 33
إن الموروث الديني أو الشعبي المرعب حول ما بعد الموت من عذاب للعاصين أو لمن هو من غير هذا الدين أو ذاك قد رسخ في الذاكرة الأولى للإنسان ( لقد كنت أخشى الموت مرتين ، الأولى ؛ لأنه يحرمني من التمتع بالحياة الجميلة ، والثانية ، لأنه يرسلني إلى عالم الرعب الموعود الذي يتفنن الشيخ في وصفه كلما جاء إلى قريتنا ) ص 33 إن ازدياد الوعي وتوسع الإدراك جعل بطل القصة يدرك أن ثمة أديان أخرى توعد المختلف بالعذاب لمن هو مختلف !! ثم يدخل بطل القصة في تهويمات انفصامية وذهنية تعصف به فتتبدل الأمكنة والأشخاص من حوله ثم تعود رنة الهاتف لكنها الآن من صديقه ( وأنا في طريقي رن جرس هاتفي ، الرنة الصباحية ذاتها ، نظرت إلى الشاشة ، كان اسم صديقي الذي أهداني ( كتاب الحياة ) وبلهفة قلت : نعم ! قال : هل أكملت قراءة ( كتاب الحياة ) قلت : لا أعرف ! قال : وأنا أيضاً) ص 44 ضمن جمل ترميزية مغلقة ترمز إلى حتمية انتهاء هذا الكتاب سواء أكملنا قراءته أم لم نكمله بحتمية الموت التي تفوهت بها زوجته التي قالت له ( هل عرفت ؟ قلت : ماذا ؟ وبشيء من التردد ، قالت : وهي تحني رأسها وتحبس دموعها ، إن صديقك ، صاحب الكتاب ، مات صباح اليوم !!) ص 44 . ولابد أن أشير هنا أن قصة ( العظماء يرحلون بصمت أحياناً ) قصة مائزة جداً لتقانة تبادل الأدوار الصفاتية بين رونالد ريغان ذائع الصيت وأبي أيوب ذي الصيت الصامت المهمش المقهور وربما تصلح أن تكون مشروع رواية للإنسان العراقي الذي عاش واقع الحصار الاقتصادي وما حمله من انكفاء على الذات وكبت للمشاعر وضياع العمر … تلتقي جميع قصص المجموعة ضمن بعد إنساني تم بتوزيع حاذق لتداعيات الإنسان نتيجة لتداعيات السياسة …اللغة القصصية جاءت واضحة دافئة حميمة متعرقة بالمشاعر الإنسانية وهذا ما يجذب المتلقي في متابعتها. القاص عبد الأمير المجر من الأدباء الذين وعوا جيداً هذا الواقع واستجلبوه على الورق وأعادوا تمثيله جمالياً بوجبات سريعة على طاولة الحياة.
(1) كتاب الحياة / مجموعة قصصية / عبد الأمير المجر / ط 1 ــــــــــــ 2018م منشورات الاتحاد العام لأدباء وكتاب العراق.