هشام القيسي
البناء الزمني في البنية الروائية
رواية ( التشابيه ) نموذجا
اذا كان العمل الروائي فن زمني ، فان المستوى الدلالي يتمثل في التفاعل بين محاور الجدل الثلاث ، الشخصية ، المكان ، الزمن التاريخي ، ولهذا عد الزمن المحرك الخفي والموجه الرئيس في تمثيل وتجسيد الرؤيا والمنظور الفلسفي إزاء الواقع والبيئة المعاشة بصورتها الحالية لأن النص بؤرة زمنية متعددة الإتجاهات والصفحات . وإذا كان تودوروف قد أشار إلى زمن القصة وزمن الخطاب فأن الرؤية الأوسع في دراسة وتنظير الخطاب الروائي كانت للباحث جيرارد جنيت وما أشرته الشكلانية الروسية .من هنا بات من الضرورة اللازمة تقنين الاشتغال الزمني وتطويعه في البنية الروائية ’ فلم يعد التتابع في صيرورة وتحول الزمن في اطاره الكلاسيكي كمرحلة تتوالد فيها البنى الروائية سياقا ثابتا مجمعا عليه بمقدار ماكان للبناء المتداخل وفق جدلية الزمن وتحولاته وبالتالي إحالاته سمة لجأ إليه الروائي وتبنته الروايات فيما بعد .وهذا ما نهجه الروائي داود سلمان الشويلي في البنية الروائية ( للتشابيه ) ، على اعتبار زمن القصة زمن يتوالد بأبعاد شتى تأتلف مع عناصرها وتتسق مع تفرعاتها .
ابتدأ حدد الروائي الشويلي المتن الحكائي ومبناه وفق تكنيك برع فيه فمن خلال لوحات درامية أربع عشرة ( رواية الأحداث – وقائع ما حدث في المدينة – كقسم أول ) أردفه بالتقولات الأربع كقسم ثان ( رواية الأحداث بعد ذلك – تقولات الناس – ) وبتقديم ذكي من خلال ثيمات تشير الى بعض جوانب ما يضمره النص عبر مقولتين الأولى لجيفارا ( ان أبشع استغلال للانسان هو استغلاله باسم الدين .. لذلك يجب محاربة المشعوذين الدجالين حتى يعلم الجميع ان كرامة الإنسان هي الخط الأحمر الذي دونه الموت ) والثانية للكاتب والمفكر المصري فرج فودة ( المسألة كلها باختصار انه عندما تفلس الأحزاب ويفلس السياسيون .. يلعبون على المشاعر الدينية لأنها المدخل السريع لمشاعر الناس وليس عقولهم وهذا الخلط بين الدين والسياسة هو الخطر . )
تعاطى سارد ( التشابيه ) مع الزمن عبر أنساق متعددة كان التداخل المخترق والتوازي والدائري والتضمين والتزامني سمات له ، فالزمن المتداخل الخارق يمثله الحاج ( فريح ) ، هذا النموذج المبطن المركب المعد في بناءه وأداءه وهو ينطوي على مستويين من القصدية ، الأولى قصدية خرقية للعمل السياسي المضاد الذي تتبناه الدوائر السرية لأجل أهداف وغايات غالبا ما تنعم بمساحات زمنية تتوافق وأهدافها والثانية قصدية دنيوية مبطنة بلبوس الدين وطقوسه تشكل الإزدواج في الأداء ولغايات تتوافق مع الإضمار والإشهار إنطلاقا من منظور يعي دور هذا التركيب في تحقيق الغايات المنشودة ، فالحاج ( فريح هو تمساح كاسر قاطع في معناه تم اعداده وأليف في مبناه من خلال أعماله الموحية الظاهرة – والمبطنة أساسا – ) سيما وان مسارات تعامله مع ( الملحة ) والسمسير ( جاسم الأعور ) و( شرجي قامة – حميد الطويل ) و( الملة ) دالات تتوافق مع حقيقته ومسلكه .
أما الزمن المتوازي فيمثله الشيخ عبد الكريم وهذا الزمن ينطوي على مفارقتين ، الأولى الأسرة بمظهرها المعتاد وبما يطبعها من أصول متوارثة متسقة مع المنهج الحميد المنشود والثانية باطنية تتمثل في الانغمار بالعمل السياسي من قبل ابنيه هادي ومهدي الذي احتفظ بسجل سرد أحداث بات معينا في كشف الحقائق وتأشير ملامح الواقع . فهادي قد انتظم في تنظيم سري مع شباب آخرين كان يلتقي بهم في أجواء من الحذر واليقظة دون علم والده الشيخ من جهة وتنفيذ سياسة الحزب المحظور الذي انتمى إليه من جهة اخرى وبذلك يكون الحاج ( فريح ) قد ظفر بالشباب من خلال توزيع ادوار التشابيه عليهم فيما بلغ مهدي منزلة باتت فيما بعد مرجعية لحيازته سجل توثيقي يشكل شاهدا وشهادة على الحال .
أما الزمن الدائري فهو الحقيقة والمحور الذي تتجه اليه المشاعر والغايات والأهداف والنيات المسبقة والمتمثل بالتشابيه التي هي طقوس من تراث يمارسه سكان من أهل العراق كتجسيد لواقعة أليمة حلت بسبط رسول الله ، وتفاعل الجميع مع هذه الواقعة الفاجعة كل بمساره واعتقاده وغاياته . ولعل التعاطي مع هذا الزمن يكشف وفق منهج التحليل النفسي والتحليل التأريخي خفايا وبواطن الغايات وهذا مايشير اليه المؤتلف المختلف ، الحاج الماكر ( فريح ) ، الشيخ الفضيل التقي ( عبدالكريم ) ، الشقاوة شرجي قامة وحميد الطويل ، التنظيم المحظور الذي بعهدة الاستاذ صبحي ، وسكان القرية على العموم حيث تأخذ مظاهر اقامة الشعائر اهتماما مركزيا مع ما تترتب على الحالة من سخاء وعطاء واحياء حي حزين لعظم المصاب وفاجعة أهل البيت الأحباب التي أحدثت شرخا في التاريخ تظهر انعكاساتها وتأثيراتها على المشهد السياسي ونوعية واتجاه السلطة الحاكمة حتى يومنا هذا، ما يدل على عمق المأساة في النفوس وطريقة التعبير عنها .
ان هذا الزمن في الرواية يشكل الإطار العام الذي انتظمت فيه كل الفعاليات المؤتلفة والمختلفة من جانب والمرشح الذي ترشحت منه الغايات والقصديات المضمرة من جانب آخر وقد أفلح الروائي الشوملي في بناء مشاهد تتسم بمبنى ناطق وبأفق حاذق يعي الأدوار ويشحن الاصرار بصيغة السرد اللاحق على حد تعبير جيرارد جنيت .
ويبقى زمن التضمين المضاد بسريته القصوى المتضمن توظيف الدوائر المعادية لمناهج اختراق وتأسيس مداخل لتسويق الأهداف وتحقيق الغايات أحد الفعاليات الحادة والخطرة في البنية الاجتماعية التي لا تسورها سلطة صلبة أو تتغاضى عنها سلطة ما لضعفها ووقوعها تحت تأثيرات غير قادرة على مواجهتها ، وهذا ما أشره السارد في كشف الحقيقة من خلال ايغال الأفراد العملاء المبطنين في أفعالهم دون القدرة على مواجهتهم والتصدي لهم أو كشفهم والجهر بهم .
ان الزمن المتعاطى معه بدلالات وغايات قد تجسد بمبنى السارد ، فقد أحكم توجيه وتفاعل شخصيات الرواية التي تناغمت مع الزمن والحيز والحدث بروابط سردية كونت عالم روايته وكانت استجابة الروائي ابداعية بكل عناصر وحيثيات الرواية التي واكبت ديناميكية الأحداث وغطت المتناقضات المطروحة بصورة تعكس وعي كاتبها ومرجعيته النابضة فهما وتدوينا . ومما عمق من البؤر الزمنية في بنية ( التشابيه ) هو هذا الوصف الدقيق للمكان ( القرية ) بنمطها الموضعي قياسا للموقع ( المدينة ) سواء أكان في الواقع الخارجي الذي برع فيه السارد الشويلي أو في سرد المسميات الواقعية المتداولة عبر تناول مناسب جاذب للانتباه ما يؤشر علامة فارقة مائزة للكاتب ، تستصعب على غيره ، كونه من صلب المدينة التاريخية التي لها مكانتها على صعيدي الفكر والحضارة .
وتبقى ( التشابيه ) رواية جادة تظافرت أزمنتها في فاعلية الكشف سواء في قوة وهيمنة الاسترجاع واستثماره أو في سيمياء الاستشراف من خلال منظور جدلي متفاعل التحولات والامتدادات يشهر ويضمرالمسكوت عنه . وهي رواية تعكس الرفض والتحدي والخرق المعادي في زمن تقاطعت فيه السبل والغايات عبر بؤرة مركزية جامعة .