بِنْيَة الاستبدال
في نونيّة السيد حيدر الحلّي
أ.د. حسن الخاقاني
جامعة الكوفة \ كلية الآداب
المقدمة :
يمثل السيد حيدر الحلّي واحداً من أعلام الشعر العربي بمختلف عصوره، وإذا كان الظرف الزمني قد وضعه في حقبة زمنية عرفت بالحقبة المظلمة فهذا غير ضائره لما له من المقام الرفيع بين أهل زمانه إذ كان في صدارة شعراء عصره والمقدم فيهم من دون شك أو جدال.
لم يقصر السيد حيدر الحلّي شعره على فن دون آخر وإن كان قد برع في فن الرثاء وعرف به فليس هذا بدليل على تخلّفه في الفنون أو الأغراض الأخرى، يشهد له بذلك ديوانه الذي بين أيدينا وأقوال كبار العارفين بسر الصنعة فيه، بل هو فاق أقرانه في النثر فضلاً عن الشعر، ويشهد له بذلك ما تركه لنا من مؤلفات نثرية، ومراسلات اخوانية، وما قدم به لبعض قصائده جامعاً بين فنّي النثر والشعر بتمكّن واقتدار واضحين.
وربّما يكون الرثاء من أكثر أغراض الشعر اتصالاً بعواطف النفوس ولا سيّما إذا تعلّق الأمر بفقد عزيز، فكيف به إذا انطلق من عقيدة صادقة ونفس موتورة تستشعر الظلم وتراه ماثلاً كلّ حين أمامها وليس لها من الأمر إلّا بث الشكوى ولواعج الأحزان كما هو الشأن لدى السيد حيدر الحلي في علاقته مع جده الإمام الحسين شهيد كربلاء؟
هذا ما دعاني إلى الدنوِّ من أحد نصوص السيد حيدر في هذا الفن لأكتشف فيه ما لم يكتشف من قبل عن طريق منهج في الدراسة يستغور النص ويلج إلى أعماقه بفحص بنيته وتحليل مكوناته، فظهر أنّ هذه البنية قامت على مبدأ الاستبدال، وإنّ هذا الاستبدال مبنيّ على رؤية طباقية جاوزت حدّها البلاغي البسيط لتصبح مصدراً تكوينياً للنص، وما كان هذا العمل إلّا في قصيدة واحدة هي ” النونية ” فكيف به إذا طبق – أو سواه – على بقية شعر السيد الحلي، فلا شك في إننا سنصل إلى نتائج مهمّة تغيّر الرؤية السائدة، وتحطم تهمة ” الحقبة المظلمة ” التي وُصمَ بها قسم كبير من شعرنا العربي الذي آن الأوان لإعادة النظر فيه مفيدين ممّا قدمته لنا المناهج النقدية الحديثة ومنطلقين من رؤية جديدة متحررة من الفروض والمسلّمات التي تبنتها دراسات أُنجزت بتأثير اتجاهاتٍ فكريّة ضيقة كان همّها أن تسدل ستاراً كثيفاً على تراثنا بعد أن كالت له من التهم ما هو بريء منها سعياً إلى طمسه، وتشويهاً للفكر الذي يحمله .
التعريف بالشاعر:
هو أبو الحسين حيدر بن سليمان بن داود بن سليمان بن داود بن حيدر بن أحمد بن محمد بن شهاب بن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي القاسم بن أبي البركات … ينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب.
ولد في مدينة الحلّة في العراق سنة 1246 ه وقد نشأ يتيماً فتولّاه عمّه السيد مهدي بن السيد داود، تلقّى تعليمه في مدينته فبرزت قدراته مبكراً، وقد حفظ من شعر العرب ونثرهم ما أمدّه بذخيرة لغوية وفنية جعلت موهبته تزداد قوة ورصانةً ظهرت في شعره فصاحةً وتماسكاً في التركيب وجزالة في اللغة.
أهّلته موهبته، وقوة شخصيته العلمية والأدبية لأن يحتلّ مكان الصدارة بين شعراء عصره، فقد كان مقدّماً فيهم، محترماً لدى مختلف طبقات المجتمع، ولاسيّما رجال الدين ومنهم السيد الشيرازي الذي كان يستقدمه إلى سامراء فيتلقّاه بأبهى صور الإجلال والتعظيم .
لم يقتصر السيد حيدر على الشعر وحدَه، بل كانت له باع طويلة في النثر أيضاً، وتشهد له آثاره الأدبية التي خلّفها بذلك، فمن مؤلفاته النثرية: كتاب العقد المفصل، وكتاب: دمية القصر في شعراء العصر، وكتاب: الأشجان في مراثي خير إنسان، ويبدو من نثره الذي أورد بعضَه محقّق ديوانه في آخر الديوان قدرته في التصرف في اللغة نثراً كقدرته فيها شعراً.
إنّ من يطالع ديوان السيد حيدر الحلي سيجد شعراً رفيع القدر، عالي المنزلة، لا من حيث فصاحة اللفظ وتماسك الأداء حسب، ولكن من حيث عمق الثقافة وقوة الخيال، مع قدرة عجيبة في النفاذ إلى أعمق درجات الشعرية وأدقّها بأيسر السبل وأبعدها عن التعقيد، فهو يصيب مرماه من أقرب مسافة ممكنة، وهو بذلك يقدّم أنموذجاً مختلفاً عن شعراء عصره، ولا يمكن أن يدرجَ في سلكهم، بل لا بدّ من إفراده تمييزاً له بما حواه من سمات التميّز، لذا لا يصحّ ما أطلقه بعض الدارسين من أحكام طبعتها العشوائية والتعميم، ودفعها نمطٌ فكري ساد في حقبة متأخّرة أراد أصحابه فرضه على شعراء تقدموا عليهم بما يزيد على قرن من الزمان، لذا أجد أنّ الأحكام التي أطلقها بعض الدارسين، ورموا بها شعراء ما سمّي بالحقبة المظلمة بالضعف والركاكة وقصور الخيال هي أحكام تفتقر إلى الدقّة والتأنّي، ولا تنمّ عن دراسة علميّة خالصة من الإفراط في التحيّز إلى نوايا ودوافع فكرية مسبقة أثبتت الأيام قصورها وبطلانها، وسرعة زوالها دليل على افتقارها إلى قاعدة رصينة.
إنّ السيد حيدر الحلّي يقدم أنموذجاً للشاعر الذي تبنّى قضية ظلّ وفيّاً لها عن عقيدة ووعي في مدى حياته، وتلك هي قضيّة آل البيت جميعاً ومنهم الإمام الحسين خاصة، ولذك نجد شعره في هذا المجال من أكثر أنماط شعره مكانةً وتأثيراً في النفوس ، ورثاؤه في الإمام الحسين لا يمكن أن يدرج في فنّ الرثاء العربي عامة، بل ينماز منه بخصائص نفسيّة، ولغوية، وفنيّة تستحق الوقوف والدراسة المعمقة، فليس الرثاء لديه مجرّد ندبٍ لميت من الأموات، ولا هو تكديس لصفات المرثي وتعدادها تباعاً، وإنّما هو علاقة روحية عميقة تربط بين الراثي والمرثي، وفيه نفاذ إلى عمق القضايا المتعلقة بمقتل الإمام الحسين على ما فيها من تشعّب وتعقيد، هذا فضلاً عن الطاقة الشعرية الهائلة، والقدرة الفنيّة الباهرة التي يصدر عنها الشاعر، وهو ما ظلّ متمسّكاً به ليخرج في كلّ عام قصيدةً حتى عرفت قصائده بالحوليّات تكريماً لها بما عرفه العرب من فحول شعرائهم، وقد ظلّ السيد الحلّي مقيما على دأبِه هذا إلى أن توفّاه الله في سنة 1304 ه رحمه الله.
القصيدة:
تركتُ حشاكَ وسلوانَها
فخلِّ حشايَ وأحزانَها
أغَضَّ الشبيبة عنّي اليك
فقضِّ بزهوك ريعانها
ودعني أصارع همّي وبِتْ
صريع مدامك نشوانها
قد استوطن الهمّ قلبي فعفْتُ
لك الغانيات وأوطانها
عدوتُ ملاعب ذاك الأراك
فلستُ ألاعب غزلانها
وعفتُ غدائرَ بيض الخدود
فلم أنشق الدهرَ ريحانها
أفقْ لسْتَ أوّل من لامني
على وصل نفسي تحنانها
فكم لي قبلك لوّامة
تشاغلتُ مطّرحا شانها
تريني بالعذل اشفاقها
وفيه تلوّن ألوانها
تناشدني الصبر لكنْ تريد
أن أعرف اللهوَ عرفانَها
وما هي منّي حتى تخاف
عليّ الهموم وأشجانها
وما في ضلوعي لها مهجة
عليها تحاذر نيرانها
ولا بين جفنيّ عينٌ لها
من الكحل أغسل اجفانها
ولو ضمّنت أضلعي قلبَها
سلوتُ النوائب سلوانها
ولو وَجَدتْ بعضَ ما قد وجدتُ
لبلّت من الدمع أردانها
خلا أنّها مذ رأتني غدوتُ
لهيفَ الحشاشة حرّانها
فقالت أجدك من ذي حشا
جوى الحزن لازم ايطانها
لمن حرق الوجد تذكي وراء
حنايا ضلوعك نيرانها
وتشجيكَ كلّ هتوف العشيّ
تردد في الدوح ألحانها
تسلَّ وبالله لما اغتنمت
من جدة اللهو إبّانها
فقلت سلوتُ إذاً مهجتي
إذا انا حاولت سلوانها
كفاني ضناً أن ترى في الحسين
شفت آل مروان أضغانها
فأغضبت الله في قتله
وأرضتْ بذلك شيطانها
عشيّةَ أنهضها بغيُها
فجاءتْه تركب طغيانها
بجمع من الأرض سدّ الفروج
وغطّى النجود وغيطانها
وطا الوحشَ إذ لم يجد مهربا
ولازمت الطيرُ أوكانها
وحفّت بمن حيث يلقى الجموع
يثنّي بماضيه وحدانها
وسامته يركب إحدى اثنتين
وقد صرّت الحرب أسنانها
فإمّا يُرى مذعناً أو تموت
نفسٌ أبى العزّ إذعانها
فقال لها اعتصمي بالإباء
فنفسُ الأبيّ وما زانها
اذا لم تجد غيرَ لبس الهوان
فبالموت تنزع جثمانها
رأى القتل صبراً شعار الكرام
وفخراً يزين لها شانها
فشمّر للحرب في معرك
به عرك الموتُ فرسانها
وأضرمها لعنان السماء
حمراء تلفَح أعنانها
ركينٌ ولللأرض تحت الكماة
رجيفٌ يزلزل ثهلانها
أقرُّ على الأرض من ظهرها
إذا ململ الرعبُ أقرانها
تزيد الطلاقة في وجهه
إذا غيّر الخوف ألوانها
ولمّا قضى للعُلا حقّها
وشيّد بالسيف بنيانها
ترجّل للموت عن سابق
له أخلَت الخيلُ ميدانها
ثوى زائد البِشر في صرعة
له حبّبَ العزّ لقيانها
كأنّ المنيّةَ كانت لديه
فتاةٌ تواصل خِلصانها
جلتْها له البيضُ في موقف
به أثكل السمر خرصانها
فباتَ بها تحت ليل الكفاح
طروبَ النقيبَة جذلانها
وأصبح مشتجراً للرماح
تحلّي الدما منه مرّانها
عفيراً متى عاينته الكماة
صريعاً يجبّن شجعانها
تريبَ المُحيّا تظنّ السماء
بأنّ على الأرض كيوانها
غريباً أرى يا غريبَ الطفوف
توسّدَ خدّيك كثبانها
وقتلك صبراً بأيدٍ أبوك
ثناها وكسّر أوثانها
أتقضي فداكَ حشا العالمين
خميصَ الحشاشة ظمآنها
ألسْتَ زعيمَ بني غالب
ومطعامَ فهرٍ ومطعانها
فَلِمْ أغفلتْ بك أوتارَها
وليست تعاجِلُ إمكانها
وهذي الأسنّةُ والبارقات
أطالتْ يدُ المطل هجرانها
وتلك المطهّمَة المقربات
تجرّ على الأرض أرسانها
أجبناً عن الحرب يا من غدوا
على أول الدهر أخدانها
أترضى أراقمكم أن تعد
بنو الوَزَغ اليوم أقرانها
وتنصب أعناقها مثلها
بحيث تطاول ثعبانها
يميناً لَئِنْ سوّفت قطعها
فلا وصَل السيف أيمانها
وإن هي نامت على وترها
فلا خالط النوم أجفانها
تنام وبالطف علياؤها
أميّة تنقض أركانها
وتلك على الأرض من أُخدِمت
وربّ السماوات سكّانها
ثلاثاً قد انتبذت بالعراء
لها تنسج الريح أكفانها
مصابٌ أطاشَ عقولَ الأنام
جميعاً وحيّر أذهانها
عليكم بني الوحي صلّى الإله
ما هزّت الريح أفنانها
في تكوين النص :
يبغي الشعر الوصول إلى الحقيقة ولكن عن طريق المجاز، والذات الشعرية لدى الشاعر الأصيل لا يمكن أن تكون في اختياراتها مطابقةً للمعاني الظاهرة، فالشعر تعبير فنّي مبني على أساس من الاختيار الواعي، أو غير الواعي، وتنظيم في نسق من التأليف والتجاور المتماسك في بنية نصّية ظاهرة.
إنّ محور الاختيار الذي يتجلّى فيه الإبداع هو المجال الأرحب لحريّة العمل المسؤولة، ولبيان القدرة في التمييز النابع من حصيلة ثقافية ومعرفية مؤهلة، وذا أمر قد لا يقع تحت أيدي كثير من الشعراء، بل يكاد أنْ يكون من المقاييس المأمونة النتائج في تقويم مكانة الشاعر نفسه إذ تزداد قيمته ومكانته رفعةً بمقدار انسجامه مع نفسه وفنّه مهما كانت طبيعة هذه النفس والفنّ الذي تنتجه فالأمر يرجع الى الاختيار وحسن التصرّف بما لديه من ثروة لغوية، وتقنيّات فنيّة تعينه على الإفادة المثلى ممّا يملك .
ويقف الشاعر السيد حيدر الحلّي في الذروة من هذا المقام ولا سيّما في شعره الثر الذي خصّ به آلَ البيت مدحاً ورثاءً، بل هو ينماز من سواه من الشعراء عامّة، وفي شعر الرثاء خاصّة، بل بما رثى به الإمام الحسين عليه السلام على وجه التحديد والدقّة فلا يجري عليه ما جرى على شعراء عصره من أحكام ليست في مصلحتهم .
وتندرج نونيّته التي مطلعها:
تركتُ حشاكَ وسلوانَها فخلِّ حشايَ وأحزانَها
في هذا المجال، وإذا كان شعر السيد حيدر الحلّي قد خضع للدراسة والتمحيص من رؤى مختلفة، فإنّ الوقوف على قصيدته هذه، وفي هذا البحث، سينطلق من رؤية تحليليّة ساعية إلى الكشف عن بنْيَة الاستبدال التي انتظمت على أساسها، بعد الكشف عن المنطلق الرئيس لتلك البنية وهو الرؤية الطباقية الماثلة في فكر الشاعر وتكوينه النفسي والفني معا.
نعني ببنية الاستبدال عدولَ الشاعر عن عنصرٍ متوقّع إلى عنصر جديد يحلّ محلّه بديلاً عنه ودليلاً عليه سواء بذكره أم بنفيه.
وقد اعتمدت هذه البنية لدى الشاعر الحلّي على رؤية طباقية أصيلة لديه، كانت تفرض وجودها الواضح في إنشاء نوع من علاقات التضاد القائمة على المقابلة أحيانا، وعلى النفي أو التضاد أحيانا أخرى.
وقبل الخوض في تفصيل ذلك سنقف أولاً عند هيكل القصيدة الذي يمكن أن يقسّمَ على مفاصل ثلاثة هي:
1- مفصل اللوم: ويبدأ من أوّل القصيدة إلى البيت رقم 20.
2- مفصل الجواب: ويبدأ من البيت رقم 21 إلى البيت رقم 50.
3- مفصل الاستنهاض: ويبدأ من البيت رقم 51 إلى نهاية القصيدة.
مفصل اللوم: اللوم، واللائمة من تقاليد القصيدة العربية القديمة، وذلك بأن يجرّد الشاعر من نفسه ذاتاً أخرى مقابلة له توجه له اللوم على أفعاله لتكون منطلقا منطقيا لبسط الجواب المقنع لا للمتلقّي وحدَه، وإنّما للشاعر نفسه قبل ذلك، وهذا ما نجده واضحاً لدى الشعراء الفرسان، أو الشعراء الأجواد كحاتم الطائي مثلا .
لجأ السيد حيدر الحلّي إلى هذه التقنيّة التقليدية في قصيدته هذه ليوجّه الخطاب في المطلع إلى لائمٍ مفترض، غير مذكور بالاسم، ولكنّه مذكور بالصفة في البيت الثاني:
أغضَّ الشبيبة عنّي إليك فقضِّ بزهوك ريعانها
وهذا يعني أنّ اللائم هو في عمر الشباب المائل نحو ملذّات الحياة والتمتّع بها، ويستغرق هذا اللائم سبعة أبيات من القصيدة ليخبر الشاعر عن لائم آخر جاء مؤنّثا هذه المرة، وبصفة ” لوّامة ” ويبدو إنّها لا تحمل سمة المرأة بقدر ما تشير إلى نفس الشاعر التي لا ترضى له الاستغراق في الحزن.
إنّ فارقاً مهمّا قد طرأ على مستوى اللوم الذي استعمله الشاعر، فالانتقال من ذلك الشاب المفترض إلى هذه اللائمة المؤنثة ليس القصد منه زيادة عدد اللائمين حسب، وإنّما يعني – فضلاً عن ذلك – تغيّراً في نوع اللوم ومستواه ، فاللائم الأول ” الشاب ” يقترن بصفات الزهو وريعان الشباب، ويغيب في نشوة المدام وملاعبة الغانيات، في حين أنّ اللائمة المؤنثة هي أكثر نضجاً حين تدعو الشاعر إلى الصبر والتلهّي عن الهموم والأشجان تسليةً للنفس عن حزنها المقيم، ولكنّ الشاعر يرفض نصح هذه اللائمة كما رفض دعوة اللائم الشاب من قبل لأنّ ما يدعوه إلى الهم والحزن والشجن هو أعظم كثيراً ممّا يبديه هذان اللائمان على اختلافٍ فيما يبديان، وهنا ينهي مفصل اللوم ليتخلّص الشاعر إلى قضيته الرئيسة في المفصل الثاني.
مفصل الجواب: لم يكن مفصل اللوم سوى وسيلةٍ فنية أحسن الشاعر استعمالها ليتّجه نحو المفصل الثاني وهو مفصل الجواب الذي هو مرتكز القصيدة والدافع لإنشائها لأنه يتضمن رثاء الإمام الحسين عليه السلام وهو الغرض الرئيس للنص إذا شئنا استعمال المصطلح التقليدي في الأغراض، وهو القضية الرئيسة التي اهتمّ لها الشاعر وأراد بسط وجوهها أمام المتلقي.
يبدأ هذا المفصل من البيت:
فقلتُ سلوتُ اذاً مهجتي إذا أنا حاولتُ سلوانَها
فالفاء هي مفتاح الجواب الذي يستمر على مدى ثلاثين بيتاً وهو القسم الأكبر من القصيدة.
المفصل الثالث: أمّا المفصل الثالث فهو مفصل الاستنهاض، والاستنهاض أصبح من الأغراض التقليدية في القصيدة الحسينية، وازداد رسوخاً في عصر الشاعر لأسباب دينية وسياسية واجتماعية ، وقد يجيء مستقلاً في قصيدة كاملة، أو جزءً من قصيدة وهذا هو الأغلب، ولعلّ السيد حيدر الحلّي من أكثر الشعراء استعمالاً للاستنهاض الذي غالباً ما يتجه إلى الإمام الحجّة المنتظر عجّلَ الله فرَجَه الشريف ليأخذَ بالثأر ويخلّص الأمّة من ظلم عدوها.
وهو في هذه القصيدة يتجه بالاستنهاض إلى بني غالب، وربّما يقصد بذلك قريشاً، أو بني هاشم خاصةً للنهوض لأخذ الثأر لسيدها الإمام الحسين عليه السلام، وقد استغرق الاستنهاض ثلاثة عشر بيتاً من القصيدة.
الرؤية الطباقية ومظاهرها في القصيدة: تقوم الرؤية الطباقية على أساس وجود طرفين يلتقيان في علاقة تضاد تؤدّي إلى تصعيد العنصر الدرامي في النص، ولا سيّما في النصوص ذات الشحنة العاطفية العالية كما هو الشأن في غرض الرثاء خاصة.
أول مظاهر الرؤية الطباقية يتجلّى في استعمال الضمير، فالنص يبدأ بضمير المتكلم المتصل بالفعل الماضي ترك ” تركتُ ” يقابله ضمير المخاطب للمفرد المذكر المضاف إلى المفعول حشا، ولو نظرنا في نسيج المطلع لوجدناه يتكون من مجموعة من المتضادات هي:
الفعل ترك يقابله فعل الأمر خلّ أي اترك، وهذا يعني أنّ المخاطب غير تارك لغاية الآن في حين صرّح المتكلم بفعل الترك حين قال: تركتُ.
حشاكَ بضمير المخاطب يقابلها: حشايَ التي اتصلت بضمير المتكلم.
سلوانَها يقابلها: أحزانَها، والسلو ضد الحزن.
وهذا التقابل، أو التضاد ينتقل من المطلع ليسيل في أبيات القصيدة فتتعزز به ثنائية التضاد هذه عبر وجود الذات والذات المقابلة لها، فضمير المتكلم يمثل ذات الشاعر التي لا تستطيع الظهور بكامل حضورها الوجداني من دون المواجهة مع ذات أخرى مقابلة وهي التي تمثلت في ضمير المخاطب.
إنّ المفصل الأول من القصيدة، وهو مفصل اللوم، يتمثل في هذه المواجهة بين الذات ونقيضها، ولنتذكر أنّ الشاعر لم يكتفِ بذات واحدة في استفراغ اللوم تعزيزاً لقيمة الجواب وإنّما احتاج إلى ذات أخرى مختلفة في قيمتها وصفاتها لتتضح من ذلك الصورة على النحو الآتي:
– اللائم الأول: غضّ الشبيبة، أي في عمر الشباب، ويمكن تأويله بإرجاعه إلى الشاعر نفسه وليس إلى عنصر خارجي، أي ما كان عليه الشاعر في عمر الشباب الذي يقترن بالنشوة والميل إلى اللهو وهو ما يتناسب مع تلك المرحلة العمرية لدى الإنسان عامة.
– اللائم الثاني: الذي جاء بضمير المؤنث يعني الانتقال إلى مرحلة عمرية جديدة هي مرحلة الرجولة بدليل وجود المرأة، ويبدو فيها الناطق في النص أكثر تعقّلاً ورزانة من تلك المرحلة، فاللائمة تدعو إلى الصبر، وهذا ما يعطي للنص مفتاحاً رئيساً للانتقال إلى بيان سبب الجزع والحزن الذي تضمنه المفصل الثاني مفصل الجواب.
إنّ الوجه الآخر لعلاقة التضاد بين الضميرين تظهر في الفعل الذي يمارسه كل منهما، فضمير الذات يصارع الهمّ ويغرق في الحزن، وضمير المخاطب إمّا غارق في اللهو وزهو الشباب كما هو الحال مع ضمير المذكر، وإمّا يدعو إلى الصبر وترك الحزن كما هو الحال مع المؤنث.
تتعمّق الرؤية الطباقية في مفصل الجواب حتى تغيب الضمائر الواردة ليظهر عنصرا الصراع المتضادان وهما: الحسين، وآل مروان، وامتدادات كل منهما وتشعباته، فنجد الطباق واضحاً في عناصر البيت:
فأغضبت الله في قتله وأرضتْ بذلك شيطانَها
أغضبت x أرضت
الله x الشيطان
قتله x حياتها
بل حتى الخيارات التي أتاحها الأمويّون أمام الحسين ترتكز على مبدأ ثنائية التضاد كما في البيتين:
وسامَتْه إحــــــــــــــــــدى اثنتين وقد صرّت الحربُ أسنانها
فإمّا يرى مذعناً أو تموت نفسٌ أبى العــــــــــــــــــــزّ إذعانها
فالإذعان يقابل الإباء، والموت يقابل الحياة، والعزّ يقابل الذلّ المستشفّ من استمرار الحياة بعد الإذعان.
وتستمر الرؤية الطباقية في المفصل الثالث, مفصل الاستنهاض الذي لا يكاد يخلو من اللوم الشديد، أو التعنيف، ونجد من ذلك:
الأسنّة والبارقات x أطالت يد المطل هجرانها، فقد علاها الصدأ.
المطهّمة المقرّبات x تجرّ على الأرض أرسانها، فهي مهملة ذليلة.
أراقمكم x بنو الوزغ.
نامت على وتْرِها x فلا خالط النوم.
إنّ هذه الرؤية الطباقية التي تغمر القصيدة كلّها لَهي راسخة في مرتكز الشعريّة عند السيد الحلّي ولذلك هي تأتي محكمة البناء، متينة السبك، بحيث تظهر المعنى والمعنى المضاد ممّا يعطي النصَّ قوةً تعبيرية ذات نزعة درامية تؤجّج الصراع بين العناصر وترتقي به تصاعدياً، ويمكن تقديم عرض عام للعناصر المتقابلة على النحو الآتي:
حشاكَ x حشايَ
سلوانَها x أحزانَها
أصارع همّي x صريع مدامك
عدوت ملاعب x فلست ألاعب
مذعناً x أبى العز
لبس الهوان x تنزع جثمانها
ركين x رجيف
أقرّ x ململ
تزيد الطلاقة x غيّر الخوف ألوانها
قضى للعلى x ترجّل
البيض x السمر
بات x أصبح
تحلّي x مرّانها
ليل الكفاح x طروب النقيبة جذلانها
عفيراً x يختطف الرعب ألوانها
صريعاً x يجبّن شجعانها
السماء x الأرض
……………………………………….
بنْية الاستبدال:
تستند بنية الاستبدال إلى معطيات الرؤية الطباقية وتقوم عليها، فالطباق يمهّد السبيل للشاعر في الاختيار حينَ يبحث عن النقيض المقابل لما اختاره من معجمه الشعري الثر.
وتتشعب بنية الاستبدال لتشمل عناصر كثيرة في النص منها على مستوى المفردات، ومنها على مستوى العناصر المشاركة في أحداث النص، ومنها العلاقات اللغوية المتوقعة بغير المتوقعة، فعلى مستوى المفردات نجد استبدال الأحزان بالسلوان، والهمّ باللهو، والموت بالحياة، والذلّ بالعز، والاذعان والهوان بالإباء، وقد أشرنا إلى بعض منها فيما سبق.
وعلى مستوى العناصر نجد: استبدال اللائمة باللائم الشاب، ويمكن أن نتوسّع أكثر في هذا المجال بالإفادة من هيكل القصيدة نفسه، بالنظر إلى خاتمتها وهي الاستنهاض وجعلها بديلاً من اللوم والحثّ على ترك الأحزان، أي أنّ مفصل الجواب الذي هو مدار الحزن والشجى في النص قد أوجد بديلاً عن اللوم الذي يدعو الى السكون بالانفتاح في الاستنهاض على الدعوة إلى الثأر والثورة بدلاً من الركون إلى الهدوء والدعة التي كان يدعو إليهما اللائمان الشاب والمرأة. وأمّا صفات العناصر الإنسانية المشاركة في إنجاز الفعل الدرامي فنجد الشاعر قد اعتمد مبدأ إحلال الصفة بدلاً من الموصوف،¬ أي انّه قد أعرض عن إيراد الاسم اكتفاءً بصفاته، ومن ذلك سرده لصفات الإمام الحسين وهي: الإباء، الشجاعة، الثبات، البِشْر، فصفة الإباء نجدها في البيتين:
فقال لها اعتصمي بالإباء فنفس الأبيّ وما زانَها
إذا لم تجد غير لبس الهوان فبالموت تنزع جثمانها
وأمّا الشجاعة فنجدها في قوله:
رأى القتل صبراً شعار الكرام وفخـــــــراً يزيــــــن لها شانـــــــها
فشمّر للحــــــــــــــــــرب في معرَكٍ به عرَك الموت فرسانها
وأضــــــــــــــــــرَمها لعنان السماء حمــــــــــــــــــــــــراء تلفح أعنانها
ونجد الثبات في قوله:
ركينٌ وللأرض تحتَ الكمـــاة رجيـــــــــــــــفٌ يزلزل ثهلانــــــها
أقرّ على الأرض من ظهرها إذا ململ الرعــــــــــــبُ أقرانها
ونرى البشر والاقبال على الموت دون وجل في قوله:
تزيد الطلاقــــــــــــــــــة في وجـهه إذا غيّر الخوف ألوانــــــها
ترجّل للمــــــــــوت عن ســـــــابق له أخلت الخيل ميدانها
ثوى زائد البشر في صرعة له حبّب العــــــــــــز لقيانها
أمّا الاستبدال على مستوى العلاقات اللغوية فهو الأعمق لدى الشاعر إذ أصبح منطلقاً رئيساً للتوجّه بالنص نحو شعريته فهو متصل بمبدأ الاختيار الذي يمثل اختباراً حقيقياً لقدرات الشاعر وقيمته الفنية وقد أفاد فيه السيد حيدر الحلّي من العلاقات البلاغية التي يحسن توظيفها، والصنعة الفنية التي مهر فيها بخبرة ودراية ومن ذلك استعماله ” غضّ الشبيبة” بدلاً من شاب أو الشباب، و” بيض الخدود ” بدلاً من النساء البيض الجميلات، واستعمال ” هتوف العشيّ ” بدلاً من الحمامة النائحة، و” آل مروان ” بدلاً من آل أميّة.
أمّا على مستوى الصورة فقد عمد الشاعر الى استبعاد ما يدلّ على الموت دلالةً مباشرة من أفعال مثل مات أو قتل أو ما رادفهما واستعاض عنهما بأفعال تدلّ على حريّة الشخصية الفاعلة في اختيار أفعالها، وهي تتجه إلى الموت بإرادة واعية بعد إنجاز المهمّة الشريفة التي قاتلت من أجلها:
ولمّا قضى للعُلا حقّها وشيّد بالسيف بنيانها
ترجّل للموت عن سابق له أخلت الخيلُ ميدانها
هذا عن الاتجاه إلى ملاقاة الموت، أمّا الموت نفسه فقد عوض عنه الشاعر بصورة العرس بتشبيهه المنية بالفتاة العروس في قوله:
كأنّ المنيّة كانت لديـــــــــــــــــــــــــــه فتاة تواصل خلصــــــــــــــــــــــانَها
جلتْها له البيض في موقف به أثكل السمر خرصانها
فباتَ بها تحت ليل الكفـاح طروبَ النقيبـــــــــــــــــة جذلالها
وتأتي مرحلة أخرى بعد تحقق الموت ووقوعه، وهو الذي كان ينبغي أن يكون النهاية المنطقية لفعل الشخصية التي تخلت عنها الحياة ولكن الشاعر لم يستسلم لإغراء هذا الخيار وأحلّ بدلاً عنه خياراً آخر أكثر قوة وتأثيراً وذلك هو استمرار الفاعل بالفعل حتى بعد الموت فهو مازال كأنّه الحي في شجاعته وتخويفه لعدوه:
وأصبح مشتجراً للرمــــــــــــــــــــاح تحلّي الدِّما منه مرّانها
عفيراً متى عاينته الكمــــــــــــــاة يختطف الرعب ألوانها
فما أجلت الحرب عن مثله صريعاً يجبّن شجعانها
تريب المحيا تظن السمـــــــــــــــــــــــاء بأنّ على الأرض كيوانها
إنّ هذا الابدال والإحلال الذي أوقعه الشاعر بين الموت والعرس قد لا يبدو جديداً في نفسه ولكنّ الجديد الذي فيه هو هذه القدرة على رصد مقومات الصورة نفسها عن طريق استقصاء مكوناتها والتفصيل فيها بعد أداة التشبيه، وكلّ هذا يجري عن طريق كسر التوقّع الذي تحقق في عدم الاقتصار على التشبيه المفرد: كأنّ المنيّة فتاة أو عروس، وإنّما توظيف تفصيلات صورة الفتاة بالتزامن مع حضور صورة الموت نفسه فصورة المنيّة وتفصيلاتها حاضرة في صورة الفتاة بل هي التي ترسم لها تلك التفصيلات، فالفتاة تواصل خلصانها، وفي هذا كسر للتوقع صنعه الشاعر ضمن تماسك نصّي عميق إذ عمد إلى العدول عن المتوقّع وهو: فتاة تواصل خلّانها، ولو قال خلّانها لجعل الفتاة بعيدة عن الطهارة بل هي أقرب إلى البغيّ منها إلى الفتاة العفيفة، وبذلك منح المنيّة أو الموت صفة العفّة والطهارة من هذا الطريق.
وقد جعل تبعاً لذلك جلوة العرس تجري على حدّ السيوف البيض والرماح السمر، ومن عانق الفتاة واختلى بها فقد بات تحت ليل الكفاح، وبهذا تتكاتف صورة الموت مع صورة العرس ولا تتقاطع، فالإبدال والإحلال الواقعان بين الصورتين لم يأتيا عن طريق الانقطاع وتغييب أحدهما ليحضر الآخر مكانه، وإنّما جاء من امتراج وتآلف وانصهار، فظلّ مستمرا حتى بعد انتهاء الفعل نفسه.
الهوامش:
1- ظ: ديوان السيد حيدر الحلي، حققه: علي الخاقاني ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ، ط1 ، 1429 ه ،- 2008 م ، ص7، وهو من مقدمة المحقق.
2- ظ: علوان، علي عباس، تطور الشعر العربي الحديث في العراق اتجاهات الرؤيا وجمالات النسيج، وزارة الاعلام ، بغداد،1975، ص32- ص48 .
3- ظ: الحلي، حازم سليمان، السيد حيدر الحلي شاعر عصره، مطبعة أكرم، روتردام، هولندا، ط1، 1424 ه – 2003 م ص 31 – ص37.
4- ظ: بركة، فاطمة الطبال، النظرية الألسنية عند رومان ياكبسون، دراسة ونصوص، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1413 ه – 1993 م ، ص241 – ص 254.
5- ظ: فضل، صلاح، نظرية البنائية في النقد الادبي، دار الشؤون الثقافية العامة، مطابع دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد ، ط3 ،1987، ص 76 – ص 86.
6- ظ: العوادي ، د . عدنان حسين ، لغة الشعر الحديث في العراق بين مطلع القرن العشرين والحرب العالمية الثانية ، وزارة الثقافة والاعلام، بغداد ، 1980 ، ص 91 – ص 108 .
7- الديوان: ص 123 – ص 127 .
8- الطباق من الفنون البلاغية التي يضمها علم البديع وغايته التحسين، يقع بين متضادين او متقابلين في شعر او كلام، وهذا ما درجت عليه المصادر البلاغية القديمة والحديثة، ظ : القيرواني، ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط5، 1401ه – 1981م ج2، ص5. والتفتازاني ، سعدالدين مسعود بن عمر المتوفى سنة 792 ه ، المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم تحقيق : د . عبد الحميد هنداوي ، منشورات محمد علي بيضون ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1422 ه . ص 641 – ص 647. والهاشمي، أحمد، جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، دار احياء التراث العربي، بيروت ، ط12، ص 366.
9- ظ : الجادر ، محمود عبد الله ، دراسات نقدية في الادب العربي ، وزارة التعليم العالي ، بغداد ، 1990 ، ص 24 – ص27 .
10- ظ : الوردي ، د. علي ، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، دار الراشد ، بيروت ، ط2 ، 1426 ه – 2005 م 2/ ص 224 – ص 230