طلال حسن: أجمل شجرة في العالم (قصص للأطفال) (13) (القسم الأخير)

المبدع الكبير الأستاذ طلال حسن

” 61 “

المطر

” 1 ”
ــــــــ
التقت عينا العصفور الفتيّ، بعيني العصفورة الفتية ، لأول مرة ، في ماء الغدير . فرفع رأسه ، وراح يتأمل عينيها ، ثم قال : عفواً ، تفضلي .
فردت العصفورة الفتية قائلة : أشكرك ، لست عطشى .
وسكتت لحظة ، ثم قالت : هذه أول مرة أراك فيها .
فقال العصفور الفتيّ : إنني من الغابة المطلة على البحيرة .
وقالت العصفورة الفتية : يقال أنها غابة جميلة .
وابتسم العصفور الفتيّ ، وقال : غابتكم أيضاً جميلة .
ونظر إلى الجبال البعيدة ، وقال : لكن غابة الجبل الأخضر ، كما يقال ، أكثر الغابات جمالاً ، فقررت أن أهاجر إليها .
وأشارت العصفورة إلى شجرة صنوبر ، تطل على الغدير ، وقالت : هذه غابتي ، وأنا أبني عشي فيها .
ثم أضافت ، وهي تحلق مبتعدة : أتمنى لك التوفيق ، وداعاً .
ووقف العصفور الفتي يتابعها بنظره ، دون أن يتفوه بكلمة ؟

” 2 ”
ـــــــــــ
انهمكت العصفورة الفتية في بناء العش ، لكن العصفور الفتيّ لم يغب عن بالها . وتمنت لو أنها تريثت أكثر ، و .. ودق قلبها بشدة ، فقد رأت العصفور الفتيّ مقبلاً ، يحمل قشة بمنقاره .
وحط العصفور الفتيّ إلى جانبها ، وأشرقت عينا العصفور متمتمة : شكراً .
وتطلع العصفور الفتيّ إلى العش ، وقال : العش لم يكتمل بعد .
وردت العصفورة الفتية قائلة : سأكمله ، الوقت ما زال مبكراً .
فقال العصفور الفتيّ بحماس : لن أمضي قبل أن أكمل معك العش .
فغضت العصفورة الفتية نظرها ، وابتسمت قائلة : أكون شاكرة .

” 3 ”
ــــــــ
أرخى الليل سدوله ، والتمعت النجوم في السماء ، فأوى العصفور الفتيّ والعصفورة الفتية ، إلى غصن قريب من العش ، الذي لم يكل بعد .
وتطلع العصفور الفتيّ إلى النجوم البعيدة ، وقال : إن أمي تنظر الآن إلى هذه النجوم .
ثم ابتسم ، وتابع قائلاً : قبل أن أحلق ، قالت لي ، حيثما تكون يا بنيّ ، أنظر إلى النجوم ، لأني سأنظر إليها أيضاً ، وأتذكرك .
وسكت لحظة ، ثم قال : آه لا توجد عينان في العالم أجمل من عيني أمي .
والتفت إلى العصفورة الفتية ، وغرق في عينيها ، ثم صاح : يا لله ، إن لك عينين كعيني أمي .
وتدفقت الدماء في وجنتي العصفورة الفتية ، وغضت نظرها ، فقال العصفور الفتي : لقد ألهيتك طول اليوم بحديثي ، فلم يكمل العش .
وابتسمت العصفورة الفتية قائلة : لا عليك ، سأكمله غداً .
فقال العصفور الفتيّ محتجاً : كلا ، يا عزيزتي ، لن أسافر قبل أن نكمل العش معاً .
وصمت لحظة ، ثم التمعت عيناه ، وقال : لم أحدثك عن شاعر غابتنا ، البلبل ، وأي بلبل ، لقد أنشد قصيدة جميلة عن حبيبته ، لم تسمعيها بالتأكيد ، سأنشدها لك ، اسمعي ..

” 4 ”
ـــــــــ
على غير عادتها ، استيقظت العصفورة الفتية ، بعد شروق الشمس . وهبت متلفتة ، إذ لم تجد العصفور الفتيّ إلى جانبه . وظنت أنه قد سافر ، ولكن كيف يسافر دون أن يودعها ؟ ثم إنه قال .. ، وخفق قلبها فرحاً ، حين سمعته يهتف : صباح الخير .
وقبل أن ترد على تحيته ، تابع قائلاً :رأيتك متعبة ، فلم أشأ أن أوقظك .
وأشار لها أن تعالي ، وحين أسرعت إليه ، قال مبتسماً : حسن ، ها هو العش قد اكتمل .
ونظرت العصفورة الفتية إلى العش ، وصاحت فرحة : آه ما أجمله .
فتطلع العصفور الفتيّ إليها ، ثم قال : إنه جدير بعصفورة جميلة مثلك .
وغضت العصفورة الفتية نظرها مبتسمة ، فتطلع العصفور الفتي إلى السماء ، وقال : ليت المطر يهطل الآن .
فرفعت العصفورة الفتية عينيها إليه ، وقالت : لكن السماء صافية .
وغرق العصفور الفتي في عينيها الصافيتين ، ثم قال : لا أجمل من سماء صافية تمطر .
لم تغض العصفورة الفتية نظرها هذه المرة ، بل ظلت تنظر في عينيه ، فتنهد قائلاً : قد لا أسافر ، يا عزيزتي ، إذا أمطرت .
وفجأة غامت عينا العصفورة الفتية ، وهطلت منها قطرات من الدمع ، فوق وجنتيها ، فصاح العصفور الفتيّ ّفرحاً : يا لله ، أنت تمطرين .
واقترب منها ، وضمها بين جناحيه ، وقال : لن أسافر أبداً ، يا عزيزتي ، لقد هطل المطر .

” 62 “

اللؤلؤة

” 1 ”
ــــــــــ
منذ ساعات ، وملكة السمك الملائكي الأزرق ، وأمير فتي ، جميل ، من نوعها ، يلعبان لعبة الاستخفاء .
وانسلت الملكة بهدوء ، وتخفت متعلقة بلا حراك تقريباً ، بين جذوع النباتات المائية . وتناهت إليها خفقات زعانف الأمير ، يحوم باحثاً عنها . ولبثت في مكانها ، تنتظر أن يجدها كالعادة ، ويسارع لاحتضانها بزعانفه ، وهو يصيح فرحاً : وجدتك .
وبدل الأمير ، برز من بين النباتات المائية ، قادوح أسود ، ذو بقع وخطوط صفراء وبرتقالية ، وذيل زعنفي أسود لامع .
وتوقف القادوح ، يتأملها مذهولاً ، ثم تقدم منها ، وقال : أنت جميلة ، أريدك .
وسمعه الأمير ، فأطل برأسه خلسة ، من بين جذوع النباتات المائية ، وراح ينصت ، مراقباً ما يدور أمامه . وابتسمت الملكة ، وقالت :إنني سمكة ملائكية ، وأنت من سمك القادوح .
فردّ القادوح قائلاً : ومع ذلك أريدك .
ولاذت الملكة بالصمت ، ثم ابتسمت ثانية ، وقالت : إن مهري غال ، أريد لؤلؤة .
وتمتم القادوح : لؤلؤة !
فردت الملكة قائلة : قلت لك ، إن مهري غال .
وتطلع القادوح إليها ، ثم قال : سآتيك بما أردت ، مهما كان الثمن .
ومضى القادوح مسرعاً ، فبرز الأمير من خلف جذوع النباتات المائية ، وابتسم قائلاً : ملكتي العزيزة ، حين عرفتني ، لم تطلبي مني .. لؤلؤة .
فاندفعت الملكة نحوه ، حتى كادت ترتمي بين زعانفه ، وهي تقول : لأني أردت ما هو أثمن من أية لؤلؤة ، أردتك أنت .

” 2 ”
ــــــــ
لم يكد القادوح ، يبتعد قليلاً عن الملكة ، حتى نوقف مفكراً ، وقال : يا لبلاهتي ، إنني لا أعرف أين أبحث عن اللؤلؤة ، ولا كيف يمكن أن أحصل عليها .
وتلفت حوله حائراً ، ولمح سمكة قادوح عجوزاً ، تسبح بمحاذاة النباتات المائية ، فأسرع إليها هاتفاً : أيتها الجدة.
وتوقفت سمكة القادوح العجوز ، وقالت بصوت شائخ : نعم ، بنيّ .
فقال القادوح : أريد لؤلؤة ، ولا أعرف أين ، وكيف ، أحصل عليها .
وتطلعت سمكة القادوح العجوز إليه متسائلة ، فقال : أرادتها مني سمكة .
وابتسمت سمكة القادوح العجوز ، وقالت : لابد أنها لؤلؤة .
فرد القادوح قائلاً : أجمل من لؤلؤة .
وهزت سمكة القادوح العجوز رأسها ، وقالت : الحصول على لؤلؤة ، يا ولدي ، ليس بالأمر الهين ، فاللآليء لا توجد إلا في المحار ، وقد تفتح ألف محارة حتى يحالفك الحظ ، فتعثر على لؤلؤة واحدة .
فمضى القادوح يشق الماء مسرعاً ، وهو يقول : سأفتح مليون محارة ، وسأجد اللؤلؤة .

” 3 ”
ــــــــ
أخذ القادوح ، يجوب قاع البحر ، بحثاً عن المحار، وفتح بأسنانه الإزميلية ، خلال بضعة أيام ، مئات المحارات ، حتى عثر على لؤلؤة .
وفي الحال ، أسرع القادوح باللؤلؤة إلى الملكة ، ممنياً نفسه بالفوز برضاها ، و .. وفوجىء بالملكة ، وقد وقف إلى جانبها أمير فتي ، جميل ، من نوعها ، ترش بزعانفها الماء على بيض ، وضع فوق أوراق نبتات مائية .
وبأم عينيه ، رأى الأمير ، يتقدم من الملكة ، وهو يقول : كفى ، يا عزيزتي ، لقد مرّ يومان ، أو أكثر ، على وضعك للبيض ، تعالي نشق قشوره .
وتوقفت الملكة عن رش الماء ، وقالت : يا إلهي ، كم أنا خائفة .
واقترب الأمير من البيض ، وقال : لا داعي للخوف ، أنظري ، سأشق قشرة بيضة .
وأمسك إحدى البيضات ، وشق فشرها ، وأخرج منها سمكة صغيرة ، شبيهة بالملكة ، ووضعها برفق فوق ورقة من أوراق النباتات المائية .
واقتربت الملكة من السمكة الصغيرة ، ونظرت إليها بفرح ، وقالت : عزيزي ، أنظر إلى صغيرتنا ، ما أجملها ، هيا نشق قشور البيضات الأخرى ونخرج ..
وندت حركة من ورائها ، فكفت عن الكلام ، والتفتت خائفة ، فأخذها الأمير بين زعانفه ، وقال : لا تخافي ، لعلها سمكة ملائكية من نوعنا .
ولمحت الملكة لؤلؤة ، تتلامع أسفل النباتات المائية ، فانسلت من بين زعانفه ، وأخذت اللؤلؤة متمتمة : القادوح المسكين .
وأسرع الأمير إليها ، فأرته اللؤلؤة ، وقالت بصوت تبلله الدموع : لقد جاءني .. باللؤلؤة .. أنظر .

” 63 “

العش الجديد

” 1 ”
ـــــــــــ
وصل اللقلق الفتيّ ، بعد وصولها إلى القرية ، بيومين . واختار مكاناً ، فوق شجرة ضخمة ، تطلّ على الجدول .وكانت هي ، قد عادت إلى العش ّ القديم ، الذي ولدت فيه ، فوق قبة مزار ، في طرف القرية .
ومرّ بالمزار ، عن بعد ٍ، أكثر من مرة ، وما إن يقع نظره عليها ، حتى يلوح لها ، دون أن يتوقف . وطالما رآها تتطلع بقلق إلى الآفاق البعيدة ، ولاحظ أنّ قلقها كان يزداد ، كلما مضى يوم جديد .
ورغم أنه قلما يمرّ بها ، إلا أنها كانت لا تبرح مخيلته ليلاً أو نهاراً .
وذات يوم ، جاءته مساء ، وقد علا وجهها شيء من الشحوب والتعب . وتأملت مكانه ، ثمّ قالت : اختيار موفق ، إنه مكان جميل لبناء العش . .
وردّ بنبرة فرح : وسيكون أجمل ، لو ساعدتني ببنائه ، أنثى جميلة .
وابتسمت قائلة : لن تعدم من تساعدك ، فأنت لقلق طيب ووسيم ودمث .
وصمتت ملياً ، متطلعة إلى الأفق البعيد ، ثمّ قالت : أظن أنّ سربنا لم يصل كله بعد .
ولاذ بالصمت ، فحدقت فيه ، ثم قالت مؤكدة : مهما يكن، سيأتي عاجلاً أو آجلاً .
وقال دون أن ينظر إليها : هذا ما أرجوه .
وحدقت فيه ثانية ، وقالت : لعلك تظن أنه لن يأتي ، لكنه سيأتي ، نعم ، سيأتي .

” 2 ”
ــــــــــ
مرّ أسبوع أو أكثر ، لم يرها خلاله ، إلا قليلاً . فقد تعمد أن لا يمرّ بالمزار ، الذي يوجد فوقه عشها . وعند مساء أحد الأيام ، جاءته متعبة ، حزينة ، فحطت إلى جانبه ، وقالت : لم يأتِ .
فنظر إليها ، وقال : انتظري ، لعله يأتي .
والتفتت إليه ، وقالت : أنت تعرف شيئاً لا أعرفه ، صارحني بالحقيقة .
ولاذ بالصمت لحظة ، ثم قال : إنني أعرف مكانه ، سأدلك عليه إذا أردت .
وبصوت دامع ، متحشرج ، قالت : لا ، خذني إليه .
ورغم تأثره ، قال : لن تضلي ، القرية معروفة ، إنها تقع خلف الجبال ، المطلة على البحيرة ..
وقاطعته بنبرة متوسلة : أرجوك ، خذني إليه .
ولاذ بالصمت ثانية ، فحلقت مبتعدة ، وهي تقول : تهيأ ، سأجيئك غداً مع الفجر .

” 3 ”
ـــــــــــ
في اليوم التالي ، مع الفجر ، حلقا معاً ، نحو الجبال البعيدة ، التي تطلّ الشمس من ورائها ، صباح كلّ يوم ، على العالم .ومضيا في تحليقهما ، مخلفين وراءهما قبة المزار ، والقرية ، والشجرة الضخمة . وتطلعت نحو البعيد ، ولاحت لها الجبال غارقة في الضباب ، وقالت : آمل أن نصل القرية قبل المساء .
فردّ قائلاً : في هذا الوقت قد نصل البحيرة ، إذا لم نتوقف إلا عند منتصف النهار ، ولفترة قصيرة .
وتطلعت إليه مستغربة ، فقال : لن نصل القرية إلا غداً ، أو بعد غد .
وتنهدت قائلة : ليتني أعرف ما الذي دعاه إلى مغادرة السرب ، والذهاب إلى ذلك المكان البعيد .
و عبثاً انتظرت رده ، وواصل تحليقه دون أن يلتفت إليها .
ولاح من بعيد سرب من اللقالق ، تتقدمهم أنثى مسنة ، مجربة ، وتابعتهم ملياً ثم قالت : يبدو أنهم مثلنا ، متجهون نحو تلك الجبال البعيدة .
وألقى نظرة عابرة إليهم ، وقال : ربما ، ولعلهم سيبيتون عند البحيرة ، ثم يتخذون طريقاً آخر باتجاه القرى الساحلية .
وحلقا ، بعد حين ، على مقربة من السرب ، فالتفتت إليه مبتسمة ، وقالت . تلك الفتية تختلس النظر لك .
ورمق ” تلك الفتية ” بنظرة خاطفة ، ثم ابتسم ، وقال : إنها جميلة ، أليس كذلك ؟
وتطلعت إليها ثانية ، ثم قالت : جميلة؟ لا أظن ، إنها نحيفة ، كأنها أفعى .
وغالب ضحكته ، وقال : أحياناً ترون في بعضكن ، ما لا نراه نحن .
ويبدو أنها لم ترتح لهذه الملاحظة ، فقد أسرعت في طيرانها ، وهي تقول : لنسرع ، إنهم ليسوا في عجلة من أمرهم مثلنا .

” 4 ”
ــــــــــــ
أقبل المساء ، وتناولا طعامهما صامتين ، ثم جثما جنباً إلى جنب ، فوق شجرة كبيرة ، ترتفع شامخة على تخوم البحيرة .
وقبل أن تغوص الشمس تماماً ، في أعماق الماء ، أقبل سرب اللقالق ، الذي مرا به ، عند منتصف النهار . ورمقها بنظرة خاطفة ، ووجدها بادية الضيق ، فقال مازحاً : هاهو السرب ، الذي قابلناه في الطريق ، قد أقبل ، ولعلهم سيباتون مثلنا في هذا المكان .
وردت بنبرة تشي بانفعالها : هذا لا يعنينا ، لننم .
ولعله أراد أن يخفف من انفعالها ، فقال : الوقت مازال مبكراً ، لننتظر بعض الوقت ، سيطل القمر بعد قليل على البحيرة .
وأغمضت عينيها ، وقالت : إنني متعبة ، سأنام .
وكادت تغفو ، حين سمعته يهتف بها : انظري ، لقد بزغ القمر ، آه ما أجمله .
ووضعت رأسها تحت جناحيها ، وقالت : لا أريد أن أرى تلك الأفعى على ضوء القمر .
ولم تدر ِ كم مرّ من الوقت ، حين رأت ” تلك الأفعى ” تتسلل من بين أفراد سربها ، وتحلق على ضوء القمر ، مستعرضة رشاقتها فوق البحيرة ، ثم تحط ببطء وهدوء إلى جانب اللقلق الفتيّ ، فهبت من مكانها منفعلة ، لتنقض على ” الأفعى ” وتطعنها بمنقارها ، حتى تقضي عليها ، لكنها فوجئت باللقلق الفتيّ يغط في النوم ، بينما القمر يسبح بهدوء في مياه البحيرة . وتلفتت حولها محرجة ، ثم أغمضت عينيها ، وسرعان ما استغرقت في نوم عميق .

” 5 ”
ــــــــــــ
أيقظته صباح اليوم التالي باكراً ، وقالت : هيا ، استيقظ ، علينا أن ننطلق بعد قليل .
وفتح عينيه قليلاً ، وهو يتثاءب ، ثم قال : الوقت مازال مبكراً .
فمدت جناحيها ، وهزته قائلة : انهض ، الشمس تكاد تشرق .
واعتدل متكاسلاً ، وأشار إلى اللقلقة الفتية ، وقال : انظري ، إنّ جيراننا ما برحوا مستغرقين في أحلامهم الوردية .
وهزته ثانية بشيء من الانفعال ، وقالت : وردية ! انهض ، إنها أفعى ، لا أكثر .
وصمتت لحظة ، مغالبة انفعالها ، ثم قالت : لو كنت أعرف الطريق ، لمضيت وحدي .
ونهض من مكانه ، وقال : لا أريدك أن تضلي ، ولا تصلي إلى بغيتك .
واختلس نظرة متعمدة إلى اللقلقة الفتية ، ثم قال : ليتك تنتظرين قليلاً ، فقد تستيقظ .. الشمس .
لم تتمالك نفسها ، ففتحت جناحيها ، وانطلقت تحلق مبتعدة .وفي الحال ، فتح جناحيه ، هو الآخر ، وانطلق في إثرها قائلاً : مهلاً ، مهلاً ، انتظريني .
وحلقا صامتين ، ربما لساعات ، دون أن يلتفت أحدهما إلى الآخر ، مرة واحدة . ولاحت من بعيد ، أشجار متطاولة ، تنتشر على السفوح ، وفي باطن الوديان العميقة .
وتباطأت في طيرانها شيئاً فشيئاً ، حتى تخلفت عنه قليلاً.وهمّ أن يتباطأ مجاراة لها ، فالتفتت إليه ، وقالت : لنرتح بعض الوقت ، إذا كنت قد تعبت .
ونزلا ، وتناولا شيئاً من الطعام ، ثم جثما جنباً إلى جنب، دون أن يتبادلا كلمة واحدة .
ومرّ الوقت بطيئاً ، حتى فاجأته قائلة : لم تحدثني عنه .
ولاذ بالصمت ، فالتفتت إليه ، وحدقت فيه ملياً ، ثم نهضت ، وقالت : هيا ، علينا أن نواصل طريقنا ، لعلنا نصل في وقت مبكر .

” 6 ”
ــــــــــــ
حلقا جنباً إلى جنب صامتين ، حتى وصلا مشارف السفوح ، التي تغطيها أشجار كثيفة . واختلس النظر إليها مراراً ، ولاحظ قلقها وشرودها ، فقال لها : انتبهي، السفوح مليئة بأشجار مرتفعة خطرة .
وواصلت طيرانها ، دون أن تلتفت إليه ، واقترب منها ، وقال : دعك من الحزن والقلق ، ليس هناك ما يستحق هذا منك .
والتفتت إليه هذه المرة ، وحدقت فيه ، ثم قالت : أنت تخفي عني شيئاً ، صارحني ، فإنني لم أعد ..
وصاح بها محذراً : انتبهي .
لكن تحذيره جاء متأخراً ، فقد ارتطمت بإحدى الأشجار المرتفعة ، وراحت تتهاوى متصايحة متوجعة ، من غصن إلى غصن ، حتى ارتطمت بالأرض .
وهبط إليها بسرعة ، وحط ّإلى جانبها قائلاً : لا تخافي ، يا عزيزتي ، أنت بخير ، بخير .
وحاولت عبثاً أن تنهض ، وهي تقول بصوت متحشرج : سأ .. مو .. ت .
وتفحصها جيداً ، ثم احتضنها بجناحيه ، وأرقدها برفق على الأرض، وقال : اطمئني ، لم تصابي إلا بغضوض بسيطة .
وابعد جناحيه عنها ، واعتدل قائلاً . نامي ، نامي قليلاُ وسترتاحين.
وأغمضت عينيها متأوهة ، متوجعة ، وسرعان ما خفت صوتها ، وانتظمت أنفاسها ، واستغرقت في نوم عميق .

” 7 ”
ـــــــــــ
أفاقت من نومها ، بعد حلول الليل ، وقد أطلّ القمر بدراً ، من فوق الأشجار . ورأته يجلس على مسافة منها، وأمامه كمية وافرة من الطعام .
وما إن رآها تفيق ، حتى مال عليها مبتسماً ، ثم قال : حمداً لله ، أنت الآن أفضل .
فهزت رأسها ، وقالت : بعض الشيء ، أشكرك .
وقدم الطعام منها ، وقال : تفضلي ، كلي ، وستشفين تماماً .
واعتدلت قائلة بصوت واهن : أشكرك ، لا أشتهي شيئاً .
واقترب منها ، وقال : إنني لم أتناول شيئاً من الطعام ، وانتظرت حتى تفيقي ، لنأكل معاً .
وتطلعت إليه صامتة ، فأردف قائلاً : لن آكل إذا لم تأكلي.
واعتدلت بصعوبة ، وأخذت بعض الطعام بمنقارها ، وقالت : حسن ، لنأكل .
وأكلا حتى شبعا ، وجلسا جنباً إلى جنب ، يصغيان إلى أصوات الليل ، ويتأملان النجوم والقمر .
ورمقته بنظرة خاطفة ، وقالت : إنني آسفة حقاً ، لقد شغلتك بأمر لا يعود إلا لي وحدي .
وتملكتها شيء من الدهشة ، حين ردّ قائلاً : من أدراك ِ ؟
والتفتت إليه ، ونظرت إليه ملياً ، ثم قالت : مهما يكن ، فلو لم تأتِ معي ، لكنت الآن قد أكملت عشك الجديد .
وبصوت عميق ، مفعم بالعاطفة ، قال : عش ليس فيه لمسة أنثى بعينها ليس عشاً .
ولاذت بالصمت فترة طويلة ، لم تُسمع خلالها سوى أنين الريح ، وأصوات الليل الغامضة . وجثت على الأرض، ثم قالت : لننم الآن ، قد نواصل التحليق غداً ، مع الفجر، إن استطعت .

” 8 ”
ـــــــــــــ
فتح عينيه ، والشمس تطل ، من وراء الأفق . وفوجىء بها تجلس جانباً ، وقد أولت ظهرها للجبال . فاعتدل قائلاً : عفواً ، تأخرت ، كان يمكنك أن توقظيني.
والتفتت إليه ، وقالت : ولِمَ العجلة ؟ تعال نأكل .
ووضعت أمامه كمية وافرة من الطعام ، وقالت : استيقظت مبكرة ، ورأيتك مستغرقاً في النوم ، فجمعت هذا الطعام .
ومدت منقارها ، والتقطت قطعة من الطعام ، وقالت : تفضل .
والتقط قطعة بدوره ، وازدردها بدون شهية ، وقال : يبدو أننا سنبقى اليوم هنا .
فردت قائلة ، وهي تلتقط قطعة ثانية من الطعام : بل سنمضي ، ما إن ننتهي من تناول الطعام .
وتناول بدوره قطعة ثانية ، وازدردها بصعوبة ، وقال : في هذه الحالة ، قد نصل القرية عند الظهر تقريباً ، إن كنت قد تعافيت.
وتطلعت إليه ، وقالت : لقد تعافيت ، والفضل يعود لك .
وعندما انتهيا من تناول الطعام ، تطلع إلى الجبال الشاهقة ، التي ما تزال بعض قممها مكللة بالثلوج ، وقال : هيا ، فلننطلق .
وعلى الفور فتحت جناحيها ، وارتفعت محلقة ، وبدل أن تتجه نحو الجبال ، اتجهت نحو الطريق المعاكس ، فهتف بها : إلى أين ؟ الطريق ليس من هنا .
ومضت محلقة في طريقها ، وهي تهتف : بل من هنا .
وهب من مكانه ، ولحق بها .وقبل أن يتفوه بكلمة ، قالت : لم أنم البارحة إلا قليلاً ، وقد راجعت نفسي ، وتبين لي أنني كنت مخطئة ، وها أنا أعود عن الطريق الخطأ ، إلى الطريق الصواب .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : صحيح أنك لم تصرح لي بشيء عنه ، لكن الأمر واضح ، لقد اختار طريقه ، وهذا من حقه ، ومن حقي أن أختار طريقي أنا أيضاً ، وقد اخترته .
وخفق قلبه فرحاً ، فالتفتت إليه ، وقالت : إذا كنت قد فهمتك ، فيسعدني أن أشاركك في بناء .. عشك .. العش الجديد .
وتساءل مذهولاً : عشي !
وهزت رأسها ، ثم انطلقت تسابق الريح ، فما كان منه إلا أن خفق بجناحيه الفتيين فرحاً ، ثم انطلق في إثرها ، لا يلوي على شيء .

” 64 “

الطريق إلى بلاد الشمس

” 1 ”
ــــــــــ
مع أواسط الخريف ، وحالما بدأ الجو يميل للبرودة ، رحنا نتجمع يوماً بعد يوم ، على ضفاف البحيرة . وكأن صوتاً دافئاً نادانا ذات يوم من بعيد .، فحلقنا الواحد بعد الآخر ، وسرعان ما تشكلنا على هيئة سرب .
ووجدتني أحلق في المقدمة ، أهي الصدفة ؟ من يدري ، إن أحداً لم يخترني ، ولم يعارضني أحد ، وهكذا انطلقت بالسرب قدماً ، نحو بلاد الشمس .وطرنا ساعات ، عبر سماء ترقعها الغيوم . وعند انتصاف النهار ، هبطنا على ضفة جدول رقراق لكي نستريح ، ونتناول بعض الطعام.
واصطدتُ سمكة ، ووقفت على الشاطىء ، وأخذت آكلها على مهل . ورجني صوت اطلاقة ، وكدت ألوذ بالفرار لو لم أجد الجميع حولي مستغرقين في تناول طعامهم .
يا إلهي ، يبدو أنني لن أنسى هذه الإطلاقة . ومرة أخرى ، تراءت لي رفيقتي ، تتهاوى فوق الماء ، والدماء تسيل من صدرها .

” 2 ”
ـــــــــــــ
استأنفنا الطيران ، بعد أن تغدينا ، وارتحنا قليلاً . وحلقت في المقدمة ، والسرب يحلق ورائي ، حتى غابت الشمس . وهبطنا قرب بحيرة ، وأوى أفراد السرب ، زوجين زوجين في الغالب ، على امتداد الشاطىء .
وانزويتُ وحيداً ، محاولاً أن أنام ، وثوى على مقربة مني عجوز ‘ إنه مثلي وحيد ، وتطلعت إليه ، وقلت : إن الجو بارد الليلة .
وابتسم العجوز ، وقال : هذا ما يجب أن يقوله عجوز مثلي .
وابتسمت بدوري ، وقلت : يبدو أنني أيضاً صرت عجوزاً .
وأغمض العجوز عينيه ، وقال : يا بنيّ ، لست عجوزاً ، إنك وحيد .
وعلى ضوء القمر ، لمحتُ بطة فتية ، تقيع وحيدة بين الأعشاب ، ولسبب لا أعرفه ، تذكرت رفيقتي ، ومن جديد ، تراءت لي ، وهي تتهادى مضرجة بالدماء ، فوق الماء .

” 3 ”
ـــــــــــ
حلقنا مع الفجر ، وطرت في المقدمة ، متجهاً نحو مشرق الشمس . وتراءت لي البطة الفتية ، وتمنيت لو أنها تطير على مقربة مني . واسترقت النظر ، أكثر من مرة ، لعلي أراها ، وأخيراً لمحتها تطير وحيدة وسط السرب ، وعيناها الحزينتان مثبتتان بعيداً .
وعلى مدى أيام ، رحت أومىء لها بالتحية ، وعبثاً حاولت التقرب منها . وألمح العجوز إلى أنها تتطلع إلى رفيق لها ، اضطرت إلى تركه في العام الماضي ، عندما حان موعد الهجرة ، رغم أن إشاعات كثيرة تقول ، إنه قد مات .
وهبطتا للراحة ذات يوم ، فاصطدت سمكة متوسطة الحجم ، وتقدمت بها إلى البطة الفتية ، وقلت : أرجو أن تقبلي مني هذه السمكة .
فرمقتني بنظرة خاطفة ، وقالت : أشكرك ، لست جائعة .
وقلت لها : لقد اصطدتها لك .
ولاذت بالصمت لحظة ، ثم قالت : سآخذها هذه المرة ، شكراً .
وتمنيت لو تطلب مني أن نأكل معاً ، لكنها لاذت بالصمت ، دون أن تقرب السمكة ، فتلفت حولي ، ثم قلت : أنظري ما أجملهم ، اثنان اثنان .
وأدركت ما أرمي إليه ، إنني أرى أكثر من واحدة وحيدة ، وحيدة .
وحدقت فيها ، وقلت : أريدك أنت .
وهربت بعينيها من عينيّ ، وقالت : آسفة ، هناك من ينتظرني .
فقلت : أنت تعرفين أنه ..
وعندئذ انتفضت ، وصاحت منفعلة ، وهي تمضي : كفى ، دعني ، دعني وشأني .

” 4 ”
ــــــــــ
تقدم الليل ، ونام الجميع ، أما أنا فلم أنم .وعلى ضوء القمر ، لمحتها من يعيد ، تتقلب في مضجعها ، يا إلهي ، يبدو أنها مثلي ، لم تنم ، يا لي من أخرق ، صحيح أن نيتي طيبة ، إلا أن تصريحي أزعجها ، وأثار مواجعها .
يا للحيرة ، ووجدتني أتسلل من مكاني ، بعد منتصف الليل ، وأتوغل وحيداً في الغابة .ومع الفجر رأيت السرب يحلق عالياً ، يتقدمه العجوز ، باتجاه مشرق الشمس . ولمحتها في مكانها المعهود ، تطير وسط السرب ، وبدا لي أنها ، على غير عادتها ، لا تطير بثبات . ومرّ أكثر من سرب ، وحاولت أن ألتحق بواحد منها ، لكن شيئاً لا أدريه ، كان يمنعني من ذلك .
وقبل انتصاف النهار ، انتفضت من مكاني ، وانطلقت كالسهم في أثر السرب ، ولعل حنيني إلى رفاقي ، لم يكن دافعي الوحيد ، فقد خفت أن يضعف العجوز ، ويتهاوى على الطريق ، و .. أم أن هناك سبب آخر ؟ ومهما يكن ، فقد انطلقت مسرعاً ، دون توقف ، حتى حلّ الليل .

” 5 ”
ـــــــــــــ
أفقت قبل الفجر ، وحلقت مسرعاً ، باتجاه المشرق ، واجتزت في طريقي أكثر من سرب ، دون أن يخطر لي لحظة ، أن ألتحق بأي منها .وبعد شروق الشمس بقليل ، لاح لي السرب من بعيد ، يتقدمه العجوز ، ولمحتها تطير ، في مكانها المعتاد ، وعيناها مثبتتان في البعيد .
وحانت من أحدهم التفاتة ، ويبدو أنه رآني ، وأخبر الآخرين بذلك ، فقد التفت الجميع إليّ ، وأولهم البطة الفتية ، وما إن رأوني ، حتى أبطأوا في طيرانهم ، فأسرعت واتخذت مكاني بينهم .
وعند منتصف النهار ، هبط العجوز بالسرب ، قرب إحدى البحيرات . وانزويت متعبا ، لعلي أرتاح . وأشار لي العجوز من بعيد محيياً ، وقبل أن أرد على تحيته ، فوجئت بالبطة الفتية تقترب مني ، وتضع سمكة أمامي ، وتقول : أرجو أن تقبل مني هذه السمكة .
وتطلعت إليها متردداً ، وقلت : أشكرك .
فقالت : لقد اصطدتها لك .
تساءلت قائلاً : أهي إيفاء لدين ؟
فأجابت : لا دين بين الأصدقاء .
وابتسمت في تودد ، ثم قالت : لنأكل معاً ، هيا .
وعندما حلقنا في اليوم التالي ، اتخذت لي مكاناً في آخر السرب ، فخرجت البطة الفتية من مكانها المعهود ، وراحت تحلق إلى جانبي ، وقالت : الطريق طويل ، أريد أن أطير إلى جانبك .
فابتسمت لها قائلاً : أهلاً بك .
ومع أن عواطفي لم تتغير ، إلا أنني تمنيت من كل قلبي ، أن يكون رفيقها قد شفي ، وأن يلتقيا في آخر المطاف ، ويعيشا سعيدين .

” 65 “

النبع الجديد

” 1 ”
ـــــــــــ
عاد الضفدع متأخراً إلى البيت ، وقد غشيه حزن عميق . وانزوت ابنته الفتية في فراشها ، وعيناها طافحتان بالدموع .وتطلعت زوجته إليه ، دون أن تنبس بكلمة ، فرمقها بنظرة خاطفة ، وقال : لم تناما .
وردت الزوجة قائلة : جئت قبلك بقليل .
وأطرق الضفدع رأسه ، فتابعت الزوجة : لقد مات الضفدع الصغير .وتنهد الضفدع متمتماً : أعرف .
وارتفع صوت الزوجة ، بنبرة توحي بالاحتجاج : إنه خامس صغير يموت خلال يومين .
ولاذ الضفدع بالصمت ، فحدقت الزوجة فيه ، ثم قالت : لا يمكن أن يكون كل هذا بدون سبب .
ورد الضفدع بانفعال مكتوم : كفى .
واقتربت الزوجة منه ، وقالت : من يدري ، لعل الضفدع الفتيّ على حق .
وحدق الضفدع بحدة في ابنته ، ثم التفت إلى زوجته ، وانفجر غاضباً : كفى ، لا أريد أن أسمع هذا الاسم هنا ثانية .
ووضعت الضفدعة الفتية وجهها بين كفيها ، والدموع تنهمر من عينيها . وأشاحت الزوجة بوجهها عن الضفدع ، ولاذت بالصمت . وأطرق الضفدع لحظة ، ثم قال بصوت تبلله الدموع : الضفدع الكبير مريض .

” 2 ”
ــــــــــــ
أوى الضفدع وزوجته إلى فراشهما ، وسرعان ما استغرقا في النوم . وظلت الضفدعة الفتية مسهدة ، والريح تعصف في الخارج بالشجيرات اليابسة ، التي تحيط بالنبع .
وأغمضت عينيها ، وتراءى لها الضفدع الفتي بلونه الشاحب ، ونظرته الحزينة . وتمنت أن تنام ، لعلها تراه في منامها ، وتسمع صوته الدافىء، ولو في الحلم .
لقد حدثها كثيراً عن المخاطر ، التي تحيط بالضفادع ، وصارحها أنه يرى ، أن السبب هو ” النبع ” ، وقال : إن الحل هو أن يرحلوا إلى نبع جديد ، لا يبعد كثيراً عن نبعهم .وقد احتجت وقتها قائلة : لا ، لا ، إنك بهذا تغضب جدي .
ورد الضفدع الفتيّ قائلاً : لكنها الحقيقة .
فقالت في حرقة : ليتك تعرف ما يعنيه النبع بالنسبة له .
وقال الضفدع الفتيّ : نحن في خطر ، ولن ينقذنا إخفاء الحقيقة .
وتطلعت الضفدعة الفتية إليه بعينين دامعتين ، وقالت : أرجوك ، دع هذا الأمر ، إنني أحب جدي ، ولا أريد أن ..
وغرق صوتها في الدموع ، فاقترب الضفدع الفتيّ منها ، وضمها بين ذراعيه ، وقال : أنا أيضاً أحبه ، لكن الخطر يحيط بنا ، ولابد أن أجهر بالحقيقة .
وما إن علم الضفدع الكبير ، بما يردده الضفدع الفتيّ ، حتى استدعاه ، وبادره قائلاً : بلغني أنك تتقول على نبعنا .
فرد الضفدع الفتيّ : عفواً ، إنني لا أتقول ، وإنما أقول الحقيقة .
وقال الضفدع الكبير مغالباً انفعاله : لقد عاش أجدادنا سنين طويلة حول هذا النبع .
وبنفس الهدوء ، قال الضفدع الفتيّ : لأنه كان صالحاً للحياة .
واحتد الضفدع الكبير ، وانفجر قائلاً : حذار أيها ..
وتابع الضفدع الفتيّ بشيء من الانفعال : أنظر حولك ، يا سيدي ، لقد ماتت معظم الشجيرات والنباتات ، التي تحيط بالنبع ، كما مات عدد من الضفادع الصغار ، وسنموت الواحد ..
وقاطعه الضفدع الكبير صائحاً : كفى ..
وصمت الضفدع الفتي ، فتابع الضفدع الكبير قائلاً : لو تفوه بهذا أحد غيرك لأمرت بقتله ، امض ِ ، لم يعد لك مكان بيننا .

” 3 ”
ـــــــــــ
أفاقت الضفدعة الفتية ، عند الفجر ، ولم تجد أبواها في البيت .ومضت إلى الخارج ، وفوجئت بعدد كبير من الضفادع ، تتقافز مسرعة ، نحو بيت الضفدع الكبير . وخفق قلبها بشدة ، وسرعان ما مضت تتقافز في أثرهم .
ورأت الضفادع محتشدة ، أمام بيت الضفدع الكبير ، وقد استبد بها الحزن . وسمعت ضفدعة عجوزاً تنهنه ، وتقول : يا ويلنا ، سيمضي الضفدع العجوز .
وتمتمت الضفدعة الفتية بحرقة : جدي !
ولمحت أباها يخرج من البيت ، وحين وقع نظره عليها ، هتف قائلاً : بنيتي ، تعالي ، أسرعي .
وأسرعت الضفدعة الفتية إليه ، وقلبها يدق متوجساً ، وقالت : أبتي ، أرجو أن يكون جدي بخير .
فأمسك الضفدع بيدها ، وقال : تعالي ، يا بنيتي ، إنه يريدك .
وخفت الضفدعة الفتية مع أبيها إلى داخل البيت ، ورأت الضفدع الكبير ممدداً في فراشه ، يحيط به عدد من الضفادع المسنة . فجثت قربه ، وهتفت بصوت تخنقه الدموع : جدي .
وتطلع الضفدع الكبير إليها بعينين ذابلتين ، وقال : بنيتي العزيزة .. آه .. يبدو أن وقت الرحيل .. قد حان .
فردت الضفدعة الفتية مغالبة بكاءها : لا تقل هذا .. يا جدي .
ومدّ الضفدع الكبير كفه ، واحتضن كفها ، وقال : ليتك تعرفين .. كم أحب هذا النبع ..إنه نبع أجدادنا .. لكن حبي للضفادع أكثر ..
ولاذ بالصمت لحظة ، ثم قال : يبدو أن الضفدع الفتيّ .. على حق .
والتمعت عينا الضفدعة الفتية ، وانسابت دمعة فوق وجنتها . وربت الضفدع الكبير على كفها ، وقال : اذهبي إليه ، إنه يستحقك .
وتطلع إلى الضفدع ، وقال بصوت واهن : خذ الضفادع .. واذهبوا جميعً إلى .. النبع الجديد .
ومال الضفدع عليه ، وقال : اطمئن ، سآخذهم ، مادامت هذه رغبتك .
ومدت الضفدعة يدها ، ومسحت الدموع من عينيها ، وقالت : جدي ، تعال معنا .
وردّ الضفدع الكبير ، وهو يغمض عينيه المنطفئتين ، ليتني أستطيع ذلك ، يا بنيتي ، ليتني أستطيع .

الفهرست
ــــــــــــــ
1 ـ النرجسة الحزينة
2 ـ أجمل ما في الأرض
3 ـ ثلاث حالات حب
4 ـ صباح الخير
5 ـ وجه القمر
6 ـ العش
7 ـ زهرة نرجس
8 ـ حلم في ضوء القمر
9 ـ البحث عن شجرة بندق
10 ـ العش الجديد
11 ـ أحبك
12 ـ ضوء القمر فضة
13 ـ شجرة البندق
14 ـ شيء من العسل
15 ـ العصفورة
16 ـ بيت واحد
17 ـ حفنة بندق
18 ـ العش الأول
19 ـ المغني
20 ـ العيدر
21 ـ عش دافىء
22 ـ العش الحلم
23 ـ زغب لعش العيدر
24 ـ تحت ظلال الوردة
25 ـ غابة الحلم
26 ـ شجرة الزيتون
27 ـ البستاني
28 ـ السنجاب
29 ـ الغزال الصغير
30 ـ عند مجيء الربيع
31 ـ الغصن المزهر
32 ـ زهرة بندق
33 ـ وتفتح القداح
34 ـ العصفور الخصاص
35 ـ بيت فوق شجرة لوز
36 ـ ثم بزغ القمر
37 ـ العش القديم
38 ـ أنا ونجمتي
39 ـ إلى الأبد
40 ـ يداً بيد
41 ـ ماذا جرى ؟
42 ـ جوزتان وثلاث بندقات
43 ـ الغابة البعيدة
44 ـ دبدوب يغني
45 ـ الدجاجة والديك
46 ـ موعدنا غداً
47ـ مرحباً أيها الفضاء
48 ـ أرنوب يكبر
49 ـ الفأر والقط
50 ـ وعادت اللقالق
51 ـ النجمتان السعيدتان
52 ـ عش فوق شجرة التفاح
53 ـ أجمل شجرة في العالم
54 ـ ليلة لا تنسى
55 ـ وطال الشتاء
56 ـ اللؤلؤة سلحوفة
57 ـ نميل ونميلة
58 ـ ببغاءة الحلم
59 ـ الزهرة
60 ـ الزهرة الحمراء
61 ـ المطر
62 ـ اللؤلؤة
63 ـ العش الجديد
64 ـ الطريق إلى بلاد الشمس
65 ـ النبع الجديد

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد صخي العتابي : “أحزان في الغابـــة” مسرحية للأطفال .

شخوص المسرحيـــة : الأسد الذئب الثعلب الدب الغزال السلحفاة تفتح الستارة تظهر غابة محترقة ومدخنة، …

| حسن سالمي : “آثام البنادق” وقصص أخرى قصيرة جدّا .

آثام البنادق        حين شردت عنزتي عن القطيع كانت الشّمس تسقط وراء التّلال. وكان لا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *