لا أعلم من هم الأصدقاء الذي استثارهم المبدع «علي الشوك» ليستمزج آراءهم بصدد إصدار روايته الأولى «الأوبرا والكلب» (1) ، فقد تسببّوا في تأخير حصولنا على رواية رائعة لمدة ست سنوات. يقول الشوك:
«كل كاتب تحدوه رغبة غامضة في أن يجرب حظه مع الرواية. وأنا لم أشذّ عن ذلك. ولم تكن «الأوبرا والكلب» أول محاولة لي في كتابة الرواية. لكنني كنت أشعر، هذه المرّة، أنني أكتب شيئاً بمزيد من الحميمية. وحين فرغت من كتابتها في العام 1992 عرضتها على غير صديق ليبدوا آراءهم فيها. فجاءت بعض الانطباعات سلبية، وفي المقام الأول أن الرواية كانت مثقلة بتفاصيل البحث الذي يتعلق بأطروحة البطلة، احترمت هذه الآراء مع أنني لم أكن مقتنعاً بها، لأن الأطروحة هي العقدة الرئيسية في الرواية. ودفنت المخطوطة في درج مكتبي حتى العام 1998″.
ولكن كيف قيّض لهذه الرواية المنسية المظلومة أن ترى النور بعد نصف عقد من الإهمال؟
يقول الشوك:
«صادف أن اطلّع الصديق فؤاد التكرلي على محاولات «إبداعية» صغيرة لي، فحثني على مواصلة الكتابة في هذا الباب، وسألني إن كانت لديّ محاولات أخرى. عند ذاك تذكرت «الأوبرا والكلب». فنفضّت عنها الغبار، وأرسلتها إليه بعد أن وضعت إشارات على مقاطع تتعلق بأطروحة البطلة ليبدي رأيه فيها. فجاءتني ملاحظة مشجعة على نشرها بعد مراجعتها. مع أنه لم يرَ ضرورة لحذف أي من المقاطع المؤشر عليها، وبكلماته أي بكلمات التكرلي – «حتى الفقرات التي تفضل حذفها، وجدتها مقبولة إلى حدّ ما، وذات وظيفة في الرواية، إنها تعطي مصداقية لجو الرواية.. ومع ذلك، فأمر الحذر يعود لك». لكنني حذفت تلك المقاطع، وأضفت غيرها في موضع آخر وجدته يخدم في حلّ عقدة الرواية».
ولا أدري لماذا أهمل الشوك مخطوطة الرواية برغم أنه لم يكن مقتنعاً بوجهات نظر منتقديها ممّن عرضها عليهم؟ المهم أنه يعترف، أخيراً بأنّ كتابة هذه الرواية كانت خير سلوى له في أيام المأساة العراقية. لكن بأي معنى ووفق أي توظيف؟ هذا ما سنراه من خلال رصد وملاحقة مسيرة وأفعال «ياسمين» -الشخصية المركزية في الرواية – وشبكة علاقاتها وما تعكسه أفعالها وعلاقاتها من مواقف ودوافع إنسانية وصراعات دفينة فردية واجتماعية.
وياسمين شابة نمساوية عمرها اثنان وعشرون عاماً هي نتاج زيجة بين أب عربي وأم ألمانية. الأب هو (أكرم محمود) وهو فلسطيني نزح مع عائلته وهو طفل بعد نكبة عام 1948 بعد أن دمّر قريته الصهاينة متنقلاً إلى لبنان ثم سوريا فالأردن ثم جاء إلى النمسا وبعد عدة علاقات عاطفية وجنسية فاشلة ارتبط أخيراً بـ«كارلا محمود» التي أنجبت له ياسمين.. الرقيقة الحالمة المسالمة التي سارت علاقتها مع أبيها بصورة دافئة وهادئة تقوم على الرعاية والفهم المتبادل. كان الأب حميماً ويحاول أن يزرع في نفسها الثقة بإمكانانها خصوصاً في مجال الموسيقى التي سيستولى الاهتمام بها على تفصيلات حياتها كلها والتي تحاول الحصول فيها على شهادة الدكتوراه بعد أن حصلت على شهادة الماجستير في الأنثروبولوجيا (علم الأناسة). كان الأب لا يتردد في سماع تمريناتها حتى لو كررتها مئات المرات بصبر واهتمام ويفصح عن رغبته في أن يراها عازفة أمام الجماهير في الوقت الذي يستولي القلق والشعور بعدم الكفاءة على روحها الهش. وهكذا سارت العلاقة بينهما آمنة مطمئنة إلى أن قرّرت الزواج من شاب ألماني هو «هيرمان» المختص بعلم الآثار على رغم إرادة أبيها الذي كان يريد منها أن تتزوج من أحد أقاربه في عمّان كان يراه مناسباً لها.
لقد تسبب رفضها ثم سفرها مع زوجها لقضاء شهر العسل انفعالاً رهيباً لدى أبيها اجتاح كيانه وهو المصاب أصلاً بارتفاع ضغط الدم فقضى عليه، ولم تستطع، طوال سنوات حياتها اللاحقة، أن تتخفف من الشعور الممض بالذنب الناجم عن إحساسها بأنّها هي السبب في تعجـيل وفاة أبيها :
«أحزنها كثيراً أنه أصرّ على مقاطعتها، ولم يرد على رسالتها (مع أن موقفه لان بعد ذلك، إلاّ أن إباءه منعه من الاستجابة إلى ضراعتها قبل أن ترسل له رسالة أخرى، وهو شيء لو خطر على بالها لنفذته في الحال) هكذا اعترف لزوجته وهو على فراش الموت. وعندما روت لها أمها هذه التفاصيل فيما بعد، بكت ياسمين كثيراً، ولامت نفسها إلى حدّ جلد الذات الموجع، وظلّ هذا الهاجس مصدر عذاب مقيم لها، لم يخف بمرور الأيام:
)لماذا لم يخطر ببالي أن ردّ فعل زواجي سيكون بهذا العنف؟ ولماذا تأخرت في كتابة الرسالة الأولى. ص18(
وقد أفسد عليها هذا الهاجس أكثر المتع في حياتها وحطم علاقتها بزوجها، فبعد أن أخبرتها أمها بموت أبيها قررت الانفصال عن هيرمان والالتحاق بأمها. وفي العادة نقع كمتلقين – بل ياسمين نفسها أيضاً – في مصيدة مضلّلة كبرى حين نسلم بما يجترحه الشعور من مبررات ومعاذير، والأخطر ما يعيد تشكيله أو يتلاعب به في مسار تسلسل حلقات الحوادث. فالشعور يختلق مبرراته وتصوراته لتراتبات الوقائع ليتسق الموقف مع توقعات يفرضها مسبقاً الواقع، وممثلة في جهازنا النفسي، بسلطته ونواهيه ومجرياته ليكبت خفرات اللاّشعور المقلقة المؤرقة وأهمها تلك الحفزات المحارمية اللائبة في ظلمات النفس الأنثوية، فبرغم كل نعم العلاقة الودود بين الأب وابنته تزوجت ياسمين دون علم أبيها وسافرت لتلتحق بزوجها في «كريت».. لم تخبره أبداً ولم تستطلع رأيه دونما سبب. ثم تأخرت في إرسال رسالتها الأولى التي تعلن فيها عن زواجها، ولم توجهها إلى أبيها بل إلى أمها طالبة منها أن تخبر أباها بقرارها هذا وراجية أن تحظى بموافقته. وفوق أنها تعيش في مجتمع منفتح ومتحضّر وتتمتع بعلاقة رائعة مع أبيها إلاّ أنها سلكت سلوكاً تمردياً لا مبرّر له في الظاهر.. (وكأنها تريد الإفلات من أسر قبضة شيء ما!!) ولا نستطيع الإمساك بحفزات اللاّشعور بصورة مباشرة ومرّة واحدة، لكننا نستطيع، وبصعوبة، أن نستدل عليها من خلال جمع قرائن بسيطة وصغيرة بفعل يشبه تركيب أجزاء أحجية الصورة المقطعة التي قد لا يحمل الكثير من أجزائها معنى محدداً.
أفسدت ياسمين ليلة زفافها بنوبة بكاء هستيرية عنيفة.. الآن فقط تذكرت أباها وما يمكن أن يسببه له زواجها من شقاء:
«تصورت ردّ فعله لدى سماعه النبأ والتحاقي بهيرمان في كريت، ظلت صورة أبي مستحوذة عليّ وأنا أبكي بحرقة وبلا توقف. ص33»
وعبر سلسلة من مواقف الإقبال والإحجام «أفلحت» في أن لا تسلم نفسها لهيرمان في ليلة الزفاف، وليس معنى هذا أنها لم تستسلم له من قبل في مجتمع لا يحضر ذلك ولكن هذه الليلة تمثل نفسياً الانعتاق النهائي للابنة من قيود حفزات اللاشعور المحارمية برغم أن هذا الفعل لا يفلح دائماً. وعلى الرغم من أنه حاول «استدراجها» وتهدئتها من خلال الهمس بأغنية لـ (شوبرت) أغرمت بها دائماً وتنطبق على حالتهما تلك الليلة إلّا أن مزاجها انتكس من جديد عندما تناهى إلى سمعها نخرات وشخرات امرأة من الغرفة المجاورة كانت تطلقها أثناء ممارسة الحب حيث بدا لها صوتها داعراً جداً فكرهت المرأة واحتقرت نفسها وطلبت من هيرمان أن يتركها لتنام. لقد عدّت الجنس، هذه الليلة، شيئاً ملّوثاً، وسلوك المرأة فيه يشبه عمل المومسات، إنها تريد جنساً (نظيفاً) وذا تمظهرات سامية، وهذه الرغبة تجعل العمل الجنسي أشبه بطقس روحي وديني منه بالممارسة الحسية التي تحمل في جانب منها أبعاداً حيوانية، وهذا الشعور بالطهارة وسط الدنس هو إمكانية شبه مستحيلة لا تتحقق إلاّ إذا فصل الشعور – وبمكر – الشهوة عن موضوع الحبّ من ناحية، أو قام بـ(إخراج) الفعل الجنسي وفق صفقة تمزج الدورين المتناقضين: دور الموضوع المشروع ظاهراً والمرفوض باطناً والموضوع المرفوض ظاهراً و المشروع باطناً للوصول إلى شهوة مركبة فائقة الإشباع، وهذا ما حصل في فجر اليوم التالي حيث استطاع هيرمان أن يعيد إليها توازنها النفسي – في بعض الأحيان يكون تعلق البنت بهدف بعيد والانتقال معه إلى مكان آخر هو شكل من أشكال الإفلات (الجغرافي) من الدائرة المحارمية -. تقول ياسمين:
«في فجر اليوم التالي استطاع هيرمان أن يعيد إليّ توازني النفسي، تلمس قدمي الخارجة من تحت البطانية وقال: كيف هي معنويات أورينتاليا؟ هل زال رعبها من أوكسدنتوس؟» ضحكت وقالت له: نعم، زال، يا أكسيدنتوس».
وروى قصّة الأميرة (عربيا) التي اختطفها الإله الهندي – الأوربي (زيوس) من سواحل صيدا وذهب بها إلى كريت ليغتصبها هناك. ثم سألني: هل لديك مانع في أن يغتصبك زيوس يا عزيزتي؟». قلت: «لا مانع لدي» وكان شهر العسل أشبه بالحلم. أطلقنا فيه العنان للذات الجسدية والروحية. ص34،35».
ولكن الأمر لم يسر بسعادة وهناءة كما تقول. لقد اجتاحها رعب شديد نغصّ عليها طمأنينتها وحركتها ولاحقتها كوابيس في نومها هو سماعها امرأة تقول إنها شاهدت حيّة قرب غرفتهم. وهو رعب غير مبّرر حيث كان مفرطاً بحيث جعلها تطلب من هيرمان أن يتأكد من عدم وجود حيّة في الحمّام قبل الدخول إليه!! صحيح أن محنة «الاختراق» تهيمن على حياة الأنثى: تُخترق في الوصال الجنسي، وتُخترق في الدورة الشهرية وتُخترق عند الولادة؛ صحيح هذا وهو الأمر الذي يجعلها شديدة الرعب من مكافآت توحي بتلك المحنة مثل الأفعى والفأرة، إلا أن من الصعب – وفي رعب ياسمين ما يتضمن ذلك – أن تفسّر درجة الرعب الشديد تلك دون أن تستل المحمولات اللاشعورية للبعد الرمزي للأفعى من الهاجس المحارمي الذي يثير فزع الأنا وخوفه المشتعل من طفح المكبوت وانفلاته من سيطرة القبضة الكابتة.

بعد ذلك لم يبق لشهر العسل طعم وتقلصت أوقات سعادة ياسمين بعده.. فخلاف أي عروس جديدة بدأت الكآبة تستولي عليها وتمتد طوال أربع وعشرين ساعة أو ثمان وأربعين ساعة كما تقول ؛ هي الوحدة التي تعاني منها حين يبقى «هيرمان» في مكان عمله بعيداً عنها، كانت ساعات الانتظار طويلة مترهلة والخوف يقض مضجعها أكثر من أي شيء آخر. ولم يكن هذا الأمر مقنعاً، حتى أنّ أمها قالت لها حين اشتكت من أن هيرمان كان منصرفاً إلى عالمه إلى درجة أنها كانت تشعر بأنها خارج نطاق حياته بأن هذا الأمر ينطبق عليها أيضاً.
والأهم من ذلك – وهنا يبرز مكر اللاشعور في فن تمرير القرائن الصغيرة – هو مستدعيات الحضور الأبوي التي تستثيرها محفزات أخرى وفق فعل شرطي لا بافلوفي يصعب الإمساك بحلقاته عند النظر المباشر. وقد تكون الحالة التي تحدّث عنها معلّم فيينا هي أكثر صور هذه المناورة تخففاً من أستار الالتفاقات الدفاعية التي تكون أكثر تعقيداً في السرد منها في الرسم! :
«هناك رسم معروف للفنان «فيلسيان روبس» يفصح على نحو تعبيري موح لا يجاريه فيه أي شرح وتفسير عن تلك الحقيقية التي نادراً ما تسترعي الانتباه مع أنها جديرة بأن تأسره: فقد صوّر الفنان حالة الكبت النموذجية لدى القدّيسين والزهاد . راهب متنسك هرب من إغراءات الدنيا وتجاربها بدون أدنى شك، يرنو إلى جذع الصليب الذي عُلق عليه (يسوع) المخلص – فإذا بالصليب ينخسف وكأنه طيف وتنتصب مكانه وكأنها لسان حاله وترجمانه صورة باهرة لامرأة عارية رائعة الجمال أخذت وضع المصلوب عينه. ولما أراد رسامون آخرون، ما أتوا مثل هذا الحس السيكولوجي المرهف أن يشخصوا إغراءات التجربة، صوروا الخطيئة في وضع تحدي وانتصار إلى جانب المصلوب. أما «فيليسيان» فقد أدرك أن المكبوت ينبجس لدى عودته من داخل السلطة الكابتة نفسها»
وقد نثير إشكالية مستفزة لمسارات توقع المتلقي حتى لو تأسس توقعه على الأطروحة السابقة حين نحاول – وعبر مداورة – أن نُظهر أن صورة الموضوع المكبوت تنبجس لدى عودتها من داخل صورة الموضوع الكابت نفسه، من ناحية وأنها ، وهذا هو الأكثر حساسية وإثارة للتوتر، لائبة في أعماقها وتحاول «الانسراب» في قنوات الأفعال والرغبات المسالمة والمشروعة من ناحية أخرى. وهي في محاولاتها الدائبة و«البسيطة» هذه تقنع بجرع الإشباعات اليسيرة والمستترة. جرع تمزج عسل المُحلل بسمّ المحرّم فتلطف الأخير ويتجرع الشعور التركيبة الجديدة ويجري في عروقه مصلها فيغيب انتباهته ؛ ينتظر هيرمان ياسمين في المطار ويقدم لها باقة من زهور شقائق النعمان فتبكي فقد :
«ذكرتها هذه الزهور بأبيها الذي كان يحدّثها عنها وعن ألوانها الشائعة في الأردن وفلسطين وسورية وبيروت.. وكيف أن الاسم شقائق النعمان جاء تشبهاً بدم الإله السوري القديم أدونيس الذي من ألقابه النعمان وهي كلمة تُذكّر بلفظة النعيم أي الجنة. وحين يوقظها ذات يوم صباحاً ويقودها إلى الشرفة ويريها شجرة ليمون تتسلق عليها نبتة قثاء تبكي بصوت عال وتقبله وهي تقول له:
«ذكرتني بفلسطين»
وهي مبالغة انفعالية من فعل الحفزات المكبوتة لأنها لا تحمل بين طيات ذاكرتها شيئاً من فلسطين التي لم ترها في حياتها سوى الذكريات التي قصّها عليها أبوها. وحين تقف أمام المرآة عارية تماماً فتذكر أن هيرمان قال لها مرة إنها تشبه الممثلة كاترين دي نوف فرفضت وقالت له إنها تختلف عنها بشعرها الأسود وبعينيها كذلك. «تطلعت إلى عينيها في المرآة: «ليس التكحل في العينين كالكحل». أبوها كان يردد ذلك على مسمعها مع ذلك فهي تضع قليلاً من الكحل في عينيها. أول مرّة استُعمل فيها الكحل كان في مصر. أبوها قال ذلك، وقال أيضاً، كان الكحل يستعمل لصبغة الجفن الأعلى فقط (…) كان هيرمان يحب تقبيل جفنيها لأنه مغرم بعينيها. تطلعت مرّة أخرى إلى عينيها، وتلبثت قليلاً تنظر إليهما إلى أن داخلها إحساس بالخجل والارتباك والخوف من صورتها (ينتابها هذا الإحساس كلما أطالت النظر إلى وجهها) فانحدرت إلى نهديها، كان يحتضنها من خلف ويقبض عليهما بيديه وكان يقول: ثديك الأيمن أصغر من..».
وحين يسمع القارئ الأم «كارولا محمود» وهي تقول لابنتها ياسمين بأنها تجعل من كل شيء دراما، وبهذا تذكرها بأبيها الذي كان يراهن على أعصابه في كل صغيرة وكبيرة، تمسّه أو لا تمسّه، فإنه قد يعتقد أن ياسمين تشبه أباها في خصاله الأساسية، لكن الواقع خلاف ذلك ولا يخرج عن دائرة:
«أن كلّ فتاة بأبيها معجبة وهي تستميت لإظهار الخصائص التي كان أبوها يحبها، أما تماهيها الأساسي فقد كان مع أمها التي كانت تعدّها قديسة وذات خصال عملية، فهي منظمة وتكره الفوضى:
«أكثر ما يسحرني في شخصية أمي هو اتزانها الجاد وبرود أعصابها. إنها تستطيع أن تتحمل أقسى المحن دون أن تطلق آهة»،
ولكن حتى مع أمّها كانت ترسمها كأنموذج هو مشروع تماه وليس هدفاً عملياً للتطابق النفسي. ففي حياتها الفعلية كانت ياسمين مهزوزة الإرادة متذبذبة الخيارات وشديدة القلق فيما يتعلق بالإنجاز وإثبات الذات:
«تلك هي ياسمين، فكرت أمها، إنسانة تحاول أن تنشد الكمال في كل شيء، منذ صغرها، لكن البيت ينقلب إلى مناحة عندما كانت تؤدي امتحاناتها، لأنها لم تقنع إلا بالإجابات الكاملة، وتحزن وتبكي وتظلم الدنيا في عينيها إن هي قصرّت في الإجابة عن فرع من سؤال. ص29»
وقد وصل الأمر حدّ أن تنفجر ذات مرّة في حالة هستيرية من البكاء وترافس بيديها ورجلها على الأرض لأنها أخطأت في فرع.. ولم تفلح جهود أمها وأبيها في تهدئتها إلا بعد أن وُعدت بتحقيق واحدة من رغباتها، وهذا نوع من أنواع «الابتزاز» النفسي للأبوين. وتفسر الأم خطأ سلوك ياسمين وهي صغيرة حين طلبت منها أن تخفض سرعة السيّارة لأن بعض لوحات المحلاّت تفوتها قراءتها بأن هذا شكل من أشكال النـزوع إلى الكمال في حين أنه فعل تسلطي حافزه السيطرة على القلق وتصريفه، وحتى مع الموسيقى التي كان الفضل للأم في غرس تعلقها بها في نفسها فإنها لا تمتلك الثقة بعزفها برغم تشجيع والديها، وفي علاقتها العاطفية مع هيرمان كان الأمر الأكثر إثارة لقلقها والتوتر في علاقتهما هو أنّها لم تكن واثقة من أن هيرمان يحبها. كانت تبكي وهي تعترف له بأنها ضعيفة الإرادة ومتردّدة وتلح عليه:
«هل تحبني حقاً؟ هل أنت مشتاق لي؟ هل تعدني بأن لا تحب غيري؟»
ومنشأ هذه التساؤلات إسقاطي لأنها هي نفسها لم تحسم موقفها تجاهه. وفي إفصاح عابر وكاشف وهي في أحد المراقص تقول عن رجل أشعل سيجارتها:
«إنه من الصنف الذي يروقني من الرجال، ملامح صارمة تقريباً، وشعر داكن، أجعد نسبياً، وبشرة أميل إلى السمرة، نموذج الرجل الذي يعجبني. ص51»
وهذا الأنموذج المفضل بالنسبة لها ليس طراز هيرمان، إنه أقرب إلى الصورة الباهرة التي رسمتها أمها لأبيها وهي تحدثها عن المرّة الأولى التي التقت فيه به: «قوامه النحيف، وشعره الأسود الفاحم، الغزير، الأجعد قليلاً، وشاربيه الأسودين أيضاً، اللذين بديا لي بربربين.. الوسامة السمراء الافتراسية التي تجتذب بعض الأوروبيات ص64».
وها هي تحصل على فرصة نادرة لفصم علاقتها بهيرمان وذلك عند وفاة الأب كما بينا.
ولم تكن ياسمين ضعيفة الإرادة ومتردّدة في حسم مواقفها من معضلات حياتها الرئيسية حسب بل في تفصيلات حياتها اليومية البسيطة الأخرى أيضاً كالموقف من التدخين، النهوض صباحاً، تناول الأسبرين، شرب الحليب وغيرها. وفي كلّ مرّة تعاهد نفسها على أن تتخذ الموقف الفلاني فلا تفلح وتعود إلى عاداتها القديمة، وتصل حالة ضعفها أقسى أشكالها المذلّة حين تبكي أمام الأستاذ المشرف على أطروحتها لأنه قال لها إن الفصل الثاني من أطروحتها غير مقنع وأُعدّ بسرعة وأنه بحاجة إلى إعادة صياغة. لقد اعتبرت أن الأستاذ بموقفه هذا قد حطم معنوياتها فتملكتها حالة من الإحباط وخيبة أمل شديدة وساورتها أفكار سوداوية (بما في ذلك الرغبة في الموت) ص45. لقد أصابها هذا الأنموذج الأبوي بالإحباط التام هي التي كان تتلجلج وتتأتئ بحضوره ولا تنفك عقدة لسانها معه إلاّ إذا تناولت كأساً صغيرة من البراندي قبل مقابلته.
وكلما اشتدت عليها مشكلات الأطروحة شعرت بالحاجة إلى أبيها الغائب «ما أحوجني في هذا كله إلى أبي. ص16». وحتى الدروس التي تستدعيها من مخزون ذاكرتها لتكون مثلاً يُحتذى وطريقاً لتحقيق الإنجاز تكون تعبيراً تطبيقياً عن صلة البنت بأبيها. فها هي تتذكر فيلماً شاهدته قبل سنوات وعنوانه (المعجزة) عن تحطم طائرة لا ينجو من ركابها سوى صَبِيّة تجد نفسها وحيدة وسط أحراش كثيفة مخيفة ولا ينقذها سوى تذكرها نصيحة لأبيها قالها لها ذات يوم بأنها إذا صادف أن ضلت طريقها في أماكن كهذه فما عليها إلا أن تتابع روافد النهر التي ستوصلها إلى معالم البشر (ص40).
ولعلّ أشد الدلائل ثراءً بالمعاني النفسية التي تعكس تثبت الابنة في علاقتها هي الحادثة الرهيبة التي خاطر فيها الأب بحياته من أجل أن يزور قريته «صفورية» التي طرده الصهاينة منها مع عائلته وأهالي البلدة، كان ذلك في تشرين الأول من عام 1949 حيث انطلق في رحلة تحف بها المخاطر المميتة مع مجموعة من المهربين.. وبعد مصاعب هائلة كادت تكلفه حياته أو الوقوع في قبضة الصهاينة المحتلين أكثر من مرّة وصل الأب إلى قريته التي شُرّد منها ووقف على أنقاض بيتهم .. فوجئ بكلبه «قيصر» جاثماً على كومة أنقاض.. وحين أبصره الكلب اندفع نحوه وأخذ يلحس وجهه. لكن شاباً فلسطينياً متعاوناً مع العدو وشى بالأب الذي عاد هارباً مع الكلب بعد أن وضع كسرة مرآة في جيبه كتذكار. لكن المأساة وقعت عندما اقترب الأب وكلبه وصديقه أحمد من نهر الأردن. فقد تمسك الأب بذيل حصان أحمد لعبور النهر ذي التيار القوي بفعل الأمطار وبقى الكلب على الضفة يهم بالعبور دون أن يجرؤ على ذلك:
«عاد الكلب ليقتله الصهاينة في إحدى حملات التطويق. تنفجر ياسمين باكية كلما تذكرت هذه الحادثة: « لا أستطيع مغالبة دموعي كلما تذكرت هذه الحادثة. عندما رواها لي أبي بكيت كثيراً، وبصورة خاصة لمصير الكلب. لم أنم ليلة رواها لي، فقد ظلت صورة الكلب وهو ينبح عاجزاً عن عبور النهر ماثلة في ذهني . ص164»،
لقد علقت هذه الحادثة في ذهنها وسمّت كلبها باسم «قيصر» كلب والدها، لكن ما هي أهميتها السردية وما هي وظيفتها داخل الرواية؟ هذا ما سنراه لاحقاً ولكن ما يهمنا هنا هو التأكيد على أنّ تعلق الابنة المفرط بأبيها ليس عاملاً معيقاً بحد ذاته، فهو من الممكن أن يكون قوّة دافعة توصلنا إلى نتائج خلاّقة حين يتوفر ردّ الفعل الدفاعي المناسب والإمكانات المعرفية المقتدرة والظروف الاجتماعية المناسبة التي تستطيع نقل المكبوت من صراع داخلي مؤرق إلى سلوك ثقافي يباركه المجموع بدلاً من أن يصبح عصاباً، فاشتداد غريزة العدوان وضغوط دفعاتها السادية، على سبيل المثال، يمكن أن تصرف بأن يصبح الفرد جزاراً أو قاتلاً ويمكن أن يفرج عنها بأن يصبح جراحاً ماهراً. وإذا كان تثبت ياسمين على حبّ أبيها وتعلقها المفرط به وشعورها بالذنب لخروجها على إرادته قد أربك علاقاتها العاطفية فإن هذا التثبت قد «صُعّد» بنجاح ليتحول إلى جهد معرفي تمثل في : ” البحث عن الجذور ” . فقد كانت الفرضية الأساسية لأطروحة شهادة الدكتوراه التي تعدّها ياسمين تتمثل في محاولتها إثبات أن «النوبة» في الموسيقى الإسلامية هي أصل المتتالية وبقية الأشكال الموسيقية الغربية المؤلفة من عدة حركات (ص44). النوبة معروفة في المشرق العربي والأندلس، كما أن «السربندة» الرقصة الإسبانية التي تدخل في بنية المتتالية في الموسيقى الغربية هي أندلسية الأصل. (ص45).
ومع اتساع وتشعب مسارات بحثها أصبح لزاماً عليها أن تسافر إلى المغرب مع أمها للحصول على وثائق ومقابلة مهتمين بالموسيقى القديمة. قبل سفرها يعطيها السيد (سالم صبري) وهو عراقي كان صديقاً لوالدها وقد ضمّها إلى فرقته الرباعية التي يعـزف فيهـا علـى الفـيولا – اسـم صـديق عراقي يدرّس تاريخ الفن في جامعة الرباط هو الدكتور (إبراهيم ناصر) الذي يستقبلهما في المطار ويقدم لهما أقصى أشكال المساعدة والكرم على الطريقة العربية التي كانت غير مستساغة أحياناً من قبل أم ياسمين تحديداً. لقد «خنقتهما» «فاطمة» المغربية، صديقة ناصر، بلطفها وكرمها حتى أن أم ياسمين كانت تريد أن توضح لمضيفتها بأن تضع حداً لاستبداديتها، ففي واقع الحال كانت الضيفتان هما تحت تصرّف فاطمة، وليس العكس (ص79). ومن هنا، من بدء الاحتكاك والتواصل المباشر بين ياسمين وأمها مع ناصر وفاطمة وطيف واسع من المجتمع المغربي يبدأ “علي الشوك” ، بذكاء واقتدار، متسلحاً بثقافته الموسوعية، بالعزف الماهر والمحكم على أوتار مجموعة من أخطر المعضلات الجسيمة التي تمسّ صلب الحياة الإنسانية الراهنة، وطبعاً هذا المنحى الإنساني، والقومي قبل ذلك ومعه ، لا يسر نخبة واسعة من النقاد الحداثويين وما بعد الحداثويين الذين يعزلون الأدب عن دوره الاجتماعي ويجرّدون الأديب من رسالته الإنسانية ( هل كان بعض الأصدقاء الذين عرض عليهم الشوك روايته وقدّموا انطباعات سلبية عنها من هذا النوع ؟ لقد استكثروا تفصيلات الأطروحة وهي اللبنة الأساسية في بناء الرواية ورسالتها الهائلة ) .
من المعضلات الحاسمة التي عالجها الشوك العلاقة بين الشرق والغرب، (بين المواطن العربي والمواطن الغربي تحديداً)، صراع الحضارات ورؤية في كيفية حلّه بعيداً عن أطروحات المعصوبين أمثال هنتغتون وفوكاياما، محنة الاغتراب ومضاعفاتها النفسية وخصوصاً بين العراقيين، السادية البشرية ومظاهر موت الضمير الإنساني، وأخيراً وهذه أم المعضلات، المأساة العراقية التي تلتقي عندها خيوط المعضلات السابقة كلها وتجسّد تمظهراتها الأساسية.
وإذ يتصدى الشوك لتناول هذه المشكلات العاصفة، فإنه لا يطرحها بطريقة الواعظ الأخلاقي أو المُنظّر السياسي فهذا ليس من شأنه وليس من اختصاصات الإبداع أصلاً، إن الشوك يصوّر، بعينه المدهشة، مشاهد تعكس جوانباً من تلك المعضلات ملتقطاً أكثر الزوايا تأثيراً في النفس الإنسانية، ويترك لنا تحديد وجهة الانفعال بها ثم التفكير في مغازيها الخفية. وهو ينثر التقاطاته بطريقة هادئة وماكرة تحافظ على إنسيابية التيار السردي الدافئ الـذي يخلق أقل درجة من الصخب الانفعالي لكن أعلى إمكانات التأمل الهادئ ؛ التأمل النفسي والفلسفي العميقين، الذي سيوصل إلى أقصى درجات الإنجراح والنقمة.
.. يتبع