الله… قال لي
تفصـّد جبيني بقطرات العرق التي أنبتتها أشعة الشمس المتعامدة على وجهي، نظرتُ إلى باب غرفتهما مفتوحاً وأبصرتُ ظلمةً تستقبلني في بريق هذه الظهيرة الصيفية اللاهبة. إندفعتُ نحو أشياء لطالما ظلت مجهولة. أغلقت باب الغرفة خلفي ونظرت إلى زحمة الأثواب المعلقة خلفه؛ المشجّر بالأزهار الصغيرة، والعباءة الصيفية المهفهفة بالقرنفل على منخريّ كلما مر جدي بجانبي. ألوان تدعوني أن أصعد بها إلى آماد بلا هوية!.. أخرجتُ علبة الكبريت من جيبي بيد أن الثوب المشجّر بالوردات الصغيرة ماكان ليتقد من عودٍ واحد أو آخر؛ حتى جمعتُ عودين معاً فأتقد الثوب بلهيب يأخذ كل الأثواب في مهرجان أحمر يتسامق صوب الأعالي. الدخان الأسود المزرق، كرنفال احتراق يتسع ويتسع ويأخذ بالجدار الذي بات يعكس بهاء لون الجص الأبيض. ثياب جدتي ودشاديش جدي البيض، عباءته المهفهفة بالقرنفل كلما مر بي، عقالٌ ولوح من الصاج الذي اشرأبت منه مسامير معقوفة حتى أسمعني الدوي الأحمر دعوة الخروج من غرفتهما التي تركاها ليرقدا في قيلولة الصالة المتوجة بمروحة ألـ (فيلبس ) بين والديّ وأخواتي. نخستها في جنبها:
– جدتي .. جدتي
– … … …
– جدتي
– من؟
– أنا
– ماذا تريد؟
-ثيابك تحترق
-… … …
مياه الإسالة التي تروي المساكن في تلك الساعة كانت مقطوعة.. سألتني جدتي من دون أن تشير بندم لما آل بسببي أمام أمي وأبي بعد أن أحترق نصف الدار:
-لم حرقت الثياب ياولدي؟
أجبتها:
-الله .. قال لي !
العزيمة على سطح الدار
قال جدي لجدتي:
– هيئي له دشداشته البيضاء ليرتديها في العزيمة
واستقبلنا بحشد من الكرد والسراويل الرمادية وانطقه البطون البيض العريضة. كانت الدار تعج بالنساء والصبيان والهلاهل .. عراقية .. عراقية .. عراقية والله العظيم !!
لم أكن اعلم أكانت الدعوة لختان أم لعرس أم لشئ ٍ أبهى ؟! المهم أننا صُـعـِـد َ بنا إلى سطح الدار حيث فرشت سجاجيد حمر حول الفناء الطيني ودارت علينا أقداح الشاي، فصححت موضع القدح أمامي، ثم وُزِّعتْ علينا أكياس الحلوى، فوضعتها جنب القدح. سألني جدي:
– لم لا تشرب الشاي أو تأكل شيئا من الحلوى؟
قلت:
– حتى يشرب صاحب الدار شايه أو يأكل حلواه
قال جدي لأبي بعد عودتنا إلى الدار:
– إبنك هذا .. نبيل !!
لكني بقيت مصرّا ً على النوم في فراشي بدشداشتي البيضاء.
ياعيني … على جدتي
ولأجل الحفاظ على جسدها بلا تشوّهات، كانت أمي ترسل من يأتيها بحليب الـ (بلاركون) لأختي الصغيرة. هناك من يقطع المسافة من أربيل إلى بغداد حاملا ً صندوقاً يحتوي على اثني عشر عبوة من ذلك الحليب المجفف الباهظ الثمن، غير أن ظهيرة الصيف ألجأت جميع من في الدار إلى التراخي، وكانت الطارمة الخلفية بمساحتها الصغيرة تشجع على الانزواء واللعب بلا إزعاج لمن يغطون في قيلولتهم. ويا عيني على جدتي التي كانت تعجن وتشـجر لـنا الخـبز و(الحنّونات) الصغيرات.
نأيتُ بـ (المعجانة) الكبيرة وصرت أسكب المسحوق الأبيض اللامع الناعم بين يدي وأعجنه بالماء، وأعجنُ، وأعجنُ .. وأضيفُ كلما خفَّ المزيج مسحوقاً، وأضيف الماء كلما ثخن المزيج .. تراهُ كان جاهزاً للخبزِ أم لا ؟! ويا عيني على جدتي .. قلتُ لها بعد أن قطعتُ عليها قيلولتها:
– ها قد جهـّزتُ العجين
– شنو..؟!
أمّا أُمي وصراخ أختي الصغيرة وغضب أبي المعتاد فما أفلح أي منها لتأجيل إرسال ذلك الرجل الذي تطوع ثانية ً لجلب عبوات الحليب من بغداد بدل العبوات التي عجنتها واهما ً أنها الدقيق الذي يـَعـِـدُ بالحنونات والأرغفة الحارة من فوهة التنور !.. ويا للمصيبة .. ويا للخسارة الباهظة .. ويا عيني على جدتي وهي تصيح:
•- كافي .. أتريدون قتل الولد من أجل الحليب ؟..
الصلاة.. قبل كل شئ
الأفق خلف الدار كاتساع تلك البراري أمامه، ملئ بالخضرة والبهاء، ولنكهة الدخان المتصاعد من خلف أسطح الدور الطينية ألف عين لنهاية يوم أرى فيه الوجوه الملآى بالغضب والجفاف والزبد وقد أرتخت علائمها وباتت بسمة الراحة تستوفز الحب والقبلات عليها. وقف جدي العصملـِّي ملوحا ً بعكازه وهتف بي:
– هلم بنا الى المدفع .. !!
ورأيته ُ.. أنبوبا أسود يخرج من الأرض بإتجاه يتقاطع مع كل شئ في مكانه عل حافة ذلك الأفق المترامي .. ثم أراه يتقاطع مع كل الأشكال التي عرفتها .. مستقيم أسود سميك يبزغ من التراب وقد أحاطه الصغار وثلة من كبار السن. جمـَّعوا الخرق والأوراق وبقايا أكياس الجنفاص وراح رجل ماعدت ُ أذكر إلا همته العجيبة يكبس كرات الأزبال من فوهة ألأنبوب الأسود ويدكها في قعر جوفه الملتهم بمدك خشبي طويل يخترق أحشاءه. كان يدك ويتحدث ويضحك والشمس تغوص. تبادلا المزاح باللغة الكردية هو والعصملي، وعند اسوداد الأفق بعد احمراره الذي انقضى بالكبس والدك والضحكات، اتسعت دائرة الصغار حول الأنبوب الأسود، إتسعت وباتت تتوثب لشئ ماكنت ُ أرقبه إلا على وجه الصحون بعد الصوت الأسطوري المجلجل، ثم ألقى الرجل الهميم ثقابا متقدا في فوهة الأنبوب ليخترق الفضاء والسماء بعدها صدى مدو بهشيم شظايا حمر تسابق الصغار في الهرولة نحو أماكن سقوطها ونحو الأفق الأبعد .. الأبعد .. !
كانت تلك ساعة الأفطار الشهي، وعرفت بعدها حقاً ً لذة العودة الى الدار المشتملة على الحنو وشوربة العدس والكباب والخضرة والباسطرمة المصلاوية .. والصلاة التي سبقت كل شئ بعد الأنفجار.
المنـقـلـة
توسطت بأرجلها الأربع غرفة جلوسنا وتشعشع البريق الأحمر الملتهب من الجمر في وجوهنا التي أصطفقت بدفئه. كنا كالجراء نلوذ تحت فروته الكثيفة الثقيلة، ونلوذ برائحته المطمئنة .. جدي .. الذي علمنا رص البلوط بين فحمات المنقل المتقدات، علمنا الأصغاء لطقطقات نضجها والتقاطها بـ ِ (المنكاش) ثم فركها بباطن الأكف والتهام ثمرتها المريئة الناضجة اللذيذة. بين صورته وهو يحتضن المنقل في تلك الليالي البيض الدفيئات، وبين صورة الشيخ الميت بغاز أول أوكسيد الكربون في كتاب الطب العدلي مقاربات ومقارنات ورعب له محل أكيد من الأعراب . لكن جدي العصملي بفروته الكثة الكثيفة الثقيلة تمادى بعمره حتى تعلم ما يعني التسمم بأول أوكسيد الكربون وماذا تعني تهوية الغرف المدفأة بالمناقل المتقدة بالفحم وبين أكنافها ثمار البلوط الناضجات وتعلم ان الموت أكبر من أن يكون بمثل هذه الهفوات التي قد تفسد ذاكرة الأحفاد.
اللعلعة
هي بغداد بأصوات نسائها بين الأزقة والأغاني . مدينة الأحزاب والملاهي وأبي نؤاس . نترك خلف ذاكرتنا أشكال الجبال وهفهفة السراويل الكردية ونخطو الى حي من أحيائها يخلو من البعوض، حتى أن جدي يرتد لعصملية الأفندية فيرتدي سدارته السوداء وبدلته الرمادية بقطعها الثلاث . يؤكد أبي أن (راغبة خاتون) بنسيمها أطيب من بقية ألأحياء لقربها من دجلة، فضلا ً على كونها باتت مهجرا ً لأبناء بعقوبة، مدينتنا المستقرة دوما ً في الحكايا. فها هنا دار (كاظم العبس) وغير بعيد عنها دار الشيخ مجيد الشريف رئيس عشيرة الصوالح وكثيرون غيرهم . لكن الأجمل والأبهى كان زينة دارنا بتلفزيون الـ (باي) ولعلعة رصاص الكاوبوي بالفارس المقنع، وأخيرا ً لعلعة خطابات الزعيم بتلك الكلمة العجيبة المتكررة (إنني) . أقصد أن تلك الكلمة امتازت بشخصية انسحبت على ولعي باللعب مهرولا ً في الدار الفسيحة، جذلا ً، مبتهجا ً، قافزا ً بـ ِ (إنني .. إنني) . ولما كانت والدتي تستقبل عائلة جارنا أبي جهان السورية منشغلة بتقديم أطباق الكرزات وأقداح الشاي .. فقد رحت ألحظ الجمع المحتفظ بلياقته إزاء المفردات الصاروخية المنبثقة من فم الزعيم في تلفزيون الباي . كانوا ساهمين بصمت ٍ لا تقطعه نأمة ليتأكد أني إخترقتهم بملء فمي معولا ً .. إنني .. إنني ..فيصرخ أبي ساحبا ً كل لياقته :
_ إسكت زمال إبن الزمال .. تريد تحبسنا ؟!!
كان ذلك أول خوف غريب من أبي بالكلمات، وغريب كأول خوف من التعليق على خطابات أي .. زعيـــــــــم .
المَبلسة
جذبني جدي العصملي من يدي قائلا ً:
– سوف تتعلم اليوم القراءة والكتابة …!
كان قد ارتدى عباءته السوداء وتوَج َرأسه بعقاله المقـصّـَب المذهّـَب وحمل عكازه. رحت أنظر إلى بهائه الجليـــــــــل وطوله الفارع وهو يتقدمني إلى مدرسة (الخزاعية) في ضواحي (راغبة خاتون) . لم أكن قد بلغت ُ السن القانونية للمدرسة، لكنه وبّـَخ جدتي صائحا :
– (سـُـكتي غشيمة) … أنى للمدارس بمثله ؟!
بـُهــِر ْت ُ به وهو يدفع باب أحد الصفوف قاطعا ً الدرس على التلاميذ ليحيي المعلم تحية الصباح ويسأله مكانا ً شاغرا ً لحفيده الذي ينبغي تعليمه القراءة والكتابة . تمت العملية برمتها وقد خيبت ظن جدي الذي راح يعدد لي مناقـــــــــــب الكتاتيب وحرص الملالي على تعليم الأصغر سناً وتفضيلهم على الأكبر منهم أو كما قال (التعليم في الصغر كالنحــــت في الحجر) مستغرقا ً طيلة الطريق يتأفف مكررا ً :
– جدو .. هاي مو مدرسة .. هاي مبلسة ..! كتاتيبنا لا مكان فيها لإبليس، وعجبا ً كيف يقف إبليس يعلم في هــــذه المدارس ويمنعك من الجلوس في صفوفها.
حاولت تلطيف إحساسه بالخيبة، أردت أن أقول شيئا ً يتناسب ُ وغضبه، لا بل يحتويه، وحين أدركت ُ أني لم أ ُوفـق في ذلك أمسكت ُ بيده جيدا ً وضغطت ُ عليها أكثر من مرة وفوجئت ُ به ينحني ليقبلني ويحملني على صـــدره مرددا ً:
– طار اللقلق .. طرنا (وياه) .
الأجداد
أن يكون لي أكثر من (عـُصمـَلـي)، أكثر من جد، أسعدني وفاجأني ! أرى جدي من أمي (حسين بانزين) الأشقر الأحمراني الطويل، وهو لا يشبه جدي العصملي من أبي إلا من أطراف خفية، فكلاهما يتميزان بعناد البغال وغرور الديكة ومحبة مفرطة للأحفاد وأستصغار ٍ وأضطهاد ٍ لوالدينا وأعمامنا وأخوالنا . كان قبيحا ً جدا ً بكاء خالي ذي العشرين عاما ً لأنه وضع ربطة عنقه بطريقة لم تناسب مزاج جدي البانزين الذي لم يتوان عن ضربه لذلك في صبيحة عيد الفطر . ربما أكتشفت ُ مبررات ضياع الكثير من شخصية والدتي في فخفخة وأبهة مفتعلة ورثتها من ذاكرة معطوبة بالتسلط لأرث بعدها عزلتي من عائلتين تركتا جذورهما لأجل مجد بغدادي مؤمل . ثم أكتشفت ُ أن لي جدا ً ثالثا ً هو الزوج الأول لوالدة أمي، وجدا ً رابعا ً هو الزوج الأول لوالدة أبي وجدة أخرى هي الزوجة الأولى لجدي العصملي وأخرى هي الزوجة الأولى لجدي حسين بانزين .. ثم سلسلة متشابكة من الأعمام والأخوال والخالات والعمات ينتشرون على بقعة عشيرتين قحطانية وعدنانية بميول وتيارات وثقافات ما أنزل الله بها من نص أو خطاب وأن لي من الأقارب من يعيش في البحرين وسرنديب والهند ويوغوسلافيا، وآخرين أقرب ما زالوا في البلقان والأستانة . كنت ُ مضطرا ً لتقبيل أيادي أجدادي في صبيحة الأعياد لا لأنهم أجدادي حسب .. لكنما رعبا ً وخوفا ً مما يحملون من هذا الجغرافيا العجيبة .
جددت حبك ليه
كنت أستمع لـ ِ (جددت حبك ليه) وقد إرتسمت أمامي صورة تلك القرية النائية شرق العراق (كنعان) يوم جاؤا كلهم من العاصمة والأطراف إستجابة لدعوة (الدولمة) التي طبختها المصلاوية أمي … ويوم إكتشفت ُ فيهم عمي (صاحب) الحلاق في شارع (الكفاح) ببغداد.. وعمي (علي) الحلاق في ) شارع الحسينية (في بعقوبة.. يتباهون بصور سامية جمال وهند رستم وفريد الأطرش ومارلين مونرو على جدران دكاكينهم الممتلئة بالعطور والقولونيا وبقايا شعر الزبائن.. فراح عمي صاحب يحدثنا وكأنه يحدث (المشترية) عن فرصة التمتع بتلك الأجساد والوجوه الجميلة في سينما (الحمراء) في ( باب الشرجي ) أو بتنازل قليل في سينما (مترو) في محلة (الفضل) وهو ممن أدمنوا إرتياد بيوت (الكحاب) كل ليلة حتى عميت عيناه من شئ ربما كان بسبب عشقه دوام رؤيتهن ومباشرتهن بشهية نفاذة.
مات عمي علي على فراشه وهو يطلب ُرؤية إبنته الوحيدة العانس من بين بناته المنتجات الخمس، صارخا ُ :
– تعالي أبوية، إنطيني إيدج … أريد آخذ روحج وياية
أما عمي صاحب .. فما زال أعمى يرتكب آخر أخطائه بالأصابع ويربك زوجته بأسماء نساء يرتجلها كلما إنتصب عضوه .. ومازلت ُ أستمع لـ ِ (جددت حبك ليه) لأنها كانت الأغنية التي رافقت ( الدولمة) التي طبختها لهم المصلاوية أمي في تلك القرية النائية شرق العراق ( كنعان ) … قبل أربعين عاما .
الرحيل مبكرا
لا أعرف كيف أختزلت بغداد من مشهد الطفولة بتلك السرعة العجيبة وتحجم الصوت والصدى الى صورة صبي يقف ممسكا بحافة المقعد الأمامي في سيارة تورن أجرة ليرقب الطريق الى كنعان مرددا :
– بابا شوكت نوصل، خاف سوينا زحمة على أبو رحيم..؟
بيد أن أبا رحيم كان متسامحا معنا على الرغم من بعد الشقة وهو يقود بوقود السوالف والحكايا عبر الطريق بسيارته الزرقاء حتى إستقبلتنا كنعان بأم عزيز الخبازة وأبي عزيز وجاسم الفراش متهيئين تماما لأستقبال عائلة (الدكتور) بغبطة جرادل المياه التي آنساحت لشطف باحة دارنا الملاصقة لمستوصف الناحية، وبغمرة التسابق لنيل التآلف مع أبي وأمي وجدي العصملي الذي راح يقلب الكلمات مع أبي عزيز الفلاح لحرث أرض الحديقة المهجورة وهو يوجهه لترتيب ألواح الباميا والخيار والطماطة ويتوسدا بعدها حافة للحديث عن عشائر المجمع وفرادى المسافرين من الأيرانيين الى مشهد الكاظمين ببضاعاتهم الموسمية من البندق الأخضر والفستق وقطع السجاد الحريرية وصفقات بين الوهم والحقيقة لا علاقة لها ببهاء الدار الذي سيضم العائلة بعيدا عن بغداد، وبعيدا عن الحبال واللعلعة والبعوض .