يحيى وهيّب الجبوري يُخضع الملابس إلى القيم الثقافية:
العمامة رمز للشرف والرفعة وتيجان للعرب
حوار – محمّد رجب السامرّائي
– يُعد خضوع الملابس للقيم الثقافية بمثابة العمق التاريخي لها، فالملبس الذي يوجد اليوم عند مجموعة من أبناء المجتمع هو امتداد لتلك الملابس التي يرجع تاريخها إلى عهود سحيقة، إذ شحنها البعد التاريخي بدلالات ورموز ومشاعر تجاوزت قيمتها الاستعماليّة الطبيعيّة، حتى أصبحت تدل على انتماء إلى قوم أو فئة، أو دولة ما إلى مكانة اجتماعية في طبقات المجتمع الواحد.
– كما تعكس الأزياء بصفة عامة حرص المجتمع على التمسك بالقيم والمُثل العربيّة الأصيلة، وقد لعبت العادات والتقاليد المتوارثة والقيم الدينية دوراً كبيراً في تكوين أزياء المرأة العربيّة عبر السنين والتي اتسمت في بالأتساع والطول وأغطية الرأس والوجه بالبساطة والتنوع.
– وبُغية الوقوف تاريخ الملابس في الحضارة العربية الإسلامية والتعرف على العمامة” تاج العربي”، التقينا الدكتور يحيى وهيب الجبوري أستاذ الأدب الجاهلي، ليحدثنا عن هذه سيرة الملابس والعمائم.
{ ما حكاية صناعة الملابس؟
– ترجع صناعة الملابس إلى عهود قديمة، حيث عُرِفَت الملابس المنسوجة منذ العصر البرونزيّ، وبرزت صناعتها في المناطق الباردة لحاجتهم إلى الدفء، كما وعُرِفَت أيضاً منذ العصور الحجريّة القديمة عندما صنعوها من جلود الحيوانات، وبرزت صناعة متقدمة لها في العصر الآشوريّ في حضارة العراق القديم، وكان لها دور في تمويل قصور الملوك والمعابد بالمواد الأوليّة التي تدخل في صناعة الملابس، وتوضح النصوص التاريخية إلى أنّ الملوك في الجزيرة العربيّة كانوا قد أسسوا دوراً للنسج وعرفت بلاد اليمن بأنسجتها المتنوعة، وبرع العرب في الحياكة وخاصة في المدن، بينما احتُقِرت هذه الصناعة في البادية.
أوراق التين
{ ما بدايات تاريخ تغطية الإنسان لجسده؟
– يعودُ تاريخ تغطية الإنسان لجسدهِ إلى بداية الخليقة إلى عهد النبيّ آدم – عليه لسـلام – وزوجه “حوّاء”، عندما استخدما أوراق التين لستر أو تغطية عورتهما، وعند هبوطهما إلى الأرض بعدما ارتكبا معصيّة الله تعالى الذي هداهم إلى استخدام جلد الحيوان لستر عورتيهما وتغطية جسمهما من البرد القارس وتقلبات الجوّ، فقال تعالى في سورة طه / 120-121:” فوسوس إليه الشيطان قال يا آدمُ هل أدُلُك على شجرةِ الخُلدِ ومُلكٍ لا يبلى * فأكلا مِنها فَبَدَت لهُما سوءاتُهُما وطَفِقا يخصِفانِ عليهِما من وَرَقِ الجنّةِ وعَصَى آدَم ُ ربّه فغَوَى “.
{ أول لباس استخدمه الإنسان؟
– تشير المظان التاريخية إلى أنّ أوّل لباس استخدمه الإنسان كانت أوراق الأشجار العريضة التي كانت تغطي الجزء الأكبر من جسمه، وهي من النوع التي لا تذبل بسرعة، بعدها اهتدى إلى صنع أدوات الصيد من الحجر، وأخذ يصطاد الحيوانات ويسلخ جلودها بالأداة الحجرية الحادة – السكين- وليستخدمها في حماية جسمه من تقلبات الطبيعة. وقد نالت الأزياء في فترة لاحقة اهتمام فنانيّ الحضارات القديمة وقد أخذ دور البطولة في معظم جداريات الكهوف التي عاش فيها الإنسان القديم، وهذا ما حدا بالمُتخصصين التفريق بين أزياء الشعوب القديمة، وتدلّ المكتشفات الأثريّة على أنّ الإنسان في ذلك الوقت قد نقشَ على الجدران المعايير الجماليّة للإنسان مُبيناً لأزيائهم ثم للتطور الذي حصل على تلك الملابس، وتروى أسطورة قديمة عن أول من اتخذ الملابس وهي:” أنّ البطلة برتا Berta كانت أول امرأة غزلت بيدها ثم نسجت أول ثوبٍ في العالم لتجذب به أنظار المُعجبين”.
{ متى عُرِفَت صناعة المنسوجات؟
– لم تعرف صناعة المنسوجات إلاّ بعد أن ظهرت أولى الحضارات في التاريخ القديم في حضارتيّ العراق ومصر، فأخذ الإنسان يلبس الملابس المصنوعة من المنسوجات القطنيّة والصُوفيّة والكتّانيّة والحريريّة، ويذكر بأنّ الإنسان قبل معرفته للمنسوجات كان يصنع ملابسه من ألياف بعض النباتات اللينة المَرِنَة ويجعلها سهلة الاستخدام على الجسم ويلبسها بسهولة وتراوحت صناعة الأزياء في الحضارات القديمة بين التأثر والاقتباس من بعضها البعض، ثم تطورت عبر السنين لتصبح أنيقة وجميلة، علماً بأن لكلّ حضارة من تلك الحضارات أزياؤها التي تلاءم عادات وتقاليد وأذواق الناس فيها ومع الظروف المناخية والبيئة المناخ لها.
{ أغطية الرأس علامة فارقة في أزياء الرجال والنساء بصورة عامة؟
– نعم تشكل زينة الرأس – الأغطية- العنصر الثاني المهم في اللباس، والتقاليد التي انتقلت عبر عصور الحضارة الإنسانيّة وتصف هذه الزينة بأنّها الوسيلة التي تغطي الرأس عند الخروج من الدار، ذلك أنّ خروج المرء حاسر الرأس منظر غير مُستحب، أما في الحالة الأخرى فالرجال والنساء كان من الواجب عليهم أن تبقى رؤوسهم مُغطاة بغطاء بسيط أو بواسطة زينة رأس مُركبّة للرجل. وكانت زينة الرأس قديماً علامة لمعرفة ديانة مُرتديها، فحسب الأوامر المَسنونة من قبل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان على المسلمين ارتداء العمامة البيضاء، والعمامة الزرقاء للمسيحيين، والعمامة الصفراء لليهود، ولكن هذه الألوان لم تطبق بشكل متواصل.
– كما ويتنوع لبس أغطية الرأس بين الرجال وبين النساء في مناطق العالم، وهي تختلف في الدولة الواحدة بين مدينة وأخرى لأن لها موروث وعادات وتقاليد لصنعها وألوانها وطريقة لبسها. حيث نجد زينة الرأس التقليدية لدى الرجال غالباً ما تتألف من عناصر عدّة وطريقة جمعها وشملها تتطلب تقنية خاصة بها، وأن الطاقية هي العنصر الأساسي الذي ترتكز عليه كل أشكال زينة الرأس وهي شائعة الاستخدام في أغلب مناطق الشرق الأوسط. وقد كانت أغطية الرأس معروفة ومستخدمة عند شعوب الحضارات القديمة حيث كانت المهنة متمثلة في اللباس، وكان اللباس ذاته متجسداً في الجسد.
{ حدثنا عن غطاء الرأس للعربي قبل ظهور الإسلام الحنيف؟
– عرف العرب قبل انبلاج فجر الإسلام الحنيف في الجزيرة العربية العديد من الملابس حيث حرصوا على استخدام أنواع من الأقمشة وتفصيلها بأشكال مختلفة مابين النساء والرجال، نحو أغطية الرؤوس التي حرصوا على ارتدائها كونهم يعيشون وسط مفازات شاسعة في الصحراء المترامية الأطراف مما يحتم عليهم ارتداء أحجام وأشكال متباينة في نوعية القماش أو الشكل، ومن تلك الأغطية التي عرفها العرب قبل الإسلام البرنس”القلنسوة “، فقد كانت حياة العرب قبل الإسلام بسيطة، تتمثل تلك البساطة عندهم في طرق معايشهم وطعامهم وسكنهم، فهي أشبه بحياة البدو حتى في الوقت الحاضر، ووردت أغطية الرأس في الشعر الجاهلي وفي كتب اللغة. وقد عرف العرب الجاهليون” البرنس “، وهو القلنسوة التي تُغطي بها العمامة، ويستر بها من الشمس والمطر، وقد تَبرنَسَ الرجلُ تَبَرنُسَاً وتُسمى البرانس بـ (الصَّوامِع) كما في شعر بشر بن أبي خازم:
تمَشَّى بها الثيرانُ تَردِي كأنَّها
دهاقِين أنباطٍ عليها الصَّوامِع
ويبدو أنّ البرنس قديم وذكر في شعر المهلهل يرثي كُليباً بقوله:
فإذا تَشاءُ رأيتَ وَجهاً واضِحاً
وذٍراعَ باكِيةٍ عليها بُرنُسُ
والقُنْبُعة للصبيان، وهذه لباسٌ للصبيان يشبه البُرنُس يُسمى (القُنبُعَة)، وفي امُعجم لسان العرب: (الكُمَّة) والجمعُ كِمام، و(البُرطُلَّة): وهي ضربٌ من القَلانِس ويُقالُ لذُؤابة القلنسوة (التَّتو). وقد لبس النبي – محمد عليه الصلاة والسلام -القلنسوة، وقال الكليني: والقنبعة خِرقَة شبيهة بالبُرنُس تلبسها الصبيان، والقنبعة: هَنَة تُخاط مثل المقنعة تُغطي المتنينِ، وعن القلنسوة قال: وهذه من ملابس الرؤوس، وكذلك القَلُنسوة والقَلسَاة، والقُلَنسِية والقَلَنساة والقَلَنيِسة، وتجمع: قَلانِس وقَلاسِي وقَلَنسِي، وتسمى القلنسو وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم – يلبس قلنسوة مصرية، وكان يلبس في الحرب قلنسوة لها أُذنان. وعن السيدة عائشة – رضيّ الله عنها – قالت:” إنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم – كان يلبس من القلانس في السفر ذوات الآذان، وفي الحضر المُشمَّرة “، يعني الشامية، وذكر ابن عباس – رضي الله عنهما – أنَّ لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاث قلانس: “بيضاء مصرية، وقلنسوة بُرد حَبرة، وقلنسوة ذات آذان يلبسها في السفر”.
العمائم فخرُ العرب
أما “العمائم”، فهي من أغطية الرأس التي عرفها العرب قبل ظهور الإسلام وتعدّ العمامة فخر العرب وعلامة عزهم، وهي أحسن ملبس يضعونه على رؤوسهم، وللعمامة مكانة كبيرة عند العربي، فهي رمز الشرف والرِفعَة، فإذا أُهِينَت لَحِقَ الذُل بِصَاحِبِها، وإذا هُضِمَ الرجل وأُهينَ ألقى بعمامتِهِ على الأرض وطالب بإنصافِهِ ولهذه المكانة الكبيرة التي تحتلُها العمامة في نفوسِهم، اتخذوها لِواءً عند الحرب، فينزع سيّد القوم عمامته ويعقِدها لواءً، لِما في ذلك من معاني التبجيل والاحترام لأنها عمامة سيّد القوم، ولكرامة العمامة عند العرب اتخذوها شعاراً لهم ورمزاً لعروبتهم، سأل غيلان بن خرشة الأحنف بن قيس: ” يا أبا بحر، ما بقاء ما فيه العرب قال: إذا تقلدوا السيوف، وشدّوا العمائم، واستجادوا النعال، ولم تأخذهم حِميّة الأوغاد”، وكان العرب يلوذون بعمامة الرجل إذا نزل بهم مكروه أو طلبوا حماية، ومن ذلك قيل: ” سيِّدٌ مُعَمَّم ” بمعنى أن كل جناية يرتكبها الجاني من العشيرة فهي معصوبة برأسه، قال الشاعر عمرو بن امرئ القيس:
يا مـالِ والسيّدُ – المُعمُّمُ قـد
يُبطره بعد رأيه السَّرفُ
نحـنُ بما عندَنا وأنت بما
عندَكَ راضٍ والرأيُ مختلفُ
والمُعَمَّم هو الرجل الذي سوّدَهُ قومه عليهم، يقول الشاعر طرفة بن العبد:
أبي أنزلَ الجبَّارُ عاملُ رُمحهِ وعمِّي الذي أردَى الرئيسَ المُعَمَّمَا
والعمامة هي من لباس الأشراف السادة الكرام، فهذا أحد الشعراء يمدح بني تميم، بأنهم يلوونَ عمائِمِهِم على كرم، بقوله:
إذا لَبِسوا عمائِمَهم لَوَوهَـا
على كَرَمٍ وإن سَفَرُوا أناروا
يَبيـعُ ويَشترِي لهُمُ سِواهُم
ولكن بالطِّعانِ هُم تِجَـارُ
إذا ما كُنتَ جارَ بنِي تميمٍ
فأنتَ لأكرمِ الثَّقلينِ جـارُ
وكانت عمامة السادة المُوسرينَ أكبر حجماً من سواها، فلا يستطيع أحد الصعاليك مثلاً لبسها أمثال الشاعر السليك بن السلكة الذي قال:
ألا عَتبت عليَّ فصارَمَتنِي
وأعجَبَها ذوو العِمَمِ الطِوالُ
{ ما تسميات للعمائم؟
– تُسمي العرب العمامة تاجاً، ويطلق هذا التاج على الإكليل والقَصَّة والعمامة على التشبيه، ومن الشواهد الشعرية على ذلك قول شمعلة بن أخضر الضبيّ في رثاء بسطام ابن قيس الشيباني في يوم شقيقة الحسنين، حيث سمى عمامته تاجاً:
جلبنَا الخيلَ من أكنافِ فَلجٍ
ترى فيها من الغَزوِ اقورارا
بكلِّ طِمِـرَّةٍ وبكُلِّ طِـرفٍ
يَـزينُ سَوادُ مُقلتِهِ العِذاَرا
حَوالَي عَاصبٍ بالتاجِ مِنَّا
جبينَ أغرَّ يَستلبُ الـدُّوارا
{ مَن لبس من العرب هذا التاج فوق هاماتهم؟
– لقد لبس بعض زعماء العرب قبل الإسلام هذا التاج على رؤوسهم قبل مجيء الإسلام الحنيف، ومنهم الأشعث بن قيس ملِك كِندَة الذي كان يُحيَّا بتحية المَلِكِ، فلما أسلمَ بعد ارتداده، زوجه الخليفة الراشد أبو بكر الصدِّيق – رضي الله عنه – أخته أم فروة بنت أبي قُحافة، فتواضع الأشعث بعد التكبُّر وتذللَّ بعدَ التجبُّر، ولبس التاج أيضاً ذو الكِلاع ملِكِ حِميّر، وروي بأنه قَدِمَ على أبي بكر الصدِّيق – رضي الله عنه- في عشيرته وقومه وعليه التاج فلما شاهد ذو الكِلاع لباس الصدِّيق قال: ما ينبغي لنا أن نفعلَ بِخِلافِ ما عليه خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – فنزع لباسهُ الأول وتشبَّهَ بأبي بكر الصدِّيق. وسُميَّ عدد من الرجال بذي التاج نحو: أبو أُحيحة سعيد بن العاص بن عبد شمس، الذي كان إذا اعتم بعمامته لم يَعتَمّ معه أحدٌ، حتى قال الشاعر في عِمَتِهِ:
وكان أبو أُحَيحَةَ قد علمتُم
بمكةَ غيرَ مهتضمٍ ذَميـــمِ
إذا شـدَّ العِصابَةَ ذاتَ يَومِ
وقَامَ إلى المجَالسِ والخُصومِ
فقد حَرُمَت على مَن كانَ يَمشِي
بمكَــةَ غيرَ مُدَّخلٍ سقيـمِ
{ وغيرهم؟
– كانت العمامة من ألبسة أشراف الجاهلية، فقد لبسها سادتهم وفرسانهم وخطباؤهم، وبخاصة حين كانوا يحضرون الأسواق العربيّة القديمة كسوق عكاظ وذي المجاز والمجَنة، وكانت العمامة إحدى سِمات الخطباء في هذه الأسواق التجارية والأدبية، فكان الخطيب فيها يلبسُ مَلحَفَة ورداء وقميصاً وعمامة، ويحملُ عصاً بيده، وربما يستغني عن بعض الملابس لكنه لا يستغني بأيِّ حال من الأحوال عن مسك العصا وارتداء العمامة أمام الحاضرين، ونجد الشعراء قد مدحوا لابس العمامة على أنه من ذوي الشرف والسماحة والنجدة بقول الكناني:
تنخَّبتُها للنّسلِ وهي غريبةٌ
فجاءت به كالبدرِ خِرقاً مُعَمَّما
فلو شاتَمَ الفتيانَ في الحيِّ ظالماً
لما وجدوا غيرَ التكَذُّبِ مَشتَما
وهكذا نجد اهتمام العرب بالعمامة ونظافتها، وكيفية لوثها، حتى نرى بأنّ أشدّ ما يُشتم به الرجل هو الانتقاص من عمامته.
{ كيف كانت أغطية رؤوس النساء؟
– عرفت النساء عدّة أنواع لأغطية الرؤوس ولها أسماء، حيث كانت النساء يُغطين رُؤوسهن بـها: كالخمار والقناع واللَّغام والمِعجز والنِّقاب والوصواص، فكانت المرأة الجاهلية تغطي رأسها بالخمار، وهو النَّصِيف، أي شقة على الرأس تلُفُ على جزء من الوجه، وسُمِيَّ من العرب الجاهليين بذي الخمار ومنهم الأسود العنسي، وعوف بن الربيع ذوالرمحين، وسميّ ذا الخمار لأنه قاتل بخمار امرأته، وعرفت بذات الخمار هند بنت صعصعة جد الشاعر الفرزدق، كونها قد وضعت خمارها وفاخرت بقولها: مَن جاءت نساء العرب بأربعة كأربعة يحلُ لي أن أضع خماري معهم فلها صرمتي: أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع، وزوجي الزبرقان بن بدر – والصرمة: القطعة من الإبل نحو ثلاثين – وقد دخلت هند على هؤلاء فألقت خمارها، فقالوا لها: ما هذا، ولم تكوني متبرجة، فقالت: داخلتني خُيلاء حين رأيتكم، فأي امرأة من العرب وضعت خمارها عند مثلكم فلها صرمتي!
{ وشواهد الشعراء على ذلكم؟
– نقرأ في الشعر وصف الشعراء للابسات الخمار أو الحواسر عنه، فهذا صخر بن عمرو يقول في أخته الشاعرة الخنساء، إنّها حين موته سوف تخرق خمارها، وتلبس صدراً من شَعَر، زيادة في حزنها عليه، وذلك عندما لامته زوجته أن شاطرها أمواله، ومنحها أحسن الشطرين:
والله لا أمنحها شِرَارَها
ولو هَلَكتُ مَزَّقَت خِمَارَها
وجعلتْ من شَعَرٍ صِدَارَها
ويشبه الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد حاله عندما كان سادراً كالمغطي رأسه بخمار، فلما أفاق إلى رشده بعد ذلك، كأنما قد أزال عنه ذلكم القناع والخمار فانشد:
كُنتُ فيكم كالمُغَطِّي رأسَهُ
فانجلَى اليومَ قِنَاعِي وخُمُرْ
سادِراً أحسِبُ غَيِّـي رَشَداّ
فَتَنَاهَيْتُ وقد صَابَتْ بَقُـرْ
وهناك شعراء أراد بعضهم الخمار لكنه يبغي العمامة كقول عمرو بن معدِ يكرب:
ونحنُ هَزَمْنَا صَعْدَةَ بالقَنَا
ونَحنُ هَزَمْنَا الجَيشَ يومَ بَوَارِ
جَوافِلَ حتى ظَلَّ جُنْدٌ كأنَّهُ
منَ النَّقْعِ شَيخٌ عاصِبٌ بِخِمَارِ
وتُعد النظم من حلي الرأس والشعر التي عرفتها المرأة منذ العصر الجاهلي التي كانت تزين الضفائر والجبين، وكانت متعددة منها نظم الودع ومنها المنضود بالياقوت والشذر يقول فيها حاتم الطائي:
ونحراً كفَى نُور الجَبين يُزينه
توقد ياقوت وشَذرٍ مُنظما
{ كل هذا قبل الإسلام، فما حال تلكم العمائم في ظلّ الإسلام الحنيف؟
– تُعْرَفُ الألبسة بأنّها ما يستر البدن ويدفع الحرّ والبرد، ومثله الملبس، واللِبس. ولبِسَ الكعبة والهودج: كسوتهما. وعرف عن العرب أيام النبي الأكرم محمد – صلّى الله عليه وسلم – والخلافة الأولى أنهم قد انصرفوا عن الاهتمام بلباسهم، ولزموا جانب التقشف والبساطة، ذلك لأنّ طبيعة الإسلام الحنيف في أول دعوته من جهة، وتأثر النّاس وإقتدائهم بالرسول – عليه الصلاة والسلام – والخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – من جهة ثانية أدى إلى هذه الظاهرة.
وإذا ما تتبعنا لباس الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام رضيّ الله عنهم، نلحظ أقلّ بساطة من لباس رسول الهُدى محمّد بن عبدالله- عليه الصلاة والسلام- لأنّهم بقوا مُحافظين على سُنتهِ ومُقتدين بِهَديِه النبويّ الشريف. وكان لباس الرأس للرجال في هذه الفترة العمامة، لباساً مهماً لديهم، وممّا يدلُ على أهميتها عندهم ما نُسِبَ إلى النبي محمّد – صلّى الله عليه وسلم – قوله:”العمائم تيجان العرب”. والعمامة في لغة العرب من لباس الرأس، وربما كُنِيَّ بها عن البَيْضَة أو المغِفر، وتجمع العمامة على عَمَائِمُ وعِمَامٌ، وتقول العرب للرجل إذا سُوِّدَ: قد عُمِّمَ، لأنّ تيجان العرب العَمائم. وجاء في الحديث الشريف: ” فرق ما بيننا وبين المُشركين العمائِم على القَلانس”. وذكر عن رسول الله – عليه الصلاة والسلام – أنه:” دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء”.
تاج عراقي
{ نجد تبايناً في أطوال وألوان العمائم، فماذا عنها؟
– عُدّت العمامة تاجاً للعربيّ، وإذا كان الفُرْس يُتوجون رؤوسهم بلبس التاج، فقد توج العرب رؤوسهم بلبس العمائم، وهي فخر العرب وعلامة لعزهم، حتى قيل فيها: ” اختصت العرب بأربع: العمائم تيجانها، والدروع حيطانها، والسيوف سيجانها، والشعر ديوانها”. وكانت العمائم من علامات الشرف والسؤدد عندهم. وقال أحد الشعراء مادحاً ومفتخراً:
فجاءت به سبط البِنان كأنّما
عِمَامَته بينَ الرجالِ لواءُ
وقال آخر في ذات المعنى:
تلوثُ عمامةً وتَجُرُّ رُمحاً
كأنك من بني عبد المدانِ
كذلك كانت العمائم ملبسٌ خاصة العرب، أصحاب الجاهِ والنفوذ عند الحضر وفي البادية لتميزهم عن الآخرين، وكان العرب يضعون على رؤوسهم أغطية أخرى أخفُ وزناً وثمناً من العمامة، ولذلك كانوا يُكنُونَ عن الرخاء والرفاه بإرخاء العمامة، لأنَّ الرجل إنما يُرخي عمامته عند الرخاء، يقول ثعلب في ذلك:
ألقَى عصَاهُ وأرخَى من عِمَامَتِهِ
وقَالَ ضَيْفٌ فقُلتُ الشَيبُ قالَ أجَلْ
وللعمائم عند العرب ألوان عرفوها قبل الإسلام منها: البيض، والسُود، والصُفر، والحُمُر، وكانت العمائم الصُفُر تميز عمائم السادة، فهم يلبسون العمائم المهراة، وهي الصُفرة لباس سادة العرب، فكانوا يصبغون عمائمهم بصفرة ويعصفرونها بالعصفر، ولنا شاهد ماكان يفعله الزبرقان بن بدر، بقول أحد الشعراء الذي أشار إلى سَبِّ الزِّبرقان والسَبُّ هو العمامة، فقال:
وأشهدُ من عَوفٍ حُلولاً كثيرةً
يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبرقان المعَصْفَرا
{ وعمائم الصحابة الكرام؟
– أمّا الصحابة الكرام- رضي الله عنهم- ومن تلاهم فقد لبسوا العمائم البيض والسُود والصُفُر، ولبس العربيّ العمامة الحمراء، وممّن لبسها الشَعبِيّ، ويذكر عن الصحابي الجليل حمزة بن عبد المطلب – رضي الله عنه – أنّه وضع في عمامته يوم معركة بدر ريشة حمراء، وكان بعضهم يجعلون لعمائمهم أعلاماً حمراء. أما الآخرون فلبسوا العمائم السُود، حيث كان النبيّ محمد – صلى الله عليه وسلم – يَعْتَم بعمامة سوداء، ولبسها أيضاً الخليفتان عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب – رضي الله عنهما – ومن الصحابة والتابعين الكرام عبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن المسيب، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو موسى الأشعري وغيرهم. وروي عن رسول الله – عليه الصلاة والسلام أنّه قال في لبس العمائم البيض:” البسوا البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم”. ولبس العمائم البيض الصحابة – رضي الله عنهم – إقتداءً بهدي الرسول الكريم. ولمّا كانت الملابس الخُضر مألوفة وشائعة الاستعمال لأن الأخضر هو لباس أهل الجنة حسب المعتقد، وأنّ عمائمهم خضر اللون، فقد لبسها النبي – صلى الله عليه وسلم _ ولم تظهر العمائم الخُضر في العصور الإسلامية إلاّ في عهد الخليفة العباسي الأمين بن هارون الرشيد في بغداد. كما وتباينت أطوال العمائم عند العرب، ولم يثبت في طول عمامة النبي – عليه الصلاة والسلام – حديث صحيح. لكنّ الإمام ابن الجوزي ذكر عن الإمام النووي أنّه -صلى الله عليه وسلم – كانت له عمامة قصيرة وعمامة طويلة، وأن القصيرة كانت سبعُة أذرع، والطويلة اثني عشر ذراعاً.
{ هل ثمة فوائد من لبس العمامة؟
– رُوِيَت حكايات وأقوال عن فوائد العمامة لدى العربيّ، فقد سُئل أبو الأسود الدؤلي عن العمامة فقال:” هي جُنَّة – وقاية – في الحرب، ومكَنَّة – حافظة – من الحرِّ ومِدفَأة من القُرِّ – البرد – ووقارٌ في النَّدى – المجلِس – وواقية من الأحداث، وزيادة في القامة، وعادة من عادات العرب “. وقيل لأعرابيّ: إنّك لتُكثر لبس العمامة؟ فقال: إنَّ شيئاً فيه السمعُ والبصر لجديرٌ أن يُوَقَّى من الحرِّ والقُرِّ. فالعمامة تُضفي على مُعتمرها جمالاً، وقال عنها الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:” جَمَالُ الرجلِ في عِمّته وجمالُ المرأة في خُفَّها “. والعمامة سترٌ للرأس من الحوادث، وهي تستر ما يشين الرأس من شيبٍ أو صلعٍ مثلاً، قال الشاعر:
إذا ما القلاسي والعمائم أُجْهِلَت
ففيهن عن صُلع الرجالِ حُسُورُ
{ حدثنا عن العمائم في عصر بني أميّة؟
– استمر لبس العمامة أثناء الخلافة الأموية في بلاد الشام، فقد رُويَ أنّ أهل المدينة لما ثاروا على يزيد بن معاوية اجتمعوا في المسجد النبويّ، فقال عبدا لله بن عمر المخزومي: قد خلعتُ يزيد كما خلعتُ عمامتي هذه ونزعها من رأسه، ففعل النّاس مثل ذلك حتى كثُرت العمائم. وفي هذه الحادثة قال الشاعر:
رأيت بني مروان جَلَّت سيوفهمعشا كان في الأبصار تحت العمائِمِ
وقد روي أن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك حين نصحه خالد بن صفوان بكى حتى بَلَّ عمامته. ومن الرجال المشهورين أيام بني أمية الوالي الحجاج بن يوسف الثقفي وخطبته المعروفة في مسجد الكوفة والتي افتتحها متمثلاً بقول الشاعر:
أنا ابن جَلاَ وطلاَّعُ الثّنايا
متى أضعِالعمامَةَ تَعرفُوني
{ وتيجان النساء الأمويات؟
– اهتمت النساء في العصر الأموي بالتزيين والتجميل في الملابس، فيروى عن سَلامة القس المغنية الأموية المشهورة حين أراد يزيد بن عبد الملك شراءها، فإنّ أهلها طلبوا من رُسل الخليفة هشام بن عبدالملك أن يتركوها عندهم أياماً ليجهزوها بما يشبهها من حليٍّ وثياب وطيب وصبغ. وقد استخدمت أولئك النسوة التاج كحلية رأس. ويذكر بأن المغنية جَميلة كانت تضع على رؤوس جواريها التيجان. ووردت استعمالات للنظم من حُليِّ الرأس والشعر عند الأمويات في الشام، بقول الشاعر عمر بن أبي ربيعة:
وزبرجد ومن الجُمان به
سَلس النظام كأنّه جَمرُ
وبدائد المِرجان في قَرن
والدّرُ والياقُوتُ والشذرُ
{ نصل إلى العصر الذهبي للخلافة العباسية في بغداد السلام؟
– أجل لقد ظلت العمامة مستخدمة في ظل الخلافة العباسية في العراق، حيث اهتموا بها وأخذوا يكبرون حجمها، وكان العباسيون أكثر تمسُكاً بها وكانت لباساً ملازماً للخلفاء في أغلب الأوقات حتى اعتبرت من ألبسة الخلافة، وكانت عمائم خلفاء بني العباس ورجال الدولة في المناسبات الرسمية العمائم السود، ويذكر أنّ بعض عُلماء العصر العباسيّ الذين لم يجيزوا خلع العمامة إلاّ للمناسك. وقد روى الخليفة العباسيّ أبو جعفر المنصور مؤسس مدينة السلام – بغداد – مناماً في صغره رأى فيه النبيّ محمد – صلى الله عليه وسلم – ومعه أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وبلال بن رباح الحبشي – رضي الله عنهم – قال المنصور: ” فعقد لي لواء وأوصاني بأُمته وعمَّمَني بعمامة كوَّرَها ثلاثة وعشرين كوراً “.
تطور حضاري
{ هل شهد العصر العباسي الذهبي ظهور أغطية جديدة للرأس؟
– نتيجة تطور الحضارة العربية الإسلامية ولكون بغداد هي عاصمة الخلافة الإسلامية فقد ظهرت فيها الرصافية السوداء وهي عمامة سوداء اللون لبسها الخلفاء العباسيون عند توليهم الخلافة، وسميت بالرصافية نسبة إلى مكان صنعها في صوب الرصافة ببغداد. وذكر الجاحظ أنّ القوم كانوا يلبسون العمائم مباشرة أو تلبس على قلانس أو الرصافية، بينما أورد الإمام ابن الجوزي من أنّ الخليفة العباسيّ المسترشد بالله جلس في قُبة على سدّة وعليه الثوب المُصمّت والعمامة الرصافية. وتمثل الكرسية أو الكرزية، نوعاً من أنواع ألبسة الرأس الرجالية وهي عبارة عن عصائب من الصوف الطويلة يلفونها على الرأس خمس أو ست لفّات باعتبارها عمامة.
ثم ذكر الكاتب بديع الزمان الهمذاني في إحدى مقاماته المعروفة فائدة العمامة في الأسفار، فلما هاجم الأسد صاحبه عيسى بن هشام ورفقته فحشر عيسى بن هشام عمامته في فمّ الليث، فمات الليث اختناقاً بعد أن جلس الأسد على صدر أحد أصحابه، وقال: ” وأفترش الليث صدره، ولكنيّ رميته بعمامتي وشغلت فمه حتى حقنت دمه، فقام الفتى فوجأَ بطنه،”.
كذلك هناك التيجان والشاشية، حيث أوردت مصادر كتب التاريخ والآثار والموسوعات والأدب العربيّ الكثير من أغطية الرأس التي عُرفت في العصور التي سبقت العصر العباسي، ولكننا نجدها أكثر استفاضة في عهد العباسيين نظراً للتقدم الحضاريّ الذي عمَّ الدولة العربيّة الإسلاميّة في شتّى مناحيّ الحياة العلميّة والثقافيّة والفنيّة وغيرها مما جعلها تشعُ بإبداعاتها وألقها لتمنحهُ على سائر الأمم المجاورة. ونورد لتلك الأغطية التي وضعها الرجال والنساء على رؤوسهم في ذلك العصر الذهبي، فالتاج: معروف، والجمع أتواجٌ وتيجانٌ، والفعل التتويج. والمُتوَّجُ هو المُسَوَّدُ، وكذلك المُعَمَّمُ. ويقالُ: فتَتَوَّجَ أي ألبَسَه التاج فلبسه. وعُرِفت التيجان المصنوعة من الذهب والمُطعمّة بالأحجار الثمينة منذ أوائل العصر العباسي، وبقيت مستخدمة إلى نهايتهِ وما بعده، فقد جهز الخليفة هارون الرشيد زوجته زبيدة بعدد من التيجان بالإضافة إلى الجواهر والحُلِيِّ، كذلك عُرضت جارية أمام الخليفة المأمون بن هارون الرشيد وكان على رأسها تاجٌ من الذهب.
أما الأخروق فهو نوع من التيجان الصغيرة المعمولة من الذهب المُرصعة بالأحجار الكريمة في أعلاه ريش الطواويس التي يستعملها النساء في أغطية رؤوسها، وتتحلى بها، وهذه تُشبه الزينات الرأسية التي تحمل في أقطار الشرق القديم اسم التاج. وروى الجغرافـي المسعودي أنّه: عندما قُلِّدَ المعتز الخلافة تُوِّجَ بتاج من الذهب. وأعتبر التّاج من جملة الخلع التي يخلعها الخلفاء على قوادِهِ. فلما ولي الخليفة الواثق الخلافة عام 227- 232هـ استخلف القائد إشناس على السلطنة وألبسه تاجاً مُرصعاً بالجواهر. ومُنِحَ التاج هدية في بعض المناسبات مثلما حصل في زواج الخليفة العباسي المُعتضِد بالله من قطر الندى ابنة خمارويه بن محمد بن أحمد بن طولون.
{ أبرز أغطية الرأس الأخرى التي عُرِفَت في عصر بني العباس؟
– هناك التَخْفِيفة والدنية، حيث أتخذ الناس في مناسبات بعينها لباساً للرأس يُدعى بالتخفيفة، وتعني الطاقية، وذكر ابن أبي أُصيبعة أنّه كان على رأس الحكيم – الطبيب – موفق الدين ابن صقلاب كوفية وتخفيفة. أما الدنية فشاع استخدامها كلباس للرأس عند قليل من الناس في القرن الثالث الهجري، وهي قلنسوة في شكل الدنِّ طولها شبران، وعُدت الدنية من ألبسة القُضاة المميزة لهم، لكنهم استبدلوها بعد فترة بالعمائم السُد المصقولة. ووردت الإشارة إلى دنية القضاة عن قاضي الإسكندرية: ” .. ضحك القاضي حتى اهتزت حتى هَوَت دنيته وذوت سكينته”.
كما عرف العصر العباسي الشاشيّة والطويلة والطرحة، والشاشية أحد أنواع أغطية الرأس الرجالية وهي منسوبة إلى مدينة الشاش في بلاد ما وراء النهر، وهو لباس غير عربي ولكن العرب استعملوا الشاشية منذ عهد الخليفة المعتصم بالله بن هارون الرشيد- مؤسس مدينة سُرّ مَن رأى- سامرّاء اليوم، حيث سلك الخليفة المعتصم بالله مَسْلَك أخيه الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، وغلب عليه حبّ الفروسية Oولَبِسَ القلانس الشاشية فلبسها الناس اقتداءً بفعله وإتماما به لذا سُميت هذا الشاشيات بالمعتصميات نسبة للمعتصم بالله! بينما تُعد الطرحة من ألبسة الرأس لدى قضاة العباسيين، بل وكانت شعار قاضي القضاة عندهم، وكان لا يحمل هذه الطرحة إلاّ القاضي الشافعي، وقد اعتبرت الطرحة من ألبسة الخلافة، حيث أشار ابن الجوزي إلى أنّ الخليفة المقتدر عندما بُويع بالخلافة يوم الجمعة ثاني عشر شعبان سنة 467 هـ جلس في دار الشجرة بقميص أبيض لطيف وطرحة قصب. ويعتبر الشاش من المنسوجات التي برع الموصليون في العراق بنسجها وهو نسيج قُطني وكان يتخذ منه سُراة القوم وأغنياؤهم عمائِم يزينون بها رؤوسهم.
كذلك ارتدى العباسيون الطويلة غطاءً لرؤوسهم والطويلة لفظ يُطلق على نوع من القلانس، وفي رواية لابن الأثير أنه عندما أحضر المتوكل ألبسه ابن أبي دؤاد الطويلة – أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاة – ونقرأ أنّ ملك الروم عندما أرسل رسوليه في سنة 305 هـ إلى الخليفة المقتدر بالله العباسي، ولمّا وصلا وجدوا عليه السواد وعلى رأسه الطويلة. وكانت تسمى بالطويلة على أيام الخليفة المستكفي. ويذكر المؤرخون بأنّ هذا النوع من غطاء الرأس قد نُقل إلى أوربة إبّان الحروب الصليبية وجعلوها لباساً للنساء في الغرب.
{ وغير ذلك؟
– هناك القَلنسُوة وهي غطاء الرأس المشترك مابين الرجال والنساء والقلنسُوة، والقَلنسُوة والقُلَسيْة والقَلنساة لباس معروف، وهي مايُلاثُ على الرأس تكويراً، كما هي الحال في العمامة، والقَلنسُوة تشير إلى الطاقية أو العرقية أو الكلوتة التي توضع تحت العمامة. وفرّق النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – بين المسلمين والمشركين في لبس غطاء الرأس بينهما، فقال ركانة: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول:” فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القَلانس”. كذلك عُرِفَ استخدام الرجال للكوفية المنديل المربع في العصر العباسيّ الذي اشتق اسمها من مدينة الكوفة بالعراق، وعرَّفَ رينهارت دوزي “الكوفية” في كتابه المعجم المفصل بأسماء الملابس عند العرب بقوله: بأنّها منديل مربع يُلبس فوق الرأس وله من الطول ذراع ومثله من العرض، وهو من ألوان مختلفة ولونه أحمر غامق أو ضارب إلى الدكنة أو اللون الأخضر الزاهي، ومن الأصفر أحياناً ترقيطات واسعة، وأحياناً ضيقة وعلى طول النهايتين المتقابلتين لها أهداب كثيرة مؤلفة من شرائط وتطوى الكوفية بصورة منحرفة وتوضع على الطاقية بهيئة تتدلى منها على الظهر الزاويتان المثنيتان والزاويتان الأُخريان على الجهة الأخرى، وهناك قطعة من الصوف أو عمامة تلف على العموم حول الطرحة. ويكاد لا يختلف وصف دوزي بصورة كبيرة عن الكوفية المستعملة في الوقت الحاضر في العراق وبعض الدول العربية، وإن قطعة الصوف التي ذكرها وتكون مفتولة كالحبل ما هي سوى العقال العربي المعروف. وأشار بعض الإخباريين للكُوفية: أنَّه لما خلع الطائع على عضُد الدولة ولقبَّه تاج المِلَة حَمَلَ إليه قَلنسُوة وَوَشيًّ مُذهبَّة وكُوفية مُثقلة وذلك سنة 355هـ .
غطاء الرأس
{ وأغطية الرأس للنساء العباسيّات؟
– استخدمت النساء العربيات العديد من أغطية الرأس البخنق والعصَابة والقناع، وكان الخمار هو الحجاب أو القناع – برقع المرأة- يُغطي مُقدمة العُنق ويستر الذقن والفمّ ويكون مُعلقاً بقمة الرأس. ولم تكن الخُمُر السُود شائعة في الحجاز في بداية الإسلام بل كانت فيما يظهر معروفة في العراق، وقد روى أبو الفرج الأصبهاني: أنّ تاجراً من أهل الكوفة قَدِمَ المدينة بمواد فباعها كُلها وبقيت السُود منها فلم تنفق، وكان صديقاً للشاعر الدارمي فنظم له قصيدته المشهورة:
قُل للمليحة ذات الخمار الأسود
ماذا فَعَلْتِ بناسكٍ مُتَعبّدِ
وهكذا تهافتت النساء على شراء الخُمر السُود وأنهي البائع تصريفها بسرعة بعد ذيوع شِعر الدارمي عنها. ويذكر بأنّ لبس الخِمار كان مقصوراً على الحرائر، ثم أخذت الإماء يلبسنه فلما جاء الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز حرَّمَهُ على الإماء حيث قال: لاتلبس أَمَةٌ خِماراً ولا يَتَشَبَهنَّ بالحرائر.
أما أغطية الرأس فتعددت خلال الخلافة العباسية، حتى أصبح لتلك الأغطية أسماء وألوان وطبقات اجتماعية يرتدينَه على رؤوسِهِن لذا أُعتُبِرَ البخنق من بين ألبسة الرأس الخاصة بالنساء وكانت المرأة تغطي به رأسها، ما أقبل وما أدبر غير وسطها، كذلك هو خِرقَة تُخاط مع الدرع فيصير كأنّه ترسٌ فتجعله المرأة على رأسها، وظل البخنق مستعملاً إلى العصر العباسي، وأشار إليه الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي في إحدى قصائده لأنه أستُعمِلَ للصغار فيقول:
يُقتَلُ العاجِزُ الجَبَانُ وقد يَعْــ
ـجِزُ عن قَطعِ بُخْنُقِ المولودِ
كما نجد العِصَابَة كل ما يُعصّب به الرأس والعمائم يُقال لها العَصائب .وقد استخدمت العَصَائب بصورة واسعة من قبل الجواري اللواتي كُنّ يزينّ عصائِبِهِنّ بمجموعة من الأشعار ذات الأغراض الشعرية المفرحة، ووجد في العصر العباسي ابتكار نُسِبَ إلى عُليّة بنت المهدي أخت هارون الرشيد يقتضي من النساء ترصيع عَصائبهنّ بالجواهر والأحجار الكريمة.
كذلك غطت المرأة رأسها ووجهها وجمالها بالقناع، وشارك الرجال النساء في لبس القناع بين طبقات المجتمع العباسي، باعتباره من الألبسة المهمة، ولبسته المرأة في أجمل المناسبات لديها ألا وهي الزواج. وإضافة لأغطية الرأس النسائية تلك، هناك النقاب الذي يُعَدُ من أنواع البراقع ولكن حجمه أصغر، وكان يلبس في أوقات حضور مجالس الوعظ أو الأعراس.
– ويبدو بوضوح أنّ القَلانس التي اشترك في لبسها الرجال والنساء على حدٍّ سواء، قد أحبته المرأة حتى شاركت الرجل في لبسه، وفضلت الجواري في ذلك العصر لبس القلانس وقت الأفراح، وقمنَ بتطويقها بعصَابة، ولبست الموسيقيات قلانس ذات نتوء بارز من الجهة الأمامية.
{ ماذا عن البيضة؟
-عرف المسلمون أغطية رأس خاصة بالمقاتلين، البيضة والمِغْفَر- التي لبسها المقاتلون المسلمون أثناء الفتوحات والغزوات والمعارك، ولبس المقاتلون المسلمون عمامة سُميت بعمامة المعتصم بالله التي لبسها عندما توجه من عاصمة الخلافة العربية الإسلامية سُرَّ مَن رأى متوجهاً لفتح مدينة عمورية في أقاصي تركية الحالية عندما نادته امرأة عربية” وامعتصماه” قد سُجنت عند البيزنطيين، فأطلق سراحها وفتح المدينة، ولعلّ الناس صاروا بعد هذه الحادثة يقلدون هذه العمامة فعُرِفت بعمامة الغُزاة .وأطلق اسم العمائم الثغرية أيضاً نسبة إلى الثغور – المدن الحدودية – التي سكنها المجاهدون، وقد تعمم بها أحمد بن علي البُستي ت403هـ، وكان في بدء أمره يلبس الطيلسان ويسمع الحديث ويقرأ القرآن على شيوخ عصره، ثم لبس بعد ذلك الدراعة، وسلك في لِبسه مذاهب الكُتّاب القدماء، وكان يلبس الخُفين والمُبطنة، ويتعمم العِمّة الثغريّة.
{ ومسك ختام أغطية الرأس؟
– لا بُدّ أن نشير إلى غطاء الرأس في بلاد الأندلس، حيث نجد أهلها قد اعتمروا العمائم والقبعات والقَلنسُوة أغطية لرؤوسهم، فقد اعتمر المُوحدون الأندلسيون العمائم، ولكن تخلى معظمهم خاصة في شرق البلاد عن اتخاذ العمائم كأغطية للرأس خلال القرن الثالث عشر الميلادي. بينما أقبل سكان غرب الأندلس على لبس العمامة خاصة لدى طبقة الفقهاء والقضاة. وكانت ذؤابة العمامة لا تنسدل على أحد الجانبين ولكن كانت توضع خلف الأُذن اليُسرى، وقد حُرِمَ لبس العمائم على الذميين من اليهود، وفُرضَ عليهم ارتداء طاقيات يبلغ أطوالها إلى تحت آذانهم. وصُنعت هذه الطاقيات الصغيرة من قماش الصوف المُبطّن بالقطن. وقد شاع استخدام الطاقيات ولكن اليهود أرادوا تغيير طاقياتهم فاستشفعوا كثيراً فأمرهم أبو عبدا لله بلبس ثياب صفر وعمائم صفر أيضاً، واستمروا يلبسون هذا الزِيّ حتى عام 621 هـ.
ولبس الخلفاء الأندلسيون القلانس فقط. وكانت على شكل مستطيل ومُزينة ببعض الجواهر والأحجار الكريمة. ونجد القبعات كأحد أنواع أغطية الرأس التي عُرفت بالأندلس وكانت تلبس في فصل الشتاء وصنعوها من فِرَاء حيوان يُسمى – القنلية – وهو أصغر حجماً من الأرنب وأحسن وبَرَاً منه. وإثر القرن الثالث عشر الميلادي أي عقب انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس وتولي النصارى الحكم بسقوط مدينة غرناطة، حرَّم النصارى على المسلمين ارتداء الملابس البيض والخُضر والأحذية البيض أيضاً أو إطالة شعر الرأس وحُرِمَ عليهم قصُّ اللِحَى حتى تطول.
أما بالنسبة إلى النساء الأندلسيّات فقد وضعنّ البُرنس كلباس على الرأس، الذي انتشر عن طريق الفتوحات الإسلامية، واقتصر لبس البُرنس على سيدات الطبقات العليا، وكان يُرصّع بالجواهر ويُحَلّى بسلسلة ذهبيّة مُطعَمّة بأنواع من الأحجار الكريمة. كذلك كانت النساء بالأندلس يُزيِّنَّ شُعُورَهنَّ بالأزهار أو يربطنه بخيوطٍ حريرية مُزينة بالأحجار الكريمة أو يَربِطنّ شُعورهنَّ بشبكة من الخيوط الذهبية. وقد تدفقت على الأندلس خاصة في مدينة قرطبة ذخائر من التحف والجواهر والتُحف أيام الخليفة عبد الرحمن الأوسط ممّا كانت تحتويه قصور بغداد. وكان الصاغة في قرطبة يصيغون هذه الُحلِّيّ وفقاً للطراز العراقيّ الذي استخدمته النساء لتجميل وتزيين أغطية الرأس المُرصعّة بالجواهر الثمينة والأحجار النفيسة.
*عن صحيفة الزمان
بوركت، سجّلت، فأوفيت