طلال حسن: أجمل شجرة في العالم (قصص للأطفال) (11)

المبدع الكبير الأستاذ طلال حسن

” 51 ”

النجمتان السعيدتان

مع الليل ، وقفتُ كالعادة ، فوق غصن الصفصافة ، أنظر إلى السماء ، فلاحت لي صديقتي النجمة ، تقف مثلي وحيدة ، حزينة ، في البعيد .
ودوى نعيب بومة :هو.. هو و و .
فتراجعتُ مرتعباً ، وتواريت بين الأوراق ، وقلبي يدق بعنف . وتناهى من الليل ، رفرفة أجنحة صغيرة ، خائفة ، إنه عصفور ، ووجدتني أتقدم قليلاً ، وأهتف به : تعال ، تعال هنا .
ومن بين الأغصان ، مرق عصفور في عمري ، وحط إلى جانبي ، وقال لاهثاً : أشكرك .
فوضعت جناحي فوق فمه ، وهمست له قائلة : صه ، البومة .
وحامت البومة فوقنا ، من غير صوت ، لكنها لم ترنا ، فولت مبتعدة ، لا تلوي على شيء . ونظر العصفور إليّ ، وقال : يا إلهي ، كادت البومة أن تمسك بي .
فرمقته بنظرة خاطفة ، وقلت : لا عليك ، إنها بعيدة عنا الآن .
وتلفت حوله ، وتنهد قائلاً : ما أجمل هذا المكان .
فتطلعت إلى السماء ، وقلتُ : إنني أقضي الليل هنا ، أتأمل تلك النجمة البعيدة .
وتطلع بدوره إلى السماء ، ثم قال : يبدو أنها لن تكون وحيدة .
وتطلعتُ ثانية إلى السماء ، ودققت النظر جيداً ، وإذا بنجم متلامع يقترب من النجمة ، فدق قلبي دقة غريبة ، دافئة ، وقلتُ : حقاً ، لم أرَ هذا النجم من قبل .
فنظر العصفور إليّ وقال : لابد أنها الآن سعيدة .
فنظرتُ إليه ، وقلت : وهو أيضاً سعيد .
وقال العصفور : نستطيع ‘ إذا شئت ، أن نتأملهما كلّ ليلة .
لم أجبه ، لكن عيني تعلقتا بعينيه ، فتابع قائلاً : سنبني لنا عشاً ، فوق هذا الغصن ، نجلس فيه ، ونتأمل معاً .. النجمتين السعيدتين .
ومع الربيع ، كنا نجلس جنباً إلى جنب ، في العش ، نتأمل النجمتين السعيدتين ، وتحت جناحيّ الدافئين ، يغفو صغارنا الثلاثة .

” 52 “

عش فوق شجرة تفاح

عند منتصف الليل ، أفقتُ من غفوتي ، وإذا الأشجار ترتجف ، ومن بعيد ، تناهى إليّ ما يشبه الأنين ، أهو عصفور يتوجع ، أم هي الريح ؟
كم أنا بردانة ، عندما كان إلى جانبي لم أشعر بالبرد ، حتى في الشتاء ، آه أين هو الآن ؟ أين هو ؟
التقينا لأول مرة ، فوق شجرة التفاح هذه ، فتفتحت الغابة أمامي ، وتضوعت مثل وردة ، وسرعان ما بنينا عشنا بين أغصان الشجرة .
في ليلتنا الأولى ، تعلقت عيناي بعينيه ، فابتسم قائلاً : سيكون لنا صغيران هذا الربيع .
وضحكتُ قائلة : أريد أحدهما ذكراً ، له عينان مثل عينيك .
فطوقني بجناحيه ، وقال : أنا أريدها أنثى ، أنثى بجمالك.
ما أبرد الليل بدون جناحيه ، سأتجمد من البرد ، وستجمد البيضتان معي ، آه ما أشد تعلقه بهاتين البيضتين ، لم يدعني أنهض عنهما يوماً ، إلا حين أعطش ، حتى الطعام كان يأتيني به بنفسه ، إلى أن حلّ اليوم المشؤوم ، لقد أراد أن يمضي ، ويأتيني بالطعام ، وتوسلتُ إليه أن لا يمضي ، فقد سمعت صوت الحدأة ، أكثر من مرة ، لكنه أصرّ أن يمضي ، ومضى .
أفقتُ على حركة قي صدري ، أهو قلبي ينتفض ، أم أنني أحلم ؟ لقد رحل الليل ، وها هي الغابة تستيقظ ، إنه يفتح عينيه البراقتين في مثل هذا الوقت ، ويقول لي : لقد حلمت ، أن إحدى البيضتين قد فقست .
فابتسم ، وأقول بصوت متعب : لم يحن الوقت بعد .
وشعرتُ بالحركة ثانية ، إنني لا أحلم ، يبدو أن الوقت قد حان . نهضت عن البيضتين ، ورحت أتأملهما ، ترى أيهما ستفقس ؟ وكالحلم تفتحت إحدى البيضتين ، وإذا فرخ صغير ، مبلل ، يطل منها ، ويتطلع إليّ . انتفض قلبي ، وانثالت الدموع من عينيّ ، فقد رأيتُ عصفوري نفسه ، يتطلع إليّ بعينيه البراقتين ، فمددتُ جناحيّ إليه ، وضممته إلى صدري .

” 53 “

أجمل شجرة في العالم

خرجتُ كالعادة من البيت ، وسرت متوكئة على عصاي . وكالعدة جلست في ظل شجرة الجوز . آه إنها أجمل شجرة في العالم ، ولعلي لم أعش حتى الآن إلا بفضلها ، فإنني معها أشعر بأني ما زلتُ فتية ، يضج في عروقي نسغ الحياة .
ومن بعيد ، لاح الجد سنجاب ، يسير متثاقلاً مع حفيده سنجوب . يا للجد الطيب ، سيبتسم لي على عادته ، ويقول : ليتني أعرف سرّ هذه الشجرة .
وعلى عادتي ، سأبتسم له ، دون أن أتفوه بكلمة . وهبت نسمة ، دق لها قلبي ، وارتفعت دقة في أعماقي ، سمعتها على بابي ، منذ فترة طويلة ، ولم أنسها ، ولن أنساها أبداً .
وفتحت الباب ، ومعه انفتح قلبي ، حيّاني : صباح الخير .
بهرتني عيناه ، لم أرد ، فقال : عفواً ، جئت من غابة بعيدة .
وفتحت له الباب على سعته ، وقلت : تفضل ارتح هنا ، ولو بعض الوقت .
ووضعت أمامه بندقاً .. ولوزاً وبلوطاً .. و .. و .. وضحك قائلاً : كفى أرجوك ، لست فيلاً ، إنني كما ترين .. سنجاب .
وقلت متلعثمة : كل ، لابد أنك جائع .
فرفع عينيه إليّ ، وقال : لنأكل معاً .
وندمت وما زلت نادمة ، لأني أجبته ، وقد احمرت وجنتاي : شكراً ، أكلت قبلك .
وحين انتهى من طعامه ، نهض قائلاً : عليّ أن أذهب الآن .
فقلت له : نم الليلة عندنا .
فردّ قائلاً : أشكرك ، إنني مستعجل .
وقدم لي جوزة ، وقال : أرجوك ، اقبلي مني هذه الهدية ، إنها من غابتي البعيدة .
لم آكل هديته ، وكيف لي أن آكلها ؟ وبقيت معي أياماً ، ثم زرعتها ، وها هي شجرة جوز كبيرة ، وها إني أجلس في ظلها ، وكأني مازلت سنجابة فتية .
وأفقت على الجد سنجاب يحييني : صباح الخير .
فرفعت عيني إليه ، وأجبته : صباح النور .
وابتسم الجد سنجاب قائلاً : إنني أعرف سرّ شجرة الجوز هذه .
فابتسمت ، دون أن أتفوه بكلمة ، إنه لا يعرف سرها ، ولن يعرفه ، فهي شجرتي ، وحياتي ، و .. وهي فوق ذلك .. أجمل شجرة في العالم .

” 54 “

ليلة لا تنسى

تراءى للبلبل ، وهو يرقد في عشه ، أن هناك من يراقبه ، ففتح عينيه ، وإذا بلبلة غريبة ، تقف على غصن قريب ، تحدق فيه ، وتراجعت البلبلة متمتمة : عفواً .
فنهض البلبل ، وقال : لا عليك .
ثم أعقب : أنت متعبة .
قالت البلبلة : وخائفة أيضاً .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : كاد طائر متوحش أن يقتلني.
ومن فوق الأشجار ، ارتفع صوت ممطوط ، فتمتمت البلبلة مرتاعة : الطائر .
فقال البلبل : هذه حدأة ، لا تخافي ، لا تخافي .
ورفرفت البلبلة مسرعة ، وحطت إلى جانبه ، فتطلع إليها ، وقال : أنت تبدين وكأنك لم تري غابة في حياتك .
أجابت البلبلة ، وهي تتلفت حولها : لقد ولدت في قفص ، ولعلي أخطأت حين هربت منه .
وتطلع البلبل نحو الأعلى ، وأصغى قليلا، ثم قال : اطمئني ، لقد ابتعدت الحدأة .
تنهدت البلبلة ، وقالت : يبدو أن الحياة صعبة هنا ، لابد أن أعود إلى قفصي.
قال البلبل : الشمس توشك على الغروب ، ابقي معي حتى الغد .
قالت البلبلة ، وقد بدا عليها التأثر : لكني أخشى أن أضايقك .
فابتسم البلبل ، وقال : بالعكس .
وغربت الشمس ، وأرخى الليل سدوله ، وراحت النجوم تتغامز في السماء . وطوال ساعات ظلا يتسامران ، وقالت البلبلة ، والنعاس يداعب عينيها : لن أنسى هذه الليلة .
فتطلع البلبل إليها ، وقال : يمكنك أن تعيشيها دائماً . وأرخت البلبلة عينيها ، وقالت : ليتني أستطيع ذلك .
فابتسم البلبل ، وقال : أنت متعبة ، نامي الآن .
تنهدت البلبلة ، وقالت بصوت ناعس : نعم ، لابد أن أستيقظ غداً مبكرة ، لأعود إلى القفص .
وجاء الغد ، وجاء بعد الغد ، وجاء .. الربيع ، لكن البلبلة لم تعد إلى القفص ، وهاهي الآن ، تحت النجوم المتغامزة ، ترقد هانئة إلى جانب البلبل ، وتحت جناحيها ، يغط بلبلان صغيران ، في نوم عميق .

” 55 “

وطال الشتاء

” 1 ”
برد ، ريح ، أمطار ، هذا الشتاء ، لقد طال ، وبدا أنه لن ينتهي . وتململت السنجابة العجوز في فراشها ، لعلها واهمة ، فقد تكون الشيخوخة ، من يدري . خيل إليها أنها تسمع أنيناً ووصوصة فوقها ، أهي الريح ، تهب بين الأشجار ؟ وخفت الأنين حتى تلاشى ، وارتفع صوت الوصوصة .
اعتدلت في فراشها ، هذه ليست الريح ، لابد أنها السنجابة ، إنها لم تزرها منذ يومين ، ولابد أنها .. ، ونهضت من فراشها ، ومضت إلى بيت السنجابة .

” 2 ”
طرقت الباب ، لم تسمع رداً ، طرقته ثانية ، فجاءها الرد ، سؤالاً قلقاً : من ؟
أجابت السنجابة العجوز : أنا .
فتح الباب ، وأطلت السنجابة ، وقالت : جدتي ! يا إلهي ، في هذا البرد ! تفضلي .
دخلت السنجابة العجوز ، فأغلقت السنجابة الباب ، وقالت : نحن في منتصف الليل .
قالت السنجابة العجوز : سمعتُ صوتاً ، وحسبت أنك ..
وارتفعت وصوصة ، من زاوية الغرفة ، فابتسمت السنجابة العجوز ، وقالت : جاءك صغير .
فأشرق وجه السنجابة فرحاً ، وقالت : بل اثنان ، تعالي لتريهما .
واقتربت السنجابة العجوز ، وقالت وهي تتأمل الصغيرين : إنهما صورة من أبيهما .
دمعت عينا السنجابة ، وقالت : ليته هنا ، ليفرح بصغيريه .
قالت السنجابة العجوز : سيعود ويفرح بهما .
هزت السنجابة رأسها ، وقالت : لن يعود مادام القاقم في الغابة .
ردت السنجابة العجوز قائلة : لابد أن يعود ، فالغابة لنا ، وليست للقاقم ، فنحن من زرع أشجارها .
فانحنت السنجابة على الصغيرين ، وضمتهما إلى صدرها ، وقالت : إنهما لا يشبعان ، لقد أرضعتهما منذ فليل .
ومع الفجر ، عادت السنجابة العجوز إلى بيتها ، البرد ، والريح ، والغيوم ، داخلها شعور بالدفء ، وأدركت أن الشتاء يوشك أن يرحل .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| حسن سالمي : “آثام البنادق” وقصص أخرى قصيرة جدّا .

آثام البنادق        حين شردت عنزتي عن القطيع كانت الشّمس تسقط وراء التّلال. وكان لا …

| حسن سالمي :  ” محلّك.. سِر ”  وقصص أخرى قصيرة جدّا.

رقيق أبيض     الهواء بارد والسّماء ترشح قليلا قليلا حين خرج من الحانة واللّيل في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *