” 46 ”
موعدنا غداً
” 1 ”
ــــــــــ
خرج السنجاب الفتي من البيت ، وراح ينزل شجرة البلوط متمهلاً ، فهتفت به أمه من الداخل : بنيّ ، لا تتأخر .
ورد دون أن يلتفت : نعم ، ماما .
وسار قليلاً ، ثم توقف ، والتفت إلى شجرة البلوط ، يتأملها ، لعل أمه على حق ، إنها فعلاً شجرة فريدة ، ومن يدري ، فقد تثمر يوماً ما .
ومضى متردداً ، نحو النبع ، لابد أن سنحوبة خائفة لآن ، ومن يلومها ؟ وبرزت سنجوبة ، من وراء صخرة قرب النبع ، وقالت متظاهرة بالزعل : لا تستعجل ، موعدنا كان البارحة .
وعلى غير عادته ، لم يبتسم لمزاحها ، وقال : عفواً .
فاقتربت منه ، وقالت : ليتني أعرف ما يشغلك .
ردّ قائلاً : شجرة البلوط .
وتنهدت سنجوبة ، فقال : لا أفهم موقف الجد سنجاب من هذه الشجرة .
فقالت سنجوبة : ليس هذا فقط ما يشغلك .
واحتد السنجاب الفتيّ ، وصاح منفعلاً : نعم أبي .
ووقفت سنجوبة مذهولة ، وتركته يمضي ، دون أن ترد عليه بكلمة .
” 2 ”
ـــــــــــ
سار السنجاب الفتيّ ، على غير هدى ، حتى هدّه التعب ، فجلس يرتاح ، تحت إحدى الأشجار . وفوجىء بالجد سنجاب ، يقترب منه قائلاً : حقاً ، هذا مكان مريح جذاً .
فتطلع إليه ، وقال : يبدو أن سنجوبة قد أخبرتك ، أني هنا .
ووقف الجد سنجاب ، مستنداً على عصاه ، وقال : سنجوبة ! لا ، إنني قادم من الحقل .
ولاذ السنجاب الفتي بالصمت ، فقال الجد سنجاب : أبوك ، يا بنيّ ، كان صديقي ، وقد زعل مني ، لأني قلت له ، إن شجرة البلوط لا تثمر في غابتنا ، آه كم تمنيت لو أنني كنت على خطأ .
ومضى الجد سنجاب ، متوكئاً على عصاه ، وهو يقول : تحياتي لأمك .
” 3 ”
ـــــــــ
عند المساء ، مرّ السنجاب الفتي ، في طريق عودته إلى البيت ، ببيت سنجوبة ، وفي يده زهرة نرجس ، وطرق كعادته على النافذة ، وهتف بصوت خافت : سنجوبة .
وانتظر الرد ، دون جدوى ، فنظر من فرجة في النافذة ، فرأى سنجوبة تقف غاضبة ، وسط الغرفة ، فألقى الزهرة من الفرجة ، وهتف وهو يمضي : موعدنا غداً .
واشاحت سنجوبة بوجهها عن الزهرة ، ودمدمت غاضبة : فلينتظر عند النبع غداً ، حتى يشيخ ،لن أذهب أبداً .
وفي اليوم التالي ، رأى الجد سنجاب ، سنجوبة تمضي مترنمة نحو النبع ، وفي يدها زهرة نرجس .
” 47 “
مرحباً أيها الفضاء
حين رآها لأول مرة ، شعر بقلبه الصغير ، يخفق مرتعشاً ، كأنه جناحان صغيران يواجهان الفضاء لأول مرة . ولم يهدأ قلبه ، حتى بعد أن التقاها وحياها مراراً ، وحط إلى جانبها مرة ، وهمّ أن يحدثها ، لكنها اعتذرت ، وسارعت بالابتعاد .
وذات يوم ، رآها وحيدة ، فوق شجرة زيتون ، فحط خلسة على شجرة مجاورة ، وأخذ يتأملها ، ويفكر في ما يمكن أن يفعله ليكسب ودها .
وأغمض عينيه ، وراح يصغي إلى ما حوله ، وخيل إليه أنه يسمع العصفورة الصغيرة تصيح : النجدة .. النجدة .
ففتح عينيه متمتماً : الأفعى .
وهمّ أن ينطلق نحو العصفورة الصغيرة ، وينقذها من الأفعى ، لكنه سرعان ما تراجع ، وانزوى في مكانه ، إذ لم يرَ أثراً لأي أفعى .
وأغمض عينيه ثانية مغالباً النعاس ، وما لبث أن سمع العصفورة الصغيرة تهتف به : أيها العصفور ، أنقذني ، إن القط الوحشي سيقتلني .
وهب العصفور من مكانه ، ورأى قطاً وحشياً يحاصر العصفورة الصغيرة ، ويهمّ بالانقضاض عليها ، فانطلق كالسهم نحو القط ، وصاح به : أيها اللعين ، توقف .
وجمد القط الوحشي في مكانه ، وقال بصوت مرتعش : سامحني ، يا سيدي ، لم أعرف أنها حبيبتك .
فصاح العصفور بالقط ثانية : اذهب بسرعة ، لا أريد أن أراك ، في هذه الغابة مرة أخرى .
وتراجع القط الوحشي ، ثم أطلق سيقانه للريح ، وهو يقول : أمرك سيدي .
وابتسمت العصفورة الصغيرة ، وفتحت جناحيها ، وقالت : تعال .
وتحرك العصفور ، وهمّ بالانطلاق ، و .. وإذا به يكاد يهوي من فوق الشجرة ، وانتبهت العصفورة الصغيرة إليه ، فهتفت به : حذار .
وفتح العصفور عينيه ، وشهق برعب ، متشبثاً بالغصن ، إذ التقت عيناه بعيني قط وحشي ، يقف متحفزاً ، أسفل الشجرة . وهتفت العصفورة الصغيرة ثانية : لا تخف ، تعال إلى جانبي .
وعلى الفور ، هبّ العصفور من مكانه ، وحط إلى جانبها ، وقال : أشكرك ، لولاك لكنت الآن في جوف القط .
ونظرت العصفورة الصغيرة إليه ، وقالت : لا عليك ، لقد حسبتك نائماً ، وحين رأيتك توشك على السقوط ، كدت أهجم على القط الوحشي ، لأنقذك منه .
وأشرق وجه العصفور بالفرح ، وتلفت حوله ، ثم قال : هذا مكان رائع ، سأبني عشي يوماً فيه .
وابتسمت العصفورة الصغيرة ، فتابع قائلاً : يبدو أنك مثلي ، تحبين هذا المكان .
وهزت العصفورة الصغيرة رأسها ، وهي ترخي عينيها ، واقترب منها ، لكنها لم تسارع هذه المرة بالابتعاد ، بل ظلت إلى جانبه ، وقلبها الصغير يخفق مرتعشاً ، كأنه جناحان صغيران يواجها الفضاء الرحب لأول مرة.
” 48 “
أرنوب يكبر
“1 ”
ــــــــــ
انتفض أرنوب ، حين سمع طرقاً على الباب ، وانزوى في طرف البيت ، وراح يتأتىء ” م م .. من ؟
وجاءه صوت يعرفه : افتح ، أنا أرنوبة .
وفتح أرنوب الباب ، وتلفت حوله هاتفاً : أسرعي ، قد يفجئنا ال ..
وقاطعته أرنوبة : كفى خوفاً ، يا أرنوب .
احتج أرنوب قائلاً : لا تقولي هذا ، إن الثعلب في كل مكان .
وردت أرنوبة : كلا ، إن الثعلب في داخلك أنت .
وأطرق أرنوب رأسه حزيناً ، فاقتربت أرنوبة منه ، ووضعت أمامه قطعة من الملفوف ، وقالت : يجب أن تعتمد منذ الآن على نفسك .
ورفع أرنوب رأسه إليها ، فتابعت قائلة : هذا ما قالته ماما .
وظل أرنوب صامتاً ، ففتحت أرنوبة الباب ، وقالت : ربما لن تراني ثانية ، يا أرنوب ، وداعاً .
” 2 ”
ـــــــــــ
مضت أرنوبة إلى البيت ، دون أن يفارق أرنوب مخيلتها لحظة واحدة . مسكين أرنوب ، كان رضيعاً حين فتك الثعلب بأمه ، وقد أرضعته أكثر من أرنبة حتى كبر ، لكن هل كبر أرنوب حقاً ؟ وكيف يمكن أن يكبر ، وهو أسير هذا الخوف ؟
وتوقفت أرنوبة ، كاتمة أنفاسها ، فقد لمحت الثعلب يتسلل من بعيد ، بين الحشائش المتطاولة . اللعين ، لابد أنه يتربص بأرنب ، أو قطاة ، أو .. ، من يدري ، لعله يتربص بها هي نفسها .
وما إن ابتعد الثعلب ، حتى نهضت أرنوبة ، ومضت مسرعة إلى البيت .
” 3 ”
ــــــــــــ
استقبلتها أمها بنظرة مؤنبة ، وقالت : بنيتي ، تأخرت اليوم .
وقالت أرنوبة ، وقد دمعت عيناها : سيموت أرنوب من الجوع .
وتأهبت الأم للخروج ، وقالت : لم يعد أرنوب صغيراً ، ليعتمد على نفسه .
ثم فتحت الباب ، وهي تقول : سأزور الأرنب العجوز ، يقال أنه مريض ، لا تخرجي حتى أعود .
وتهاوت أرنوبة جالسة ، وقد استبد بها الحزن ، ومن بين دموعها ، تراءى لها أرنوب ، يدور وحيداً في البيت . المسكين ، لن تكفيه اليوم قطعة الملفوف ، ولمحت نحت المنضدة ، حزمة من الجزر ، فهبت من مكانها ، وسحبت جزرة كبيرة من الحزمة ، وأسرعت بها إلى أرنوب .
” 4 ”
ـــــــــــ
دقت أرنوبة الباب ، وعبثاً أنصتت ، فلم تأتها تأتأة أرنوب المعتادة ، م م .. من ؟
ودقت ثانية وثالثة و .. ، دون جدوى ، عندئذ دفعت الباب ، واندفعت إلى الداخل ، كانت قطعة الملفوف في مكانها ، لكن أرنوب لم يكن في موجوداً .
ودق قلبها بشدة ، لابد أنه خرج إلى الحقل ، يا إلهي ، لن يفلت من الثعلب . وألقت الجزرة الكبيرة قرب قطعة الملفوف ، وأسرعت بمغادرة البيت .وانطلقت أرنوبة نحو الحقل ، لعلها تلحق بأرنوب ، قبل أن يفاجئه الثعلب ، ويفتك به ، مثلما فتك بأمه .
وتوقفت خائفة ، قرب شجيرة ، فقد تناهت إليها حركة مريبة بين الأعشاب ، وتلفتت حولها ، أهو أرنب ؟ أم ثعلب ، أم .. ؟ وفجأة أقبل أرنوب نحوها ، وهو يصيح : اهربي ، إنه الثعلب .
وقبل أن تدرك أرنوبة ما يجري حولها ، رأت الثعلب يثب من بين الأعشاب ، وقد كشر عن أنيبه .
لم يلذ أرنوب بالهرب ، بل دفع أرنوبة بعيداً ، واندفع كالسهم ، مارقاً من أمام الثعلب .
وفوجىء الثعلب باندفاعة أرنوب ، ووقف لحظة مذهولاً ، ثم انطلق مسرعا ً في أثره .
” 5 ”
ـــــــــــ
دخلت أرنوبة بيت أرنوب ، وأغلقت الباب وراءها ، ستعد الطعام ، وتنتظره حتى يعود ، فطالما أسعده تناول العام معها .
سالت الدموع من عينيها ، لن تتناول الطعام معه مرة أخرى ، فلابد أن الثعلب قد أمسك به ، و .. ومن بين دموعها ، رأت أرنوب يدفع الباب ، ويدخل مبهور الأنفاس .
وأشرق وجه أرنوبة فرحاً ، وقالت : أرنوب ، الطعام جاهز ، لنأكل معاً .
فرد أرنوب قائلاً : سآكل معك .. بشرط .
وتطلعت أرنوبة إليه متلهفة ، فقال : أن تأكلي معي غداً من طعام أجنيه بنفسي .
فاقتربت أرنوبة منه ، وقد التمعت عيناها فرحاً ، وقالت : سنأكل معاً دوماً ، يا عزيزي .
” 49 “
الفأر والقط
تثاءبت القطيطة ، وقالت : آه إنني جائعة .
فابتسم القط الفتي ،وقال : عجباً ، لقد أكلنا منذ قليل ,
وتوسدت القطيطة ذراعها ، وأغمضت عينيها الجميلتين ، وقالت : الحليب لم يعد يشبعني .
وهنا لمح القط الفتيّ فأراً ، يمرق إلى المطبخ ، فنهض بهدوء قائلاً : انتظري لحظة ، ستشبعين .
وتسلل إلى المطبخ ، وانقض على الفأر ، وأمسك به ، فصاح الفأر مرتعباً : مهلاً ، مهلاً ، لا تأكلني .
فردّ القط الفتيّ قائلاً : لن آكلك أنا ، بل ستأكلك حبيبتي قطقوطة .
وتظاهر الفأر بالحزن ، وقال : يا للمسكينة ، ستفقدها قبل أن تتزوجها ، فأنا مثل سائر الفئران أنقل المرض .
فصاح القط الفتيّ : أنت تكذب .
ونظر الفأر إليه ، وقال متسائلاً : حسن ، أين أبوك وأمك وجدك وجدتك؟
فرد القط الفتيّ : ماتوا جميعاً .
فقال الفأر : طبعاً ماتوا ، لأنهم أكلوا أبي وأمي وجدي وجدتي ، وستموت قطيطتك إذا ..
وقاطعه القط الفتيّ صائحاً : كفى .
ثم أطلق سراحه قائلاً : امض ِ أيها اللعين ، امض ِ .
وعاد القط الفتيّ إلى القطيطة ، دون أن يأتيها بما يشبعها، وما إن شعرت بوجوده ، حتى فتحت عينيها الناعستين ، وقالت : حسبتُ أنك ستأتيني بفأر .
فردّ القط الفتي قائلاً : يقال ، يا عزيزتي ، أن الفأر ينقل الأمراض .
وتوسدت القطيطة ذراعها ثانية ، وقالت : هذا صحيح ، ولهذا فنحن نأكله ، ونخلص الإنسان من شروره .
ولاذ القط الفتيّ بالصمت مغتاظاً ، لن يخبر قطيطته بما حدث ، فقد تحكم عليه بأنه أحمق ، وترفض الزواج منه رفضاً باتاً . وصمم بينه وبين نفسه ، أن يطارد ذلك الفأر اللعين ، ويأكله ، حتى لو نقل إليه أمراض الدنيا كلها .
” 50 “
وعادت اللقالق
لأيام طويلة ، ظلا يطيران معاً ، جنباً إلى جنب . وكلما حلّ الظلام ، ورقدا يرتاحان ، تذكرا القرية ، وعشهما الذي طالما عادا إليه مع كلّ ربيع ، وجدداه سنة بعد سنة .
وذات يوم ، قبيل الغروب ، لاح عشهما من بعيد ، ولاحت معه القرية ، والبساتين ، فانطلقا فرحين ، يتسابقان نحو العش .
ووصلا مشارف القرية ، فهالهما ما رأياه ، البيوت مهدمة ، والأشجار محترقة ، والأزقة خاوية ، تعوي فيها الرياح .
وحاما طويلاً حول القرية والبساتين ، دون أن يتفوه أيّ منهما بكلمة واحدة ، حتى هدهما التعب ، فلاذا مقهورين بالعش .
وحلّ الليل ، وراحت الساعات تمر ، لكنهما لم يناما ، رغم حاجتهما إلى الراحة . وتنهد اللقلق محزوناً ، وقال : أكاد لا أصدق ما أرى .
وقالت زوجته : يا إلهي ، لم أرَ في حياتي دماراً كهذا .
وتلفت اللقلق حوله ، وقال بمرارة : لا حياة في القرية ، ربما هاجر الجميع ، أو ..
ولاذت زوجته بالصمت ، فتابع اللقلق قائلاً : لن نبقى هنا ، فلنهاجر نحن أيضاً .
واندست زوجته تحت جناحه ، وقالت : نحن متعبان ، لننم الآن .
ومع الفجر استيقظا على صوت يعرفانه جيداً ، إنه الفلاح العجوز ، وسمعاه يهتف فرحاً : أيتها الجدة ، تعالي .
وأقبلت الجدة من داخل الكوخ متسائلة : ما الأمر ؟
فأشار الجد إلى اللقلقين ، وقال : لقد عادا إلى عشهما .
وتألق الفرح في عيني الجدة ، وقالت : وسيعود الناس أيضاً ، وتعود الحياة إلى القرية .
وهنا التفت اللقلق إلى زوجته ، وقال : لن نهاجر ، يا عزيزتي ، بل سنجدد عشنا .
واندست زوجته تحت جناحه ، وابتسمت قائلة : ونملأه بالحياة .