رواية نزف المسافات
صالح البياتي
الفصل العاشر ح 1
انتقل الأستاذ نوح وسيناء مباشرة، بعد حفلة الزواج التي اقيمت في نادي المهندسين بالمنصور، الى منزل الحاج ابراهيم في مزرعته، ريثما يشتري المنزل الذي سيكون عش الزوجية، امضى احلى الأيام مع حبيبته بين أشجار النخيل والبرتقال ونسائم الدجلة العليلة، تعرفا على عائلة البستاني، قال في نفسه وهو ينعم بهذه السعادة التي اغدقتها سيناءعليه، كمطر انهمر في اوانه، فأنعش ارضا عطشى، ادرك انه أخطأ في حكمه الأحادي على الأشياء، حيث ان في عمق المأساة ثمة بصيص من الأمل، وفي اخر الليل تشتد الظلمة قبيل انبلاج الفجر، وان ذرة الغبار التي تؤذي عين الانسان، تكون نواة لحبات المطر في الصحراء، وان الثنائية هي المحور الذي تتحرك عليه عجلة الحياة، اقتنع ان الهروب من الوطن عندما يكون في أزمة، لا يختلف بشئ حين يدير ظهره لحبيبته سيناء، يتخلى عنها، فكر بؤلئك المواطنين ضحايا التهجيرات القسرية، لا غرابة انهم ماتوا معنويا، كما تموت شجرة مجتثة من عروقها.. لا يفهم ذلك الذين نفذوا عملية التهجير، فكر بعد تأمل طويل، اثناء اقامته في المنزل الريفي، بضرورة مقابلة الرئيس، نعم رئيس الجمهورية بشحمه ولحمه، قررالذهاب الى استعلامات القصر الجمهوري، من اجل الموعد، ضحكت سيناء منه عندما عرض الفكرة عليها، اختصرت فشل محاولته مسبقا، فقالت ساخرة، ستعود بخفي حنين أو كما نقول بلهجتنا المحلية:
” تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي”
جلست سيناء يوما مع زوجة البستاني، كانت المرأة قلقة على ابنها المجند، الذي التحق بوحدته العسكرية، قبل مجيء سيناء ونوح، سألت سيناء عن صحة اخبار وساطة إسلامية لوقف الحرب، طمأنتها سيناء بالتعبير عن ذلك بالتمني، إن شاء الله.. امل يرتجى، ودعاء حار، نبعتا كغصني زيتون اخضرين، وحمامة سلام بيضاء، اطالت المرأة النظر لوجه سيناء، كأنها تريد ان تؤمن حقا بما قالته، وأن السلام سيحل فعلا كما قالت، رددت بصوت منكسر، مستسلم وخافت، إن شاء الله.
كان نوح اثناء غياب زوجته يهمس لنفسه منفعلا، سأقابله لكن انا شخصيا لا اطلب شيئا لنفسي، بل من اجل الناس البسطاء، لا كما يفعل المتملق، المنافق الجبان، والمداهن المحتال، لأني سأقول له ما يخفي الناس في نفوسهم. ارتفع صوت نوح كأنه يخاطب الرئيس، ليست المشكلة فيك، المشكلة فينا نحن الذين نكذب ونخدع ونخون أنفسنا، او كما قالوا لمن ابتلي بهذا السلوك الشاذ، بل الداء الخطير، “يصانع ويضارع ويتبع المطامع”..
عادت سيناء فكلمته عن امرأة البستاني، مسكينة قلقة على ابنها، حبيبتي سيناء لم يعد القلق اضطراب نفسي يصيب المفكرين، اوالشباب المنطوين على أنفسهم، هاجس يلازم الموسوسين على صحتهم، والتجار على اموالهم، صار مرض عامة الناس. اتفقا على مساعدتها بشيء من المال قبل مغادرتهما.
ظلت فكرة مقابلة الرئيس تراوده، لا تبارح خياله، استحوذت عليه بقوة، وعندما نصحته سيناء بالتخلي عنها، قال لها انه لا يستطيع، لأن تنفيذها سيجلب له الراحة النفسية والسلام الداخلي، وعدها انه بعد ذلك سيكرس حياته لسعادتهما المشتركة.
” اعدك حبيبتي أنى سأكون واحدا من أبرز أعمدة الاقتصاد الوطني في العراق.”
وبينما كانا مستلقيان على السرير، يتحدثان عن المستقبل، كان الليل يخفي بشاعة الحرب، وفي آن يغطي الظلام جمال النخيل واشجار البرتقال ونهر الدجلة العظيم.
كان نوح ينظر لوجه سيناء بوله، ويخفي في نفسه رغبته العارمة بمقابلة الرئيس وجها لوجه.
الهدوء يهيمن على المنزل الريفي وما حوله، النهر يجري متهاديا في جريانه، والعصافير والطيور هجعت في قلب الأشجار الكثيفة، لا أحد يعرف بمكان نوح وسيناء سوى الحاج ابراهيم صاحب المزرعة، العم أبو سيناء، وعائلة البستاني، أي سعادة هذه، لا تقدر بثمن عندما يشعر المرء بالأمان، فينام مطمئنا هانئا في فراشه.. فاجأها في لحظة صمت انه تخلى عن مقابلة الرئيس، ليذهب للجحيم. حمدت سيناء الله لأنه تحرر من مشكلة كبيرة، تساءلت وماذا بعد، بقي يا حبيبتي سيناء شئ واحد. تأوهت.. يا لله .. ما هو، اقترب منها مس خدها بشفتيه، شعرت بأنفاسه الدافئة على وجهها، همس في اذنها، اوراق المحامي حنا، اوراقه التي اودعها عندي.. أنسيتِ. ندت منها صرخة خافتة، الأوراق.. ستنزل علينا مصيبة، توسلت به ان يتخلص منها. كيف اتخلص منها، ربما دفع حنا حياته ثمنا لها. توسلت وهي تلقي رأسها على صدره العاري، احرقها.. لخاطري، لا تورطنا في مشكلة. احتج بنبرة قوية حادة ، لماذا إذاً تورط مقبل وسعيد وآلاف غيرهم، ماالفرق بيني وبينهم. رفعت رأسها عن صدره، نظرت اليه، فعرفت ان في عينيه عناد وتصميم، ردت بلطف.. لم يتورطوا ياحبيبي.. اختاروا طريقهم بمحض ارادتهم. معك حق يا سيناء، هم اخنتاروا طريقهم، اما انا فهذه فرصتي الأخيرة، فإن تراجعت سأبقى طوال حياتي انسانا عاجزا، ضعيفا وجبانا، لن استطيع حمايتك، او ان أكون جديرا بك.. امنحيني رجاء هذه الفرصة، سألته مستسلمة، اين الأوراق. لاتزال في السيارة، بمكانها الذي خبأتها فيه.
احضر نوح الأوراق، قلبها بسرعة، كانت وثائق خطيرة، عن إنتزاع إعترافات تحت التعذيب الجسدي والنفسي، افضت الى إعدام متهمين قبل مثولهم امام المحكمة، سأعيدها لمكانها.. لا تقلقي، الخوف احيانا اقسى من الموت، ليس لنا خيار، هذا هو واقعنا، واقع قاس، سأكون كاذبا ان لونته بإلوان زاهية، كي يقال عني متفائل، اليس كذلك يا حبيبتي سيناء.
لم يتعلم نوح من الواقع، ان ينحني للعاصفة حتى تمر..
اقنع سيناء بالسفر الى عمان لقضاء شهر العسل، وإستطاع ان يدس الملف بين الصور الشعاعية والتقارير الطبية التي تعود لأمه، وضعها ظاهرة للعيان، فوق الملابس، لأبعاد الشك عند التفتيش، وعندما سؤل عنها في المطار، قال انها تقارير طبية لزوجته المصابة بالسرطان، يحتاجها كي يعرضها على الأطباء الأردنيين.
نظرت سيناء لرجل الأمن ولزوجها باندهاش وحيرة، تنفس نوح الصعداء، شعر ان شيئا من الخوف ، اليأس، القلق، الغضب، مزيج غريب متناقض، تفكك تدريجيا وتتلاشى سريعا، انزاح الم مكبوت في صدره، بمجرد صعودهما للطائرة وإستقراره بمقعده بجانبها، سألته سيناء همسا:
” لماذا تمنى لي رجل الامن الشفاء؟”
” لا أدري.. ربما لانه رأى وجهك ممتقعا بصفرة الخوف، فظنك مريضة، أكنت خائفة يا سيناء؟”
” خائفة…! مرعوبة حتى الموت، هذه اول مرة اسافر فيها خارج العراق.”
” مع أنك تحملين جواز سفر عراقي فإنت بنظرهم أجنبية، رغم لهجتهك الجنوبية التي اموت فيها.. أي تناقضات هذه التي إجتمعت كلها في شخصيتك يا سيناء!”
” اسألهم.. لماذا تسألني انا!”
أقلعت الطائرة، فكانت كلما ارتفعت في الجو بضعة مئات من الأمتار، تناقصت همومه قليلا، قال في نفسه، آمل قبل ان نعبر الحدود، ان اجمع ما تبقى، ارميه من النافذة الجانبية، سأرها مظلة سوداء تهبط للأرض التي غادرناها قبل دقائق معدودة، وتركنا فيها تاريخ حياتنا وذكرياتنا.
يتبع رجاء