إشارة :
رحل المربّي والباحث والمترجم والناقد الكبير الدكتور “عناد غزوان” بعد أن أثرى المكتبة العراقية والعربية ببحوثه وكتبه المهمة وترك بصمته التربوية والثقافية والنقدية على جيل بأكمله داخل أسوار الجامعة وخارجها. تضاءل الاحتفاء بمنجزه الإبداعي والسيري التربوي سنة بعد سنة حتى التلاشي. تفتتح أسرة موقع الناقد العراقي ملفها عن الراحل الكبير وتدعو الأحبة الكتّاب والقرّاء لإغنائه بما يتوفر لديهم من بحوث ومقالات صور ووثائق.
“عناد غزوان”: فقيد الدرس الأكاديمي
د. صالح هويدي
فقدت الأكاديمية العراقية على امتداد مسيرتها عددا من نجومها المضيئة التي كان لها منجزها العلمي الذي يصعب تعويضه، في الوقت نفسه الذي ضربت لنا فيه هذه النجوم المثل على السلوك التربوي السامي، في التعامل مع طلبتها واحتضان مواهبهم وتذليل مصاعبهم، والسخاء العلمي معهم.
شمائل شخصية
وإذا كان لا يساور طلبة الدكتور عناد غزوان وزملاؤه، ومن شهده يحاضر في قاعة الدرس أو يناقش في قاعة المناقشات العلمية شك في أن الرجل واحد من أبرز هذه النجوم، فإن من المؤكد أن للأستاذ من المزايا والشمائل ما يجعل منه نسيج وحده، بين سائر الأكاديميين.
يمتلك الأستاذ وجها طفوليا، يجعله محببا لكل من يطالعه، يزيد هذا الوجه وضاءة أن أساريره تفترّ بمجرد أن تبادهه باللقاء أو تستوقفه بالكلام أو يمر من أمامك، فمهما نبشت في ذاكرتك فإنك لن تجد في مخيلتك محيا الرجل منفصلا عن بسمته الإنسانية الوديعة. وإذا تذكرنا بسمة الدكتور فإننا لا بد من أن نتذكر حبه للمرح والنكتة التي أكسبته خفة ظل جميلة بين زملائه وطلبته الذين منحه تواضعه إزاءهم وتبسطه معهم قدرا من الألفة والاعتزاز والحب. ولطالما كانت ضحكته المميزة الرقراقة القصيرة علامة على حضوره لدى محبيه.
مما يذكر للأستاذ صدقه في احتضان طلبته، وحرصه على متابعة منجزهم خطوة خطوة، مع تقديم كامل خبرته العلمية الجليلة بين أيديهم، وفتح سبلها أمامهم، ومن بينها فتح مكتبته الشخصية لهم، وإرشادهم إلى ما فاتهم من أمور. ولعل من سجاياه التي يذكرها طلابه دماثة خلقه في التعامل مع نواقصهم وأوهامهم التي يعالجها بخفة ليس فيها للمباشرة سبيل.
وإذا كنا لا نختلف في جمال عبارة الدكتور عناد وإشراقة أسلوبه في الكتابة، فإننا نحس في حديثه الشفاهي فعل السحر، فهو خطيب مفوّه معاصر، يمتلك أعنّة الكلام ويصرّفها كيفما شاء، يزيد حديثه طلاوة وإيقاعا تلك النغمة التي تميز صوته وتمنحه رتما خاصا آسرا، يتمنى من يستمع إليه لو أنه لم يتوقف.
نهجه الأكاديمي
يعرف من تابع الأستاذ أن مما يميزه بين كثير من أقرانه وزملائه الأكاديميين أنه لم يكن أستاذا أكاديميا حسب، إذ جمع الرجل بين دوره الأكاديمي المهم ودوره في الحياة الثقافية والأدبية، فقد كان متابعا جيدا للمشهد الثقافي العراقي، حاضر الاستجابة لدعوات المؤسسات والشخصيات الثقافية، داخل العراق وخارجه. أما على مستوى التخصص الأكاديمي، فلا يكاد امرؤ يعرف للأستاذ تخصصا محددا، فإن سألته في اللغة وجدت له آراء طريفة، وإن التمست له رأيا في قصيدة جاهلية أو عباسية أو في شاعر من شعراء مرحلة الانحطاط أو في قضية من قضايا الحداثة الشعرية أو في منهج نقدي (سياقي أو محايث)، حداثي أو ما بعد حداثي، وجدت له مواقف وآراء ضافية لمناقشة ذلك كله، ما يدلل على متابعة الأستاذ لقراءاته، وامتلاكه بعدا موسوعيا، مع انحياز واضح محسوم لموضوعة الحداثة.
جمع الأستاذ بين مهام البحث والترجمة والنقد والتدريس، فكان على مستوى الدرس النقدي ناقدا يطمح إلى تطبيق ما يشبه المنهج التكاملي في ممارساته، مع ميل نحو المزج بين ما هو جمالي وانطباعي مدرب.
علاقتي بالدكتور عناد غزوان
بدأت علاقتي بالأستاذ الدكتور عناد غزوان أول مرة عقب تنسيبي للدراسة للدكتوراه في قسم اللغة العربية، بكلية الآداب، جامعة بغداد عام 1981، إثر عودتي من مصر حائزا على شهادة الماجستير، فقد كنت من خريجي الجامعة المستنصرية، ولم أشرف بتدريس الأستاذ لي من قبل، من غير أن يعني ذلك أني كنت بعيدا عن متابعته وعدد من أساتذتنا، في الحياة الثقافية والنشر والمناقشات العلمية، على حد سواء.
حين دخلت غرفة أساتذة اللغة العربية الواسعة ألفيته جالسا على كرسي وحده، سلمت عليه واستأذنته بالجلوس لدقائق، فرحب بي هاشا، بابتسامته المعهودة. عرفته بنفسي، مصرحا بقبولي طالب دكتوراه جديدا في القسم. شجعني بعد ذلك على الإفصاح عن نفسي، وحين ذكرت في أثناء الحديث بعض كتاباتي، سارع إلى توكيد قراءته لبعضها، فأحسست حينها أن الأستاذ ربما أراد مجاملتي.

درس تربوي لن أنساه
حين أكملت السنة التحضيرية، عين لي القسم مشرفا على موضوع رسالتي(الترميز في الفن القصصي العراقي الحديث) الدكتور عناد غزوان وقارئين اثنين، هما: المرحوم الدكتور عبد الإله أحمد، والدكتور جميل نصيف التكريتي أطال الله عمره. وكانت أول صدمة تلقيتها، حين قصدت الدكتور عبد الإله لأبلغه بالأمر، فقد كان رد فعله غير متوقع لي تماما. لقد رفض الاعتراف بالأمر، وأبلغني أن لا علاقة له بي وبأطروحتي، وأنه لن يقرأ شيئا منها؛ لأنه هو الأستاذ الوحيد المؤهل للإشراف على موضوع كهذا. وبرغم محاولتي شرح وجهة نظري، كوني لا يد لي في ما تقرر، فإن الدكتور قطع علي الطريق تماما. ذهبت إلى أستاذي وأنا في حيرة من أمري، فوجدته يبتسم ثم ما تلبث ابتسامته أن تتحول إلى ضحكة، يختمها بقوله، انصرف إلى شغلك ودع هذا الأمر لمجريات القسم والكلية. لكن الأمر لم يحل، برغم توسيطي زملاء وأساتذة لإقناع القارئ الأول ليستمر على ما هو عليه حتى إنجازي بعض الفصول والأقسام وبدء مشرفي والدكتور جميل بقراءة ما أنجزته. وبقيت على هذا الحال غير المألوف حتى أنجزت كتابة الأطروحة كاملة، في زمن امتد ثلاث سنوات، حينها تدخل عميد الكلية المرحوم الدكتور نوري القيسي، ليتغير موقف الدكتور عبد الإله الذي وافق على أخذ العمل كاملا مدة زمنية طالت إلى حد إحراجي، لأني كنت قد مددت مدة الاستمرار ولم يبق منها سوى زمن يسير،بالكاد يكفي للتعديلات المحتملة والطباعة، لتبدأ محاولات مضنية من رئيس القسم بالوكالة الدكتور داود سلوم رحمه الله،

لاستعجال عودة المخطوط. وحين عاد المخطوط أخيرا وجلسنا مع الدكتور عبد الإله، لم يكن لديه سوى جملة واحدة هي: إن هذه الأطروحة غير صالحة منهجا ونتائج، وإنني خيبت ظنه بي. وحين طالبته بالملحوظات التي له عليها، قال أنه سيسلمها للقسم. وصلت الملحوظات بعد لأي، واجتمع مجلس الدراسات العليا الذي قرر إحالة الملحوظات إلى كل من المشرف على العمل والقارئ الثاني والطالب لكتابة ردودهم، لينتهي الأمر لصالح الأطراف الأخرى، في وقت كان فيه الأستاذ المشرف يميل إلى طمأنتي طوال تلك المرحلة بأنها ستنجلي قريبا، موصيني بالصبر. لم يكن هذا الموقف هو الوحيد الذي كاد يعصف بمشروع أطروحة نيفت على السنوات الثلاث، وكان للأستاذ المشرف دور واضح في طمأنة صاحبها. فبعد أن أقرت الأطروحة أكاديميا، أحيلت إلى جهة ما يعرف بالسلامة الفكرية. ولم يدر في خلدي أن الأمر سيعنيني أو أنه سيتجاوز الحدود الروتينية. لكن ظني اهتز تحت دواعي الدهشة التي فاجأني بها أستاذ السلامة الفكرية، عضو فرع التنظيم الذي أخبرني أن في الأطروحة ما يمنع إجازتها في شكلها الحالي، وأنه لا بد من تخليصها من أعمال كاتبين في الأقل هما: غائب طعمة فرمان وبرهان الخطيب. ولم تجد حججي معه كثيرا؛ من القول بأن الأعمال موضوع الدرس مطبوعة في بغداد، ولا في أن التناول النقدي اهتم بالبعد الأدبي ولم يتجاوزه إلى ما عداه، بل ولا القول بأن كلا الكاتبين لم يمنع لهما عمل من قبل، وأن غائب طعمة فرمان مثلا لا يزال على صلة بالدولة، برغم إقامته بعيدا عنها. لقد كان الرجل مدركا ذلك كله، وزاد عليه بأنه كان يسلم غائبا مرتبه في السفارة العراقية في موسكو، في أثناء مرضه، بل وأحالني إلى قصة لبرهان تصور عائلة تسمى بآل يعرب تصويرا ينال منهم في دلالة رمزية مقصودة على حد زعمه.

كان حدثا عصيبا، فليس الأمر هذه المرة مما يتصل بالمنهج أو القيمة العلمية التي يمكن أن تناقش، بقدر ما هو موقف يهدد المشروع بالمصادرة والإلغاء، فضلا عن حصار الوقت الذي كنت مهددا به، وبدا لي يتفلت الآن من بين يدي. لكن ما هالني أنني حين هرعت إلى أستاذي المشرف وجدته بعد أن سمع مني الرواية هادئا، يقول لي لا عليك، ستراه ثانية وتفهم منه المطلوب. قلت له: أستاذي أي مطلوب، وهل يمكنني التضحية بنصوص كاتبين كفرمان وبرهان، وهما يشكلان ركنا مهما من الأطروحة؟ فقال لي: لا لن نضطر إلى التضحية بهما، وشد من عزيمتي وداعبني بظرفه المعهود.
في اللقاء الثاني مع الرجل طلب مني إن لم أعمد إلى التخلص من النصوص أن أرجع إلى منطلقات الحزب النظرية، لأعبر عن موقفي المخالف لمنطلقات بعض قصصهما، وكي أفصل بين رؤيتي ورؤيتهما.
لم يكن لي خيار بين أن أضحي بمستقبلي أو أن أنفذ ما طلب مني، لكني لم أجد لا الرغبة الحقيقية في فعل ذلك ولا الطريقة المنهجية لتحقيقه. لقد كنت مقتنعا بأن أطروحتي ستتشوه وبأن شيئا كالخيانة سأمارسه فيها. لكني حين ذهبت إلى أستاذي المشرف وجدت لديه حلا عجبا! لقد أشار علي بأن أعلق بمنطلقات الحزب على المواضع المطلوبة بسطر أو اثنين في موضع الهامش من الأطروحة. لقد وجدت في الحل فكرة عبقرية أدخلت الراحة على النفس، فالهامش مما يمكن التخلص منه في ما بعد بسهولة، ولم يعد يشغلني سوى تنفيذ الأمر بسرعة لأنتهي من الصراع مع الزمن.
نفذت مشورة أستاذي ووافق الرجل على ما عملت وأخبرني أن ذلك في مصلحتي ومصلحة العمل، فشكرته. وأذكر أن العمل حين صدر في عام 1990 عن دار الشؤون الثقافية، وأزلت منه كل ما اعتقدت أنني أزلته من هوامش مفروضة، وجدت هامشا منسيا باقيا على حاله، فقد فاتني على ما يبدو، فأسفت مع نفسي لذلك. موقفان كبيران لم يكن لأي دارس حول بمواجهتهما لولا عناية الله ورعاية المشرف الأبوية الصادقة.
إشراف علمي وأبوي
لقد تتبع معي أستاذي الأطروحة ومفاهيمها ومصطلحاتها الإنجليزية والفرنسية، فصحح لي أوهام القواميس المتخصصة، ودافع عني أمام لجنة المناقشة دفاعا صادقا جميلا. ولست أنسى يوم قال في أثنائها إنه يكفي صالحا أنه أضاف إلى النقد العربي مصطلحا نقديا جديدا لم يسبقه إليه أحد(1986)، وكان يقصد استخدامي مصطلح” المعادل الرمزي”، فوجدت ذلك كثيرا بحقي، حتى أن أحد أساتذة اللغة جاء في أثناء خلوة لجنة المناقشة ليستحلفني إذا كان ما ذكره المشرف صحيحا! لقد كان طلبة الأستاذ وزملاؤه يستشعرون مكانته الكبيرة في القسم والكلية، في الوقت نفسه الذي يستشعرون صغر الأساليب التي تتعمد تغييبه وتتخطي دوره في المناصب التي كانت تسلم لمن هم دون مرتبة تلاميذه، فما كان منه إلا أن يزداد أنفة وعزوفا. وحين بدا مؤخرا أن الأمور بدأت تبشر بالعودة إلى نصابها وأن الأستاذ بدأ يأخذ دوره في حياتنا الثقافية والأكاديمية، وأن مسيرة العلم والإبداع تنتظرها آفاق واعدة، شاء جلّ وعلا أن تنتهي رحلة الأستاذ وأن يختاره إلى جواره. رحم الله أستاذي الجليل، الذي قادتني ذكرى غيابه عنا إلى تذكر هذه الأحداث التي حسبتها ضاعت في زوايا الذاكرة، ولم يكن يعرف بها سوى شخوص أحداثها الحقيقيين وزملاء الدراسة. رحمه الله رحمة واسعة على ما أسداه من أياد بيض وعلم غزير وعون لكل من قصده من طلبة العلم. ولعلنا نقبس مما ترك فينا من أثر لا يمحي.