د. عاطف الدرايسة : السَّفرُ في الموتِ العميقِ

السَّفرُ في الموتِ العميقِ

قلتُ لها :

حينَ تعودُ الأشياءُ إلى خزائنِ الماضي ، تُصبحُ قابلةً للتأويلِ أكثر ، وتحملُ معانيَ تبدو في الحاضرِ أجملَ ، ويبدو الحاضرُ إزاءَها كئيباً ، ويمسُّنا إحساسٌ ، بأنَّ هذا الحاضرَ ، لا مكانَ له في المستقبلِ ، عندَها سنعرفُ أنَّنا لا ننتظرُ مستقبلاً مُنتِجاً ، أو أنَّنا نعيشُ الحاضرَ كأنَّه الأبدُ .

كم كنتُ مؤمناً على مستوى المنطقِ ، أو قوانينِ العلمِ ، أنَّ الحاضرَ سيمضي ، وأنَّ المستقبلَ سيأتي ، وأنَّ لا شيءَ يسيطرُ على الزَّمنِ ، فالزَّمنُ هو الحقيقةُ المُطلقةُ في هذا العالمِ ؛ فهو وحدَه مَن يجلبُ التغيرَ إلى الأشياءِ أو الإنسان .

غيرَ أنَّ تفكيري في ذلك أخذ يتغيَّرُ ، وصرتُ أرى أنَّ الأشياءَ تتغيَّرُ في ذاتِها بعيداً عن الزَّمن ، وكأنَّها هي التي تُشعرُنا بوجودِ الزَّمنِ ، لذلك أجدني منحازاً لتغييرِ الفكرةِ ؛ فأذهبُ إلى أنَّ التغيُّرَ هو الذي يجلبُ الزَّمنَ ، أو أنَّ التغيُّرَ هو الزَّمنُ ، أو على الأقلِّ هو تجلِّي الزَّمنِ في العالمِ والأشياءِ والإنسانِ .

كم حاولتُ أن أبحثَ عن ماهيِّةِ الزَّمنِ ، ربما لا أمتلكُ إمكانيَّاتِ الحديثِ عن الزَّمنِ الفيزيائي ، وعقلي ما زالَ قاصراً عن استيعابِ نيوتن أو اينشتاين ، غيرَ أنِّي مهووسٌ بزمنٍ مختلفٍ ، لعلِّي أكونُ مصيباً إن أطلقتُ عليه الزَّمنَ الرومانسيَّ ، فكلمةُ الرومانسِّي تتيحُ لي حيَّزاً كبيراً لتأويلِ الزَّمنِ ، فأرى (الشَّيبَ) صورةً أخرى للزَّمنِ ، وأرى تساقطَ بعض الأسنانِ من جوفِ فمِ رجلٍ طاعنٍ في العمرِ ، أو طاعنٍ في الفقرِ ، صورةً لزمنٍ آخرَ ، وأحياناً أشعرُ أنَّ (الموتَ) ما هو إلا لحظةٌ تختزلُ “الانتهاءَ والبدءَ” ، وهي شكلٌ آخر من أشكالِ الزَّمنِ ، وإذا ما ذهبنا بعيداً في تأمُّلِ فكرةِ الموتِ ، فإنَّنا سنصلُ إلى نتيجةٍ تجعلُ الموتَ قوَّةً تُشكِّلُ ماضينا ، وتُشكِّلُ حاضرَنا ومستقبلَنا في الوقتِ نفسهِ ، فهو بالتَّمثيلِ الرياضيِّ النُّقطةُ التي تُمثِّلُ حالتي الانقطاعِ والاتصالِ ، لأنَّه يؤذنُ بانقطاعِ الحاضرِ ، ويؤذنُ في الوقتِ نفسِه بتجدُّدِ هذا الحاضرِ ، وهنا فإنَّ الموتَ يدفعُنا أن نمضي في طريقِنا نحو النِّهاياتِ المعلومةِ ، أو المجهولةِ ، عندئذٍ يُمكننا أن نقولِ : إنَّ الموتَ حياةٌ ؛ أي بالموتِ نحيا .

كلٌُ ذلك يأخذني إلى فكرةِ أنَّ الموتَ يمنحنا القوَّةَ والشَّجاعةَ والإرادةَ ، لمواجهةِ الحاضرِ المؤلمِ ، والمستقبلِ المجهولِ ، لذلك ليس غريباً أن يدفعنَا الموتُ إلى الخلاصِ أو الحريَّةِ أو العدلِ ، فالموتُ بمعناه العميقِ هو خلاصٌ وحريَّةٌ وعدلٌ .

هامش :
حين يكونُ الموتُ عميقاً : لا فرقَ يا حبيبةُ بين المقابرِ والفنادقِ .

د.ع

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| عدنان عبد النبي البلداوي : “ذكراك نور” مهداة الى روح الشريف الرضي في ذكراه الخالدة .

ذِكراكَ  نورٌ، تسامَتْ فيه دُنـيانا                             يا رائـداً  قــد مَلَكْـتَ القـلبَ أزمانا فكنتَ أصْدَقَ مَــن يَهوَى بناظِـره                           حتى …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| عبدالقادر رالة : الزعفرانة.

    لمحتها في المحطة تنتظر القطار …    الفتاة الوحيدة  التي تقرأ كاتباَ ؛ كتاب في  …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *