* نص ونقد
لمناسبة يوم السلام العالمي !!
برقيّة من بغداد!!
ــــــــــــــــــــــــ
الحمامةُ البيضاءُ التي
التقطَتْ غُصنَ الزّيتون
قبلَ أن تغادرَ
لوحةَ بيكاسو
طافَتْ كُلَّ السماوات
قبلَ ان تَحطَّ في ( مدينةِ السّلام )
و بعدَ يوم
تلقّى بيكاسو البرقيّة َ التالية :
ـ شكراً لكم
تُهديكُم الرئاسةُ تحياتِها
لسنا دوابَّ كي نأكلَ أغصانَ الزيتون
لقد كانَ لحمُها طيّباً ..
أرسِلوا
…
حَمامةً ثانية !!)
الشاعر العراقي
عادل سعيد
حواف الشعر
يثير النص السالف اشكالية يتم تداولها بين الكتاب والنقاد في كل حين وعلى مستوى الدراسات والبحوث ليست العراقية وحسب وانما حتى في الجهود البحثية العربية ، وهذه الإشكالية تتعلق بالحدود الواهنة والواهية بين القصة القصيرة جدا وقصيدة النثر القصيرة التي تندرج ضمن المنظومة البنائية للقصيدة العربية القصيرة ( الوامضة) ، وبهذا الصدد اتذكر السؤال الذي طرحه الصديق الناقد الدكتور سمير الخليل في الفقرة الأخيرة من دراسته عن القصة القصيرة جدا التي نشرتها مجلة (الأديب العراقي) ضمن الملف الخاص بهذا النوع السردي ، وهو كيف لنا أن نعرف القصة القصيرة جدا عن قصيدة النثر لوجود مشتركات كثيرة بينهما؟ وترك الإجابة للباحثين والمهتمين بنظرية الأجناس والأنواع الأدبية ، وقبل الإجابة عن هذا السؤال المهم الذي سيتضمنه تحليلنا لنص الشاعر العراقي المغترب عادل سعيد سالف الذكر ، لابد لي من الإشارة الى ضرورة معرفة علة التفريق بين الشكلين التي سنوجزها بأهمية معرفة الكاتب بالحدود والخصائص الإجناسية للنص الذي يكتبه ولمعرفة الإمكانيات التعبيرية التي يتيحها هذا النوع دون آخر ، وقطعا هنالك خصائص متفردة لكل جنس او نوع دون آخر ، وبالتالي سيختار الكاتب الشكل المناسب لتجربته الابداعية التي يزمع توصيلها للمتلقي الذي سيتحرك افق توقعه ضمن فهم ومعرفة الكاتب لحدود وخصائص النوع الذي اختاره حاضنا لتجربته .
ولو أعدنا ترتيب النص الآنف الذكر وفق نظام الفقرة النثرية ، لما تردد القاريء ذي بدء من اعتباره قصة قصيرة جدا ، بسبب من تضمينه اركان السرد المعروفة ، فالزمان هو (اليوم العالمي للسلام) والمكان هو (بغداد دار السلام) والشخصية هي (الحمامة ) والحدث هو ( مغادرة لوحة بيكاسو والاتحاه صوب بغداد ) كما تضمن بعض خصائص القص القصير جدا بل اهمها وهي التكثيف والإختزال والمفارقة بعدها اقلاب حال حسب ارسطو ، وقد يبدو النص وفق ماذكر من تضمينه لأركان السرد والخصائص المذكورة بأنه قص قصير جدا ، الا ان الأمر ليس كذلك، فالنص يستجيب للمتخيل الشعري منذ السطر الأول مستمرا حتى نهايته ، محتويا جسد النص برمته ، فليس هنالك وظيفة مرجعية / واقعية للحدث لتشكل فيما بعد النقطة الحرجة التي ينطلق منها النص في تحقيقه للمفارقة التي يكسر فيها توقع افق المتلقي ، لذلك بدت المفارقة انزياحا غريبا ضمن المتخيل الشعري للنص الذي حرص فيه الشاعر على تصعيد مخيلته منذ بداية النص ، في الوقت الذي يحرص فيه القص القصير جدا على استدرتج المتلقي لمرجع راكز في ذاكرته ليتمكن عبر الوظيفة الشعرية للنص من تخليق المفارقة التي تتقاطع وبنائية القسم الأول من النص وأعني الوظيفة المرجعية ، وليشكل هذا التقاطع كسر توقع افق المتلقي ، وبهذا المعنى فإن الحدث في القص القصير جدا هو ركن لايمكن الاستغناء عنه ، بينما يشكل الحدث في قصيدة النثر خصيصة لتحقيق سردية النص الاشتراطية دون ان يكون — الحدث — ركنا اساسيا ، وهنا تتبدى لاشرطية الحدث في قصيدة النثر والاستعاضة عنه بالسرد / الاخبار التخييلي لتحقيق شعرية النثر ، وفي ذلك كما نرى فرقا جوهريا بين قصيدة النثر والقصة القصيرة جدا بعدها نوعا سرديا.
فالنص يبدأ من متخيل شعري وهو التقاط الحمامة البيضاء لغصن الزيتون ومغادرتها لوحة بيكاسو لتتجه صوب (دار السلام) لتحمل رسالة سلام ومحبة بعد ان طافت السموات لتختار بغداد ، ولمعرفة (الرئاسة) بأنها حمامة بيكاسو ، فإنهم فهموا الرسالة على الضد مما توقعت الحمامة وكذلك بيكاسو ، وأعلنوا عن غضبهم برفضهم غصن الزيتونة لأنهم ليسو دوابا ، وفضلوا ذبح الحمامة وأكلها ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل طالبوا بيكاسو بان يرسل اليهم حمامة أخرى لأنها كانت لذيذة ، وعلى الرغم من السخرية اللاذعة التي شكلت الدهشة والمفارقة في النص الا انها كشفت عن رؤية النص حول مايجري في بغداد من انتهاك للسلام وحقوق الإنسان .
لقد تمكن النص وعبر الاستخدام الصحيح للغة المتخيلة من تخليق العالم الممكن المضمر والمسكوت عنه ، محققا شعرية النثر الذي التزم بالخصيصة السردية لقصيدة النثر .