د. جاسم حسين الخالدي : اللغة والهوية في رواية (قنزة ونزة) للروائي شوقي كريم حسن (ملف/16)

اللغة والهوية في رواية (قنزة ونزة)
للروائي شوقي كريم
د. جاسم حسين الخالدي

تأتي رواية (قنزة ونزة) للروائي شوقي كريم حسن في سياق عنايته الدائمة في كتابةٍ سرديةٍ، تمتحُ مما هو معيش، وشعبوي، من خلال لغة تجمع بين اللهجة الشعبية العراقية، التي تمتح من معين التراث السومري، واللغة العربية الفصيحة. ويبدو أنَّ ذلكَ هو جزءٌ من مشروعٍ ثقافيٍّ لـ “شوقي كريم” من الانفتاحِ على خزينٍ ثقافيٍّ ومعرفيٍّ غائرٍ في القدمِ، ولذلكَ فإنَّه لم يرعوِ من أنْ يستعملَ قاموسًا من الألفاظِ الَّتِي ترجعُ إلى معجمِ اللغةِ السومريَّة الَّتِي كثيرًا ما يشير لها في مجملِ كتاباته. ويمكن أن نتلمس بعضًا من ذلك، في مشهد هرب الشخصية الرئيسة واقتحامها الشط، فقد وجد في قول صديقه (نابليون) ما يسدُّ ظمأه إلى تلك الثقافة الغائرة في القدم، كان نابليون يحتفظ بطقوس يقول عنها إنها سومرية الأصل، توارثها عن معارف جده…” ص24.
لعل مما يريد إبرازه- في هذه الرواية- هو الجانب الإيجابي من الحياة، فهو حين يستذكر تلك الطقوس السومرية لم ينس تلك الشعائر التي كانت تقام في الكنيسة التي تجاور بيته، وهو بذلك يشير إلى حياة التسامح التي كانت تعيشها الناس، فإلى جانب المسجد كانت هناك كنيسةً تُقرع فيها الاجراسُ” ذكرني بتراتيل جوق الكنيسة…” ص24وقول أمه في مكان آخر، وهي تحاوره، “أنت من شجرة مباركة عمادها الماء والطين، لا حياة لشجرتك دونهما”. ص25
ومن هنا، فأنَّ أول عتبة تواجهك وانت تدخل عالم هذه الرواية، هو عنوانها (قنزة ونزة) وهو “مصطلح عراقي يعني أن تطبل وتهلهل لشيءٍ مَا، ومن ثمَّ يبدو غير ذات جدوى”. أو هي مرض الانفلونزا، كما يذكر بعض المهتمين بالتراث.
وتحكي الرواية قصة ذلك الإنسان الذي لم يشأ الكاتب أن يمنحه اسمًا ما، فقد بقي بلا تسمية على طول زمن الرواية الذي يبدأ من حقبة الثمانينيات: حقبة الحرب والموت، حتى ساعة الاحتلال، ومع هذا الامتداد الزمني؛ فإنَّ الروايةَ هي رواية لحظة، بالنسبة لحياة الانسان التي تشهد تحولات شتى: الانسان، وهو يواجه المجهول والخوف في رحلة يغادر فيها كلَّ شيءٍ، البيت، والأم، والحبيبة، والأصدقاء، بعد أن وصل إلى سبيل مسدود” لم يبق ثمة شيء يزيح تلال الخوف التي كبرت مع جور الأيَّام ومحنتها… تلال لا يمكن لأحدٍ أن يزحزح حتَّى ذرات منها، الخوف وسائد ليلنا الأبديَّة”. ص4-5
لقد لفتني، غياب اسم البطل، فقد كنت اترقب أن يعرفنا السارد باسم الشخصية التي تكاد تسيطر على السرد كله على غرار ذكره للشخصيات الأخرى( الام/ جورية) و(الحبيبة والزوجة/ ميري)، و(الصديق/ نابليون) وإن كان اسما رمزيًّا؛ لكنه اصبح تسمية له، سوى الشخصية التي تتعرض إلى سيلٍ من التحولات، والامكنة، لكنها تبقى بلا اسمٍ ظاهر، فإذا كانت اسم ( جورية) يحيل على البيئة الجنوبيَّة أو حتى البغدادية، و(ميري) إلى الطائفة المسيحية، و(نابليون) قد يحيل إلى السيطرة والاستعمار، فإن غياب هوية البطل، يمكن أن يمثل الإشكالية الأولى التي تواجه في حياته المتحولة، فمن نشأته في بيت فقير مرورًا بتشكله الثقافي، الذي كثيرًا ما وجدته أمه نذير شؤم بالنسبة له، إذ كانت تحيل كل ذلك على ثقافته التي أخذته إلى التسكع واحتساء الخمر، في حين أن تشكلَ وعيه وهربه مما حوله، جعله يعاقر الخمر، والا يكون جزءا من ذلك الواقع المظلم. والأكثر من ذلك أنَّ (ميري) نفسها حين تحاوره أو تخاطبه تسميه (يا أنت)، ” وأنا أرافقك في رحلة البحث عن مخلص، وخلاص، لا شيء من هذا يحدث يا أنت”. ص7
لقد تشكلت بنية الرواية على تداعيات وانثيالات كثيرة، ولذلك يمكن تسميتها برواية (التداعي الحر)؛ لأنَّ الرواية تبدأ بلحظة تداعٍ وتنتهي بلحظة تداعٍ، بمعنى أنَّ بنيةَ الروية بنيةُ تداعٍ، لكن هل الركون إلى هذه البنية التي غدت جزءًا من بنية الرواية التقليدية أمر صالح في رواية الحديثة؟
إنَّ هذه وسائل ضرورية، فهو وسيلة السادر في استبطان الشخصيات، لمعرفة دواخلها، والوقوف على ما تفكر به، على أننا ننوه هنا: أن هذه الرواية هي رواية تداعٍ، وليس تيار وعي، فثمة فرق واضح بين المصطلحين، فإذا كان (التداعي الحر)، هو ان الشخصية تسترجع مجموعةَ صورٍ من دون تسلسل، أو ربط، فإنَّ (تيار الوعي)، يصور الشعور النفسي لحظة تذكر الاحداث.
فإذا ما تجاوزنا التسمية، وبنية الرواية، يمكن أن يؤشر القارئ أنها لا تخوض في موضوعٍ بعينه، بل تتشابك فيها الموضوعات والانتقالات، ويكاد يستحضر السارد قراءته، وثقافته الاجتماعية، وعلاقاته، وانتماءاته، ولغته بما تحمل من شعرية واضحة، ليعوض غياب الموضوع الواحد، أو التسلسل المنطقي للأحداث، ولذلك جاءت بنية التداعي التي تحدثنا عنها، متساوقة مع غياب الموضوع، ويبدو أن ذلك جزءًا من رغبة الرواية الحديثة في تخطي التسلسل الزمني، ووحدة المكان، لتعلن عن تكسير الزمن، والانفتاح على امكنة كثيرة، ومن ثم نكون حيال أحداث متشابكة تمثل الحياة بكل ما فيها من تحولات وانتقالات.
الملاحظ هنا أن الروائي شوقي كريم قد تجاوز نفسه في بناء رواية متماسكة بنيت على مجموعة صراعات، وليس صراعا واحدًا؛ فما أن تنتهي من صراع حتى تدخل في أتون صراع آخر، بل أن أنه حرص على جعل الحوارات ذاتها، قائمة على فكرة الفعل ورد الفعل، وهو ما أعطى الرواية شحنة درامية واضحة، ولعل ذلك ناتجًا من أنَّ الروائيَّ نفسَه كاتبُ دراما ومسرحية.
ولعل واحدًا من هذه الصراعات، هو الانشطار الواضح بين ما يؤمن به البطل، من أفكار وقيم جديدة، وما يُفرضُ عليه من قيمٍ توارثها الآباء عن الأجداد، ولذلك فهو يبدو كما يشير هو نفسه؛ “في هياج يشبه هياج بعير مكشوف، محاصر بزمن كان يضاجع فيه أمانيه وسط صحراء خوائه”. ص5
يكاد من وراء ذلك يصبُّ جامَ غضبِه على تلك المتوارثات، بل على الأجداد أنفسِهم في لحظة تمرد واضحة على كلِّ شيء” كثيرًا ما رسمنا الطرقات التي نقطعها معًا، طرقات موحشة تمتد إلى عمق الأجداد، الذين كانوا يحملون أحمال البداوة فوق ظهورهم، دون بحثٍ جادٍ عن خلاصٍ أو مخلصٍ”.
فهذا الصراع الداخلي بين البطل وذاته، أو بينه وبين أناس لا يعتقد أو يومن بما يؤمنون، أو أن يترك كل شيء، ويغادره في لحظة حاسمة.
كما يبدو ذلك الصراع واضحًا على حوارات البطل نفسه، فهي عبارة عن تساؤلات لا تنتهي، والبحث عن إجابات لها ” ليش؟، صدك عود ليش نموت… واشفنه من عمرنه… ليش نموت كي يحيا الجنرال”. ص5
وتتفاقم حدة الصراع عند البطل، حين لا يجد إجابة واضحة عن هذه الأسئلة، ” ص5 تتكرر الأسئلة بذات المعنى، دونما انتظارٍ فرصةٍ للإجابة”، ذلك أنَّه مُحملٌ بسيلٍ من القيمِ المتوارثةِ، ” معلقين بسعف نخيل الأجداد، ووصاياهم، والمباهاة بماضٍ تليد يثيرُ القيء”. ص 6
والصراع الآخر، هو صراعه مع المرأة التي أحبَّ، فهي تدري تمامًا حجمَ تلك المحنة، محنته هو يسمع اعترافها” أعترف أنك تحاول إسعادي، تمنحي رضاك لأمنحك ودِّي؛ لكنك ما أن تحطَّ بزرزور أيَّامك عند تلك الذكريات السقيمة حتَّى تتحول إلى غريق يبحثُ عن قشةِ إنقاذ”. ص7
ويمتد الصراعُ ليكون صراعهما معًا، ويمكن أن نلحظه، في حواره مع (ميري)، إذ يرفع من شأن المعرفة مرة ” رأس العارف، هو خير ألف مرة من رأسٍ لا يجيد سوى لعن المعرفة” وأخرى، يجد أن المعرفة هي التي تمنح السلام، وتساعد على الإمساك باللحظة التي يريد”، ويبدو حينئذ متفائلًا للحال التي يمكن أن يصلها؛ لكن التفاؤل المشبوب بالقلق؛ لأنَّه أمام مفترق طرق،” الطريق يوصل إلى مكان، وقد لا يكون المكان الذي نريد، لكنه يوصل على أيًّة حال،
ويتصاعد الصراعُ أكثر فأكثر وهو يصل إلى طريق واحدة منه، وهو الهرب من الجحيم: جحيم الحرب، والموت المستمر” خلاصنا أن نهربَ من هذا الجحيم الذي خلقناه بأيدينا” ص11. ونلمح وسط ذلك، صراعًا ذات صلة، وهو صراع بينه وبين (أناه) الذي يجسده قوله” من أينَ يمكن أن أحصل على أغنية تصف هذيانات واحد يدعي الجنون، ويرسم ملامح الحكمة”. ص12 بين الجنون والحكمة بونٌ شاسع”. ص12
وهذا الصراع يصبح واضحًا، بينه وبين ميري، إذ نجدهما يمثلان صوتين نهضا بالسرد، وكأنهما يشيران إلى تلك الأزمة التي تلفُّ العلاقة بينهما، فلم يعد هو ذلك الذي عرفته وعبرت عنه” تأخذ بكلي إلى كلك…” أو قولها ” لكنك عذب العزف، قائد يعرف كيف يتجاوز صعاب البحر ولججه المتلاطمة” ص12 فقد صار اليوم شيئًا آخر، حين يصل الأمر بها إلى أن تقول” كان الله في عون تلك التي تلاحقك عمرَكَ، كيف يمكن أن تفهم تلك الاضطرابات التي تملأ رأسك بها”. ص،12
ويتركزُ هذا الصراع بينه وبين ميري، حين يتهمها بأنها جانبت الصواب حين اختارت طريقًا غير طريقه، ” أنتِ من توهم الدربَ… منحتُك فرصة الاختيار، لكنكِ رحتي إلى مكان غير ذاك الذي يجب ان تبقي به” ص14، او قوله: ” لكنك ما كنت تكترثين لوجعي.. ماكنت تفكرين بغير اجتياز تلك الحواجز من أجل الوصول إلى غايات من فراغ”
أو حين ترميه بالاتهام ذاته، وهي تحاوره: أنتَ من روضَ أنوثتي، وحاول تشويه الحلم الذي عشناه معًا” ص14، ولذلك يبقى ذلك الصراع بينها وبينه من أجل ثنيه عن الرحيل، لكنه تعلق بأذيال ذلك الرحيل؛ ص15لأنَّه لا يرى ضوءًا في نهايةِ النفقِ، فكل شيء تغيَّر؛ ” البيت تحول إلى مقبرة مهجورة، هجرنا الأولاد، وهجرتنا لحظات الفرح، وصَار التلفاز جحيمًا يصبُّ في آذاننا ليل نهار أخبار الفواجع والشلل والترقب…”ص29 وأنَّه لا يرى في نهاية الحروب سلامًا أبديًّا، وهو بهذا يشير إلى حقبة الحروب التي ما أن تنتهي حرب حتى تلدَ على أعقابها حربٌ أخرى أكثر قسوة منها. لكن هذا النزيف الداخلي، توقفه أحيانا كلمات (ميري) وهي تناديه: ” أحبك، وكل ما أطلبه من أن تنجحَ، كن ناجحًا في حياتك، لأنك بنجاحك ستنال رضا يسوع”. ص29
لقد ظلت (ميري) تهيمن على تفكيره، فهو لا ينسى لحظة طلبه تقبيلها، وهي في حضرة رجل الصليب، وهي تشاطره هذا الحب الجارف، على الرغم من أنه لا يخشى أن يحذرها من أن تعتمد على الحبِّ؛ لأنه” لا يؤسس لأحلامنا طرقًا نرغبُ بسلوكها”. ص40
ويبدو أن الصراع الأشد في هذه الرواية، هو صراعه مع الحروب التي لا تنتهي، لذلك كثيرًا ما تقول له (ميري) أن الحرب ستقف قريبًا، وترجوه الا يجعل الطرقات تفرقهما،
ويبلغ الصراع مبلغًا كبيرًا حين نجد (ميري) تخاطبه بلغة تقترب من لغة المتصوفين” ما الذي جعلك تفكر بتركي أسيرة ليل وقح، ونهارات خرساء؟ ما الذي جعلك تنقذ نفسك، وتتركني اتحمل وحدي سياط الانتظار… لكني أيها الرب المبجل لا أعرف له مكانًا”. ص47 أو قولها على لسان الرب: ليس ثمة في الأمر خطيئة، إذا ما كان الحب خطيئة، فيتوجب علينا جميعًا أن نكون خطاة آثمين، الإنسان دونما حب لا يمكن ان يستقر داخل روحه الطيبة”. ص49
ويظل البطل نهبًا لصراعه مع (ميري)، فهي لا تكف من إلقاء اللوم عليه، وهو يرفض ذلك، ويتملص من تحمل المسؤولية:
“ما كان الخيارُ خياري أيتها الحبيبة!!
بل كان خيارَك… خيارُك الذي جعلك مجرد ذكرى”. ص80
وهي تردد مثل تلك الحوارات في مواضع كثيرة، ” كان عليك أن تفكرَ بما يمكن أن نصلَ إليهِ” ص93
ويظل موزعًا بين صوت الأم الذي يطالبه بالعودة، وصوت ميري التي تقول له: ليتك تعرف ما حدث؟
لكنه صوت سرعان ما يعود وهو يحدث صاحبه الافريقي” هل كنت على خطأ، هل كان عليَّ ان أبقى هناك وأموتَ وسط أتون حرب لا اعرف ان كانت تؤدي إلى موتي أو عوقي، أو جنوني” 83 وفي ذلك استبطان هائل لحجم الازمة الداخلية التي تشعل في روحه نارًا لا تخمد.

إن الصراع الاخر هو بينه وبين ذاته، لكنه لم يستطع ان يكتمه في صدره، فنجده يذهب باتجاه صديقه (نابليون) ليسأله: ” لماذا يهاجر الانسان؟”؛ ص56لكنه لا يسمع الجواب، فهو لا يعي أن هذا المكان لم يعد يسعه، وما عليه الا ان يفكر بطريقة للخروج من بابه الضيق، كما أنه لا يعرف لماذا رجع بعد كل هذه السنين.
إن هذا الصراع الداخلي أشد قسوة من الصراعات الأخرى، فقد يهون الأمر مع (ميري)، إذ هو يدري انها تحبه، ولا ضير أن يسمع منها كلمات من مثل:” كان عليك أن تنظر باتجاه المكان الذي أنا فيه… اهمالك لي جعلني أشبه نفاية مرمية عند ضريح مقدس”. ص58 لكنه لا يستطيع مواجهة ذاته التي كثيرًا ما يهرب منها باتجاه الخمر، وتذكر بعض الأغاني، كيما يستطيع التمرد على ذاته، ومن ثم يستطيع أن يبوح بما يقض مضاجعه” جيب النص ابن الكلب… إذا ما احجي بالدين والسياسة والنسوان… لعد بيش احجي بروح اجدادك”. ص65
وتتوالى لعبة الصراع في الرواية، وتحولات الشخصية، فقد تحوَّل صديقُه (نابليون) بقدرة قادر إلى الشيخ (أحمد السعد)، كما انه صار مستشارا له حين عاد باحثا عن فرص سانحة ص182لكنه بقي مشدودا إلى (نابليون) الذي يعرفه، فيما لم يستطع ان يكون مع (احمد السعد) الذي هو لم يرعوِ أن يقوم بما تعارف عليه نابليون من أفعال، ” أخذت نابليون إلى صدري، تاركًا احمد السعد يتوسل وحدته”. ص183
ويبدو أن فكرة الصراعات التي أتخمت الرواية جعلتنا نلمح – فيها صراعًا دراميا، وهو يستعرض آثامه لحظة الحساب، في حوارات اعترافية، لعلها تدخل في أدب الاعتراف؛ إذ يستعمل واحدة من تقانات الدراما، وهي تقانة القطع التي عبر عنها بـ (الصمت)، وهو ما شكَّلَ تحولًا جديدًا في كتابة هذه الرواية، من مثل:
“صمت
صمتك الآن لا يجديك نفعًا… الآن أنا اشاهد والرقيب، ولقد اعترفت بكلِّ شيء…”
ويبدو أنه وجد في هذا الأسلوب ما يمكن أن يخلصه من ورطة الحوارات القصيرة التي تنسجم مع الفن الروائي والقصصي، في حين نجد أن الحوارَ في الدراما والمسرحية يمكن أن يطول ويتسع؛ لأنَّ الاحداثَ كلَّها مرتبطةٌ به، فهو جزءٌ من بنيةِ المسرحيةِ أو الدراما أنفسهما؛ ان الحوار هو كل المسرحية.
ومثل ذلك الملمح الدرامي يمكن أن نجده في الورقيات الثلاث القادمة، حين يتبادل الادوار مع حامل السجل الذي يصل إلى نتيجة مؤداها: ” مثل هذا لا يحق لنا محاسبته” ص 37،كما تظهر في الرواية بعضُ سمات اللغة العرفانية، ولا سيما في المقاطع التي تظهر فيها(ميري) المسيحية، التي أشرنا إلى بعضها فيما تقدم، وتكاد تكون شعرًا:
إياك وان تحني رأسك
ظل مثل نخلة لا تنكسر واصنع من يديك جناحين لتحلق بهما إلى حيث تشاء
لا تغسل وجهك بغير عسل الابتسام،
وامنح عينيك ضوء الاشتهاءات التي يمكن ان تنسج خيوطها حول غموضك الباعث على السؤال، اياك والصمت عند خرائب الإجابات”. ص70
إن ما يمكنُ الإشارة إليهِ أنَّ الراوي ضمَّنَ الرَّوايةَ كثيرًا من الأفكار التي تقترب من مرافئ الفلسفة، وكأنَّه يريد أن يستعرض ثقافته الفلسفية والحياتية مما يجعل الرواية رواية تفيض بالأفكار والثقافات المختلفة، لكنها في النهاية يشعر بإزاء بمللٍ كبير، والرواية لا تتحمل مثل هذه الحوارات الطويلة، والنفس الطويل في استعراض كلِّ ثقافة الراوي، ويمكن أن تجد مثل تلك الحوارات في حواره مع ميري، وغير ذلك. ينظر: 13، 14
كما يمكن أن نجد كثيرًا من التداعيات ما كانت لأن تأخذ مكانًا في الرواية، لولا شغف الراوي في الوقوف عند كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، يستذكرها لحظة السرد، وهو ما أثقل متنها بأشياء لا لا تقدم شيئًا ذا قيمة إلى عموم أحداث الرواية وبنيتها.
ويمكن أن نشير هنا إلى سرده لحكاية نابليون ومجيئه على الحصان، وقد أقحمها في السرد قحمًا غير ذي جدوى. ينظر:18
ويأتي كلُّ هذا الاستطراد، لشيء واحدٍ، كان قد أشار له بعد صفحات عدة، فحواه ألا يبرأ الحصان من تاريخ الدم الذي يحاول أن يلحقه بالتاريخ العربي” ذاكرة الخيول حذرة، وهي تشمُّ روائحَ الموتِ من بعيد”. ص22 واظن أنَّه ممكنًا أن يكتفي بسطورٍ قليلة للوصول إلى تلك النتيجة التي يريد أن يصل إليها.
كما أن كثيرًا ما يكرر بعض الأفكار وأن كانت بألفاظ مختلفة، من مثل: ” مالي أراك وحيدة وتغادر إلى حيث تفرُّ بك الأمواج”. ص23
، كما يمكن ان نشير إلى ان لغته لم تسلم من الانشائية التي هيمنت على كثير من مفاصلها، فهو يسمح لنفسه ان تنداح في مجموع من الانهيالات، لكنها تثقل متن الرواية، وتصيب القارئ بالملل والغثيان.
مثل أنك ممثل بارع، … التمثل هبة ربانية يراد من خلالها تجسيد معارف الخير والشر، حاول أن تتعمق في فهم ما تصبو إليه…” ص70وغير ذلك.
وبعد فأن الروية تحكي قصة ضياع الهوية التي يعيشها البطل قبل خروجه مهزومًا من اتون الحرب، وبعد عودته، فبقي متشظي الهوية، فهو كثيرًا ما يسأل أمَهُ ” حجية يرحم الابوج لويش جبتيني” ص94 فلم يستطع أن يشكل اسما له في الغربة، ولم يستطع أن يضع قدمه على الدرب” ما كنا نعرف الدرب، ثمة الكثير من الدروب الموحشة”.
ويظل هذا الهاجس يلاحقه في كلِّ صفحات حياته، ففي الغربة لم يره نفسه الا بمرآة ميري ” مجرد كومة نفايات مرمية في ظل شجرة لا تنتمي إليه” ص93، وأنه حتى حين عاد فلم يجد ما يشد من عضده ويقف إلى جانبه، فابن ميري لا يقلُّ لوما له من امه: ليس ثمة داع لسكوتي، لأن يعرف انه أخطأ حين ترك أمي تصب عذابات روحها عند مذبح الكنيسة”. ص97
وكجزء من التشرذم الذي هو عليه، فهو لا يدري إن عاد هل يجد كل شيء على مايرام” أعود إلى اين؟ ومن يضمن لي ان سأجد كل شيء على ما تركته…” ص 99
ولهذا فإن الخوف تملكه، ” خائف الا أجد شيئًا مما تركت”. ص99
والشعور بالذنب يلاحقه أينما حطَّ” كان عليك أن تترجل.. لكنك جبان هجرت كل ما يكون روحك الطرية…” ص105
واضح جدًا انه لم يخفِ سببًا مهمًا جعله يتخلى عن هويته الأولى، فقد تخلى عن جورية، وميري، وأشياء أخرى، أملا في ان يصنع هوية جديدة له، لكنه فرط بكل ذلك، ففقد كلَّ شيءٍ: الهوية والحياة معًا.
ووسط ذلك الضياع فهو يجد نفسه في وسط ثنائية (الهنا/ والهناك)، حتى على صعيد المرأة، ” انثى الهنا لا تشبه الانثى الهناك” ص105
بين ميري، وكاترين، وعلى الرغم من اختلاف نظرته إليهما، نجده لا يرى الا في كاترين متعة السرير” لا تفقه كاترين من أمري شيئًا واضحًا، كل ما ترغب به، احتفالًا شرقيَّا خارج مألوف الأزمنة”.110
لذا فشلت في تكوينه، وهو ما عبر عنه بأنه” ساح مثل طاسة ماء”. ص111كما أن ميري، فشلت هي الأخرى في تحقيق مآرب المكوث بين يديه.
فقد وجدَ في غيابِ(ميري) هزيمةً له، وضياعًا، وهو ما جعله مرهُونًا لاسترجاعات كثيرة، تكاد تكون إعادة عرض لكلِّ لحظات حياته، عبر بوابات لم تستطع مغادرتها، ولعل (ميري) كانت واحدة من هذه البوابات التي غادرها حقيقة؛ لكنها لمَّا تزل تسيطر على تفكيره، وحياته كلها،” حلمٌ واحدٌ مع أنثى واحدة، حين ضاع هربت أعماقي إلى خضمِ هذا التيه الذي يمنحني سعاتٍ من التَّذكر والاسترجاع”. ص124، كما أن ضياعها بالنسبة له هو خرس تام، مثلما غياب ملامح جورية، قد أصابه بالجنون، وشتى ما بين الخرس، وهو مرض، قد يفقدك أداة مهمة من أدوات التواصل، والجنون الذي يُذهب بعقل الانسان، ويُفقده كلَّ حواسه، فهو يَبصر ولا يبصر، ويَسمع ولا يسمع، ويَشم ولا يشم، ويَتذوق لا يتذوق، وهكذا فهو عاطلٌ ومعطَّلٌ في الوقتِ نفسِه.
لقد أصبحت (ميري) هوية، فهي الوحيدة التي بقيت نحافظ على وجودها وحياتها، تمارس حياتها كما تشاء” وحدها ميري كانت عصية على الحضور، وظلت ترفض رغم تغيِّر الأمكنة، وغياب الرَّصاص وانطمار الشظايا، لم أرَ مثلها أنثى تحتضن العنادَ ولا تريد رميه من أجلِ الفرار إليَّ”. ص129
ويبدو أنه في نهايات ذلك قد وصل إلى نتيجة مفادها: انه وجد في ميري خلاصا له، إذ لم يتوان في ان يعترف وهو بين يدي كاترين لا يمكن لأيِّ امرأة أن تحلَّ محلَّ (ميري) سوى (ميري) نفسها. ص
147، وربما تشاء الصدف ان تكون ميري منقذة لحياته لحظة وقوعه بين مجموعة مسلحين، وهو يهم بالرجوع إلى بيته الأول.
ومها حاول في تأسيس حياته الجديدة رجع (بخفي حنين)، فمازالت تلك المعادلة القديمة تسيطر عليه، أعني معادلة: (ميري/ جورية، وميري/ كاترين، والداخل/ الخارج، والحرب/ السلم، والشرق /الغرب)، وغيرها من الثنائيات التي رسخت غياب الهوية عنده، ومن ثم لم يتوانَ من القول” لا شيء يشدني إلى فراغ اسمه الوطن”. 125
وتتفاقم إشكالية الهوية أكثر لديه، فهو حين يحاول التفكير بالعودة، وتترائ له صورة البلد وقد دمرته الحروب وهو مشروع لاهتزازات أخرى” فكرة العودة سيدي تؤرقني كثيرًا.. ما الذي يمكن أن أجده هناك وكل شيء دمرته الحروب، ماذا يمكن أن أجد، وكل ما أنصت إليه يبشر بدمارات قادمة” 152
والضياع الحقيقي الذي وصل إليه البطل هو حين همَّ بالرجوعِ باحثًا عن فرص فقد وجد (ميري) قد تغيرت، و( جورية) تحولت إلى هيكل عظمي منخور، والوطن الذي غادره، ما عاد يعني له شيئًا، فقد امتلأت قحفة رأسه بأوطان شتَّى. وصديقه نابليون تحول إلى الشيخ أحمد السعد ينظر158، مثلما هو تغيَّر، إذ صار يتحدث مثلهم عن استغلال الفرص. إنَّ التحول الذي صارت إليه شخصية (نابليون) يُعد ملحمًا دراميًّا في الرواية، وهو يشير إلى أمرين مهمين: الأول أنَّه كيف للإنسان أن يتحولَ بمثل تلك الطريقة الدراماتيكية، تبعًا لتحولاتٍ سياسيةٍ معينة، فهو تقيٌّ وورعٌ حينًا، وآخرُ: إنَّه لا يتوانى في الوقوف في فخ الرذيلة، مع (كاترين) والآخر: هو ادانةُ مَن تستر بلباس الدين، ومن ثم هو إدانة للحقبة السياسية الحالية التي انتجت هكذا شخصيات متلونة، ومن جهة أخرى، يلمح بطرفٍ خفيٍّ إلى ان الدور الخطير التي يمكن تنهض به (كاترين) في العهد السياسي الجديد، فمع انها لا تعدو أن تكون امرأة ليل. ولعل الأخطر من ذلك كلِّه، أنه يصور لنا حالة السقوط الخطير الذي وصل إلى البطل، فكيف يسردُ لنا، وهو الراوي المشارك، ما دار بين (أحمد السعد) و(كاترين)، ومن ثم لقائهما معًا. لكن هذا يدللُ عن حالة الضياع والتشظي التي وصل إليه السعد(نابليون) سابقًا، فمن يكون بلا هوية يمكن أن يقبلَ بإيِ دورٍ في الحياة. والطريف أنه يعترفُ بأنه يعرف علاقة كاترين بأحمد السعد: سافل … رأيتك تخونني… رأيتك تحرضها من أجل الخلاص مني” ص208
وبعد فهو يريد أن يقولَ أنَّ كلَّ شيء في الدنيا هو معرض للاهتزاز، فلا شيءَ باقٍ على حاله، فالإنسانُ والامكنةُ، والازمنةُ كلُّها معرضةٌ إلى التغيير، وليس الامر يتعلق بفرد بذاته، وهو ما عبر عنه بالقول: انكسرت كل اللوحات التي احتفظ بها طوال تلك السنوات التي علمتني، أن ليس ثمة جدوى، ليس ثمة من معنى لأفكار كنا نعتبرها مقدسة”. كما انه يؤكد ما قاله في موضع آخر، حين تحدث عن الفرق بين الشرقي والغربي، فقد أشار إلى الغربي حين يأتي بلدًا فإنه لا يغتم الفرصة ويروح يعمل بما يمكنه العمل، ولعل التجسس واحد من الاعمال التي يقوم بها، فها هي كاترين تقوم بإفراغ البلاد من تأريخها، (الذي نعرفه فيما بعد انها يهودية) ص 189 بعد أن التفت حول (أحمد السعد/ نابليون) سابقًا. ويتبعه سقوطٌ آخرُ غير متوقع عندما يعرف مكائد (كاثرين) وتعاملها مع (احمد السعد)، حين يصارحها بما يعرف، وسكوته عما تعمله: حققِ لي ما أرغب، ولك الحق بنبش هذه البلاد كلها، ونقل ما ترغبين دون أن يعترض عليك احدٌ”. ص189
والطريف أنَّ الراوي كان عامًدا لأن يجعل (احمد السعد) مطية لكاترين لتحصل من خلاله على الآثار التي يهزأ بتسميتها تاريخًا، وكأنه يريد أن يدفع عن نفسه الإدانة، فثمة من يشاركه في الخيانة، فكلاهما البطل و(احمد السعد) الذي جرده من كلمة الشيخ، يقومان بالفعل نفسه، وليس هو وحده. ص202
لقد تفاقمت قضية ضياع الهوية لديه في مشهد وقوعه بين يدي مسلحين، وهم يسألون عن هويته، وهو بلا اسم وهوية، ولم يبق امامه للإثبات هويته سوى (جورية)، و(ميري) التي أضحت شيئًا مهملًا مركونًا في الذاكرة. ولذلك لم يبق امامه الا ان يعود من حيث ابتدأ ” تسبقنا اللحظات، وتوهمنا الازمان”.
ثمة في الرواية ما يشير بشكل عام إلى وجود أزمة داخلية يعيشها البطل في منفاه، فهو يجدُ فيهِ مكانًا آمنًا قد آواه من الحروب والاستبداد، في حين ليس عنده ما يقدمه له سوى مغامرات اللذة والحياة. وشتان بينه وبين الآخر الذي يأتي ليبحث عن أشياء أكثر نفعًا وأهمية له ولبلده” نحن نأتي لنمارس الدعارة … هذا هو الفرق… أنتم لتكشفوا تواريخنا الآجرية، وسرية ملوكنا. ودهاء سياستنا”. ص131.
ويمكن ان نلمح مثل ذلك، وهو يحاور كاترين، ويتحدث معها عن سذاجة بعض الطقوس التي تمارس في هناك في الشرق، كالا غاني الساذجة التي تردد في الحفلات وما إلى ذلك. وهو أمر تنبهت له (كاترين)، حين قالت له: طلبت منك أن تغني فأخذتني إلى لب أحزان الشرق الذي هجرته بحثًا عن معاني لوجودك”. 154
ولم يترك لنا الراوي المشارك لحظةً للتعاطف معه، حتى وهو يصفِّي حسابه مع نابليون أو احمد السعد الذي اتفق مع كاترين ضده، ومن ثم خيانته، فقد نجده يتهكمُ على كلِّ ما يحيلُ على هويةٍ وطنيةٍ أو محليةٍ، ولعل سكائر سومر تحيلُ على الروح العراقية: ” أصابني الحنين إلى سيكارة سومر حارة تثير السعال”. أو حتى لحظة وقوعه بين يدي مسلحين يرتدون السواد.
وأخيرا يمكن القول إن هذه الرواية تمثل نقلة نوعية في منجز شوقي كريم الروائي، إذ استطاع ان يتجاوز نفسه: لغةً، ورؤىً وبناءً.

*عن صحيفة البينة الجديدة

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *